الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر جزيرة الأندلس وحدودها
فأول ما يقع الابتداء به ذكر جزيرة الأندلس1 وتحديدها والتعريف بمدنها ونبذ من أخبارها وسير ملوكها، من لدن فتحها إلى وقتنا هذا وهو سنة 621؛ إذ هي كانت مُعْتمد المغرب الأقصى، والمعتبرة منه، والمنظور إليها فيه. وهي كانت كرسي المملكة، ومقر التدبير، وأم قرى تلك البلاد؛ لم يزل هذا معروفًا من أمرها إلى أن تغلب عليها يوسف بن تَاشُفين اللَّمتوني2، فصارت إذ ذاك تبعًا لمراكش3 من بلاد العُدْوَة4، ثم تغلب عليها المصامدة بعده، فاستمر الأمر على ذلك إلى وقتنا هذا، فأقول وبالله التوفيق:
أما حدود جزيرة الأندلس؛ فإن حدها الجنوبي منتهى الخليج الرومي الخارج من بحر مانطس، وهو البحر الرومي5 مما يقابل طَنْجَة6، في موضع يعرف بالزُّقاق -سعة البحر هنالك اثنا عشر ميلًا-وهذا الخليج هو ملتقى البحرين، أعني بحر مانطس وبحر أُقيانس7.
1- الجزيرة: الأرض التي يُحدق بها الماء، أي: يحيط بها من جميع جهاتها، وليست الأندلس كذلك؛ لأنها تتصل بالبر من جهة الشرق. وقد سميت جزيرة على المجاز، من باب تغليب الكل على الجزء.
2-
هو أبو يعقوب، يوسف بن تاشفين بن إبراهيم المصالي الصنهاجي اللمتوني الحميري: سلطان المغرب الأقصى، وملك الملثمين، وأول من لُقب بأمير المسلمين في المغرب. بنى مدينة مراكش سنة 465هـ. ثم شمل سلطانه المغربينِ الأقصى والأوسط وجزيرة الأندلس بأكملها. توفي سنة 500هـ/ 1106م. "الأعلام، الزركلي: 222/8".
3-
مراكش: مدينة عظيمة بالمغرب، بينها وبين البحر عشرة أيام في وسط بلاد البربر. وبينها وبين جبل درن ثلاثة فراسخ. "معجم البلدان، الحموي: 94/5".
4-
العدوة لغةً: شاطئ الوادي، أو المكان المتباعد، والمراد بها هنا: الشاطئ الإفريقي، أو بلاد المغرب الأقصى.
5-
البحر الرومي: هو البحر الأبيض المتوسط.
6-
طنجة: مدينة على ساحل بحر المغرب، مقابل الجزيرة الخضراء، وبينها وبين سبتة مسيرة يوم واحد. "معجم البلدان، الحموي: 43/4".
7-
أقيانس: الأوقيانوس، أو المحيط الأطلسي.
وحداها الشمالي والمغربي البحر الأعظم، وهو بحر أقيانس المعروف عندنا ببحر الظلمة، وحدها المشرقي الجبل الذي فيه هيكل الزهرة الواصل ما بين البحرين: بحر الروم وهو مانطس، والبحر الأعظم. ومسافة ما بين البحرين في هذا الجبل قريب من ثلاث مراحل، وهو الحد الأصغر من حدود الأندلس. وحداها الأكبران الجنوبي والشمالي، مسافة كل واحد منهما نحو من ثلاثين مرحلة. وهذا الجبل الذي ذكرنا فيه هيكل الزهرة الذي هو الحد المشرقي من الأندلس، هو الحاجز ما بين بلاد الأندلس وبين بلاد إفرنسة من الأرض الكبيرة1، أرض الروم التي هي بلاد إفرنجة العظمى.
والأندلس آخر المعمور في المغرب2؛ لأنها كما ذكرنا منتهية إلى بحر أقيانس الذي لا عمارة وراءه.
ومسافة ما بين طُلَيْطُلة التي هي قريبة من وسط الأندلس، ومدينة رومية قاعدة الأرض الكبيرة، قريب من أربعين مرحلة، ووسط الأندلس كما ذكرنا مدينة طليطلة العتيقة، التي كانت قاعدة القوطا من قبائل الإفرنج، ثم ملكها المسلمون زمان الفتح على ما سيأتي بيانه، وعرضها تسع وثلاثون درجة وخمسون دقيقة، وطولها ثمانٍ وعشرون درجة بالتقريب، فصارت بذلك قريبًا من وسط الإقليم الخامس.
وأقل بلاد الأندلس عرضًا المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، على البحر الجنوبي منها، وعرضها ست وثلاثون درجة، وأكثر مدنها عرضًا بعض المدائن التي على ساحلها الشمالي، وعرض ذلك الموضع ثلاث وأربعون درجة.
فتبين بما ذكرنا أن معظم الأندلس في الإقليم الخامس أميل إلى الشمال؛ فلذلك اشتد بردها وطالت مدة الشتاء فيها وعظمت جسوم أهل ذلك الميل وابيضت ألوانهم وكانت أذهانهم إلى الغلظ ما هي، فنَبَتْ3 عن كثير من الحكمة.
وطائفة من الأندلس في الإقليم الرابع، كإشْبِيلية، ومالَقة، وقُرطُبة وغَرْنَاطة، والمَرِيَّة ومُرْسِيَة، فهذه البلاد التى ذكرنا في الإقليم الرابع أعدل هواء وأطيب أرضًا وأعذب مياهًا من البلاد التي في الإقليم الخامس، وأهلها أحسن ألوانًا وأجمل صورًا وأفصح لغة من أولئك؛ إذ كان للميول والسُّموت في اللغات تأثير بين لمن استقرأ ذلك وفهم علته.
وجملة مدن الأندلس التي هي أمهات قراها ومراكز أعمالها ومواضع مخاطبات
1- الأرض الكبيرة: هي عند قدماء العرب: بلاد الفرنجة التي تلي الأندلس من جهة الشرق.
2-
هذا مبلغ ظن العرب آنذاك، قبل اكتشاف القارة الأمريكية.
3-
نبا الشيء نُبُوًّا ونَبْوَةً: لم يستوِ في مكانه المناسب له، ونبا السيف عن الضريبة: لم يُصبها، ونبا البصر عن الشيء: أعرض عنه ونفر.
أولي الأمر منها: أولاها في الحد الشمالي: مدينة شِلْب، ثم مدينة إشبيلية، ثم قرطبة، ثم جَيَّان، ثم أَغِرناطة1، ثم المرية، ثم مرسية، ثم بَلنْسِيَة، ثم مالقة، وهي على البحر الرومي.
فالذي على البحر الأعظم من هذه المدائن: شلب، وإشبيلية، وبينهما قريب من خمس مراحل.
والذي على البحر الرومي: المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وهي من أعمال إشبيلية؛ ثم مالقة، وهي مستقلة، ثم المرية، ثم دانية؛ هذه كلها على البحر الرومي.
ثم سائر ما ذكرنا من المدن ليست على ساحل.
ولما استقر أمر المسلمين بالأندلس في غُرة المائة الثانية، تخيروا مدينة قرطبة فجعلوها كرسي المملكة ومقر الإمارة، فلم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولة بني أمية بالأندلس، فتغلب على كل جهة من الجزيرة متغلب على ما سيأتي بيانه.
وهذه المدن التي ذكرت هي التي يملكها المسلمون اليوم، وقد كانوا يملكون قبلها مدنًا كثيرة لم أذكرها في هذا الموضع؛ إلا أن ذكرها سيرد فيما يأتي من تفصيل أخبار الأندلس، تعرف ذلك بقولي: أعادها الله للمسلمين.
فهذه جملة من أخبار الأندلس وحدودها وبلادها الكائنة بأيدي المسلمين.
1- أغرناظة: أي: غَرْنَاطة، وهي آخر مدينة أندلسية انتزعها الإسبان من العرب.