الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ولاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وما يتعلق بها
ولما تم خلع محمد في التاريخ المذكور، بعد اتفاق من وجوه الدولة على ذلك، دار الأمر بين اثنين من ولد عبد المؤمن: يوسف، وعمر، وهما من نبهاء أولاده ونجبائهم1 وذوي الرأي والغَناء2 منهم، فأباها عمر منهما وتأخر عنها مختارًا؛ وبايع لأخيه أبي يعقوب، وسلم له الأمر؛ حمله على ذلك فرط عقله وإيثار دينه وحب المصلحة للمسلمين؛ لأنه يعلم من نفسه أشياء لا يصلح معها لتدبير المملكة وضبط أمور الرعية. فبايع الناس أبا يعقوب، واتفقت عليه الكلمة؛ فلم يختلف عليه أحد من الناس من إخوته ولا غيرهم. وذلك كله بحسن سعي أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، وشدة تلطفه، وجودة رأيه. فاستوسق لأبي يعقوب هذا أمره، وتمت بيعته في التاريخ المذكور. وكان الساعي فيها والقائم بها ومديرها إلى أن تمت -كما ذكرنا- أخوه لأبيه وأمه، أبو حفص المتقدم الذكر.
وأبو يعقوب هذا هو يوسف بن عبد المؤمن بن علي؛ أمه وأم أخيه أبي حفص، امرأة حرة اسمها زينب ابنة موسى الضرير. كان موسى هذا من شيوخ أهل تينمل وأعيانهم، من ضيعة يقال لها: أنسا، وكان عبد المؤمن يستخلفه على مراكش إذا خرج عنها، وكانت مصاهرته إياه أيام كان عبد المؤمن بتينمل، برأى ابن تومرت. وخلف موسى هذا من الولد الذكور ثلاثة: إبراهيم، وعليًّا، ومحمدًا، وبنات.
صفة أبي يعقوب
كان أبيض تعلوه حمرة، شديد سواد الشعر، مستدير الوجه، أفْوَه3، أعْيَن4،
1- النجباء: جمع النجيب: النبيه، الظاهر الفضل على أمثاله.
2-
الغناء: النفع والكفاية.
3-
الأفوه: الواسع الفم.
4-
الأعين: الواسع العينين.
إلى الطول ما هو. في صوته جهارة1، رقيق حواشي اللسان2، حلو الألفاظ، حسن الحديث، طيب المجالسة، أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم لأيامها ومآثرها وجميع أخبارها في الجاهلية والإسلام. صرف عنايته إلى ذلك أيام كونه بإشبيلية واليًا عليها في حياة أبيه. ولقي بها رجالاً من أهل علم اللغة والنحو والقرآن، منهم الأستاذ اللغوي المتقن أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك المعروف عندهم بـ ابن مُلْكون، فأخذ عنهم جميع ذلك وبَرَع في كثير منه.
أخبرني من لقيته من ولده، كأبي زكريا، وأبي عبد الله، وأبي إبراهيم إسحاق، وغيرهم ممن لقيته وشافهته منهم، أنه كان أحسن الناس ألفاظاً بالقرآن، وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو، وأحفظهم للغة العربية. وكان شديد الملوكية، بعيد الهمة، سخيًّا جواداً، استغنى الناس في أيامه وكثرت في أيديهم الأموال، هذا مع إيثار للعلم شديد، وتعطش إليه مفرط؛ صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين -الشك مني؛ إما البخاري3 أو مسلم4، وأغلب ظني أنه البخاري-حَفِظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن، هذا مع ذكر جمل من الفقه. وكان له مشاركة في علم الأدب، واتساع في حفظ اللغة، وتبحر في علم النحو حسبما تقدم. ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيرًا من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، فاستظهر من الكتاب المعروف بالملكي أكثره، مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل. ثم تخطى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها؛ فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي.
أخبرني أبو محمد عبد الملك الشذوني، أحد المتحققين بعلمي الطب وأحكام النجوم، قال: كنت في شبيبتي أستعير كتب هذه الصناعة -يعني: صنعة الأحكام- من رجل كان عندنا بمدينة إشبيلية، اسمه يوسف، يكني: أبا الحجاج، يعرف بـ المراني بتخفيف الراء، كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في أيام الفتنة بالأندلس؛
1- الجهارة: ارتفاع الصوت، يقال: جهُر الصوت جهورة و"جهارة": ارتفع.
2-
رقيق حواشي اللسان: أي: لين الكلام، لطيفه.
3-
البخاري: هو أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري: حبر الإسلام، الحافظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب الجامع الصحيح المعروف بـ "صحيح البخاري". توفي سنة 256هـ/ 870م. "تاريخ بغداد، البغدادي: 4/2".
4-
مسلم: هو أبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري: الإمام، المحدث، صاحب الجامع الصحيح المعروف بـ "صحيح مسلم". توفي سنة 261هـ/ 875م. "تاريخ بغداد، البغدادي: 100/13".
فكان يعيرني إياها في غرائر1: أحمل غِرارة وأجيء بغرارة؛ من كثرتها عنده، فأخبرني في بعض الأيام أنه عدِم تلك الكتب بجملتها، فسألته عن السبب الموجب لذلك، أسر إليَّ أن خبرها أُنهي إلى أمير المؤمنين، فأرسل إلى داري وأنا في الديوان لا علم عندي بذلك؛ وكان الذي أرسل كافور الخصي مع جماعة من العبيد الخاصة، وأمره ألا يروع أحدًا من أهل الدار، وألا يأخذ سوى الكتب، وتوعده والذين معه أشد الوعيد إن نقص أهل البيت إبرة فما فوقها. فأخبرت بذلك وأنا في الديوان؛ فظننته يريد استصفاء أموالي، فركبت وما معي عقلي، حتى أتيت منزلي، فإذا الخصي كافور الحاجب واقف على الباب والكتب تخرج إليه. فلما رآني وتبين ذعري قال لي: لا بأس عليك! وأخبرني أن أمير المؤمنين يسلم علي، وأنه ذكرني بخير! ولم يزل يبسطني حتى زال ما في نفسي؛ ثم قال لي: سل أهل بيتك هل راعهم أحد أو نقصهم شيء من متاعهم؟ فسألتهم، فقالوا: لم يرعنا أحد ولم ينقصنا شيء، جاء أبو المسك2 حتى استأذن علينا ثلاث مرات، فأخلينا له الطريق، ودخل هو بنفسه إلى خزانة الكتب فأمر بإخراجها. فلما سمعت هذا القول منهم زال ما كان في نفسي من الروع.
وولوه بعد أخذهم لهذه الكتب منه ولاية ضخمة ما كان يحدث بها نفسه.
ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء، وخاصة أهل علم النظر، إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب.
أبو بكر بن طُفَيْل*
وكان ممن صحبه من العلماء المتفننين، أبو بكر محمد بن طفيل، أحد فلاسفة المسلمين. كان متحققًا بجميع أجزاء الفلسفة؛ قرأ على جماعة من المتحققين بعلم الفلسفة، منهم أبو بكر بن الصائغ المعروف عندنا بابن باجَّة3 وغيره. ورأيت لأبي بكر هذا تصانيف في أنواع الفلسفة من الطبيعيات والإلهيات وغير ذلك. فمن رسائله
1- الغرائر: جمع الغرارة: وعاء من خيش ونحوه، وهو أكبر من الجوالق.
2-
أبو المسك: كنية كافور.
* ترجمته في الأعلام: 249/6؛ معجم المؤلفين: 259/10؛ كشف الظنون: 862.
3-
هو أبو بكر، محمد بن يحيى بن باجَّة التجيبي الأندلسي السَّرَقُسْطي، المعروف بابن الصائغ: من فلاسفة الإسلام، يُنسب إلى التعطيل، ومذهب الحكماء. توفي سنة 533هـ/1139م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 429/4".
في الطبيعيات رسالة سماها رسالة: حي بن يقظان، غرضه فيها بيان مبدإ النوع الإنساني على مذهبهم، وهي رسالة لطيفة الجِرْم1، كبيرة الفائدة في ذلك الفن. ومن تصانيفه في الإلهيات رسالة في النفس رأيتها بخطه رحمه الله. وكان قد صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونبذ ما سواه. وكان حريصًا على الجمع بين الحكمة والشريعة، معظمًا لأمر النبوات ظاهرًا وباطنًا، هذا مع اتساع في العلوم الإسلامية.
وبلغني أنه كان يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخَدَمة، من الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد، إلى غير هؤلاء من الطوائف. وكان يقول: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم! وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له؛ بلغني أنه كان يقيم في القصر عنده أيامًا ليلًا ونهارًا لا يظهر. وكان أبو بكر هذا أحد حسنات الدهر في ذاته وأدواته؛ أنشدني ابنه يحيى بمدينة مراكش سنة 603 من شعر أبيه رحمه الله: من الطويل
أَلَمَّتْ وقد نام المُشيح وهوَّما
…
وأسرت إلى وادي العقيق من الحِمَى2
وجرَّت على تُرْب المحصَّب ذيلها
…
فما زال ذاك الترب نهبًا مقسمَا3
تناوله أيدي التجار لطيمة
…
ويحمله الداري أيان يممَا4
ولما رأت أن لا ظلام يجنها
…
وأن سُراها فيه لن يتكتمَا5
نَضَت عَذَبات الرَّيط عن حر وجهها
…
فأبدت مُحَيَّا يدهش المتوسمَا6
فكان تجليها حجاب جمالها
…
كشمس الضحى يعشى بها الطرْف كُلَّمَا7
ولما التقينا بعد طول تهاجر
…
وقد كاد حبل الود أن يتصرَّمَا8
1- الجرم: الحجم، أو الهيئة، أو الجسد.
2-
ألمت: زارت زيارة قصيرة. المشيح: اسم فاعل من: شاح وجهه أو بوجهه: أعرض مبديًا كرهًا وازدراء. هوم الرجل: نام نومًا خفيفًا. أسرت: سارت ليلًا.
3-
المحصب: موضع رمي الجمار بمنى. النهب: الغرض المعرض للإصابة، أو الغنيمة، أو المال المنهوب.
4-
التجار: جمع التاجر: الشخص الذي يمارس الأعمال التجارية على وجه الاحتراف، والعرب تسمي بائع الخمر تاجرًا. اللطيمة: وعاء المسك. يمم الرجل: توجه، قصد.
5-
يجنها: يسترها، يغطيها.
6-
نضت الثوب ونحوه: نزعته وألقته. العَذَبات: جمع العَذَبة: طرف الشيء. الريط: جمع الرائطة: الملاءة كلها نسج واحد، أو كل ثوب لين رقيق. المتوسم: المتفرس.
7-
عشا عشوًا، وعشِي عشًا: ساء بصره ليلًا، وعن الشيء: ضعُف عنه بصره فلم يرَه.
8-
يتصرم: يتقطع.
جلت عن ثناياها وأومض بارق
…
فلم أدرِ من شق الدُّجنَّة منهما1
وساعدني جَفْن الغَمام على البكا
…
فلم أدر دمعًا أينا كان أسجَمَا2
فقالت وقد رق الحديث وأبصرت
…
قرائن أحوال أذعن المُكتَّما:3
نشدتُكَ لا يذهب بك الشوق مذهبًا
…
يهون صعبًا أو يرخص مأثمَا4
فأمسكت لا مستغنيًا عن نَوالها
…
ولكن رأيت الصبر أوفي وأكرمَا5
ومن شعره في الزهد رحمه الله ما قرأ علي ابنه من خطه في التاريخ المذكور: من البسيط
يا باكيًا فُرقة الأحباب عن شحَطٍ
…
هلَّا بكيتَ فِراق الروح للبدنِ6
نورٌ تردد في طين إلى أجل
…
فانحاز عُلُوًّا وخلى الطين للكفنِ7
يا شد ما افترقا من بعد ما اعتلقا
…
أظنها هدنة كانت على دَخَنِ8
إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما
…
فيا لها صفقة تمت على غَبَنِ9
وأنشدني بعض أصحابنا من الكُتَّاب له رحمه الله: من المنسرح
ما كل من شم نال رائحة
…
للناس في ذا تباين عجبُ
قوم لهم فكرة تجول بهم
…
بين المعاني، أولئك النُجُبُ10
وفِرقة في القشور قد وقفوا
…
وليس يدرون لُبَّ ما طلبُوا11
لا غاية تنجلي لناظرهمْ
…
منه ولا ينقضي لهم أَرَبُ12
1- جلت: كشفت. الثنايا: أسنان الفم الأمامية. الدجنة: الظلمة.
2-
أسجم الماء أو الدم: سال أو انصب. وهذا أسجم من ذاك: أكثر سجومًا منه: أي سيلانًا.
3-
المكتم: المستور، المخفي.
4-
المذهب: الطريقة. المأثم: اسم من: أَثِم إثمًا، وأثامًا، ومأثمًا: وقع في الإثم، وهو الذنب الذي يستحق العقوبة.
5-
النوال: العطاء، وهو هنا الوصال أو اللقاء ونحو ذلك.
6-
الشحط: البعد.
7-
انحاز عن الشيء: عدل، أو انضم واجتمع.
8-
اعتلقه، وبه: أحبه حبًّا شديدًا. هدنة على دخن: أي: صلح على فساد باطن.
9-
الصفقة: البيعة، أو العقد. الغبن: النقص والخسارة.
10-
تجول بهم: تطوف. النجب: الفضلاء على أمثالهم.
11-
اللب من كل شيء: خالصه وخياره.
12-
تنجلي: تنكشف، تظهر. الأرب: الحاجة.
لا يتعدى امرؤ جِبِلَّته
…
قد قُسمت في الطبيعة الرتبُ1
ولم يزل أبو بكر هذا يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار وينبهه عليهم، ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رُشْد؛ فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم.
أبو الوليد بن رشد*
أخبرني تلميذه الفقيه الأستاذ أبو بكر بُنْدُود بن يحيى القرطبي قال: سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما؛ فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسَلَفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء -يعني الفلاسفة- أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف؛ فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة؛ ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل. ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء؛ فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم؛ فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له. ولم يزل يبسُطُني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك؛ فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.
وأخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يومًا فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقرب مأخذها على الناس؛ فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به؛ لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة. وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كُبْرة سنى واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.
1- الجبلة: الخِلْقة، الحالة التي فطر عليها.
* ترجمته في: قضاة الأندلس: 111؛ شذرات الذهب: 320/4؛ الأعلام: 318/5؛ معجم المؤلفين: 313/8؛ كشف الظنون: 63، 512، 1261؛ إيضاح المكنون: 192/2، 325، 344، 585.
وقد رأيت أنا لأبي الوليد هذا تلخيص كتب الحكيم في جزء واحد في نحو من مائة وخمسين ورقة، ترجمه بـ كتاب الجوامع، لخص فيه كتاب الحكيم المعروف بـ سمع الكيان، وكتاب السماء والعالم، ورسالة الكون والفساد، وكتاب الآثار العُلوية، وكتاب الحِس والمحسوس. ثم لخصها بعد ذلك وشرح أغراضها في كتاب مبسوط في أربعة أجزاء.
رجع الحديث عن الأمير أبي يعقوب
وفي الجملة، لم يكن في بني عبد المؤمن فيمن تقدم منهم وتأخر ملك بالحقيقة غير أبي يعقوب هذا.
وزراؤُه
وزر له أخوه عمر أيامًا يسيرة، ثم ارتفع قدره عن الوزارة؛ إذ رآها دونه.
ثم وزر له أبو العلاء إدريس بن إبراهيم بن جامع، إلى أن قَبَض عليه واستصفى أمواله في شهور سنة 577.
ووزر له بعده ابنه أبو يوسف ولي عهده، إلى أن مات سنة 580.
فكانت ولايته من حين بويع له إلى أن استشهد -رحمة الله عليه- ببلاد الروم، اثنتين وعشرين سنة إلا أشهرًا.
كُتَّابه
أبو محمد عياش بن عبد الملك بن عياش كاتب أبيه، وأبو القاسم المعروف بـ القالمي، وأبو الفضل جعفر بن أحمد المعروف بـ ابن مَحْشُوَّة، من أهل مدينة بجاية، كان يخدم أبا القاسم القالمي إلى أن مات، فكتب مكانه.
هؤلاء كتبة الإنشاء خاصة، وكتاب الجيش: أبو الحسين الهَوْزَني الإشبيلي، وأبو عبد الرحمن الطوسي.
حاجبه
كافور مولاه الخصي، كان يدعى كافور بِغُرَّة.
أولاده
كان له من الولد ثمانية عشر ذكرًا، وهم: عمر، ويعقوب -وهو ولي عهده-، وأبو بكر، وعبد الله، وأحمد، ويحيى -كان يحيى هذا رحمه الله لي صديقًا،
ومن جهته تلقيت أكثر أخبارهم؛ لم أر في الملوك ولا في السوقة مثله -رحمة الله عليه-؛ وما استجزتُ لفظة الصداقة مع أن الواجب لفظ الخدمة، إلا لما كان رحمه الله يكتب إلي: أخي، وصديقي في بعض الأوقات، ووليي في بعضها؛ اجتمعت عندي بخطه رقاع كثيرة، خلع علي فيها فضله، وحلاني بما لم أكن أستحقه- وموسى، وإبراهيم، وإدريس، وعبد العزيز، وطلحة، وإسحاق، ومحمد، وعبد الواحد، وعثمان، وعبد الحق، وعبد الرحمن، وإسماعيل، وبنات.
قضاته
أبو محمد المالقي المتقدم الذكر. ثم عزله وولى بعده عيسى بن عمران التازي1، من أهل رباط تازا من أعمال مدينة فاس، من قبيلة يقال لها: تَسُول، من البربر يرجعون إلى زناتة.
كان عيسى هذا من فضلاء أهل المغرب ونبهائهم، وكان خطيبًا مِصْقَعًا2 وبليغًا لَسِنًا3 وشاعرًا مُفْلقًا4 مشاركًا في كثير من العلوم. ونال في أيام أبي يعقوب حظوة ومكانة؛ كان يتكلم عن الوفود ويخطب في النوازل فيأتي بكل عجيبة. وكان مع هذا ذا مروءة تامة وتعصب لمن ينقطع إليه مفرط. أخبرني ابنه أبو عمران -قاضي الجماعة في وقتنا هذا- قال: سمعت أبي يقول وقد لامه بعض من يلوذ به في التنويه بأقوام ليست لهم سوابق ولا أقدار، رفعهم من الحضيض جاهه، ونبههم بعد الخمول اعتناؤه: ليس العجب ممن يأتي إليه رجل نبيه القدر يرفعه، إنما العجب ممن يحيي الميت وينبه الخامل ويرفع الوضيع؛ فأما النبيه القدر فنباهته تكفيه.
وبلغ من إفراطه في التعصب أن قال يومًا: ليس بحماية أن تحمي صاحبك وهو محق؛ فإن الحق أظهر وأقوى من أن يُحمى؛ إنما الحماية أن تحميه وهو مبطل! في أشباه لهذه الأخبار.
وكان له أولاد ما منهم إلا من ولي القضاء؛ وهم علي، وكان عليٌّ هذا رجلاً صالحاً، ولي في حياة أبيه قضاء مدينة بجاية، ثم عُزل عنها وولي مدينة تِلِمْسان. وهو عندنا من المشهورين بالتصميم والتبتل5 في دينه، وممن لا تأخذه هوادة في الحق.
1- ترجمته في: بغية الملتمس: 404.
2-
خطيب مصقع: بليغ متفنن في مذاهب القول.
3-
اللسن: الفصيح، البليغ.
4-
المفلق: الذي يأتي بما يُعجِب في شعره.
5-
التبتل: الانقطاع إلى الله في العبادة.
ومن أولاده طلحة، ولي قضاء تلمسان؛ ويوسف، تركته قاضيًا بمدينة فاس، بلغتني وفاته وأنا بمكة في سنة 620؛ وأبو عمران موسى، قاضي الجماعة في وقتنا هذا، وسيأتي ذكره في موضعه -إن شاء الله عز وجل.
ثم ولي بعد أبي موسى هذا رجل اسمه حجاج بن إبراهيم التُّجيبي، من أهل مدينة أغمات من أعمال مدينة مراكش. كان حجاج هذا رجلا صالحًا يعد في الزهاد المتبتلين، وكان له تبحر في الفقه ومعرفة بأصوله وبَصَرٌ بعلم الحديث. هذا مع نزاهة نفس وطهارة عِرض وتصميم في الحق؛ أفرط في ذلك حتى ثقلت على كثير من وجوه الدولة وَطْأَتُه، ونالوا منه عند أبي يعقوب؛ فما زاده ذلك إلا حبًّا وتقريبًا، إلى أن مات رحمه الله في حياة أبي يعقوب. بلغ من رقة قلبه وسرعة دمعته أنه دخل يومًا على أمير المؤمنين أبي يعقوب وقد بل لحيته ورداءه بدموعه؛ فلما مَثَل بين يديه زاد في البكاء، فسأله أمير المؤمنين عما أبكاه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، سألتك بالله، ألا أعفيتني؟ قال: عزمت عليك لتخبرني أولًا بسبب بكائك! قال: بينا أنا قاعد في مجلس الحكم إذ أُتيت بشيخ سكران كنت قد حدَدْتُه مرارًا، فكان من كلامي أن قلت له: يا شيخ، كيف تُحشَر؟ ففتح يديه وقال: هكذا
…
فوالله ما ملكت دمعتي حين عرفت ما عنى بقوله؛ إنما عَرَّض لي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن القاضي يحشر مطوقةً يداه إلى عنقه؛ فإما أن يحله عدله أو يهوي به جَوْره"! هذا معنى الحديث؛ فأسألك بالله، ألا أعفيتني؟ فوعده بذلك؛ فقال: عسى أن يكون في مقامي هذا! فقال له: لا أفعل حتى أجد عوضًا منك! فخرج من عنده، فما لبث إلا أيامًا يسيرة حتى مات -رحمة الله عليه-!.
ثم ولي بعده القضاء أبو جعفر أحمد بن مَضَاء، من أهل مدينة قرطبة؛ فلم يزل أبو جعفر هذا قاضيًا إلى أن مات أمير المؤمنين أبو يعقوب، وصدرًا من خلافة أبي يوسف المنصور رحمه الله.
فصل دخول بني مردنيش في طاعة الموحدين
ولما استوسق لأبي يعقوب هذا الأمر، لم يزل مقيمًا بمراكش إلى أن كانت سنة 567، فبدا له أن يعبر إلى جزيرة الأندلس، مظهرًا قصد غزو الروم، ومبطنًا إتمام تملك الجزيرة والتغلب على ما في يد محمد بن سعد المعروف بـ ابن مردنيش منها. وكان يملك منها ابن سعد المذكور من أول أعمال مرسية إلى آخر ما يملكه المسلمون اليوم من شرقيها -وقد تقدم تلخيص التعريف بمُلْكته إياها ومن أين اتصلت إليه- فجمع أمير المؤمنين أبو يعقوب جموعًا عظيمة من قبائل الموحدين وغيرهم من أصناف الجند، وسار حتى نزل مدينة سبتة، فبني له بها منزل هو باقٍ هناك إلى اليوم. فأقام بها إلى أن تكاملت جموعه، ولحق به من كان تأخر عنه من العساكر؛ ثم عبر البحر وقصد مدينة إشبيلية، فنزلها، وجهز العساكر إلى محمد بن سعد.
وكان أخو أبي يعقوب، عثمان بن عبد المؤمن، والياً على مدينة أغرناطة؛ فكتب إليه أن يقصد بالعساكر إلى مدينة مرسية، دار مملكة محمد بن سعد؛ فخرج عثمان بالعساكر حتى نزل قريباً منها بموضع يدعى الجَلَاّب، وخرج إليه محمد بن سعد في جموع عظيمة أكثرها من الإفرنج؛ لأن ابن سعد كان مستعينًا بهم في حروبه؛ قد اتخذهم أجنادًا له وأنصارًا؛ وذلك حين أحس باختلاف وجوه القواد عليه، وتنكر أكثر الرعية له، فقتل من أولئك القواد الذين اتهمهم جماعة بأنواع من القتل؛ بلغني أن منهم من بنى عليه في حائط وتركه حتى مات جوعًا وعطشًا، إلى غير هذا من ضروب القتل. واستدعى النصارى كما ذكرنا، فجعلهم أجنادًا له، وأقطعهم ما كان أولئك القواد يملكونه، وأخرج كثيرًا من أهل مرسية وأسكن النصارى دورهم
…
فزحف1 كما ذكرنا بجيشه، ومعظمهم من الإفرنج؛ فالتقى هو والموحدون بالموضع المعروف بـ الجلاب، على أربعة أميال من مرسية؛ فانهزم أصحاب محمد بن سعد انهزامًا قبيحًا، وقُتل من أعيان الروم جملة، ودخل محمد بن سعد
1- أي: ابن مردنيش، محمد بن سعد.
مدينة مرسية مستعدًّا للحصار؛ فضايقه الموحدون، وما زالوا محاصرين له إلى أن مات وهو في الحصار حتف أنفه. وسُترت وفاته إلى أن ورد أخوه يوسف بن سعد، الملقب بالرئيس، من بلنسية؛ وكان والياً عليها من جهة أخيه محمد؛ فاجتمع رأيه ورأي أكابر ولد محمد بن سعد -بعد أن أتهَمُوا وأنجدوا1 وأخذوا في كل وجه من وجوه الحيل- على أن يلقوا أيديهم في يد أمير المؤمنين أبي يعقوب، ويسلموا إليه البلاد، ففعلوا ذلك. وقيل: إن أبا عبد الله محمد بن سعد حين حضرته الوفاة، جمع بنيه -وكان له من الولد على علمي ثمانية ذكور، وهم: هلال -يكنى: أبا القمر، وهو أكبر ولده وإليه أوصى- وغانم، والزبير، وعزيز، ونصير، وبدر، وأرقم، وعسكر، وأصاغر لا علم لي بأسمائهم، وبنات تزوج إحداهن أمير المؤمنين أبو يعقوب، وتزوج الأخرى أمير المؤمنين أبو يوسف يعقوب بن يوسف- فكان فيما أوصاهم به أن قال: يا بَنِيَّ، إني أرى أمر هؤلاء القوم قد انتشر، وأتباعهم قد كثروا، ودخلت البلاد في طاعتهم؛ وإني أظن أنه لا طاقة لكم بمقاومتهم؛ فسلموا إليهم الأمر اختيارًا منكم، تحظوا بذلك عندهم، قبل أن ينزل بكم ما نزل بغيركم؛ وقد سمعتم ما فعلوا بالبلاد التي دخولها عنوة! ففعلوا ما أمرهم به؛ فالله أعلم أي الأمرين كان.
وخرج أمير المؤمنين أبو يعقوب من إشبيلية قاصدًا بلاد الأدفنش -لعنه الله- فنزل على مدينة له عظيمة تسمى وَبْذَة، وذلك أنه بلغه أن أعيان دولة الأدفنش ووجوه أجناده في تلك المدينة. فأقام محاصرًا له أشهرًا، إلى أن اشتد عليهم الحصار وأرادوا تسليم البلد. أخبرني جماعة يكثر عددهم ممن أدركت من شيوخ أهل الأمر، أن أهل هذه المدينة لما بَرَّح بهم العطش أرسلوا إلى أمير المؤمنين يطلبون الأمان على أنفسهم، على أن يخرجوا له عن المدينة؛ فأبى ذلك عليهم، وأطمعه فيهم ما نقل إليه من شدة عطشهم وكثرة من يموت منهم؛ فلما يئسوا مما عنده سُمع لهم في بعض الليالي لَغَط2 عظيم وجَلَبة3 أصوات؛ وذلك أنهم أخرجوا أناجيلهم، واجتمع قسِّيسوهم ورهبانهم يدعون ويؤمن4 باقيهم، فجاء مطر عظيم كأفواه القِرَب5، ملأ
1- أتهموا "في الأصل": أتوا تهامة، وهي منخفَض من الأرض. أنجدوا "في الأصل": أتوا نجدًا، وهي مرتفَع من الأرض. والمراد هنا: أنهم تدارسوا الأمر من جميع جوانبه.
2-
لغَط القوم لغَطًا، ولُغاطًا: صوتوا أصواتًا مختلفة مبهمة، لا تفهم.
3-
الجلبة: الصياح والصَّخَب.
4-
أمنوا على الدعاء: قالوا: آمين.
5-
القرب: جمع القربة: ظَرْف من جلد يخرز من جانب واحد، يستعمل لحفظ الماء.
ما كان عندهم من الصهاريج1، وشربوا وارتووا وتقووا على المسلمين؛ فانصرف عنهم أمير المؤمنين راجعًا إلى إشبيلية، بعد أن هادن الأدفنش -لعنه الله- مدة سبع سنين.
ولم يزل أمير المؤمنين مقيمًا بالأندلس بقية سنة سبعٍ، وثمانٍ، وتسعٍ، إلى أن رجع إلى مراكش في آخر سنة 569، وقد ملك الجزيرة بأسرها، ودانت له بجملتها، ولم يخرج عن طاعته شيء منها.
الخارجون على طاعة الموحدين بالمغرب
وفي سنة 71 خرج إلى سُوس؛ لحسم خلاف وقع هنالك بين بعض القبائل الذين بـ دَرَن، فتم له ما أراد من إخماد الفتنة، وجمع الكلمة، وإطفاء النائرة2، وحسم الخلاف.
وفي صدر سنة 73 رام بعض القبيلة المسماة بـ غُمارة مفارقة الجماعة ونزع اليد من الطاعة؛ وكان رأسهم في ذلك الذي إليه يرجعون، وعميدهم الذي عليه يعولون، رجل اسمه سَبُع بن حيان، ووافقه على ذلك أخ له يسمى مَرَزْدَغ. فدعوا إلى الفتنة، واجتمع عليهما خلق كثير. والقبيلة المذكورة لا يكاد يحصرها عدد ولا يحدها حزر لكثرتها؛ مسافة بلادها طولا وعرضًا نحو من اثنتي عشرة مرحلة. فخرج إليهم أمير المؤمنين أبو يعقوب بنفسه؛ فأسلمتهما جموعهما، وتفرق عنهما من كان اجتمع عليهما، وأُخذا قبض اليد؛ فقُتلا صبرًا وصُلبا؛ ثم رجع أمير المؤمنين أبو يعقوب إلى مراكش.
وفي أول سنة 75 خرج أبو يعقوب من مراكش قاصدًا بلاد إفريقية؛ فقصد منها مدينة قفصة؛ وكان قد قام بها رجل اسمه عليّ، يعرف بابن الرَّنْد، وتلقب بـ الناصر لدين النبي؛ فحاصره أبو يعقوب والموحدون إلى أن استنزلوه، وقطعوا دابر الخلاف وحسموا مواده، ورجعوا إلى مراكش.
صلح ملك صِقِلِّيِّة
وفي هذه السَّفرة صالحه ملك صقلية وأرسل إليه بالإتاوة، بعد أن خافه خوفًا شديدًا؛ فقبل منه ما وجه به إليه، وهادنه على أن يحمل إليه في كل سنة مالاً اتفقا عليه. وبلغني أنه اتصلت إليه منه ذخائر لم يكن عند ملك مثلها؛ مما اشتهر منها حجر
1- الصهاريج: أحواض كبيرة للمياه، الواحد: صِهْريج.
2-
النائرة: العداوة والشحناء.
ياقوت يسمى الحافر -جعلوه فيما كللوا به المصحف، لا قيمة له1، على قدر استدارة حافر الفرس، هو في المصحف إلى اليوم- مع أحجار نفيسة.
المصحف العثماني في المغرب
وهذا المصحف الذي ذكرناه، وقع إليهم من نسخ عثمان رضي الله عنه من خزائن بني أمية، يحملونه بين أيديهم أنى توجهوا، على ناقة حمراء عليها من الحلي النفيس وثياب الديباج الفاخرة ما يعدل أموالًا طائلة. وقد جعلوا تحته بردعة من الديباج الأخضر يجعلونه عليها، وعن يمينه ويساره عصوان عليهما لواءان أخضران.
وموضع الأسنة منهما ذهب شبه تفاحتين، وخلف الناقة بغل محلًّى أيضًا، عليه مصحف آخر يقال: إنه بخط ابن تومرت، دون مصحف عثمان في الجِرْم2، محلى بفضة مموهة3 بالذهب؛ هذا كله بين يدي الخليفة منهم.
ورجع أمير المؤمنين أبو يعقوب إلى مراكش من إفريقية، بعد أن لم يبق بجميع المغرب مختلف عليهم ولا معاند لهم، ودانت له جزيرة الأندلس بأسرها -كما ذكرنا- وكثرت في أيامه الأموال واتسع الخراج.
حسن معاملة الموحدين لمن يغلبونهم من الملوك
وكان -كما ذكرنا- سخيًّا جوادًا؛ بلغني أنه أعطى هلال بن محمد بن سعد المتقدم الذكر، صاحب شرقي الأندلس، اثني عشر ألف دينار في يوم واحد. ولهلال هذا معه أخبار عجيبة، من تقريبه إياه وإحسانه إليه وحبه له؛ أخبرني بعض ولد هلال هذا، أنه سمع أباه يقول: رأيت في المنام في بعض الليالي كأن أمير المؤمنين أبا يعقوب ناولني مفتاحًا؛ فلما أصبحت إذا رسوله يستحثني4، فركبت وأتيت القصر، فدخلت عليه وسلمت، فاستدناني حتى مست ثيابه، ثم أخرج إلي من تحت بُرْنُسه5 مفتاحًا على النحو الذي رأيت في المنام، وقال: خذ إليك هذا المفتاح؛ فتهيبتُ أن أسال عن شأن المفتاح؛ فقال لي ابتداء: يا أبا القمر، إن عامل مرسية أرسل إلينا في جملة ما أرسل صندوقًا وجده -زعم- في بعض خزائنكم، لا يدري ما
1- أي: فوق كل قيمة.
2-
الجرم: الحجم.
3-
مموهة: مطلية.
4-
استحثه: أعجله إعجالًا متصلًا، وعلى الشيء: حضه.
5-
البرنس: القلنسوة، أو كل ثوب رأسه منه، ملتزق به.
فيه؛ وهذا مفتاحه، ونحن لا ندري ما فيه! فقلت: هلَاّ أمر أمير المؤمنين أن يُفتح بين يديه! فقال: لو أردنا أن يفتح بين أيدينا لم نسلم إليك المفتاح! وأمر فحمل الصندوق إلي ففتحته، فإذا فيه حلى وذخائر من ذخائر أبي ما يساوي أكثر من أربعين ألف دينار.
ولما تجهز أمير المؤمنين إلى غزو الروم، أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تملى1 على الموحدين ليدرسوها -وهكذا جرت عادتهم إلى اليوم- فجمع العلماء ذلك وجاءوا به إليه؛ فكان يمليه على الناس بنفسه؛ فكان كل واحد من الموحدين والسادة يجيء بلوح يكتب فيه الإملاء؛ فجاء هلال هذا المذكور يومًا ولا لوح معه؛ فأخرج القوم ألواحهم؛ فقال له الوزير: أين لوحك يا أبا القمر؟! فخجل وافتتح يعتذر؛ فأخرج له أمير المؤمنين من تحت برنسه لوحًا وناوله إياه، وقال: هذا لوحه! فلما كان من الغد جاء ومعه لوح غير الذي دفعه له أمير المؤمنين؛ فلما نظر إليه قال له: أين لوحك بالأمس يا أبا القمر؟ فقال: خبأته وأوصيت إذا مت أن يجعل بين جلدي وكفني! وأتبع ذلك بكاء حتى أبكى بعض من كان في المجلس؛ فقال أمير المؤمين: هذا المحب الصادق! وأمر له بخيل وأموال وخِلَع، ولبنيه بمثل ذلك.
اتساع الدولة وزيادة الخراج
وكان الذي يسهل عليه بذل الأموال -مع ما جبل عليه من ذلك- سَعَة الخراج 2 وكثرة الوجوه التي يتحصل منها الأموال.
كان يرتفع إليه خراج إفريقية، وجملته في كل سنة وَقْر3 مائة وخمسين بغلًا، هذا من إفريقية وحدها، خلا بجاية وأعمالها، وتلمسان وأعمالها، والمغرب -وحد عمل المغرب عندهم الذي يطلقون عليه هذا الاسم، من مدينة تدعى رِبَاط تازا إلى مدينة تدعى مكناسة الزيتون؛ طول هذه المسافة وعرضها نحو من سبع مراحل، وهي أخصب رقعة على الأرض فيما علمت، وأكثرها أنهارًا مطردة، وأشجارًا ملتفة، وزروعًا وأعنابًا- ومدينة سلا وأعمالها، وسبتة وأعمالها -وأعمال سبتة هذه في غاية السعة والضخامة؛ لأن بلاد غمارة كلها ترجع إليها، وهي كما ذكرنا طولًا وعرضًا نحو
1- أملى عليه الحديث ونحوه: قال له فكتب عنه.
2-
الخراج: ما يخرج من غلة الأرض، أو الإتاوة تؤخذ من أموال الناس، أو الجزية التى ضربت على رقاب أهل الذمة.
3-
الوقر: الحِمْل أو الثّقل.
من اثنتي عشرة مرحلة- وجزيرة الأندلس قاطبة؛ أول ذلك آخر بلاد المسلمين مما يتاخم أرض الروم، وآخره أيضًا مما يتاخم أرض الروم من أعمال شلب؛ ومسافة ذلك طولا وعرضًا نحو من أربع وعشرين مرحلة.
هذا كله لا ينازعه إياه أحد ولا يمتنع عليه منه درهم، مضافًا إلى مراكش وأعمالها؛ وأعمال مراكش أيضًا في نهاية من السعة؛ لأن بالقرب منها قبائل ضخمة وبلادًا كثيرة؛ فلم يرتفع لملك من الملوك -أعني ملوك المغرب- قبل أبي يعقوب هذا وبعده، ما ارتفع إليه من الأموال.
وقد بلغني من جهة رجل من أصحابنا كان يتولى بيوت الأموال، قال لي: وُجدت خرائط كثيرة مما كان يرتفع إلى أمير المؤمنين أبي يعقوب بختمها.... قال لي هذا القول في غرة سنة 611.
وفي أيام أبي يعقوب ورد علينا المغرب أول من وردها من الغُزِّ1، وذلك في آخر سنة 74، وما زالوا يكثرون عندنا إلى آخر أيام أبي يوسف.
ولم تزل أيام أبي يعقوب هذا أعيادًا وأعراسًا ومواسم: كثرة خصب، وانتشار أمن، ودُرُور أرزاق2، واتساع معايش؛ لم ير أهل المغرب أيامًا قط مثلها؛ واستمر هذا صدرًا من إمارة أبي يوسف.
محاولة أبي يعقوب فتح شنترين، ووفاته
ولما كانت سنة 79 تجهز أبو يعقوب للغزو، واستنفر أهل السهول والجبال من المصامدة والعرب وغيرهم، وخرج بجيوشه قاصدًا جزيرة الأندلس؛ فعبر البحر بعساكره كما ذكرنا، وقصد مدينة إشبيلية على عادته؛ إذ هي منزله ومنزل الأمراء من بنيه بالأندلس أيام كونهم بها؛ فأقام بها ريثما أصلح الناس شئونهم وأخذوا أهبتهم؛ ثم خرج يقصد مدينة شنترين -أعادها الله للمسلمين-. وهذه المدينة -أعني شنترين- بمغرب الأندلس؛ وهي من أمنع المدائن -وقد تقدم ذكرها في أخبار الدولة اللمتونية- يملكها وَجهاتها مع بلاد كثيرة هنالك: ملك من ملوك النصارى يعرف بـ ابن الريق -لعنه الله- فخرج أمير المؤمنين -كما ذكرنا- في جيوشه حتى نزل عليها، فضايقها وأخذ في قطع ثمارها وإفساد زروعها وشن الغارات على نواحيها. وكان ابن الريق -لعنه الله- حين سمع بحركة أبي يعقوب إليه وصح عنده أنه
1- الغز: طائفة من مماليك الترك المصريين.
2-
درور أرزاق: يقال: در الرزق درًّا: كثُر.
يقصده، نظر في أمره، فلم ير له طاقة بدفاعه ولا نهضة لمقاومته؛ فلم يكن له هم إلا أن جمع وجوه دولته وأعيان جنده وذوي الغناء من قواده وسائر أتباعه، ودخل بهم مدينة شنترين؛ واثقًا بحصانتها وشدة منعتها؛ هذا بعد أن ملأها أقواتًا وسلاحًا وجميع ما يحتاج إليه، وجلل أسوارها مقاتلة معهم الدَّرَق1 والقسي والحراب؛ إلى غير ذلك مما يحتاج إليه.
فنزل عليها أبو يعقوب، فألفاها كما ذكرنا: قد استعد أهلها بكل ما يظنونه نافعًا لهم ودافعًا عنهم؛ وهذه المدينة على نهر عظيم من أنهار الأندلس المشهورة، يسمى تاجو؛ فبالغ أبو يعقوب -كما ذكرنا- في التضييق عليها وانتساف معايشها وقطع المواد والمدد عنها؛ فما زاد ذلك أهلها إلا صرامة2 وشدة وجَلَدًا3؛ فخاف المسلمون هجوم البرد -وكان في آخر فصل الخريف- وخافوا أن يعظم النهر فلا يستطيعوا عبوره وينقطع عنهم المدد؛ فأشاروا على أمير المؤمنين بالرجوع إلى إشبيلية، فإذا كان وجه الزمان عادوا إليها أو بعث من يتسلمها. وصوروا له أنها في يده، لا يمنعه منها مانع. فقبل ذلك منهم ووافقهم عليه، وقال: نحن راحلون غدًا إن شاء الله. ولم ينتشر هذا القول كل الانتشار؛ لأنه كان قاله في مجلس الخاصة؛ فكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ في أهبة الرحيل، أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن المعروف عندهم بـ المالقي -وقد تقدم ذكر أبيه في قضاة عبد المؤمن- وكان أبو الحسن هذا خطيبهم ومعتبرًا عندهم، يدعى خطيب الخلافة. وكان له حظ جيد من الفقه ومعرفة الحديث، وقسم وافر من قرض الشعر وصناعة الكتابة. فلما رآه الناس قوض خباءه قوضوا أخبيتهم ثقة به؛ لمكانه من الدولة ومعرفته بأخبارها؛ فعبر في تلك العشية أكثر العسكر النهر يريدون التقدم خشية الزحام وحرصًا على أخذ جيد المواضع واختيار المنازل؛ ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين.
وبات الناس يعبرون الليل كله وأمير المؤمنين لا علم له ذلك؛ فلما رأى الروم عبور العساكر وبلغهم من جهة عيونهم الذين بالعسكر ما عزم عليه أبو يعقوب والمسلمون من الرحيل، ورأوا انفضاض الأجناد وافتراق أكثر الجموع، خرجوا منتهزين للفرصة التي أمكنتهم، في خيل كثيفة؛ فحملوا على من يليهم من الناس، فانهزموا أمامهم، حتى بلغوا الخباء الذي فيه أمير المؤمنين أبو يعقوب؛ فقتل على
1- الدرق: جمع الدَّرَقة: التُّرْس من جلد، ليس فيه خشب.
2-
الصرامة: القوة والمضي في الأمور، يقال: صَرُم فلان صرامة، وصرومة: كان جلدًا ماضيًا في أمره.
3-
الجلد: القوة، أو الصبر على المكروه.
باب الخباء من أعيان الجند خلق كثير، أكثرهم من أعيان الأندلس؛ وخلص إلى أبي يعقوب فطعن تحت سرته طعنة، مات منها بعد أيام يسيرة
…
وتدارك الناس فانهزم الروم راجعين إلى بلدهم بعد أن قضوا ما قضوا، وعبر بأمير المؤمنين النهر جريحًا، فجُعل في مِحَفَّة1 وسِيرَ به.
عاقبة أبي الحسن المالقي الخطيب
وسأل أمير المؤمنين: من كان السبب في حركة الناس على هذا الوجه المؤدي إلى هذا الاختلال؟! فأخبر بما فعله أبو الحسن المالقي؛ فقال يتوعده: سيجني ثمرتها إن شاء الله! فلما بلغه ذلك هرب حتى دخل مدينة شنترين فارًّا بنفسه على ملك الروم ابن الريق؛ فأحسن نزله وأكرم مثواه وأجرى عليه رزقًا واسعًا. ولم يزل عنده مكرمًا إلى أن بدا له من سوء رأيه أن يكتب كتابًا إلى الموحدين يستعطفهم ويسأل من عرفه من أعيانهم الشفاعة له؛ وأدرج في ضمن ذلك فصلاً يذكر فيه ضعف المدينة، وأنهم لو كانوا أقاموا عليها ليلة أخرى أخذوها، ويدلهم على بعض عوراتها مما كان خفي عنهم؛ وقال لملك الروم ابن الريق: إني أحب أن أكتب كتابًا إلى عيالي وأولادي وأخبرهم بسلامتي وأعلمهم إكرام الملك إياي وإحسانه إلي وما أنا فيه من العافية، حتى تطمئن نفوسهم؛ وأريد أن توجه مع الذي يحمله من يَخفره2 إلى أول بلاد المسلمين؛ فأذن له في ذلك وأجابه إليه؛ فكتب الكتاب
…
وكان العلج الموكل به الذي يقوم عليه ويأتيه بكل ما يحتاج إليه، يعرف لسان العرب -إلا أنه لم يكن يتكلم به- ويقرأ الخط العربي؛ فقام أبو الحسن المذكور لبعض حوائجه وترك الكتاب منشورًا، ولم يخطر له أن العلج يعرف شيئًا من لسان العرب ولا يقرأ الخط العربي؛ فلمح العلج الكتاب لمحة، ووقف على الفصل المذكور وفهم مقصوده؛ فمضى حتى دخل على الملك وأخبره الخبر....
وختم أبو الحسن الكتاب ودفعه إلى بعض عبيده؛ فلما خرج العبد بالكتاب وفصل عن المدينة بنحو من مرحلة، أمر بالقبض عليه هناك وأخذ الكتاب منه؛ فلما أتي بالكتاب فتحه وجمع المسلمين الذين بالمدينة وألقى إليهم الكتاب وأمرهم بقراءة ذلك الفصل المذكور؛ واستحضر أبا الحسن، وقال لترجمانه: قل له: ما حملك على ما صنعت مع إكرامي لك وبري بك؟! فكان من جوابه أن قال: إن برك بي وإكرامك
1- المحفة: هودج لا قبة له.
2-
يخفره: يحرسه.
إياي لا يمنعاني من النصح لأهل ديني والدلالة لهم على ما فيه مصلحتهم! فشاور ابن الريق -لعنه الله- قسيسيه في أمره؛ فأشاروا عليه بإحراقه، فأحرقوه.
وفاة الأمير أبي يعقوب
وأما ما كان من أمر أمير المؤمنين أبي يعقوب؛ فإنهم لما عبروا به النهر كما ذكرنا، أثقله الجُرْح واشتد عليه؛ فما ساروا به إلا ليلتين أو ثلاثًا حتى مات رحمه الله؛ فأخبرني من كان معهم في تلك السفرة أنه سمع النداء فيما بين العشاءين في العسكر كله: الصلاةُ على الجنازة، جنازة رجل. فصلى الناس قاطبة على الجنازة لا يعرفون على من صلوا؛ ولم يعلم بذلك إلا خواص أهل الدولة، وساروا به حتى بلغوا إشبيلية فنزلوها، فصَبَّروه1 وبعثوا به في تابوت مع كافور الحاجب مولاه المتقدم الذكر إلى تينملّ؛ فدُفن هناك مع أبيه عبد المؤمن، وابن تومرت.
وكانت وفاته يوم السبت قبيل غروب الشمس، لسبعٍ خلون من رجب الفرد سنة 580.
أخبرني ابنه أبو زكريا يحيى -رحمة الله عليه- أنه كان قبل موته بأشهر يسيرة كثيرًا ما يردد هذا البيت: من البسيط
طوى الجديدان ما قد كنتُ أنشره
…
وأنكرتني ذواتُ الأعين النُّجُلِ! 2
1- صبر الجثة: صنع بها ما يقيها الفساد بعض الوقت.
2-
الجديدان: الليل والنهار. الأعين النجل: الواسعة.