الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أقاليم المغرب والأندلس
وهذا -أصلحك الله- منتهى ما بلغ من أخبار المغرب وسير ملوكه ووزرائهم وكتابهم وما تعلق بذلك حسب الاستطاعة؛ وقد تقدم بسط العذر عما يقع من التقصير أو الخلل، مع أن أصغر خدم مولانا1 لم تجر عادته بالتصنيف ولا حدث قط نفسه به؛ وإنما بعثته عليه الهمة الفخرية -أعلى الله رتبها- فما كان من إحسان فإلى تلك الهمة العلية نسبته وعنها منبعثه، وما كان من غير ذلك فإغضاؤها يستره ومسامحتها تغمره.
وقد رسم مولانا -حرس الله مجده- أن يضاف إلى هذا التصنيف ذكر أقاليم المغرب وتعيين مدنه وتحديد ما بينها من المراحل عددًا؛ من لدن برقة إلى سوس الأقصى؛ وذكر جزيرة الأندلس وما يملكه المسلمون من مدنها على ما تقدم؛ فلم ير المملوك بدًّا من الجري على العادة في سرعة الإجابة وامتثال مرسوم الخدمة؛ لوجوب ذلك عليه شرعًا وعرفًا2؛ هذا مع أن هذا الباب خارج عن مقصود هذا التصنيف، وداخل في باب المسالك والممالك. وقد وضع الناس فيه كتبًا كثيرة؛ ككتاب أبي عبيد البكري الأندلسي3، وكتاب ابن فياض الأندلسي أيضًا، وكتاب ابن خرداذبة الفارسي4، وكتاب الفرغاني5؛ وغيرها من الكتب المفردة لهذا الشأن المستوعبة له. ونحن إن شاء الله ذاكرون من ذلك -موافقة لرأي مولانا العالي- ما يقف به على حدود البلاد ويصور له صورتها على التقريب من غير تطويل، جارين في ذلك على ما
1- يريد بأصغر الخدم هنا: نفسه. و"مولانا" المقصود بالخطاب: هو السيد الذي سأله تأليف هذا الكتاب.
2-
شرعًا: أي وفقًا للشريعة. وعرفًا: أي وفقًا للعرف: ما يتعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم.
3-
هو أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي: مؤرخ، جغرافي، ثقة، أديب. توفي سنة 487هـ/ 1094م. "الصلة، ابن بشكوال: 240".
4-
هو أبو القاسم، عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة: مؤرخ، جغرافي، فارسي الأصل، من أهل بغداد. توفي نحو سنة 205 هـ/ نحو سنة 893م. "الأعلام، الزركلي: 190/4".
5-
هو أبو منصور، أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني: مؤرخ، من سكان مصر، وبها توفي سنة 398هـ/1007م. "الأعلام، الزركلي: 156/1".
سلف من عادتنا في سائر الكتاب؛ فنقول وبالله التوفيق ومنه الإعانة:
قد تقرر واشتهر أن أول حد البلاد المصرية مما يلي الشام، العريش؛ وآخره مما يلي المغرب، مدينة أنطابلس المعروفة بـ برقة؛ هذا عرض الديار المصرية. وحدها في الطول من ثغر أسوان إلى مدينة رشيد الكائنة على ساحل البحر الرومي؛ هكذا ذكر أصحاب المسالك والممالك والمعتنون بهذا الشأن.
أولًا: المدن العامرة على الساحل
وأول حد بلاد إفريقية والمغرب مدينة أنطابلس المذكورة، المدعوة بـ برقة. بناها الروم فكانت حاضرة لتلك البلاد ومجتمعًا لأهلها. افتتحها المسلمون في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ومنها كان ابتداء فتح المغرب؛ ومن هذه المدينة -أعني أنطابلس- إلى مدينة طرابلس المغرب، قريب من خمس وعشرين مرحلة.
اتصال العمران بين الإسكندرية والقيروان
وما بين الإسكندرية وطرابلس المغرب، خمس وأربعون مرحلة؛ وكانت العمارة متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مدينة القيروان، تمشي فيها القوافل ليلاً ونهاراً. وكان فيما بين الإسكندرية وطرابلس المغرب حصون متقاربة جدًّا، فإذا ظهر في البحر عدو نور كل حصن للحصن الذي يليه، واتصل التنوير؛ فينتهي خبر العدو من طرابلس إلى الإسكندرية، أو من الإسكندرية إلى طرابلس، في ثلاث ساعات أو أربع ساعات من الليل؛ فيأخذ الناس أهبتهم ويحذرون عدوهم؛ لم يزل هذا معروفًا من أمر هذه البلاد إلى أن خربت الأعراب تلك الحصون ونفت عنها أهلها أيام خلى بنو عبيد بينهم وبين الطريق إلى المغرب -وذلك في حدود سنة 440- حين تغير ما بينهم وبين المعز بن باديس الصنهاجي، وقطع الدعاء لهم على المنابر، ودعا لبني العباس؛ فاستولى الخراب عليها إلى وقتنا هذا. واستوطنتها الأعراب من سليم بن منصور بن عكرمة بن خَصْفة بن قيس عيلان بن مضر بن نِزَار بن معد بن عدنان وغيرهم، فهم اليوم بها، وآثار المدن والحصون باقية إلى اليوم.
ومدينة أنطابلس هذه خراب، لم يبق منها إلا آثارها؛ وفيما بين برقة وطرابلس حصن يسمى طُلْمَيْثة، بالقرب منه معدن كبريت. فأما مدينة طرابلس فلم تزل معمورة إلى هذا الوقت، وهي أول مملكة المصامدة، وقد استولى عليها في مدة
ملكهم وفي ملك أبي يعقوب منهم، المملوك قَرَاقُش المتقدم ذكره في ترجمة أبي يوسف، ثم أخرجه منها المصامدة، واستولى عليها أيضًا يحيى بن غانية، وعلى كثير من إفريقية حسبما تقدم تلخيصه، ثم أخرجه عنها أيضًا المصامدة، فهي في ملكهم إلى وقتنا هذا، وهو سنة 621.
بلاد إفريقية الساحلية
فحد بلاد إفريقية مما يلي المشرق، مدينة أنطابلس المذكورة، وحدها مما يلي المغرب، المدينة المعروفة بـ قسطنطينة الهواء، سميت بذلك لإفراط علوها وشدة منعتها؛ ومسافة ما بين أنطابلس وقسطنطينة المغرب قريبة من خمس وخمسين مرحلة، فهذا حد إفريقية طولاً؛ وعرضها يختلف بحسب مزاحمة الصحراء العمارة ومباعدتها؛ وسميت إفريقية بذلك لنزول إفريقش من ولد حام بن نوح بها. وإفريقش هذا هو أبو البربر، فالبربر كلهم من ولد حام بن نوح، خلا صنهاجة، فإنهم يرجعون إلى حمير؛ هذا كله قول أبي جعفر محمد بن جرير الطبري1 في تاريخه، من لدن ذكر إفريقش إلى ذكر صنهاجة.
فأول مدن إفريقية المعمورة، طرابلس المغرب المتقدم ذكرها، ومنها إلى مدينة تسمى: قابس، عشر مراحل. وقابس هذه على ساحل البحر الرومي؛ وكذلك طرابلس. وتنصبُّ إلى قابس هذه أنهار من بعض تلك الجبال التي تليها، فهي بذلك أخصب بلاد إفريقية وأوسعها فواكه وأعنابًا. ومن قابس هذه إلى مدينة صغيرة على الساحل أيضًا تسمى سفاقُس؛ أربع مراحل؛ ومن سفاقس إلى مهدية بني عبيد، ثلاث مراحل. وقد تقدمت صفة المهدية في أخبار أبي محمد عبد المؤمن بن علي. وبظاهر المهدية المذكورة وقريب منها جدًّا، مدينة تدعى زُوَيْلة؛ بناها بنو عبيد حين بنوا المهدية؛ فاختصوا المهدية لأنفسهم وحشمهم وأعيان جندهم ووجوه قوادهم؛ وأسكنوا زويلة هذه سائر الناس من الرعية والسودان وأراذل كتامة وغيرهم من أتباعهم. ولما ارتحل المعز إلى مصر بعد أن افتتحها على يدي خادمه جَوْهَر2؛ ارتحلت معه طائفة كبيرة من أهل زويلة هذه؛ فإليهم ينسب الباب والحارة التي
1- هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد الطبري: إمام، مؤرخ، مفسر. أصله من طبرستان، واستوطن بغداد، وتوفي فيها سنة 310هـ/923م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 162/2".
2-
هو جوهر بن عبد الله الرومي: قائد اشتهر ببنائه لمدينة القاهرة، والجامع الأزهر. توفي في القاهرة سنة 381هـ/992م. "الأعلام، الزركلي: 148/2".
بالقاهرة اليوم1. ومن مهدية بني عبيد إلى مدينة تسمى سوسة -وإليها تنسب الثياب السوسية- مرحلتان؛ ومن سوسة إلى مدينة تونس، ثلاث مراحل. ولم تكن تونس هذه في قدم الدهر على أيام الإفرنج مدينة، وإنما بنيت في أول الإسلام، بناها عقبة بن نافع الفهري لمصلحة رآها؛ وإنما كانت المدينة الكبرى مدينة على الساحل هناك تسمى قرطاجة، بينها وبين تونس نحو من أربعة فراسخ.
شأن مدينة قَرْطَاجَة في القديم
وهذه المدينة -أعني قرطاجة- هي كانت حاضرة إفريقية أيام الروم، وهي مدينة عظيمة، ظهر فيها من قوتهم وشدة طاعة رعيتهم لهم وفرط جبروتهم ما يعجب منه من تأمله، ويعتبر فيه من وقف عليه؛ وذلك أنهم جلبوا إليها المياه من بعد شديد، وتحيلوا على ذلك بغرائب من الحيل يعجز عن أيسرها جميع من في هذا العصر. وكانوا يضاهون بها مدينة القسطنطينية العظمى، المنسوبة إلى قسطنطين بن هيلان ملك الإفرنج. ثم لما افتتح المسلمون إفريقية في أيام عثمان بن عفان -رضى الله عنه-، خربوا هذه المدينة المذكورة2، واتخذوا مدينة القيروان دار ملكهم ومقر ولاتهم ومجتمع جندهم ومركز جيوشهم، وأسسوا على ساحل البحر مدينة تونس المذكورة. وكان هناك قبل ذلك دير معظم عند الروم يزورونه من أقاصي بلادهم، فهدمه المسلمون وبنوه مسجدًا، وسموا المدينة تونس، باسم الراهب الذي كان في ذلك الدير؛ فما زالت تونس معمورة إلى وقتنا هذا.
ولما خربت مدينة القيروان إلى ما سيأتي الإيماء إليه، صارت مدينة تونس حاضرة إفريقية ومقر ولاتها وموضع مخاطبة أولي الأمر منها؛ وكل ما بتونس من جيد الرخام وخالص المرمر فمن مدينة قرطاجة المذكورة.
ومن مدينة تونس هذه إلى مدينة صغيرة على ساحل البحر تدعى بونة3 -ومعنى هذه اللفظة بلسان الإفرنج: جيدة- ست مراحل. وفيما بين تونس وبونة
1- لم يزل الباب والحارة موجودين حتى اليوم، ويُعرف هذا الباب عند عامة أهل مصر باسم "بوابة المتولي".
2-
يقال: إن الرومان هم الذين خربوا هذه المدينة قبل الفتح الإسلامي؛ لإنهاء النزاع الطويل بين روما وقرطاجة.
3-
هي المدينة المعروفة اليوم باسم "عنابة".
بليدة صغيرة تسمى بني زَرْت1، بينها وبين تونس يوم تام في البر للمُجِدِّ. ولبني زرت، هذه شأن غريب، وذلك أنه يخرج في بحرها كلما طلع هلال، نوع من السمك لم يكن في الشهر الذي قبل ذلك؛ هذا متواتر عند أهلها لا يختلف فيه منهم أحد. والمتفطنون من الصيادين يعرفون الشهور باختلاف السمك عليهم وإن لم يروا الأهلة. وهذا منسوب إلى الطِّلسمات، اعتنى به من عُني بخدمة القمر. ومن مدينة بونة إلى مدينة قسطنطينة التي هي أحد حدَّيْ إفريقية، خمس مراحل؛ وقسطنطينة بينها وبين البحر مرحلتان أو أكثر من ذلك قليلاً.
هذا ما على ساحل البحر أو قريب منه من مدن إفريقية. وبها مما يلي الصحراء مدن أنا ذاكرها إن شاء الله تعالى إذا فرغت مما على ساحل البحر من بلاد المغرب.
بلاد المغرب الساحلية
ومن قسطنطينة المغرب إلى بجاية، خمس مراحل على الرفق؛ وبجاية هذه هي دار ملك بني حماد الصنهاجيين الذين تنتسب قلعة بني حماد إليهم. وكانوا يملكون من قسطنطينة المغرب إلى موضع يعرف بـ سِيوسِيرات، وقد تقدم هذا الموضع، بينه وبين بجاية قريب من تسع مراحل.
لم يزل بنو حماد يملكون بجاية وجهاتها إلى أن أخرجهم عنها في ولاية يحيى منهم، أبو محمد عبد المؤمن بن علي حسبما سبق.
ومن مدينة بجاية إلى مدينة صغيرة تدعى الجزائر -وتنسب إلى قوم يقال لهم: بنو مرغنة- قريب من أربع مراحل. وهذه المدينة -المعروفة بالجزائر- على ساحل البحر الرومي؛ وكذلك مدينة بجاية. ومن الجزائر هذه إلى مدينة صغيرة تسمى تَنَس أربع مراحل؛ ومن مدينة تنس إلى مدينة وهران سبع مراحل؛ ومن مدينة وهران إلى مدينة سبتة على التقريب ثماني عشرة مرحلة.
ضيق البحر بين المغرب والأندلس
وبساحل سبتة هذه يلتقي البحران؛ بحر مانطس الذي هو بحر الروم، وبحر أقيانس الذي هو البحر الأعظم؛ وهذا أول الخليج المعروف بالزقاق.
وسعة البحر فيما بين سبتة والأندلس ثمانية عشر ميلاً؛ ثم لا يزال يضيق إلى أن ينتهي ذلك من عدوة البربر إلى موضع يدعى قصر مصمودة، بينه وبين سبتة
1- أي: بنزرت.
نصف يوم. ومن جزيرة الأندلس إلى موضع يدعى جزيرة طريف، مقابلاً لقصر مصمودة المذكور؛ فأضيق ما يكون البحر هنالك، وسعته فيما بين هذين الموضعين اثنا عشر ميلاً؛ ترى رمال كل واحد من الشطين من الآخر في كل وقت من أوقات النهار. وقد ذكر المؤرخون أن الروم بنت في قديم الدهر قنطرة على هذا الخليج، ثم طغت المياه فغطتها؛ فيذكر قوم من أهل جزيرة طريف أنهم يرونها أوان سكون البحر وهدوئه حين تصفو المياه.
ومن مدينة سبتة إلى مدينة طنجة يوم تام في البر. وطنجة هذه آخر الخليج الذي به يلتقي البحران، وهي على ساحل البحر الأعظم الذي لا عمارة وراءه، وهو المعروف عندنا بالبحر المحيط، المتصل ببحر الهند والحبشة. وطنجة هذه آخر بلد بالمغرب المحقق؛ وما بعدها من البلاد فإنما هو في الجنوب، كمدينة سلا، ومدينة مراكش، ثم لا يزال1 دائرًا في الجنوب إلى أن يأتي بلاد الحبشة والهند.
فأول بلاد المغرب مما على ساحل البحر الرومي، مدينة أنطابلس المعروفة بـ برقة؛ وآخرها مما على ساحل البحر الأعظم مدينة طنجة؛ ومسافة ما بين ذلك على التقريب ست وتسعون مرحلة؛ فهذا ذكر المدن التي على ساحل البحر من بلاد المغرب.
ثانيًا: البلاد التي ليست على ساحل
ثم نعود إلى ذكر ما ليس على الساحل من مدن إفريقية والمغرب، فنقول:
بلاد إفريقية
من مدينة قابس المتقدم ذكرها إلى مدينة تسمى قفصة، ثلاث مراحل؛ ومن مدينة قفصة إلى مدينة تَوْزَر، أربع مراحل.
وتوزر هذه هي حاضرة بلاد الجريد وأم قراها. وبلاد الجريد التي يقع عليها هذا الاسم تنقسم قسمين: قسم يسمى قَسْطِيلِيَّة، وهذا الاسم يقع على توزر وأعمالها؛ وقسم يسمى الزاب، وهذا الاسم أيضًا يقع على مدينة بِسْكَره وأعمالها.
ومن مدينة توزر إلى مدينة بسكرة، أربع مراحل؛ وبالقرب من مدينة بسكرة مدينة صغيرة تسمى تقاوس، بينها وبينها مرحلتان؛ فهذه المدن التي تلي الصحراء من بلاد إفريقية، ويتخللها قرى كثيرة لم نذكرها لصغرها.
1- يعني: المحيط.
شأن القيروان في قديم الزمان
وفيما بين مدينة تونس وتوزر، مدينة القيروان المشهورة؛ منها إلى الساحل ثلاث مراحل؛ وهي كانت -أعني القيروان- دار ملك المسلمين بإفريقية منذ الفتح؛ لم يزل الخلفاء من بني أمية وبني العباس يولون عليها الأمراء من قِبَلهم، إلى أن اضطرب أمر بني العباس واستبدَّ الأغالبة بملك إفريقية بعض الاستبداد وهم بنو أَغْلَبَ بن محمد بن إبراهيم بن أغلب التميميون؛ فاتخذوا القيروان دار ملكهم؛ فلم يزالوا بها إلى أن أخرجهم عنها بنو عبيد وملكوها أيام كونهم بإفريقية؛ ثم ولوا عليها حين ارتحلوا إلى مصر زيري بن مناد الصنهاجي1، فلم يزل زيري وبنوه ملوكًا عليها، إلى أن كان آخرهم الذي أخرجه العرب عنها، تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن بُلُجَّين بن زيري بن مَنَاد المذكور؛ فانتهبتها الأعراب وخربتها، فهي كذلك خراب إلى اليوم، فيها عمارة قليلة يسكنها الفلاحون وأرباب البادية.
وكانت القيروان هذه في قديم الزمان -منذ الفتح إلى أن خربتها الأعراب- دار العلم بالمغرب؛ إليها ينسب أكابر علمائه، وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم. وقد ألف الناس في أخبار القيروان ومناقبه وذكر علمائه ومن كان به من الزهاد والصالحين والفضلاء المتبتلين، كتبًا مشهورة؛ ككتاب أبي محمد بن عفيف، وكتاب ابن زيادة الله الطُّبْني2، وغيرهما من الكتب. فلما استولى عليها الخراب -كما ذكرنا- تفرق أهلها في كل وجه؛ فمنهم من قصد بلاد مصر، ومنهم من قصد صقلية والأندلس. وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب، فنزلوا مدينة فاس، فعقبهم بها إلى اليوم.
فهذه نبذة من أخبار إفريقية، وفيها مدن كثيرة قد خربت لا أعرف أسماءها؛ لقلة معرفتي بتفاصيل أحوال إفريقية؛ لأني لم أدخل منها إلا مدينة تونس خاصة، أتيتها في البحر من الأندلس، وذلك سنة 614؛ وإنما نقلت ما نقلته من أخبارها حسب المستفيض من السماع.
1- هو أول ملوك الصنهاجيين بالمغرب الأوسط. عرف بالشجاعة وحسن السيرة. توفي سنة 360هـ/971م. "الأعلام، الزركلي: 63/3".
2-
هو أبو مروان، عبد الملك بن زيادة الله التميمي الحَمَّاني الطبني: أديب لغوي، فقيه، من بيت علم ونباهة وأدب وخير وصلاح. توفي سنة 457 هـ/1065م. "الصلة، ابن بشكوال: 294".
وفي خراب القيروان -على ما تقدم- يقول أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد1 بن شرف الجذامي2: من الطويل
ترى سيئات القيروان تعاظمت
…
فجَلَّت عن الغفران، والله غافرُ! 3
تراها أصيبت بالكبائر وحدها
…
ألم تك قِدْمًا في البلاد الكبائرُ؟ 4
بلاد المغرب
…
فقسطنطينة آخر بلاد إفريقية، ما يلي البحر منها وما يلي الصحراء. وما بعد قسطنطينة فهو من المغرب غير إفريقية؛ فأول ذلك بليدة صغيرة قبلي بجاية في البر، تسمى مِيلة، بينها وبين بجاية ثلاث مراحل، ومن بجاية إلى قلعة بني حماد أربع مراحل؛ وهي أيضًا -أعني القلعة- قبلي بجاية.
طريق السُّفَّار من بجاية إلى مراكش
وها أنا أذكر طريق السفار من بجاية إلى مراكش؛ فمن بجاية إلى مدينة تلمسان عشرون مرحلة، وفيما بين ذلك بُلَيدات صغار كمليانة، ومازونة، ووهران -وقد ذكرناها في بلاد الساحل- وبين مدينة تلمسان وبين البحر أربعون ميلًا؛ وذلك يوم للمجد؛ ومن مدينة تلمسان إلى مدينة فاس عشر مراحل، سبع منها إلى المدينة التي تدعى رباط تازا، وثلاث إلى فاس؛ وقبلي مدينة تلمسان في الصحراء، مدينة سجلماسة، منها إلى تلمسان عشر مراحل؛ وهذه المدينة -أعني سجلماسة- متوسطة في الصحراء، مسافة ما بينها وبين تلمسان وفاس ومراكش، على حد سواء؛ فمن حيث قصدت إليها من أحد هذه البلاد، كان ذلك مسافة عشر مراحل.
التعريف بمدينة فاس
ومدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا، وموضع العلم منه؛ اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة؛ إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس، كما كانت القيروان حاضرة المغرب. فلما اضطرب أمر القيروان -كما ذكرنا- بعَيْثِ العرب فيها،
1- في مصادر أخرى: "محمد بن سعيد".
2-
هو كاتب، شاعر، مترسل. ولد في القيروان، وتوفي بإشبيلية سنة 460 هـ/ 1068م. "الأعلام، الزركلي: 138/6".
3-
جلت: عظمت.
4-
الكبائر: الذنوب أو المعاصي الكبيرة؛ كالزنا، والقتل، وشرب الخمر، وغيرها.
واضطرب أمر قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت أبي عامر محمد بن أبي عامر وابنه، رحل من هذه وهذه من كان فيهما من العلماء والفضلاء من كل طبقة؛ فرارًا من الفتنة؛ فنزل أكثرهم مدينة فاس؛ فهي اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكَيْس ونهاية الظَّرْف، ولغتهم أفصح اللغات في ذلك الإقليم. وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب، وبحق ما قالوا ذلك؛ فإنه ليس بالمغرب شيء من أنواع الظرف واللباقة في كل معنى إلا وهو منسوب إليها وموجود فيها ومأخوذ منها؛ لا يدفع هذا القول أحد من أهل المغرب. ولم يتخذ المصامدة مدينة مراكش وطنًا ولا جعلوها دار مملكة لأنها خير من مدينة فاس في شيء من الأشياء، ولكن لقرب مراكش من جبال المصامدة وصحراء لمتونة؛ فلهذا السبب كانت مراكش كرسي المملكة؛ وإلا فمدينة فاس أحق بذلك منها. وما أظن في الدنيا مدينة كمدينة فاس، أكثر مرافقَ، وأوسع معايشَ، وأخصب جهاتٍ؛ وذلك أنها مدينة يحفها الماء والشجر من جميع جهاتها، وتتخلل الأنهار أكثر دورها زائدًا على نحو من أربعين عينًا ينغلق عليها أبوابها ويحيط بها سورها. وفي داخلها وتحت سورها نحو من ثلاثمائة طاحونة تطحن بالماء. ولا أعلم بالمغرب مدينة لا تحتاج إلى شيء يُجلب إليها من غيرها -إلا ما كان من العطر الهندي- سوى مدينة فاس هذه؛ فإنها لا تحتاج إلى مدينة في شيء مما تدعو إليه الضرورة، بل هي تُوسع البلاد مرافق وتملؤها خيرًا.
ومن مدينة فاس إلى مدينة مِكْنَاسة الزيتون، يوم تام للمجد؛ ومن مكناسة الزيتون إلى مدينة سلا، أربع مراحل.
ومدينة سلا هذه على ساحل البحر الأعظم المسمى أقيانس، وهي في الجنوب كما ذكرنا، ينصب إليها نهر يسمى وادي الرمان، يصب في البحر الأعظم المذكور.
وقد بنى المصامدة على ساحل هذا البحر مما يلي مراكش مدينة عظيمة، سموها رِبَاط الفَتْح، كان الذي اختطها أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وأتمها ابنه يعقوب، وبنى فيها مسجدًا عظيمًا قد تقدم ذكره. وقيل: إنهم إنما بنوها بأمر ابن تومرت إياهم بذلك؛ وذلك أنه قال لهم: تبنون مدينة عظيمة على ساحل هذا البحر -يعني البحر الأعظم- ثم يضطرب أمركم وتنتقض عليكم البلاد حتى ما يبقى بأيديكم إلا هذه المدينة؛ ثم يفتح الله عليكم ويجمع كلمتكم ويعود أمركم كما كان! فلهذا سموها رباط الفتح. وبين هذه المدينة وبين سلا العتيقة، النهر المذكور؛ وقد بنوا عليه قنطرة من ألواح وحجارة يعبر الناس عليها حين يَجْزر النهر1، فإذا مَدَّ عبروا في القوارب.
1-جَزَر البحر أو النهر: انحسر ماؤه.
وبين مدينة سلا هذه ومدينة مراكش كرسي المملكة، تسع مراحل؛ فمراكش آخر المدن بالمغرب؛ وكان الذي اختطها ملك لمتونة تاشفين بن علي؛ ثم زاد فيها بعده ابنه يوسف بن تاشفين؛ ثم زاد فيها بعدهما علي بن يوسف بن تاشفين؛ ثم ملكها المصامدة فزادوا فيها حتى جاءت في نهاية الكبر؛ فهي اليوم طولًا وعرضًا قدر أربعة فراسخ -هذا إذا ضمت إليها قصور بني عبد المؤمن- وأجرى المصامدة فيها مياهًا كثيرة لم تكن فيها قبل ذلك، بنوا فيها قصورًا لم يكن مثلها لملك ممن تقدمهم من الملوك؛ فصارت بذلك في نهاية الحسن وغاية الكمال، كما قال الأول: من المديد
ليس فيها ما يقال له
…
كملت لو أنه كَمُلَا
ترجمة المؤلف بقلمه
وبهذه المدينة -أعني مراكش-مسقط رأسي، وهي أول أرض مس جلدي ترابها؛ وكان مولدي بها لسبع خلون من ربيع الآخر سنة 581، في أول أيام أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي.
ثم فصلت عنها وأنا ابن تسعة أعوام إلى مدينة فاس؛ فلم أزل بها إلى أن قرأت القرآن وجودته ورويته عن جماعة كانوا هنالك مُبرِّزين1 في علم القرآن والنحو.
ثم عدت إلى مراكش؛ فلم أزل مترددًا بين هاتين المدينتين.
ثم عبرت إلى جزيرة الأندلس في أول سنة 603، فأدركت بها جماعة من الفضلاء من أهل كل شأن؛ فلم أحصل بحمد الله من ذلك كله إلا معرفة أسمائهم ومواليدهم ووفياتهم وعلومهم؛ انفردوا دوني بكل فضيلة؛ ولا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع؛ يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم!.
بلاد السوس الأقصى
فمراكش هذه آخر المدن الكبار بالمغرب المشهورة به؛ وليس وراءها مدينة لها ذكر وفيها حضارة، إلا بليدات صغار بسوس الأقصى؛ فمنها مدينة صغيرة تسمى تَارُودَانْت، وهى حاضرة سوس، وإليها يجتمع أهله. ومدينة أيضًا صغيرة تدعى زُجُنْدَر، هي على معدن الفضة، يسكنها الذين يستخرجون ما في ذلك المعدن. وفي بلاد جَزُولة مدينة هي حاضرتهم أيضًا تسمى الكُسْت. وفي بلاد لَمْطة مدينة أخرى
1- مبرزون: من بَرَّز الرجل: فاق أصحابه فضلًا، أو علمًا، أو غير ذلك.
هي حاضرتهم أيضًا تسمى نُول لمطة. فهذه المدن التي وراء مراكش، فأما تارودانت وزجندر فدخلتهما وعرفتهما؛ ولم أزل أعرف السفار من التجار وغيرهم، وخاصة إلى مدينة المعدن المعروفة بـ زجندر. وأما مدينة جزولة ومدينة لمطة فلا يسافر إليهما إلا أهلهما خاصة.