المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس والستون بعد المائة: الشعراء النصارى - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٨

[جواد علي]

الفصل: ‌الفصل السادس والستون بعد المائة: الشعراء النصارى

‌الفصل السادس والستون بعد المائة: الشعراء النصارى

وحديثنا عن الشعر النصراني، مستمد من الموارد الإسلامية. أما النصوص الجاهلية، فليس فيها أي شيء عن هذا الموضوع، وأما النصوص الأعجمية، فلم تحفل به أيضا، ولم تتطرق الموارد الإسلامية إلى الشعر النصراني نفسه، من حيث طبيعته ومادته، وما امتاز به عن الشعر الوثني، أو شعر الشعراء اليهود، وما سنذكره عن الشعراء النصارى، مستمد من أسماء آبائهم ومن أسمائهم التي تدل على كونهم من النصارى ومن الشعر المنسوب إليهم.

والشعراء النصارى الذين نص على نصرانيتهم أهل الأخبار، مثل "عدي بن زيد" العبادي، أو لم ينص على نصرانيتهم، وإنما يفهم من شعرهم ومن مواطنهم أنهم كانوا نصارى، هم من الحضر، من سكان القرى ومن قبائل اشتهرت بتنصرها، وقد وجدت النصرانية سبيلها إلى مواطن الحضر والأعراب فأقامت "بيعا" وكنائس للتبشير بالنصرانية، ولتعليم أتباعها أمور الديانة، وللإشراف على إدارة شئونهم الدينية، وقد كان أكثر من قام بالتبشير من غير العرب في بادئ الأمر، من روم ومن "بني إرم"، ثم انضم إليهم رجال دين عرب، كانوا قد تعلموا النصرانية في المدارس، وأظهروا فهما ونباهة فيها، فعينوا مبشرين ومعلمين لتعليم العرب والأعراب أصول النصرانية، ولنشرها في جزيرة العرب، وكان من المبشرين من يتنقل مع الأعراب، لهم خيامهم، يرتحلون بها من مكان إلى مكان، فعرفوا لذلك برهبان الخيام.

ص: 358

"وكانت تنوخ في المرتبة الأولى بين عرب البادية الذين عرفوا بالنصرانية قبل الإسلام بزمن طويل. وقامت جماعة تنوخ على أساس حلف عقده بنو فهم وبنو تيم اللات مع قبائل من النزاريين وغيرهم. ومن شعراء تنوخ أسد بن ناعسة التنوخي الذي كان معاصرا لعنترة، وكان مولعا بالإكثار من الألفاظ الغريبة في قصائده، حتى كان الخليل نفسه يتشكك في تفسيرها في كتاب العين"1.

وقد كانت النصرانية واسعة الانتشار على عهد الرسول، في قضاعة، وربيعة وتميم، وطيء، وكان لها أتباع في القرى العربية، وبين الأعراب، وبواسطتهم عرف العرب شيئا عن النصرانية وعن رجالها الذين كانوا يقيمون في البيع، أو يسيحون في البلاد، ويرتحلون مع الأعراب طمعا في تنصيرهم، وفي تعليم المتنصرين منهم أمور الدين. فقد كان بمكة نفر من التجار النصارى، وجماعة من الرقيق الأسود والأبيض، كانوا على النصرانية2، وكان بيثرب بعض النصارى كذلك، وكذلك بالطائف. أما نجران، فكانت من مراكز النصرانية المهمة في ذلك العهد.

وقد ورد أن "طلق بن علي بن طلق بن عمرو" السحيمي الحنفي، وهو من سادة بني حنيفة باليمامة، كان نصرانيا، فلما ذهب إلى المدينة وشاهد الرسول أسلم أمامه، فلما أراد العودة أخبر رسول الله أن بأرضهم بيعة، فقال له الرسول ولمن معه:"إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وابنوها مسجدا"، فكسروا بيعتهم واتخذوها مسجدا، ونضحوها بماء فضل طهور رسول الله، وكانواقد جاءوا به في إداوة، وكان يدير البيعة راهب من طيء، فارتحل عنهم.

وإذا صح هذا البيت المنسوب إلى حسان:

فرحت نصارى يثرب ويهودها

لما توارى في الضريح الملحد3

فإن فيه دلالة على وجود نصارى ويهود بالمدينة عند وفاة الرسول.

ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التحدث عن مدى تغلغل النصرانية في قلوب

1 بروكلمان "1/ 124".

2 الاستيعاب "2/ 231"، "حاشية على الإصابة"، "طلق بن علي بن المنذر بن قيس

"، خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "65"، ابن سعد، طبقات "5/ 402"، أسد الغابة "3/ 63".

3 ديوان حسان "59"، "هرشفلد".

ص: 359

النصارى العرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياسا على ما نعرفه من أحوال الأعراب وأحوال أهل القرى، أي الحضر، أن النصرانية كانت أوضح وأعمق جذورا في نفوس أهل المدر، منها في نفوس أهل الوبر. أما الأعراب فكانت نصرانيتهم اسمية في الغالب شأنهم شأن أعراب هذا اليوم، وأعراب كل زمان، متدينون بدين، ولكنهم لا يعرفون من دينهم إلا الاسم، دينهم الصحيح، الذي يغلب على نفوسهم هو دين الفطرة، أعني العرف الذي ولدوا ونشأواعليه. ولكن الرهبان ورجال الدين كانوا يتنقلون بين القبائل لتنصيرهم، حاولوا جهدهم تعليمهم قواعد النصرانية وأصولها، ومنها: عدم إغارة بعضهم على بعض، والعيش بعضهم مع بعض بسلام، حتى إنهم أثروا على بعض ساداتهم فحملوهم على الزهد والدخول في الرهبنة وكره الدماء، فذكر مثلا أنهم أثرواعلى "داود بن هبالة" سيد "بني سليح"، من قضاعة، فأدخلوه في النصرانية، "وكره الدماء وبنى ديرا، فكان ينقل الطين على ظهره والماء فسمي اللثق، فنسب الدير إليه، وأنزله الرهبان"، واعتزل الغزو إلى أن أمره ملك الروم به، فلم يجد بدا من أن يفعل، وقد كانت العرب تتهم القبائل العربية المتنصرة بعدم قدرتها على القتال، وتستهين بها إذا ما التحمت بها في قتال.

والشعر النصراني، شعر سهل لين بالنسبة إلى شعر الشعراء الأعراب، وقد علل علماء الشعر ذلك بكون هؤلاء الشعراء من سكنة القرى والأرياف، ومن سكن القرية أو الريف لان لسانه ورقّ كلامه، ولهذا قالوا إن في شعر شعراء القرى لا مثل أهل مكة ويثرب ليونة، لأنهم لم ينبتوا في البوادي، ولم يقاسوا ما يقاسيه الأعراب من خشونة وشدة وضنك في الحياة، بل عاشوا في استقرار وأمان في حياة ناعمة بالقياس إلى حياة الأعراب، ولهذا لان لسانهم، وسهل شعرهم، وصار من السهل على صناع الشعر ومزوريه صنع الشعر على ألسنتهم، كالذي فعلوه من وضع شعر كثير على لسان "عدي بن زيد" العبادي النصراني، وعلى شعر أمية بن أبي الصلت، وهو من شعراء ثقيف، وعلى شعر "حسان بن ثابت"، وهو من شعراء يثرب.

ولا يختلف الشعر النصراني عن شعر الشعراء الوثنيين بشيء، اللهم في تطرق

1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات""ص127".

ص: 360

شعر "عدي بن زيد" وأضرابه إلى معان دينية، وإلى إشارات إلى بعض معالم نصرانية. أما فلسفة نصرانية، أو حديث عن التثليث أو عن العقائد النصرانية الأساسية التي تميز النصراني المتدين عن غيره، فلا تجد لها ولا لأمثالها موضعا في هذا الشعر. نعم لقد تطرق "عدي بن زيد"، وكذلك الأعشى إلى قصص مستمد من أصول نصرانية، كما تطرق إلى أعياد نصرانية، ولكننا نجد في شعر غيرهم إشارات إلى الأديرة والكنائس والرهبان والرهبنة ومصطلحات نصرانية وأشياء أخرى عرفوها من احتكاكهم بالنصارى، ومن سماعهم شيئا عن النصرانية من النصارى العرب، تجعل من الصعب على الباحث أن يجد فرقا كبيرا بين شعر الشعراء النصارى وشعر الشعراء الوثنيين. ولهذا ذهب بعض المستشرقين إلى أن من الصعب التحدث عن وجود نصراني عربي له ميزات امتاز بها عن الشعر الوثني قبل الإسلام1.

ومن النصارى "العباد"، وهم عرب تنصروا، ولم يكونوا من قبيلة واحدة، وإنما كانوا من مختلف العرب. ولفظة "العباد" لفظة خصصت بنصارى الحيرة خاصة. ويذكر في الحديث المسند:"أبعد الناس عن الإسلام: الروم والعباد"2. ويظهر أن مرد ذلك، هو أن الروم والعباد، كانوا أصحاب ديانة ورجال دين ومؤسسات دينية منظمة، ومدارس، وثقافة، فكان من الصعب عليهم وكلهم نصارى، نبذ دينهم والدخول في الإسلام، لاعلى نحو العرب الوثنيين، الذين لم تكن لهم كتب دينية، ولا منظمات دينية، وكل ما كان عندهم عرف وعادات وتمسك بأصنام جبلوا على عبادتها، ولهذا كان تحولهم عنها أسهل من تحول العباد عن دينهم. وفي جملة "العباد""بنو امرئ القيس بن زيد مناة" وإليهم ينسب "عدي بن زيد"3.

وقد أدخل "كارلو نالينو""أبا دؤاد" الإيادي في عداد الشعراء النصارى4،

1 George Graf، Geschichte der Christlichn Arabischen Literatur، I، S. 32، Siegmund Frankel، Die Aramaischen Fremdworter im Arabischen، Leiden، 1886، S. 267، Tor Andrae، Der Hrsprung der Islams، S. 32. ff

2 الروض الأنف "1/ 53".

3 سيرة ابن هشام "1/ 53"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 53".

4 كارلو نالينو "89".

ص: 361

ولكني لم أجد في شعره ما يشير إلى تنصره، فلعله أدخله في النصرانية، لما عرف عن انتشارها بين إياد، وهو "أبو دؤاد جارية بن الحجاج"، ويقال:"جويرية بن الحجاج بن يحمر بن عصام بن منبّه بن حذافة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد"، وقيل:"حنظلة بن الشرقي" شاعر قديم من شعراء الجاهلية، وكان وصّافا للخيل، وأكثر أشعاره في وصفها. ذكر أهل الأخبار أن "ثلاثة كانوا يصفون الخيل لا يقاربهم أحد: طفيل، وأبو دؤاد، والنابغة الجعدي. فأما أبو دؤاد، فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر، وأما طفيل فإنه كان يركبها، وأما الجعدي فإنه سمع من الشعراء فأخذ عنهم". وقال "أبو عبيدة":"أبو دؤاد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام، وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي"1. وله شعر في المدح والفخر، لكن شعره في الخيل أكثر2. ومما يلفت النظر، أن يكون أكثر شعر أبي دؤاد في وصف الخيل، ثم يكون مدحه لقومه بأنهم "أهل البغال". حيث ورد في شعر هو:

نشدتكم بالله يا أهل البلد

هل سابق فيكم لمجد من أحد

إلا إياد بن نزار بن معد

أهل البغال والقباب والعدد

ما سامهم في الدهر ملك بعقد3

وإني أشك في هذاالشعر، فأسلوبه لا يدل على أنه من أساليب شعراء الجاهلية، ولا سيما الشطر الأول من البيت الأول، ثم إن هذا النسب المسطور في الشطر الأول من البيت الثاني، هو نسب ظهر في الإسلام، وعرف في أيام الأمويين.

وذكر أن "الحجاج" كان معروفا بـ "حمران". ولذلك قيل لأبي دؤاد: "جارية بن حمران". وقيل له: "حارثة بن الحجاج"، كماقيل له:"جريرة"، و"حوثرة"، ويظهر أن مصدر هذا الاختلاف هو وقوع النساخ في أخطاء في أثناء تدوين الأسم، فاختلط الأمر عليهم بين "جارية" و "حارثة".

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 359"، تاج العروس "2/ 347"، "داد"، الأغاني "15/ 91"، الخزانة "4/ 190"، المؤتلف والمختلف "115"، الموشح "73"، الأغاني "16/ 91 وما بعدها"، "ساسي"، الشعر والشعراء "1/ 161 وما بعدها"، العيني "2/ 391".

2 الأغاني "15/ 95"، غرونباوم "262".

3 غرونباوم "302"، وهو من الرجز، منقول من جمهرة ابن الكلبي، الورقة أ3.

ص: 362

وبين "جويرية"، و "جريرة"، و "حوثرة"1، وهو اختلاف طالما نجده في أسماء وألقاب الأشخاص الجاهليين، يقع بسبب التصحيف.

وهو من "بني حذاقة"، كما يظهر من شعر ينسب لطرفة، وقد أشار "أبو دؤاد" في القصيدة الميمية التي تنسب إليه إلى "حذاق" بقوله:

من رجال من الأقارب فادوا

من حذاق هم الرءوس الكرام2

وحذاق قبيلة من إياد.

وكان شاعرنا من إياد، وقد تزوج امرأة من قبيلته، ماتت بعد أن تركت له صبيا اسمه "دؤاد"، فتزوج امرأة أخرى، طلقها لأنها كانت تمقت ابنه، وكان ابنه شاعرا، رثى والده يوم وفاته. وقد تزوج "أبو دؤاد" امرأة أخرى هي "أم حبتر" لكنها طلقته لتبذيره وإسرافه، وللخصومات التي كانت تقع بينهما3. ويظهر أنه ترك ابنة اسمها "دؤادة"4.

وقد ذهب "بروكلمان" إلى أنه كان من المعاصرين للمنذر بن ماء السماء، الذي قدر وقته فيما بين حوالي "506" و "554" للميلاد5. وذهب "فون غرونباوم" إلى أنه كان حيا من سنة 480 إلى حوالي "540-550" للميلاد6.

وقد ورد اسم "أبو دؤاد" في شعر "طرفة"، كماذكره "الأسود بن يعفر"، الشاعر نديم "النعمان بن المنذر"، حيث يقول:

ماذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسدير وبارق

والقصر ذي الشرفات من سنداد

1 "وأبو دؤاد الإيادي، وهو حوثرة بن الحارث بن الحجاج"، اليعقوبي "1/ 223"، "طبعة النجف"، العيني "3/ 445"، غوستاف فون فرغونباوم، دراسات في الأدب العربي "ص255".

2 الشعر والشعراء "1/ 162"، الخزانة "4/ 191"، "بولاق".

3 الأغاني "15/ 95 وما بعدها"، غرونباوم، دراسات "258"، الآمدي، المؤتلف "116".

4 الأغاني "15/ 98 وما بعدها"، غرونباوم، دراسات "258 وما بعدها".

5 بروكلمان "1/ 118".

6 دراسات في الأدب العربي "256 وما بعدها".

ص: 363

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض تخيرها لطيب مقيلها

كعب بن مامة وابن أم دؤاد1

وكعب بن مامة من إياد، وابن أم دواد، هو الشاعر أبو دؤاد "أبو داود" الإيادي. و "أنقرة" موضع بالعراق على مقربة من الحيرة2. ويظهر من هذا الشعر، أن "إيادا" أو فرعا منها، نزلوا بأنقرة، بزعامة كعب بن مامة والشاعر "أبو دؤاد".

وكان في عصر "كعب بن مامة" الإيادي، الذي آثر بنصيبه من الماء رفيقه "النميري" فمات عطشا، فضرب به المثل في الجود، وبلغه عنه شيء فقال:

وأتاني تقحيم كعب إلى المنـ

ـطق إن النكيثة الأقحام

في نظام ما كنت فيه فلايحـ

ـزنك قول لكل حسناء ذام

ولقد رابني ابن عمي كعب

إنه قد يروم ما لا يرام

غير ذنب بني كنانة مني

إن أفارق فإنني مجذام

وكان بعض الملوك أخافه، فصار إلى بعض ملوك اليمن فأجاره فأحسن إليه، فضرب المثل بجار أبي دؤاد، قال طرفة:

إني كفاني من هم هممت به

جار كجار الحذاقي الذي انتصفا

والحذاقي هو "أبو دؤاد"، والحذاق قبيلة من إياد.

ويقال: إنما أجاره الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وذلك أن قباذ سرح جيشا إلى إياد، فيهم الحارث بن همام، فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دؤاد، فأجازهم.

وذكر أن جار "أبي دؤاد" هو كعب بن مامة3، وكان "أبو عبيدة"

1 الشعر والشعراء "1/ 176"، "الأسود بن يعفر".

2 تاج العروس "2/ 582 "، "نقر".

3 الشعر والشعراء "1/ 161 وما بعدها"، الخزانة "1/ 408 وما بعدها"، "بولاق".

ص: 364

يذكر أن جار "أبو دؤاد"، هو "كعب بن مامة"، وأنشد لقيس بن زهير بن جذيمة في ربيعة بن قُرط:

أحاول ما أحاول ثم آوي

إلى جار كجار أبي دؤاد1

ويظهر أن "قباذ" لما أرسل جيشاعلى "إياد" هربت من مواطنها فأجازها "الحارث بن همام". وورد في رواية أن جدبا حل بإياد، فاضطرت بطونها إلى الارتحال إلى مواضع أخرى، وكانت لهم ناقة اسمها "الزباء"، كانوا يتبركون بها، فخرجت تلتمس لهم الخصب والمرعى، حتى بركت بالحارث بن همام، فنزلت إياد عنده، وأجارهم2.

وتذكر رواية أن "الحارث بن همام" ودى ابنا لأبي دؤاد. غرق حين كان أبو دؤاد في جواره، فمدحه. فحلف الحارث أنه لا يموت لأبي دؤاد ولد، إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا أخلفه عليه3.

ويرى "غرونباوم" أن "أبا عبيدة"، هو الذي صير "كعب بن مامة" الإيادي جار "أبي دؤاد"، وقد تابعه من جاء بعده على ذلك، فصار "كعب" بذلك مجير شاعرنا، بينما هو "الحارث بن همام"4. وسبب ذلك أن "كعبا" كان قد اشتهر بالكرم والإيثار وتقديم الغريب على نفسه، حتى إنه ضحى بنفسه في سبيل صاحبه "النميري" حتى فضله بعض أهل الأخبار على "حاتم" الطائي في الجود5. ثم إن كعبا من إياد، فربما فضل بنو إياد أن يكون منهم أسخى وأكرم رجل في العرب، على أن يكون من غيرهم، ولذلك افتخروا به، فنسبوا الجوار له، وحذفوه من "الحارث بن همام"، وهو من "بني شيبان".

وهناك رواية تجعل "المنذر" جارا لأبي دؤاد، لأنه ودى أبناء "أبي دؤاد"، ودى كل ابن بمائتي بعير، حينما قتلهم "رقبة بن عامر" البهراني، وكان رقبة

1 الشعر والشعراء "1/ 162".

2 غرونباوم، دراسات "259".

3 المصدر نفسه "259".

4 غرونباوم، دراسات "259 وما بعدها".

5 البخلاء، للجاحظ "158، 218، 382"، ثمار القلوب "98 وما بعدها"، المحاسن والأضداد "54"، الحيوان "2/ 37"، البيان والتبيين "1/ 112".

ص: 365

في جوار المنذر1. وذكر "البغدادي"، أن أحد المملوك أحسن إلى "أبي دؤاد" وأجاره، فضرب المثل بجار "أبي دؤاد"، ولم يذكر اسم الملك. قال طرفة:

إني كفاني من أمر هممت به

جار كجار الحذاقي الذي انتصفا2

وقد ذكر "البغدادي" في الجزء الأول من الخزانة في تفسير بيت قيس بن زهير بن جذيمة:

أطوف ما أطوف ثم آوي

إلى جار كجار أبي دواد

"وأبو داود، هو أبو دواد الإيادي الشاعر المشهور، وجاره كعب بن مامة الإيادي، الجواد المشهور، وقيل: بل هو الحارث بن همام بن مرة، وكان أسر أبا دواد ناس من قومه فأطلقهم وأكرم أبا دواد وأجاره فمدحه أبو دواد وأعطاه، وحلف أن لا يذهب له شيء إلا أخلفه له. ويقال إن ولد أبي دواد لعب مع الصبيان في غدير فغمسوه فمات، فقال الحارث: لا يبقى صبي في الحي إلا غرق. فودى ابنه بديات كثيرة"3.

ونسب بعض رواة الشعر إلى القصيدة التي أولها:

أعني على برق أراه وميض

يضيء حبيا في شماريخ بيض

وهي قصيدة تنسب أيضا إلى "امرئ القيس".

ونسب "الأصمعي" له قوله:

ويصيخ أحيانا كما اسـ

ـتمع المضل دعاء ناشد5

وقد تمثل بشعره، ومما تمثل به قوله:

أكل امرئ تحسبين امرأ

ونارا تحرق بالليل نارا

1 الأغاني "15/ 99"، غرونباوم "260".

2 الخزانة "4/ 191".

3 الخزانة "1/ 408"، "بولاق".

4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 403".

5 رسالة الغفران "409".

ص: 366

وقوله:

الماء يجري ولا نظام له

لو وجد الماء مخرقا خرقه1

ومن شعره:

ترى جارنا آمنا وسطنا

يروح بعقد وثيق السبب

إذا ما عقدنا له ذمة

شددنا العناج وعقد الكرب

أخذه الحطيئة، فقال:

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وكان الحطيئة من المقدرين لشعره. قيل له من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:

لا أعد الإقتار عدما ولكن

فقد من قد رزئته الإعدام

من قصيدة تعد من أجود شعره2.

ومن شعره قطعة هجا فيها رجلا اسمه "امرؤ القيس بن أروى"، إذ يقول فيه:

امرأ القيس بن أروى موليا

إن رآني لأبوأن بسبد

قلت بجلا قلت قولا كاذبا

إنما يمنعني سيف ويد3

وقد وضع "غرونباوم" قبل هذين البيتين: بيتا هو:

وفتو حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن معد4

1 الشعر والشعراء "1/ 163"، "الثقافة".

2 الشعر والشعراء "1/ 162"، "الثقافة".

3 اللسان "3/ 202"، "بحرا"، "سبد"، "بجرا"، تاج العروس "2/ 370"، "سبد". وقد ورد البيتان على هذه الصورة: قال أبو دؤاد الأيادي:

امرؤ القيس بن أروى مقسم

إن رآني لأبوأن بفند

قلت بجلا قلت قولا كاذبا

إنما يمنعني سيف ويد

تاج العروس "7/ 231"، "بجل".

4 غرونباوم، دراسات "305".

ص: 367

وقد ورد في "اللسان" وفي "التاج" على هذه الصورة:

في فتو حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن مضر1

وعندي أن هذا البيت من الشعر المصنوع، لأن هذا النسب، لم يعرف إلا في الإسلام، ولا يوجد دليل يثبت وقوف الجاهليين عليه. وهو على الصورة التي ورد عليها في لسان العرب وفي تاج العروس خطأ، لأن نزارا ليس ابن مضر في عرف أهل الأنساب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك في باب العرب المتعربة.

وقد نسب هذا البيت إلى "الحارث بن دوس الإيادي"2.

ونجد الشاعر يرثي رجلا اسمه "أبو بجاد"، نعته بـ "أبي الأضياف في السنة الجماد"، وهذا الوصف هو من الأوصاف الدالة على غاية الكرم، إذ يلجأ الناس إليه في أيام الجوع وانحباس المطر وحصول القحط، حيث يجب أن يبخل الإنسان بماله من الإسراف في إنفاقه، أما هو فلكرمه لا يحفل بسنة المحل سنة الجماد، بل يعطي وينفق على كل من يلجأ إليه مستجيرا. ولا نعلم من خبر "أبي بجاد" هذا شيئا يذكر3. وقد ورد في "تاج العروس": وأبو البجاد شاعر سمي ببيت قاله:

فويل الركب إذ آبوا جياعا

ولا يدرون ما تحت البجاد4

ولكن هل توجد صلة بين "أبي بجاد" الممدوح، وبين "أبي البجاد" الشاعر؟ وجوابي: لا.

وقد أشار "أبو دؤاد" إلى قتال وقع بين "بني شهران" وبين قوم آخرين لم يشر إلى اسمهم، وذلك في هذا البيت:

ولت رجال بني شهران تتبعها

خضراء يرمونها بالليل من شمم5

1 اللسان "3/ 77"، "أيد"، تاج العروس "2/ 293"، "آد".

2 العمدة "2/ 79".

3 تاج العروس "5/ 99"، "هض"، اللسان "9/ 116"، "هض".

4 تاج العروس "2/ 264"، "بجد".

5 غرونباوم، دراسات "56".

ص: 368

وينسب رواة الشعر له شعرا زعم أنه قال فيه:

ضربنا على تبع جزية

جياد البرود وخرج الذهب

وولى أبو كرب هاربا

وكان جبانا كثير الكذب

وأتبعته فهوى للجبين

وكان العزيز لها من غلب1

وتبع، لقب يطلقه العرب على ملك حمير، فيقولون تبابعة اليمن، يريدون ملوك اليمن. والتبع "أبو كرب" هو الملك:"أبو كرب أسعد" وهو ابن الملك "ملك كرب يهأمن"، الذي حكم من سنة "385" حتى السنة "420" للميلاد2. ولكن كيف ضرب "إياد" الجزية على "تبع"، وكيف وصل الشاعر إلى اليمن البعيدة عن إياد؟ قد يقال إنه أشار إلى غزو قام به أحد ملوك الحيرة على "أبي كرب أسعد"، تبع اليمن، انتصر فيه ملك الحيرة على التبع، وكان هو وقومه قد ساهموا فيه، ولكننا لا نستطيع التأكد من ذلك، إذ من يثبت لنا أن هذا الشعر هو شعر صحيح، لم تصنعه العدنانية على لسانه في الإسلام حتى نصدق بصحة الخبر!

ونجد في شعره إشارة إلى "قباذ"، والي "الحضر"، إذ يقول:

أين ذو التاج والسرير قباذ

خبنته الأيام فباد إحدى الخبون

ولقد عاش آمنا للدواهي

ذا عتاد وجوهر مخزون

وأرى الموت قد تدلى من الحضر

على رب أهله الساطرون

صرعته الأيام من بعد ملك

ونعيم وجوهر مكنون

ملك الخضر والفرات فما دجلة

شرقا فالطور من عابدين

ولقد كان في كتائب خضر

وبلاط يشاد بالآجرون3

و"قباذ" ملك من الساسانين حكم من سنة "483-531" بعد الميلاد، وأما"الساطرون" فقد تحدثت عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب4.

1غرونباوم، دراسات "291".

2 راجع الجزء الثاني من هذاالكتاب "ص 574".

3 حماسة البحتري "87"، تاج العروس "2/ 261"، "9/ 214"، الأمالي، للشجري "1/ 100، 361"، غرونباوم، دراسات "345".

4 "615 وما بعدها".

ص: 369

ولدينا قطعة من الشعر نسبت إليه، وردت فيها أسماء مواضع مثل:"هضب ذي الأسناد"، و "السيلحين"، و"برقة الأثماد"، ثم أشار إلى معركة وقعت بين "إياد" قومه وبين "تنوخ" انتصفت فيها "إياد" من تنوخ إذ يقول:

ولقد صببن على تنوخ صبة

فجزيتهم يوما بيوم قحاد1

وكان علماء العربية لايستشهدون بشعر "أبي دؤاد" ولابشعر "عدي بن زيد العبادي"، لأن ألفاظهما ليست بنجدية2.

ذكر "الجاحظ" أن "أبا إياس" النصري، وكان أنسب الناس، كان يقول:"كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي"3. ويروي "الأصمعي" أن الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية، ولمخالفتهما مذاهب الشعراء4، ولم يكن "الأصمعي" ممن يهوى إليه كثيرا، بدليل أنه جعل شعره صالحًا غير أنه لم يجعله في عداد فحول الشعراء5.

وورد في الأخبار أن "الحطيئة"، كان يرى أنه أشعر الناس. فقد ورد أن "سعيد بن العاص" سأل "الحطيئة": أي الناس أشعر؟ قال: الذي يقول:

لا أعد الإقتار عدما ولكن

فقد من قد رزئته الأيام

وقائل هذا البيت، هو أبو داود الإيادي6.

وكان "أبو الأسود الدؤلي"، وهو من الحذاق العالمين بالشعر، يتعصب له7.

1 غرونباوم "310 وما بعدها"، وقد أشار إلى الموارد التي أخذ منها تلك الأبيات.

2 الشعر والشعراء "120"، الأغاني "16/ 91 وما بعدها"، الموشح، للمرزباني "73"، الجرجاني، الوساطة "47"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 119، 126"، الشعر والشعراء "1/ 162"، "دار الثقافة".

3 البيان والتبيين "1/ 323".

4 الأغاني "15/ 97"، "الخزانة "4/ 191"، الموشح "73".

5 غرونباوم "261".

6 رسالة الغفران "575"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 360".

7 غرونباوم "261".

ص: 370

وكانت "إياد" تفخر بشاعرها "أبي دؤاد"، وتقول: منا أجود العرب: كعب بن مامة، ومنا أشعر الناس: أبو دؤاد، ومناأنكح الناس: أبو الغز1. وقد ادعت إياد أن الشعر بدأ بها، لأنه بدأ بأبي دؤاد2.

وقد استشهد علماء شواهد النحو ببيت له، هو:

ربما الجامل المؤبل فيهم

وعناجيج بينهن المهار

وقد ذكر السيوطي أنه من قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون بيتا3.

وقد عده بعض أهل الأخبار في الشعراء المقلين4. ونجد له شواهد في الاتعاظ والأمثال وفي الشعر الجيد وفي أمور النحو، وفي البديع5. "ولدينا أحد عشر مطلعا لإحدى عشرة قصيدة من قصائد أبي دؤاد وكلها مصرّعة"6. ويرى "غرونباوم" قلة ما في شعر "أبي دؤاد" من الإقواء، فلم يقف في شعره إلاعلى إقواءين، ووجد بيتين، أحدهما من الرجز والآخر من الوافر، يبدو فيهما شيء من عدم الاستواء. وله مزايا خاصة استعملها في تفعيلات الخفيف. وأرى أن التشعيت الذي لاحظه "العيني" في الأصمعية "72"، "لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذاالوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن حين ظهر علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد"7.

وقد شرح ديوان "أبي دؤاد" العالم "ابن السكيت"، وقد نقل منه "البغدادي" في الخزانة8. وقد ذكر "البغدادي" أن "لأبي دؤاد" ديوانا وقف عليه وأخذ منه، غير أنه لم يذكر اسم جامعه9. وفي الشعر المنسوب إليه

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 359"، الأغاني "15/ 97 وما بعدها".

2 المزهر "2/ 477"، "تنقل الشعر في القبائل".

3 الخزانة "4/ 189 وما بعدها"، "بولاق".

4 المزهر "2/ 486"، "المقلون من الشعراء".

5 راجع البيت الخامس عشر من الأصمعية 29، والبيت الثالث من القطعة "48"، غرونباوم "262"، الباقلاني، إعجاز "79"، النويري "7/ 112".

6 غروناوم "266".

7 غرونباوم "267 وما بعدها".

8 الخزانة "4/ 190".

9 الخزانة "1/ 9".

ص: 371

شعر مصنوع، وقد ذكر أن "خلف الأحمر" صنع على أبي دؤاد أربعين قصيدة1. ونجد في الشعر الذي جمعه "غرونباوم" لأبي دؤاد شعرا لا يصح أنه من شعره، كما أن في شعره ما نسب لغيره، ومنهم شعراء من إياد، مثل "أبي المنذر" الإيادي2.

ومن شعراء "إياد": "لقيط بن يعمر"، وقيل "معمر" الإيادي. وإياد من قبائل "نزار"، ومن أكثر قبائل هذا الحلف عددا، قيل إنهم كانوا لقاحا لا يؤدون خرجا، وهم أول معدي خرج من تهامة، فنزلوا السواد، وغلبواعلى ما بين البحرين إلى "سنداد" و "الخورنق". وكانوا أغارواعلى أموال لأنوشروان فأخذوها، فجهز إليهم الجيوش، فهزموهم مرة بعد مرة، ثم إن إيادا ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه إليهم كسرى بعد ذلك ستين ألفا في السلاح، وكان "لقيط" متخلفا عنهم بالحيرة، فكتب إليهم:

سلام في الصحيفة من لقيط

إلى من بالجزيرة من إياد

بأن الليث كسرى قد أتاكم

فلا يشغلكم سوق النقاد

أتاكم منهم ستون ألفا

يزجون الكتائب كالجراد

فاستعدت إياد لمحاربة جنود كسرى، ثم التقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، أصيب فيه من الفريقين، ورجعت عنهم الخيل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فلحقت فرقة بالشام، وفرقة رجعت إلى السواد، وأقامت فرقة بالجزيرة. ونسبوا له قصيدة أخرى، ذكروا أنه نظمها في هذه القصيدة3. من جملة ما ورد فيها:

قوموا قياما على أمشاط أرجلكم

ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا

هيهات ما زالت الأموال من أبد

لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا

ومنها قوله في اختيار الرئيس وتدبير الحرب والانصياع للقائد:

وقلدوا أمركم لله دركم

رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

1 غرونباوم "260"، الموشح "252".

2 غرونباوم "281 وما بعدها".

3 الشعر والشعراء "1/ 129 وما بعدها"، الأغاني "20/ 23"، بروكلمان "1/ 112".

ص: 372

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده

ولا إذا عض مكروه به جزعا

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متبعا طورا ومتبعا

حتى استمرت على شزر مريرته

مستحكم السن لا قحما ولا ضرعا1

وأنا إذ أذكر "لقيط بن يعمر" في هذا الفصل، فلا أريد بذلك إثبات أنه كان من الشعراء النصارى، لأني لا أملك نصا بذلك، إنما أدخلته هنا لمجرد أنه شاعر من شعراء إياد، كما أدخلت "أباد دؤاد" الإيادي فيه لما ذهب "نالينو" إلى أنه من النصارى، وقد كانت النصرانية متفشية في إياد وتغلب، وقبائل أخرى من قبائل العراق وبلاد الشام، والبادية التي بينهما.

أما "عدي بن زيد" العبادي، فهو نصراني من غير شك، فالعباديون، نصارى، وأطلقت اللفظة عند العرب على النصارى، نصارى الحيرة، كما نص أهل الأخبار على تنصره. وقد كان شعره سهلا لينا، بعيدا عن شعر شعراء نجد، قال الأصمعي":"كانت الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"2 أو "لأن ألفاظهما ليست بنجدية"3. وقد روى "الجواليقي" له شعرا في كتابه "المعرب"، وهو كتاب ألفه في المعربات، وفي استشهاده بشعره دلالة على تأثره بالآرامية وبالفارسية التي درسها في "الكتاب"4.

وإذا أخذنا بمذهب "الأصمعي" من أن الرواة كانت لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زياد، لمخالفتهما مذاهب الشعراء، وما ذكره غيره لأن ألفاظهما ليست نجدية، ولأن عديا سكن الريف، فلأن شعره وبان ذلك على لسانه، ولأنه تأثر بلغة أهل الحيرة، واستعمل ألفاظهم، وما شاكل ذلك من حجج، وجب علينا رفض الاستشهاد بشعر "أمية بن أبي الصلت" كذلك، فقد كان من أهل قرية، وقد استعمل في شعره ألفاظا لم تعرفها العرب، وقرأ الكتب، كما يجب إدخال الأعشى معهما أيضا، لأنه خالط أهل الريف، واتصل بالحضر وبالأعاجم، واستعمل في شعره ألفاظا معربة، كما اختلف مذهبه في الشعر عن

1 بلوغ الأرب "3/ 114 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 130".

2 الأغاني "2/ 18"، "15/ 91 وما بعدها".

3 الشعر والشعراء "1/ 162".

4 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "90".

ص: 373

مذهب شعراء البادية الأعراب، فضلا عن كونه من أهل اليمامة، وأهل اليمامة ممن اختلط لسانهم بلسان أهل اليمن، وتأثر بهم.

ويخالف شعر "عدي" شعر شعراء نجد في ابتعاده عن الأعاريض الطويلة وميله إلى الأعاريض القصيرة، كما يخالفهم في أسلوب خمرياته، فهو في وصفه الخمر قريب من أسلوب "الأعشى" في الخمريات. وله أوصاف بديعة للخمر، تعبر عن مع أن حضري، نابعة من طبيعة القرى والريف، وبهذا الوصف اختلف عن وصف امرئ القيس أو غيره من الشعراء للخمر. كما امتاز بوصفه القيان ومجالس الشرب، وما كانت تولده له من نشوة وطرب، واتخذ "عدي" من الخمر، فلسفة دفعته إلى الزهد ونبذ الغرور، لأن الدنيا زائلة، وكل شيء فيها لا بد وأن ينتهي إلى زوال. وهو شعر انبثق من طبيعة "عدي بن زيد" ثم من الأحوال التي مرت عليه، والتي انتهت به إلى السجن، بعد أن وصل أعلى ما يصل إليه إنسان في زمانه وفي مكانه.

واتخذ "عدي" من القصص القديم عبرا وجهها من سجنه إلى "النعمان" وإلى الشامتين به، الحاسدين له، الذين كانوا سبب نكبته، بأن قال:

أيها الشامت المعير بالدهـ

ـر أأنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام

بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن أم من

ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك

أنو شروان أين قبله سابور

وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم

لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذا

دجلة تجبي إليه والخابور

شاد مرمرا وجلله كلـ

ـسا فللطير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون فباد المـ

ـلك عنه فبابه مهجور

وتذكر رب الخورنق إذ شـ

ـرف يوما وللهدى تفكير

سره ماله وكثرة ما يمـ

ـلك والبحر معرضا والسدير

فارعوى قلبه فقال وما غبطة

حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح والملك والأ

مة وأرتهم هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جـ

ـف فألوت به الصبا والدبور1

1 الشعر والشعراء "1/ 150 وما بعدها".

ص: 374

وله شعر آخر أوله:

أتعرف رسم الدار من أم معبد

نعم فرماك الشوق قبل التجلد

قال فيه:

أعاذل ما يدريك أن منيتي

إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

ذريني فإني إنما لي ما مضى

أمامي من مالي إذا خف عودي

وحمت لميقات إلي منيتي

وغودرت قد وسدت أو لم أوسد1

وهو شعر نبع من واقع حاله الذي صار إليه، فهو لا يدري متى وفي أية ساعة ستأتيه منيته. ومن زج في سجن مثل سجنه، وصار في حال مثل حاله، يكون قلقا لا يدري ما الذي سيكون مصيره، فهو شعر يعبر عن شعور إنساني ينتاب الإنسان في مثل هذه الموقف، ليس له علاقة بنصرانية أو بدين.

والشعر المذكور إن صح أنه من شعر "عدي"، وأنه غير مصنوع ولا معمول عليه، يكون قد قدم لنا قصصا قديما من قصص أهل الجاهلية، وحكايات كانوا يروونها من حكايات التأريخ، ويكون بذلك شاهدا على أن أهل الحيرة، والمثقفين منهم بصورة خاصة كانوايعرفون تأريخ الماضين وقد وقفوا على تأريخ الفرس وتأريخ الروم، والحضر، وتأريخ غيرهم من شعوب معاصرة لهم، ومن شعوب غابرة، وردت أخبارها في الكتب القديمة، ولا سيما في الكتب المقدسة وفي كتب التواريخ. فنحن نجد له قصيدة أشار فيها إلى خطيئة آدم، وهذه الخطيئة تلعب دوراخطيرا في كل الأديان السماوية المعروفة التي أقرت بالكتب المقدسة، وقد صاغ قصتها على هذا النحو.

قضى لستة أيام خليقته

وكان آخرها أن صور الرجلا

دعاه آدم صوتا فاستجاب له

بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا

ثمت أورثه الفردوس يعمرها

وزوجه صنعه من ضلعه جعلا

لم ينههُ ربه عن غير واحدة

من شجر طيب أن شم أو أكلا

فكانت الحية الرقشاء إذ خلقت

كما ترى ناقة في الخلق أو جملا

فعمدا للتي عن أكلها نهيا

بأمر حواء لم تأخذ له الدغلا

كلاهما خاط إذ بُزا لبوسهما

من ورق التين ثوبا لم يكن غزلا

ص: 375

فلاطها الله إذ أغوت خليقته

طوال الليالي ولم يجعل لها أجلا

تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت

والترب تأكله حزنا وإن سهلا

فأتعبا أبوانا في حياتهما

وأوجدا الجوع والأوصاب والعلالا

وأوتيا الملك والإنجيل نقرؤه

نشفي بحكمته أحلامنا عللا

من غير ما حاجة إلا ليجعلنا

فوق البرية أربابا كما فعلا

والشعر هذا مذكور في كتاب "الحيوان" للجاحظ، وفي ذكره له، دلالة على أنه قد كان معروفا في أيامه، وهو يستند على ما ورد في "سفر التكوين" السفر الأول من أسفاره التوراة، وفيه قصة الخليقة، ونجد قصة "الحية" في شعر "أمية بن أبي الصلت"، حيث يقول:

كذي الأفعى ترببها لديه

وذي الجني أرسلها تساب

فلا رب البرية يأمننها

ولا الجني أصبح يستتاب

وقد دون هذين البيتين "الجاحظ" كذلك في كتابه: "الحيوان"، مما يدل على أنهما كانا معروفين، وهما من قصيدة ذكرها الجاحظ قبلهما في رطوبة الحجارة، وأن كل شيء قد كان ينطق، ثم عن منادمة الديك الغراب، واشتراط الحمامة على نوح2.

وقصة "عدي" قصة أوضح وأقرب إلى الأصل المذكور في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين، من القصة المذكورة في الشعر المنسوب إلى "أمية". يظهر أن ناظمها قد صاغها عن مطالعة وعن إلمام عام بها. فهي في الواقع قصيدة شملت قصة دينية، ضمت أسطورة الخلق كما جاءت في الإصحاحات المذكورة، مع بعض "الرتوش" والإصلاحات التي اقتضتها طبيعة نظم الشعر، وقد لخصها تلخيصا حسنا قريبا من الأصل، يدل على إحاطة به، ولعله من وضع شاعر أحب صوغ هذه القصة في شعر، فنظمها ونسبها إلى "عدي بن زيد".

وقد ظل العباد يتغنون بخمريات وبشعر "عدي" أمدا طويلا بعد وفاته. وقد كان "القاسم بن الطويل" العبادي، أحد ندماء "الوليد" الثاني ممن يروون

1 الحيوان "4/ 197 وما بعدها".

2 الحيوان "4/ 197".

ص: 376

شعره، وحبذه إلى الخليفة، الذي كان شاعرا يحب الخمر، وينظم الشعر فيها، مما صار بابا من أبواب الخمريات في الشعر الإسلامي1. ومن شعره قوله:

أيها القلب تعلل بددن

إن همي في سماع وأذن2

ومن الشعراء النصارى الذين نص أهل الأخبار على تنصرهم: "موسى بن جابر بن أرقم بن سلمة بن عبيد" الحنفي اليمامي، المعروف بـ "أزيرق اليمامة"، وبابن ليلى، وهي أمه، وكان نصرانيا. قال عنه "المرزباني" إنه شاعر كثير الشعر، وقد أورد له نتفا من شعره3، ويمتاز ما ذكره بالبساطة والسهولة والليونة وهو يختلف بأسلوبه عن شعر الأعراب.

أما "الأعشى"، وقد تحدثت عنه، فهو من اليمامة، وقد كان معظم أهل اليمامة على النصرانية عند ظهور الإسلام، ولذلك فقد يكون على النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نأتي بدليل مقبول يثبت تنصره، وقد رأينا أن أهل الأخبار كانوا قد جعلوه في عداد "القدرية" و"أهل العدل"، زعموا أنه أخذها من "الحيرة"، وكانوا عبادا، وكان يزورهم بشرب الخمر عندهم، كما كان راويته "يحيى بن متى" نصرانيا، ولكن النصرانية لا تعني القدرية، وكون راويته نصرانيا، لا يعني أنه كان نفسه نصرانيا، وأما ما جاء في شعره من قصص وأمور معروفة عند النصارى، فلا يكون دليلا على تنصره، فقد وردت مثل هذه الأمور في شعر غيره، ولم ينص أحد على تنصرهم، ثم إن شعره لا ينم على تعمق في نصرانية4، ولكني لا أريد أن أثبت أنه كان وثنيا، فوثنية الأعشى أو نصرانيته تخصه وحده، وأنا لا أريد أن أنقص عدد النصارى، وأن أزيد في عدد الوثنيين، وإنما هو رأي واستنتاج ليس غير.

ومن شعره الذي تطرق فيه إلى أمور نصرانية قوله:

فما أيبلى على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا

1 بروكلمان "1/ 125".

2 أمالي المرتضى "1/ 33".

3 المعجم "285"، "فراج"، شرح الحماسة، للمرزوقي "326"، "عبد السلام محمد هارون"، الأغاني "10/ 113"، الخزانة "1/ 126".

4 G. Graf، Geschichte der Christlichen Arabischen Literatur، I، S. 33

ص: 377

يراوح من صلوات المليك

طورا سجودا وطورا جوارا

بأعظم منك تقي في الحساب

إذا النسمات نفضن الغبارا

وهي من قصيدة مدح فيها "قيس بن معد يكرب" الكندي. وقد اتخذ "المعري" هذا الشعر دليلا على إيمان الأعشى بالله وبالحساب وبالبعث، مما استوجب إدخاله في الجنة1.

وهناك أفكار نصرانية نجدها في شعر "النابغة" وفي شعر "زهير"، و "لبيد"، غير أننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا نصارى، لوجود هذه الأفكار في شعرهم، فمن الجائز أن يكون ورودها في شعرهم نتيجة لاختلاطهم بالنصارى، وقد كانوا يكثرون من الذهاب إلى الحيرة، لمدح ملوكها طمعا في نيل عطاياهم، فاحتكوا بذلك بنصاراها، وورود قصص نصراني في شعر أو نثر لا يدل حتما على تنصر الناثر أو الشاعر، كما أن وقوف شخص على دين من الأديان، لا يدل حتما على اعتناقه لذلك الدين. ومن هنا أخطأ الأب "لويس شيخو" في دعواه بتنصر أكثر الشعراء الجاهليين2.

ونجد في شعر امرئ القيس إشارات إلى معالم نصرانية، مثل الرهبان وصلواتهم وسهرهم، وإلى مصابيحهم، مثل قوله:

نظرت إليها والنجوم كأنها

مصابيح رهبان تشب لقفال3

ولكننا لا نستطيع إثبات أنه كان من النصارى.

و"حاتم الطائي" من شعراء طيء، وقد مات قبل الإسلام، وقبر بـ "عوارض" جبل فيه قبره ببلاد طيء4. وهو "حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي"، ويكنى "أبا سفانة" بابنته، وابنه "عدي بن حاتم" من الصحابة. وإليه ينسب المثل "لو غير ذات سوار لطمتني". وسبب قوله إياه -كمايقول ذلك الراوي- أن حاتم الطائي كان أسيرافي "عنزة"،

1 رسالة الغفران "181".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 127"، "الطبعة الثانية".

3 الخزانة "1/ 33"، "بولاق".

4 تاج العروس "5/ 48"، "عرض"، الحيوان "1/ 229".

ص: 378

فقالت له امرأة يوما: قم فافصد لناهذه الناقة! وكان الفصد عندهم أن يقطع عرقا من عروق الناقة، ثم يجمع الدم فيشوى. فقام حاتم إلى الناقة فنحرها فلطمته المرأة. فقال حاتم:"لو غير ذات سوار لطمتني" فذهب قوله مثلا1.

وروي أيضا أنه قال: "هذا فصدي"، يريد أنه لا يصنع إلا ما تصنع الكرام. وقد نسب هذا المثل لكعب بن مامة، وذلك أنه كان أسيرا في عنزة فأمرته أم منزله أن يفصد لها ناقة، فنحرها، فلامته على نحره إياها، فقال: هكذا فصدي2.

ويلاحظ أن "الجاحظ" وغيره يقدمون "كعب بن مامة" على حاتم الطائي في الجود، "لأن كعبا بذل نفسه في أعطية الكرم وبذل المجهود فساوى حاتما من هذا الوجه، وباينه ببذل المهجة"3. كما نلاحظ أن بعض أخبار الجود المنسوبة إلى "حاتم" تنسب إلى "كعب بن مامة" كالذي رأيته في تفسير المثل: "هكذافصدي".

ولما بلغ حاتم قول المتلمس:

قليل المال يصلحه فيبقى

ولا يبقى الكثير مع الفساد

وحفظ المال خير من فناء

وعسف في البلاد بغير زاد

قال: قطع الله لسانه، حمل الناس على البخل فهلا قال:

فلا الجود يفني المال قبل ذهابه

ولا البخل في مال الشحيح يزيد

فلا تلتمس مالا بعيش مقتر

لكل غد رزق يعود جديد

ألم تر أن الرزق غاد ورائح

وأن الذي أعطاك سوف يعيد4

وذكر أن "زيد الخيل" عير حاتما الطائي في خروجه من طيء ومن حرب

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 209"، الخزانة "1/ 494" الأغاني "16/ 96"، الشعر والشعراء "1/ 164 وما بعدها"، الأمالي للقالي "3/ 154 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 111 وما بعدها".

2 الميداني، أمثال "2/ 317"، الحيوان "4/ 274"، الأغاني "16/ 102"، الحيوان "5/ 33"، البخلاء "158، 382 وما بعدها"، ثمار القلوب "98 وما بعدها".

3 الحيوان "2/ 107 وما بعدها".

4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 209"، وتجد بعض الاختلاف في الروايات الأخرى، المحاسن والأضداد "41".

ص: 379

الفساد التي وقعت بين جديلة والغوث إلى "بني بدر" حيث يقول:

وفر من الحرب العوان ولم يكن

بها حاتم طبا ولا متطببا

وريب حصنا بعد أن كان آبيا

أبوة حصن فاستقال وأعتبا

أقم في بني بدر ولا ما يهمنا

إذا ما تقضت حربنا أن تطربا1

وقد أسره "ثوب بن شحمة" العنبري، وكان شريفا في قومه، وكان يقال له "مجير الطير"، لأنه أجار الطير في أرضه، فكان لا يثار ولا يصاد بأرضه2.

فقال حاتم:

إذا ما بخيل الناس هرت كلابه

وشق على الضيف الغريب عفورها

فإني جبان الكلب بيتي موطأ

جواد إذا ما النفس شح ضميرها

ولكن كلابي قد أقرت وعُوّدت

ليل على من يعتريها هريرها3

وظل "حاتم" أسيرا عنده زمانا، وقد عير "ثوب بن شحمة" بأنه وقومه أكلوا لحم المرأة، فقال شاعر:

عجلتم ما صادكم علاج

من العنوق ومن الدجاج

حتى أكلتم طفلة كالعاج4

وقد وصفت ابنته أباها للرسول، وكان قد سألها عن أبيها على هذه الصفة:"كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط".

ووصفه "ابن الأعرابي" بقوله: "كان جوادا يشبه شعره جوده، ويصدق قوله فعله

إذا غنم أنهب وإذا سئل وهب

وإذا أسر أطلق"5. ويجب أن تكون وفاة "حاتم" غير بعيدة عن ظهور الإسلام.

1 الحيوان "1/ 329".

2 الحيوان "1/ 269".

3 الحيوان "1/ 383".

4 البخلاء "235، 374".

5 الأغاني "16/ 97 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "79"، الخزانة "1/ 494 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 28".

ص: 380

ولأهل الأخبار قصص عن جود حاتم وكرمه، ويبدأون به غلاما، يرعى إبل والده، فمر به "عبيد الأبرص"، و "بشر بن أبي خازم"، و "النابغة الذبياني"، وهم يريدون "النعمان" فنحر لهم ثلاثة من الإبل، وهو لا يعرفهم، ثم سألهم عن أسمائهم، فتسموا له، ففرق فيهم الإبل كلها، وبلغ أباه ما فعل، فاعتزله. ثم يروون أنه ذبح فرسه، لما جاءته جارة له، فشوى لحمها لها ولأولادها الجياع، ثم استدعى بقية جيرانه فأطعمهم، وبقي هو وأهله جياعا، ولم يكن لديه آنذاك غير فرسه هذه. ثم يروون قصصا آخر مشابها، يمتد إلى ما بعد وفاته، حيث يذكرون قصة رجل اسمه "أبو خيبري"، ذكروا أنه مر بقبر "حاتم"، وأخذ يناديه:"يا أبا عدي اقر أضيافك! فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: وا رحلتاه! فقال له أصحابه: ما شأنك؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث، فقالوا: قد والله قراك، فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينا هم كذلك في مسيرهم، طلع عليهم "عدي بن حاتم" ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره، فقال: إن حاتما جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه، وإنه قراك وأصحابك راحلتك، وقد قال في ذلك أبياتا، ورددها عليّ حتى حفظتها:

أبا خييبريّ وأنت امرؤ

حسود العشيرة لوامها

فماذا أردت إلى رمة

بداوية صخب هامها

تُبغّي أذاها وإعسارها

وحولك عوف وأنعامها

وأمرني بدفع جمل مكانها إليك، فخذه، فأخذه1.

ولأهل الأخبار قصة في كيفية تزوج "حاتم""ماوية بنت عفزر"، وكيف وجد عندها "النابغة"، ورجلا من النبيت، يريدان الزواج منها، لما وصل إليها، وكيف امتحنتهم بقولها لهم: انقلبوا إلى رحالكم، وليقل كل رجل منكم شعرا يذكر فيه فعاله ومنصبه فإني متزوجة أكرمكم وأشعركم، ثم تذكر القصة تفصيل ما وقع بأسلوب منمق مقرونا بشعر وقرار "ماوية" بتفضيل حاتم

1 الشعر والشعراء "1/ 170"، الخزانة "1/ 494 وما بعدها"، "بولاق"، المحاسن والأضداد "41 وما بعدها".

ص: 381

عليهما1. وتذكر قصة أخرى أن "ماوية" كانت ابنة من بنات ملوك اليمن، وكانت ذات جمال وكمال ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كرام الناس، فقدم عليها حاتم، وزيد الخيل، وأوس بن حارثة لأم، فتقدم كل واحد يخطبها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فلما أنشدوا فضلت "حاتم" الطائي عليهما. فزوجت نفسها منه. وذكر أن "معاوية" كان يهوى حديث "ماوية"2.

وهم يذكرون أن جود "حاتم" جاء إليه من أمه "عنبة"، التي كانت سخية إلى حد الإسراف، حتى حبسها إخوتها سنة في بيت لعلها تكف عما كانت عليه، إذا ذاقت طعم البؤس وعرفت فضل الغنى، ثم أخرجوها ودفعوا إليها صرمة من مالها، فأتتها امرأة فسألتها، فقالت لها: دونك الصرمة، فقد والله مسني الجوع ما آليت معه ألا أمنع الدهر سائلا شيئا! ثم أنشأت تقول:

لعمري لقدما عضني الجوع عضة

فآليت ألا أمنع الدهر جائعا

فقولا لهذا اللائمي الآن أعفني

وإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا

ولا ما ترون اليوم إلا طبيعة

فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا3

ونسب لحاتم قوله:

وإني لأستحي حياء يسرني

إذا اللؤم من بعض الرجال تطلعا

إذا كان أصحاب الإناء ثلاثة

حييا ومسحيا وكلبا مجشعا

فإني لأستحيي أكيلي أن يرى

مكان يدي من جانب الزاد أقرعا

أكف يدي من أن تمس أكفهم

إذا نحن أهوينا وحاجتنا معا

وإنك مهما تعط بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا4

1 الشعر والشعراء "1/ 167 وما بعدها"، الخزانة "2/ 164 وما بعدها"، "بولاق".

2 الخزانة "2/ 164 وما بعدها"، "بولاق".

3 الشعر والشعراء "1/ 165 وما بعدها".

4 البيان "3/ 307 وما بعدها".

ص: 382

إلى أن يقول:

ولن يكسب الصعلوك حمدا ولا غنى

إذا هو لم يركب من الأمر معظما

لحا الله صعلوكا مناه وهمه

من العيش أن يلقى لبوسا ومغنما

ينام الضحى حتى إذا نومه استوى

تنهب مثلوج الفؤاد مورما

مقيما مع المثرين ليس ببارح

إذا نال جدوى من طعام ومجثما

ولله صعلوك يساور همه

ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة

ولا شبعة إن نالها عد مغنما

يرى الخمص تعذيبا ولم يلق شبعة

يبت قلبه من قلة الهم مبهما1

وهي أبيات أرى أنها من هذا الشعر الذي يشك في أكثره، مثل الشعر المَقُول على لسان عروة والصعاليك، يظهر أن الظروف الاجتماعية جعلت الأدباء ينظمون على لسانهم، يتشكون فيها من ظلم الأغنياء، لما كانوا يرونه من قسوة أصحاب المال على المعدمين والبائسين.

ويشك في كثير من شعر حاتم. وقد صار حاتم بالقصص الوارد عنه من الأبطال المعروفين عند غير العرب أيضا، فنجد له ذكرا في الفارسية وفي التركية، وألف فيه في اللغات الأوروبية، وطبع ديوانه جملة طبعات2. وكان يشبه شعر النمر بن تولب بشعر حاتم الطائي، وكانا يشتركان في الجود وإتلاف الأموال وأريحية الطبع والتغني بذلك في الشعر3.

وكان "حاتم" على النصرانية على ما يظن، وقد كان ابنه "عدي" عليها4.

و"جابر بن حني بن حارثة بن عمرو بن بكر" من شعراء تغلب. وله قصيدة مطلعها:

ألا يا لقومي للجديد المصرم

وللحلم بعد الزلة المتوهم

وللمرء يعتاد الصبابة بعدما

أتى دونها ما فرط حول مجرم

1 الخزانة "1/ 492".

2 بروكلمان "1/ 111 وما بعدها".

3 البخلاء "384".

4 الإصابة "2/ 460"، "رقم 5477".

ص: 383

ذكر أن سبب قوله لها، أن "المنذر بن ماء السماء" كان يبعث "عمرو بن مرثد بن سعيد بن مالك"، و "قيس بن زهير" الجشمي، على إتاوة ربيعة، وكانت ربيعة تحسدهما، فجاء "عمرو" يوما، فقال جلساء الملك حسدا له: إنه يمشي كأنه لا يرى أحدا أفضل منه! فجاء فحيا الملك بتحية، فقال جابر هذه القصيدة1. وقد أدخله "بروكلمان" في عداد الشعراء النصارى2.

ويذكر أنه هو "جابر" المذكور في البيت المنسوب لامرئ القيس، وهو:

فإما تريني في رحالة جابر

على حرج كالقر تخفق أكفاني3

وكان امرؤ القيس آنذاك مريضا، فكان "جابر" و "عمرو بن قميئة"، يحملانه على الرحالة، وهي خشبات، وهي الحرج.

1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 562 وما بعدها"، اللآلي "842"، المفضليات "208".

2 بروكلمان "1/ 73".

3 من قصيدة:

قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان

ورسم عفت آياته منذ أزمان

ديوان امرئ القيس "89 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 274"، الشعر والشعراء "1/ 53".

ص: 384