المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل رجع الحديث عن دولة المرابطين بالأندلس - المعجب في تلخيص أخبار المغرب

[عبد الواحد المراكشي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌فصل في ذكر جزيرة الأندلس وحدودها

- ‌ذكر فتح جزيرة الأندلس ولمع من تفصيل أخبارها وسير ملوكها ومن كان فيها من الفضلاء منها ومن غيرها

- ‌ذكر من دخل الأندلس من التابعين

- ‌فصل في فضل المغرب

- ‌ذكر خبر دخول عبد الرحمن بن معاوية* الأندلس

- ‌ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن*

- ‌ولاية الحَكَم بن هشام الملقب بالرَّبَضيِّ**

- ‌ولاية الحكم المُسْتَنْصر*

- ‌ولاية هشام المُؤيَّد ابن الحَكَم المستنصر*

- ‌وزارة المظفر بن أبي عامر*

- ‌وزارة الناصر بن أبي عامر*

- ‌تفصيل ما سبق إجماله ولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدي**

- ‌ولاية سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر*

- ‌أولية بنى حَمُّود

- ‌ولاية ابن حمود الناصر*

- ‌ولاية القاسم بن حمود المأمون **

- ‌ولاية يحيى بن علي المعتلي*

- ‌ ولاية عبد الرحمن بن هشام المستظهر**

- ‌ولاية هشام المعتدّ بالله*

- ‌ذكر أخبار الأندلس بعد انتقال الدعوة الأموية

- ‌فصل رجع الحديث إلى بني حمود ومطمع بني عباد في التغلب على قرطبة

- ‌فصل يتضمن ذكر أحوال الأندلس بعد انقطاع الدعوة الأموية عنها على الإجمال لا على التفصيل

- ‌ملوك الطوائف

- ‌فصل في ملك بني عَبَّاد بإشْبِيلِيَّة

- ‌فصل رجع الحديث عن دولة المرابطين بالأندلس

- ‌ولاية أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين*

- ‌اختلال أحوال المرابطين

- ‌ذكر قيام محمد بن تومرت المتسمي بالمهدي* وبدء أمر الموحدين بالمغرب والأندلس

- ‌الحرب بين المرابطين والموحدين

- ‌ذكر ولاية عبد المؤمن

- ‌ذكر ولاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وما يتعلق بها

- ‌ذكر ولاية أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن*

- ‌ذكر ولاية أبي عبد الله محمد بن أبي يوسف أمير المؤمنين

- ‌ذكر ولاية أبي يعقوب يوسف بن محمد

- ‌ولاية أبي محمد عبد العزيز بن أبي يعقوب الأول

- ‌جامع سير المصامدة وأخبارهم وقبائلهم وأحوالهم في ظعنهم وإقامتهم

- ‌ذكر قبائل الموحدين

- ‌ذكر أقاليم المغرب والأندلس

- ‌ذكر ما بالمغرب من معادن الفضة والحديد والكبريت والرصاص والزيبق وغير ذلك، وأسماء مواضعها

- ‌ذكر أسماء الأنهار العظام التي بالمغرب

- ‌ذكر جزيرة الأندلس وأسماء مدنها وأنهارها

- ‌الفهارس

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأشعار

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌فصل رجع الحديث عن دولة المرابطين بالأندلس

‌فصل رجع الحديث عن دولة المرابطين بالأندلس

وإنما أوردنا هذه النبذة اليسيرة من أخبار المعتمد على الله، مع ما تعلق بها، وإن كانت مخرجة عن الغرض؛ لندل بها على ما قدمنا من ذكر فضله وغزارة أدبه وإيثاره لذلك؛ وأيضًا فليتصل نسق الأخبار عن المملكة، أعني: مملكة الأندلس إلى المرابطين أصحاب يوسف بن تاشفين، ولوجه ثالث: وهو أن ما آلت إليه حال المعتمد هذا من الخمول بعد النباهة1، والضَّعة2 بعد الرفعة، والقبض بعد البسط، من جملة العبر3 التي أرتْنَاها الأيام، والمواعظ التي تصغر الدنيا في عيون أولي الأفهام.

ثم إن يوسف بن تاشفين استوسق له أمر الأندلس بعد القبض على المعتمد؛ إذ كان هو كبش كتيبتها، وعين أعيانها، وواسطة نظمها؛ فلم يزل أصحاب يوسف بن تاشفين يطوون تلك الممالك مملكة مملكة، إلى أن دانت لهم الجزيرة بأجمعها؛ فأظهروا في أول إمرتهم من النكاية4 في العدو، والدفاع عن المسلمين، وحماية الثغور، ما صدق بهم الظنون، وأثلج الصدور5، وأقر العيون؛ فزاد حب أهل الأندلس لهم، واشتد خوف ملوك الروم منهم؛ ويوسف بن تاشفين في ذلك كله يمدهم في كل ساعة بالجيوش بعد الجيوش، والخيل إثر الخيل، ويقول في كل مجلس من مجالسه: إنما كان غرضنا في ملك هذه الجزيرة أن نستنقذها من أيدي الروم، لما رأينا استيلاءهم على أكثرها، وغفلة ملوكهم وإهمالهم للغزو وتواكلهم وتخاذلهم وإيثارهم الراحة؛ وإنما همة أحدهم كأس يشربها، وقَيْنة تُسمعه، ولهو

1- خمل الرجل: خفي، فلم يعرف ولم يذكر، وخمل ذكره وصيته: خفي. ونبُه الرجل نباهة: شرُف واشتهر.

2-

الضعة: الانحطاط، والخسة، خلاف الرفعة في القدر.

3-

العبر: المواعظ.

4-

نكى العدو وفيه نكاية: أوقع به، أو هزمه وغلبه.

5-

أثلج الصدور: سرها وطمأنها.

ص: 122

يقطع به أيامه. ولئن عشت لأعيدن جميع البلاد التي ملكها الروم في طول هذه الفتنة إلى المسلمين، ولأملأنها عليهم - يعني الروم- خيلاً ورجالاً لا عهد لهم بالدَّعة1، ولا علم عندهم برخاء العيش؛ إنما هم أحدهم فرس يروضه ويستَفْرِهه2، أو سلاح يستجيده، أو صريخ3 يلبي دعوته

في أمثال لهذا القول. فيبلغ ذلك ملوك النصارى، فيزداد فَرَقُهم4، ويقوى -مما بأيدي المسلمين، بل مما بأيديهم- يأسهم.

وحين ملك يوسف أمير المسلمين جزيرة الأندلس وأطاعته بأسرها ولم يختلف عليه شيء منها، عد من يومئذ في جملة الملوك، واستحق اسم السلطنة، وتسمَّى هو وأصحابه بـ المرابطين. وصار هو وابنه معدودين في أكابر الملوك؛ لأن جزيرة الأندلس هي حاضرة المغرب الأقصى، وأم قراه، ومعدن الفضائل منه. فعامة الفضلاء من أهل كل شأن منسوبون إليها، ومعدودون منها. فهي مطلع شمس العلوم وأقمارها، ومركز الفضائل وقطب مدارها؛ أعدل الأقاليم هواءًَ، وأصفاها جوًّا، وأعذبها ماءً، وأعطرها نبتًا، وأنداها ظلالًا، وأطيبها بُكرًا مستعذَبة وآصالاً: من البسيط

أرض يطير فؤادي من قرارته

شوقًا لها ولمن فيها من الناسِ

قوم جنيت جَنَى وردٍ بذكرهمُ

فهل بلُقياهم أجني جنى آسِ؟

فانقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم.

أعيان الكُتَّاب في دولة المرابطين

واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار؛ فممن كتب لأمير المسلمين يوسف: كاتب المعتمد على الله أبو بكر المعروف بابن القَصِيرة5، أحد رجال الفصاحة، والحائز قصب السبق في البلاغة؛ كان على طريقة قدماء الكتاب، من إيثار جَزْل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أحدثها متأخرو الكتاب، اللهم إلا ما جاء في رسائله من

1- الدعة: الخفض، والسعة في العيش.

2-

استفره فلان: تخير الجيد من الجياد وغيرها.

3-

الصريخ: المستغيث.

4-

الفرق: الخوف والفزع.

5-

هو أبو بكر، محمد بن سليمان الكلاعي الأندلسي، المعروف بابن القصيرة: أديب، من كبار الكتاب. نشأ في دولة المعتضد، ثم تقدم عند المعتمد. وكانت وفاته سنة 508هـ/1113م. "الصلة، ابن بشكوال: 445".

ص: 123

ذلك عفوًا من غير استدعاء. رأيت له عن المعتمد رسائل تدل على ما وصفته به، ليس على خاطري منها شيء.

وزارة ابن عبدون*

ثم كتب له، أو لابنه، بعد أبي بكر هذا -الوزير الأجلّ أبو محمد عبد المجيد بن عبدون. قد تقدم من نعته ما أغنانا عن تكراره ههنا. وكان يكتب قبل من كتب له منهما، للأمير سِير بن أبي بكر بن تاشفين، وهو الذي دخل على المعتمد على الله إشبيلية، فلم يزل يكتب له إلى أن اتصل بأمير المسلمين، باستدعاء منه له.

فمن رسائله عنه إلى أمير المسلمين، رسالة يخبر بها بفتح مدينة شَنْتَرين1 أعادها الله؛ وكان سير هذا هو الذي تولى فتحها؛ فكتب عنه أبو محمد كتابًا:

أدام الله أمر أمير المسلمين، وناصر الدين، أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين، خافقة بنُصرة الدين أعلامه، نافذة في السبعة الأقاليم أقلامه، من داخل مدينة شنترين، وقد فتحها الله تعالى بحسن سيرتك، ويمن نَقِيبتك2 على المسلمين.

والحمد لله رب العالمين، حمدًا يستغرق الألفاظ الشارحة معناه، ويسبق الألحاظ الطامحة أدناه، لا يرد وجهه نُكوص3، ولا يحد كُنْهَه4 تخصيص، ولا يحزِره5 بقبض ولا ببسط مثال ولا تخمين، ولا تحصره بخبط ولا بعَقْد شِمال ولا يمين، ولا يسعه أَمَدٌ يحويه، ولا يقطعه أبدٌ يستوفيه، ولا يجمعه عددٌ يُحصيه، إذا سبقت هواديه6، لحقت تواليه.

وعلى محمد عبده وأمين وحيه، الصادع بأمره ونهيه، نظام الأمة، وإمام الأئمة، سر آدم من بنيه، وفخر العالم ومن فيه -صلاة تامة نقضيها، وتحية عامة نؤديها، تَرْفَضُّ7 ارفضاض الزهر من كمامه، وتنفضُّ8 انفضاض المسك من ختامه؛

* ترجمته في الأعلام: 149/4؛ الصلة: 311؛ كشف الظنون: 1329.

1-

شنترين: مدينة تقع غربي الأندلس، بينها وبين قرطبة خمسةَ عشرَ يومًا. "معجم البلدان: 367/3".

2-

النقيبة: السجية والطبيعة.

3-

النكوص: الرجوع والإحجام.

4-

كنه الشيء: حقيقته.

5-

حزَر الشيء: قدره بالتخمين، أو الظن.

6-

الهوادي: المتقدمات من الإبل، أو الخيل.

7-

ترفض: تتفرق وتتبدد وتزول، ومنه: ارفض الماء: سال أو ترشَّشَ.

8-

انفض الشيء: تفرق.

ص: 124

فلقد صدع بتوحيده، وجمع على وعده ووعيده، وأوضح الحق وجلاه، ونصح الخلق وهداه، إلا من حقت عليه كلمة العذاب، وسبقت له الشقوة في أم الكتاب.

وأظهر العزيز -عزت أسماؤه، وجلت كبرياؤه- دينه على جميع الأديان، على رَغْم من الصلبان، ووَقْم1 من الأوثان؛ وأنجز لنا تعالى وعده، ونصرنا معه صلى الله عليه وسلم وبعده، وجمع في هذه الجزيرة شمل الإسلام بعد انصرامه وانبتاته2، وقطع غِيل3 الإشراك بعد انتصابه وثباته، وأنزل الذين كفروا من أهل الكتاب بأيدينا من صَيَاصيهم4، نأخذ بأقدامهم ونواصيهم.

وكانت قلعة شنترين -أدام الله أمر أمير المسلمين- من أحصن المعاقل للمشركين، وأثبت المعاقل على المسلمين؛ فلم نزل بسعيك الذي اقتفيناه، وهديك الذي اكتفيناه، نَخْضد5 شوكتها، وننحت أَثْلَتها6، ونتناولها عَلَلًا بعد نَهَل7، ونطاولها عجلًا في مهل؛ نخرُف8 الحين بعد الحين سَرَاة رجالها، ونتطرف9 المرة بعد المرة حماة أبطالها، ونخوض غمار كفاحهم، وبحار صِفاحهم10، إلى بسط أشباحهم، وقبض أرواحهم، ونُهدي للقَنا وصدورها رءوسهم، وإلى لظًى وسعيرها نفوسهم، وننقلهم من الشِّفار اليمانية، إلى النار الحامية، ونرفع بالجد والتشمير حجاب كيدهم الغامض، ونضعضع باستخارة القديم القدير هضاب أَيْدِهم الهائض11. ولما رأينا هذه القلعة الشريفة المناسب في القلاع، المنيفة12 المناصب على البقاع، قد استشرى داؤها، وأعيا دواؤها، استخرنا الله تعالى على صَمْدها13، وضرَعنا إليه في تسهيل قصدها؛ وسألناه ألا يكلنا إلى نفوسنا، وإن كانت في صيانة

1- الوقم: الكُرْه والقَسْر.

2-

الانصرام والانبتات: الانقطاع.

3-

الغيل في "الأصل": موضع الأسد، أو الشجر الكثيف الملتف.

4-

الصياصي: الحصون، قال تعالى:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] .

5-

خضد الشيء: كسره، أو قطعه.

6-

الأثلة: الأصل، ونحت أثلته: عابه وتنقَّصه.

7-

العلل: الشرب الثاني. النهل: الشرب الأول.

8-

نخرف: نقطف، نجني.

9-

طرَّف الشيء: أخذ من أطرافه.

10-

الصفاح: جمع الصفيحة: وجه كل شيء عريض، كوجه السيف واللوح والحجر.

11-

الأيد: القوة. الهائض: من هاض العظم هيضًا: كسره.

12-

المنيفة: العالية، المشرفة.

13-

صمد الشيء، وله، وإليه: قصده.

ص: 125

ديانته مبذولة، وعلى المكروه والمحبوب في ذاته محمولة؛ فقصدنا إليها، وهجمنا هجوم الردى عليها، في وقت انسدت فيه أبواب السبل، وأعيت أهلها بحول الله وجوه الحِيَل، والدهر قد كشر عن أنيابه العُصْل1، وقام من الوحول والسيول على أثبت رِجْل. فنزلنا بساحة القوم، فساء صباحهم ذلك اليوم؛ فلم نزل نصاولهم2 مصاولة المحتسب المؤتجر، ونطاولهم مطاولة المرتقب لأمر الله المنتظر، ونشن الغارات على جميع الجهات، فترد جيوشنا عليهم خفافًا وتصدر إلينا ثقالًا، فتملأ صدور الأعداء أوجالًا3، وأيدي الأولياء أموالًا. وأمرنا بإقامة سوق سبيهم وأموالهم، على مرأًى ومسمَعٍ من نسائهم ورجالهم؛ فازدادت ريحهم بذلك ركودًا، ونارهم خمودًا.

ولما ضمهم لضيق ولَاجه الحصار، وغشيهم بتفريق أمواجه البوار4، وأحاط بهم البلاء، واستشاط عليهم بغضب الجبار القضاء، ولم يكن لليل بأسائهم سحر يُتأمل، ولا لوِرْد ضرائهم صدر يُؤمل، اختاروا الدنية على المنية، ورضُوا بالاستسلام للعبودية، وإسلام الأهل والذرية، والسلامة من مدارج الكفن، وموالج الجَنن، ولو بجُريعة الذَّقَن. وكان القتل -كما قدمنا- قد أتى على صِيد5 أعيانهم، وصناديد6 فرسانهم، فلم تبق إلا شرذمة7 قليلة، وعُصبة ذليلة، لا تضر حياتهم مُوحِّدًا، ولا تسر نجاتهم مُلحدًا. نقلناهم من يمين المنون، إلى شمال الهُون8، ومن أليم الحصار، إلى لئيم الإسار. وكانوا سألونا الإبقاء عليهم فأجبناهم، بعد أن قدموا من الخضوع صدقة بين يدي نجواهم، ووهبنا أولاهم لأخراهم، وجعلنا العفو عنهم تطريقًا لسواهم، ممن يتقيل صنيعهم إذا نحن غدًا بإذن الله حاصرناهم.

وهذه القلعة التي انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها، أرحب المدن أمدًا للعيون، وأخصبها بلدًا في السنين، لا يريمها9 الخِصب ولا يتخطاها، ولا

1- العصل: جمع الأعصل: المعوج في صلابة.

2-

صاوله: غالبه ونافسه.

3-

الأوجال: جمع الوجل: الخوف، أو الفزع.

4-

البوار: الفساد، والهلاك.

5-

الصيد: جمع الأصيد: الذي يميل بوجهه كبرًا وتِيها لمكانته ورفعته.

6-

الصناديد: جمع الصنديد: الشريف، الشجاع.

7-

الشرذمة: القطعة من الشيء، يقال: شرذمة من الناس: جماعة قليلة. قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] .

8-

الهون: الشدة، أو الخزي. قال تعالى:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] .

9-

لا يريمها: لا يفارقها.

ص: 126

يرومها الجدب ولا يتعاطاها؛ فروعها فوق الثريا شامخة، وعروقها تحت الثرى راسخة، تباهي بأزهارها نجوم السماء، وتناجي بأسرارها أذن الجوزاء، مواقع القطار1 في سواها مغبرَّة مربدَّة2، وهي زاهرة تَرِفُّ أنداؤها، ومطالع الأنوار في حشاها مقشعرة مسودة، وهي ناضرة تَشِفُّ أضواؤها. وكانت في الزمن الغابر، أعيت على عظيم القياصر، فنازلها بأكثر من القَطْر عددًا، وحاولها بأوفر من البحر مددًا، فأبت على طاعته كل الإباء، واستعصت على استطاعته أشد الاستعصاء، ومردت مُرود3 مارد على الزَّبَّاء4. فأمكننا الله تعالى من ذِرْوتها، وأنزل رُكابها لنا عن صهوتها.

ومن رسائله -الإخوانيات- رسالة كتب بها إلى أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال5 يخطب مودته، ويستدعي من إخائه جدته:

أنا مع عمادي الأعظم -أدام الله علوه- كعزيب6 طواه الجَهْد، وآواه من تِهامة وَهْد7، وما له بريحها العقيم، ولا بحرها المقعد المقيم عهد. فرفضت به من سرابها المغرق وشرابها المحرق في حمَّام، فأشرف من ذلك الجحيم وضَرَمه، لولا تنفيس الرحيم عنه بكرمه، فوأل8 إلى ربوة من رباها، وسأل جبال فاران عن مهب صَباها؛ ليلتقط من أنفاسها بوساطة نجد، بردًا يهديه إلى حر الوجد؛ فحيته ببليل من نسيمها العليل، فأحيته بعد التعليل.

وأنا ما قصدت فيما خطبت به إليك لآخذ عليك بفضل الابتداء، وإنما سلكت سبيل الاقتداء، واتبعت دليل الاهتداء؛ وأردت أن أستنير بأضوائك، وأستثير من سمائك، نجومًا تهديني في غسق الظلام، أو رُجومًا تعديني على مسترق سمع الكلام. فإن سمح عمادي بالجواب ورَجْعه، غالبت -بما حصل منه لدي ووصل إلي- الحمام

1- القطار: جمع القطر: المطر.

2-

مربدة: اختلط سوادها بكدرة.

3-

مردت: طغت وتجاوزت الحد.

4-

الزباء: هي ملكة تدمر.

5-

هو أبو عبد الله، محمد بن مسعود بن طيب بن فرج بن أبي الخصال الغافقي: شاعر، أديب، وزير، يعرف بذي الوزارتين. توفي سنة 540هـ/1146م. "الأعلام، الزركلي: 95/7".

6-

العزيب: البعيد.

7-

الوهد: المنخفض من الأرض.

8-

وأل: لجأ وخلص.

ص: 127

في سجعه1، والأنصار في حَسَّانها2، والإعصار3 في نيسانها، وطيئًا في وليدها وحبيبها4، وسعدًا في خالدها وشبيبها. وخرقت -بما أعار من مِراح وأثار من ارتياح- جيب مُخارق5 طربًا، ولم أدع لأبي العتاهية6 في المغرب وخفيفه المطرب أرَبًا، وطويت كشحًا7 عن أغاريد عبيد8، وأضربت صفحًا عن أناشيد لبيد9، وطالبت بلغاء العصر، بالمثل المضروب في جمل مصر، وقلت: هذه القارة فراموها وأنصفوا، وهذه الغاية فروموها أو نصفوا، وإن كانت تُؤَمُه البواهر منا أُنحلت في دَرْجي10، ونجومه الزواهر ما حلت في بُرجي. وإن كفي من جنى ثماره لصِفر11، وإن طرفي من سنا أقمارها لقَفْر. وإني بضنه علي بدُرة من بحره، أو نَفْثة من سحره، لبين ظنين، لم أحصل من تحقيقهما على أثر ولا عين، أحدهما قلت: إنه أجرى اسمي على خَلَده، فلم يجدني في أنداده12 ولا بلده، فقال: وما أنا وفلان، وهل هو إلا من الغرب، وإن كان بزعمه في الصميم من العُرْب، وهل الغرب في الأقطار، إلا كاللَّحق13 بين الأسطار. والآخر ربما يقول، ما لا تقبله العقول: إني لأنظر من فلان

1- سجعت الحمامة سجعًا: رددت صوتها على طريقة واحدة.

2-

الأنصار: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نصروه في المدينة. حسان: هو الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري، المتوفى سنة 54هـ/674م.

3-

الإعصار: ريح تهب بشدة، وتثير الغبار، وترتفع كالعمود في السماء.

4-

وليدها: هو أبو عبادة، الوليد بن عبيد الطائي الشاعر، المتوفى سنة 284هـ/898م. وحبيبها:

هو أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي الشاعر، المتوفى سنة 231هـ/846م.

5-

مخارق: هو أبو المهنأ، مخارق بن يحيى الجزار: إمام عصره في الغناء، ومن أطيب الناس صوتًا. كان مقربًا من الرشيد والمأمون العباسييْنِ. وتوفي سنة 231هـ/845م. "الأعلام، الزركلي: 191/7".

6-

هو إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، العنزي بالولاء، الشهير بأبي العتاهية: شاعر مكثر مطبوع. نشأ في الكوفة، وسكن بغداد، وتوفي سنة 211هـ/826م. "طبقات الشعراء، ابن المعتز: 227".

7-

يقال: طوى كشحه على الأمر: أضمره وستره، وطوى عنه كشحه: تركه وأعرض عنه.

8-

عبيد: هو عبيد بن الأبرص الأسدي، الشاعر الجاهلي، المتوفى نحو سنة 25ق. هـ/نحو 600م.

9-

لبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري، الشاعر المخضرم المشهور، المتوفى سنة 41هـ/661م.

10-

الدرج: الورق الذي يكتب فيه، ويقال: أنفذته في درج كتابي: في طَيِّه، ونحن درجُ يديك: أي: طوع يديك.

11-

كفي صفر: خالية.

12-

الأنداد: جمع الند: المثل والنظير.

13-

اللحق: ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه، فتلحق به ما سقط عنه، أو هو كل ما يجيء بعد شيء سبقه.

ص: 128

بأحد من نظر الزَّرْقاء1، إلى أجل من خطر العَنْقاء،؛ وينشد قول أبي العلاء بن سليمان2، شاعر معرة النعمان:

أرى العنقاء تكبر أن تُصَادَا

وأنا أقسم بالربيع الممطر وائتلاف أوانه، والبقيع المزهر واختلاف ألوانه، والشباب ودولته، والمِضْراب وصولته، والمثاني إذا نُسقت3، والقناني وما وَسَقَتْ4، وإن أقسمت من بعضها بيمين، لا أتلقى رايتها بشمال ولا يمين -أن اسمي في البلغاء والفهماء، كاسم العنقاء في الأسماء: اسم ما وقع على مسمًّى، ولفظ ما دل على معنًى. فأين أقع مما تريد، وكتابى بين يدي حمدي أو عتابي بريد، ينفض تهائم ظنوني، أو ينقض تمائم جنوني. وله الرأي العالي في الجواب، على خطإ كنت من ظني أو صواب، إن شاء الله عز وجل.

ومن سلامي، علي عمادي الأعظم وإمامي، أحفله وأحفده5، وأجزله وأوفده؛ والسلام الأتم الأعم عليه ورحمة الله وبركاته.

فراجعه الوزير أبو عبد الله برسالة لم يكتب مثلها في بابها، أبدع فيها غاية الإبداع، وإن كان فيها بعض تكلف، تسمى هذه الرسالة: الحولية، منعني من إيرادها في هذا المرسوم ما فيها من الطول.

ولأبي محمد عبد المجيد المذكور إحسان قد اشتهر عندنا بتلك الأقطار شهرة الأمثال، وسار ذكره فيها سير الجنوب والشمال.

واتصلت حال أمير المسلمين يوسف -كما ذكرنا- في إيثار الغزو، وقمع6 ملوك الروم، والحرص على ما يعود بالمصلحة على جزيرة الأندلس، إلى أن توفي في شهور سنة 493.

1- الزرقاء: أعني: زرقاء اليمامة، وكانت مشهورة بحدة النظر.

2-

هو أبو العلاء، أحمد بن عبد الله بن سليمان بن التنوخي المعري: شاعر فيلسوف، ولد في معرة النعمان، وفقد بصره صغيرًا، وتوفي سنة 449هـ/1057م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان:113/1".

3-

نسقت: نظمت، رتبت.

4-

وسقت: حملت.

5-

أحفده: يقال: حفد الرجل حَفَدَانًا: خَفَّ وأسرع في عمله، وحفد فلانًا: أعانه وخف إلى خدمته.

6-

قمع فلانًا قمْعًا: منعه عما يريد، أو قهره وذلله.

ص: 129