المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل التاسع والخمسون بعد المئة: أصحاب المعلقات - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٨

[جواد علي]

الفصل: ‌الفصل التاسع والخمسون بعد المئة: أصحاب المعلقات

‌الفصل التاسع والخمسون بعد المئة: أصحاب المعلقات

الفصل التاسع والخمسون بعد المائة: أصحاب المعلقات

أصحاب السبع الطوال، هم: امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة اليشكري. وهم الذين اختار "حماد" الراوية قصائدهم، فألف منها اختياراته. وقد رتبهم حسب الترتيب المألوف الذي يرد في دواوين المعلقات، وإن كان هذا الترتيب يتعارض مع الترتيب الزمني. فلبيد مثلا كان من الواجب علينا تأخيره، بجعله آخر الشعراء المذكورين، لأنه أدرك الإسلام، فهو من المخضرمين، وبعض منهم كان من اللازم تقديمه، ليأخذ مكانه المناسب له من الناحية الزمنية، بجعله في موضع من يؤخر لتأخره في الزمان.

وسأضيف على ما ذكرت الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص، مجاراة لمن زاد على ذلك العدد شاعرا أو شاعرين أو ثلاثة، أو طرح منه شاعرين، ووضع في محلهما شاعرين آخرين. كما جرى الحديث عن ذلك حين تكلمت عن المعلقات. وسأبدأ لذلك بالكلام على أولهم، وهو بإجماع علماء الشعر: امرؤ القيس.

وامرؤ القيس، هو على رأس شعراء الجاهلية في الذكر والشهرة، وعلى رأس أصحاب "المعلقات السبع". وقد أوصله أهل الأخبار إلى "قيصر"، وجعلوا له معه حكايات ثم قبروه بـ "أنقرة" إلى جانب قبر ابنة بعض الملوك الروم1.

1 نزهة الجليس "2/ 147 وما بعدها"، السيوطي شرح "21"، الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، "بولاق"، الخزانة "3/ 632".

ص: 85

وختموا حياته بخاتمة مؤلمة مفجعة، وقالوا إنه عرف بـ "ذي القروح"، لأن ملك الروم كساه حلة مسمومة فقرحته1، أو لقوله:

وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة

لعل منايانا تحوَّلن أبؤسا2

ويرى "بروكلمان" أن قصة موت "امرئ القيس"، بسبب الحلة المسمومة، أسطورة تشبه الأسطورة التي حصلت لهرقل البطل اليوناني الشهير3.

ودعوه بـ "الملك الضلِّيل"، و "الملك المضلل"4. وذكروا أنه سعى وجدّ لإعادة ملك والده، ولكنه باء بالفشل، وكان آخر ما فعله في هذا الباب، أن ذهب إلى "القسطنطينية" لمقابلة "قيصر" لإقناعه بمساعدته في الحصول على حقه، وتقويته لينتقم من قتلة والده، وليعيد الحكم إلى كندة، فكان مصيره أن جاءه الموت وهو في طريقه، على نحو ما تقصه علينا قصص أهل الأخبار.

وما قصة موته من قروح أصيب بها من لبسه الحلة المسمومة، إلا أسطورة. ويرى "بروكلمان" احتمال ظهورها من سوء فهم الأبيات 12-14 من القصيدة "30" من ديوانه. ولعل هذه القصة هي التي أوجدت له اللقب الذي لقب به، وهو "ذو القروح". وأنا لا أستبعد احتمال إصابته بدمامل أو بمرض جلدي آخر، قرحت جلده، ومات منها، فعرف لذلك بـ "ذي القروح"، وأوجدت له قصة الحلة المسمومة على نحو ما أوجدته مخيلة أهل الأخبار.

ويذكر أهل الأخبار أن "امرأ القيس" لما احتضر بأنقرة، نظر إلى قبر فسأل عنه، فقالوا قبر امرأة غريبة، فقال:

1 المستطرف "2/ 35"، سرح العيون، لابن نباتة "181"، "بولاق"، العمدة "1/ 41 وما بعدها، 97"، شرح القصائد العشر "7/ 46"، المؤتلف والمختلف، للآمدي "9 وما بعدها" قال الفرزدق:

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا

وأبو يزيد وذو القروح وجرول

ديوان الفرزدق "720 وما بعدها"، النقائض "200 وما بعدها".

3 شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، للشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي "ص5""طبعة دار الأندلس".

4 تاج العروس "7/ 412"، "ضلل"، الخزانة "1/ 160"، "بولاق".

ص: 86

أجارتنا إن الخطوب تنوب

وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنّا غريبان ههنا

وكل غريب للغريب نسيب

فإن تصلينا فالمودة بيننا

وإن تهجرينا فالغريب غريب

وورد في كتاب: مقاتل الفرسان لأبي عبيدة، أن صخر بن عمرو الشريد أخا الخنساء، قال لما أدركه الموت:

أجارتنا إن الخطوب تنوب

علينا وكل المخطئين مصيب

أجارتنا لست الغداة بظاعن

وإني مقيم ما أقام عسيب

ومات فدفن بقرب عسيب. فلعلهما تواردا1.

وتذكر قصة، أن "امرأ القيس" دخل مع القيصر الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال:

إني حلفت يمينا غير كاذبة

أنّك أقْلفُ إلا ما جنى القمر

إذا طعنت به مالت عمامته

كما تجمع تحت الفلكة الوبر

وتذكر القصة أن ابنة القيصر نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وطَبِنَ "الطمّاح بن قيس" الأسدي لهما، وكان حجر قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعا، فبعث إليه قيصر بحلة مسمومة، فتناثر لحمه وتفطر جسده. وكان يحمله "جابر بن حني" التغلبي، فذلك قوله:

فإما تريني في رحالة جابر

على حرج كالقر تخفق أكفاني

فيا رب مكروب كررت وراءه

وعان فككت الغلّ عنه ففداني

إذا المرء لم يحزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بحزّان2

ولم ينس "ابن الكلبي" ذكر آخر كلمة قالها شاعرنا حين حضرته الوفاة، فقال إنه قال:

1 السيوطي، شرح "715"، نزهة الجليس "2/ 147".

2 الشعر والشعراء "1/ 52 وما بعدها"، "الثقافة".

ص: 87

وطعنة مسحنفرة وجفنة متعنجرة تبقى غدا بأنقرة

فكان هذا آخر شيء تكلم به، ثم مات1.

ورويت كلماته الأخيرة على هذه الصورة:

رب خطبة مسحنفره

وطعنة مثعنجره

وجعبة متحيره

تدفن غدا بأنقره

كما روى شعره الذي قاله يخاطب قبرا لامرأة زعم أنها من بنات ملوك الروم، على هذا النحو:

أجارتنا إن المزار قريب

وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان ههنا

وكل غريب للغريب نسيب2

وهكذا نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في رواية هذه الأشعار التي صنعت على لسان الشاعر، لتكون مادة مقومة للقصة. وكان آخر ما صنعوه لإتمام القصة، أن أوجدوا له قبرا بأنقرة، اتخذوه إلى جانب قبر منفرد منعزل، هو قبر إحدى بنات ملك من ملوك الروم، أوصاهم به "امرؤ القيس" نفسه لما رأى دنو أجله. فكانت الخاتمة مؤلمة، وكان الاختيار موفقا جدا، فالقبر قبر امرأة، وكان صاحبنا متيما بحب النساء، وكانت المرأة بنتا لملك من ملوك الروم، فهي من طبقته، وتصلح أن تكون جارة له، وهو ابن ملك، وكان صديقا حميما لقيصر الروم، يدخل معه الحمام ويراه عاريا تماما، أقلف. فابنة ملك من ملوك الروم تصلح لأن تكون له جارة وصاحبة لهذا القبر، وهكذا قبروا الاثنين في قبرين متجاورين.

وقد زعموا أن امرأ القيس كان "مئناثا لا ذكر له، وغيورا شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنت وأدها، فلما رأى ذلك نساؤه غيبن أولادهن في أحياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن"3.

1 الشعر والشعراء "1/ 53"، "الثقافة"، نزهة الجليس "2/ 153".

2 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".

3 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".

ص: 88

وزعموا أنه كان مع جماله ووسامته وحسنه "مُفركًا لا تريده النساء إذا جربنه. وقال لامرأة تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت بريح كلب! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة. ولم تصبر عليه إلا امرأة من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها"1.

وتزعم قصة أن قيصر وجه معه جيشا، ليعاونه على استعادة ملكه، فوشى به رجل من "بني أسد" يقال له "الطماح"، فهمّ بقتله، وأرسل إليه في أثره بحلة مسمومة مع رجل، أدخله الحمام وكساه إياها بعد خروجه، فلما لبسها تنفط بدينه2. وزعم "الجاحظ" أنه "راسل بنت قيصر وأراد أن يختدعها عن نفسها، وبلغ ذلك قيصر وأراد أن يقتله، فتذمم من ذلك، وأمر بقميص فغمس في السم، وقال لامرئ القيس: البس هذا القميص فإني أحببت أن أوثرك به على نفسي لحسنه وبهائه فعمل السم في جسمه وكثرت فيه القروح فمات منها، فسمي ذا القروح. وقد كان قيل لقيصر قبل ذلك إنه هجاه، فعندها يقول:

ظلمت له نفسي بأن جئت راغبا

إليه وقد سيرت فيه القوافيا

فإن أك مظلوما فقدما ظلمته

وبالصاع يجزى مثل ما قد جزانيا3

قال علماء الشعر: كان "امرؤ القيس" ممن يتعهر في شعره4، وقد سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ. وله تشبيهات مستجادة، وإجادة في صفة الفرس، وفي الوصف5. "واجتمع عند "عبد الملك" أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرئ القيس:

1 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".

2 نزهة الجليس "2/ 152".

3 المحاسن والأضداد "143".

4 الشعر والشعراء "1/ 53"، "الثقافة".

5 الشعر والشعراء "1/ 54"، "الثقافة".

ص: 89

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتل1

وقال "أبو عبيدة معمر بن المثنى": "من فضله، أنه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة- فتبعوا أثره، وهو أول من شبّه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء الطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف"2.

وقال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس "قيد الأوابد" فتبعه الناس على ذلك.

وقال غيره: هو أول من شبه الثغر في لونه بشوك السيال فقال:

منابته مثل السدوس ولونه

كشوك السيال وهو عذب يفيص

فاتبعه الناس. وأول من قال: "فعادى عداء" فاتبعه الناس. وأول من شبه الحمار "بمقلاء الوليد" وهو عود القُلة و "بكرّ الأندري"، والكر: الحبل. وشبه الطلل "بوحي الزبور في العسيب". والفرس بتيس الحلب3.

وأورد له علماء الشعر أشياء ذكروا أنه انفرد بها ولم يتمكن أحد من مجاراته بها4، وعابوا عليه أشياء، دافع عنها بعض العلماء، وردوا العائبين عليها. ومما عابوه عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم النساء، وفجوره بالمتزوجات، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته5. وقد فضله "لبيد بن ربيعة" على جميع الشعراء، إذ قال: "أشعر الناس ذو القروح، يعني امرأ القيس".

وقد ذكر علماء الشعر أبيات شعر لامرئ القيس، قالوا إن غيره من الشعراء أخذوها أخذا، مع تغير بسيط وأدخلوها في شعرهم، أو أخذوا أكثر ألفاظها أو معانيها فأضافوا إلى شعرهم. ومن ذلك قول امرئ القيس:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

1 الشعر والشعراء "1/ 56"، "الثقافة"، ديوانه "13".

2 الشعر والشعراء "1/ 68"، "الثقافة".

3 الشعر والشعراء "1/ 72 وما بعدها"، "الثقافة".

4 الشعر والشعراء "1/ 73 وما بعدها"، "الثقافة".

5 الشعر والشعراء "1/ 50"، "الثقافة".

ص: 90

أخذه طرفة فقال:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد

ومثل قول امرئ القيس:

فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا

على ظهر محبوك السراة محنّب

أخذه زهير، فقال:

فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا

على ظهر محبوك ظماء مفاصله

إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها "ابن قتيبة" وغيره في مؤلفاتهم عن الشعر والشعراء1. إن صحت دلت على أن الشعراء الجاهليين كانوا يحفظون شعر من تقدم عليهم، وشعر المعاصرين لهم، وأنهم كانوا يتتبعونه ويستقصونه ليحفظوه، ولم يبالوا بعد ذلك إذا أخذوا شيئا من شعر غيرهم. وهذا يدل أيضا على أن الشعر الجاهلي كان محفوظا في الصدور، يحفظه الشعراء وغيرهم من عشاق الشعر، إلى أن جاء الإسلام فدون بالقراطيس.

يقول علماء الشعر لم يتقدم امرؤ القيس الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، أو لأنه كان أول من ابتدأ بالشعر ووضع جادته ومهد سبيله ووضحه لمن جاء بعده من الشعراء، لكنه سبق إلى أشياء طريفة فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها، لأنه كان أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه2. وقد ثمن "الباقلاني" شعره بقوله: "وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار والوقوف عليها إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والتميح الذي يوجد في شعره والتصرف

1 الشعر والشعراء "1/ 69 وما بعدها"، "الثقافة".

2 الشعر والشعراء "1/ 69 وما بعدها".

ص: 91

الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعلو ومتانة ورقة وأسباب تحمد وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء يوازنون بشعره فلانا وفلانا" ثم هو يؤاخذ الشاعر على عيوب ذكر أنها عوار في معلقته1.

ووضع أهل الأخبار "امرأ القيس" في رأس زمرة عشاق العرب والزناة. وذكروا له عشقه لـ "فاطمة بنت العُبيد بن ثعلبة" العذرية، وعشقه لـ "أم الحارث" الكلبية، وعشقه لـ "عنيزة"، وهي صاحبة يوم "دارة جلجل"2، ورووا له قصة طريفة حدثت له مع صاحبة يوم "دارة جلجل"، تبين كيف مكر بابنة عمه "عنيزة"، فأجبرها على أن تتجرد من لباسها، لينظر إليها وهي تخرج من الغدير مقبلة ومدبرة، حتى يمتع نظره برؤية جسدها العاري، ثم كيف نحر ناقته، وشوى لحمها، وأخذ يطعم به البنات، وكيف توسل إلى ابنة عمه "عنيزة" لتحمله على غارب بعيرها بعد أن ذبح ناقته وشوى لحمها ليتخذ ذلك حجة له في مشاركة "عنيزة" بعيرها. ثم تروي القصة، كيف أنه صار يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، ثم تنتهي القصة بذكر الشعر الذي قاله في هذه المناسبة. حيث يقول:

ويوم عقرت للعذارى مطيتي

فيا عجبا من رحلها المتحمل

يظل العذاري يرتمين بلحمها

وشحم كهدّاب الدمقس المفتل

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

ولا تبعدينا من جناك المعلل3

وراوي هذه القصة هو "محمد بن سلام"، سمعها كما يقول من "أبي شفقل" راوية "الفرزدق" الشاعر الشهير، وقد ذكر هذا الراوي أنه لم ير رجلا كان أروى لأحاديث امرئ القيس وأشعاره من الفرزدق، وذلك لأن "امرأ القيس"

1 إعجاز القرآن "74 وما بعدها".

2 الشعر والشعراء "1/ 64".

3 الشعر والشعراء "1/ 64"، الثقافة.

ص: 92

كان قد أقام في "بني دارم" رهط الفرزدق حينا، حين رأى من أبيه جفوة، فمن ثم أخذ "الفرزدق" علمه بأخبار "امرئ القيس" وأحاديثه وأشعاره1.

ويكثر "امرؤ القيس" من ذكر أسماء المواضع التي نزل بها، وقد أفادنا بذلك في معرفة تلك المواضع. وفي جملة ما ذكره موضع "الخص"، وقد اشتهر بالخمر. وهو قرية من أسفل الفرات:

كأن التجار أصعدوا بسبيئة

من الخص حتى أنزلوها على يسر2

وقوله:

لمن الديار عرفتها بسحام

فعمايتين فهضب ذي أقدام

فصفا الأطيط فصاحتين فعاسم

تمشي النعاج بها مع الآرام3

وقد ذكر عشرة مواضع من أرض البحرين بقوله:

غشيت ديار الحي بالبكرات

فعارمة فبرقة العيرات

فغول فحليت فنفي فمنعج

إلى عاقل فالجب ذي الأمرات4

وله أشعار أخرى كثر فيها ورود أسماء المواضع5.

ويذكر أن قوما من أهل اليمن أقبلوا يريدون النبي، فضلوا، ووقعوا على غير ماء، فمكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء، وأوشكوا على الهلاك، فأنشد أحدهم بيتين من شعر امرئ القيس، هما:

لما رأت أن الشريعة همها

وأن البياض من فرائصها دامي

تيممت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال أحدهم: ضارج عندكم، وأشار إليه فمشوا على الركب، فإذا ماء غدق،

1 الشعر والشعراء "1/ 64"، "الثقافة".

2 الصفة "129".

3 الصفة "151، 226".

4 الصفة "225".

5 الصفة "229 وما بعدها".

ص: 93

وإذا عليه العرمض، والظل يفيء عليه، فشربوا وحملوا ولولا ذلك لهلكوا1.

ولما بلغوا النبي، أخبروه خبرهم، فقال:"ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار"2.

وروي عن "عمر" قوله في "امرئ القيس": "سابق الشعراء، خسف لهم عين الشعر"3. ونجد لهذا الشاعر ذكرا في كتب الحديث4.

وذكر أن "امرأ القيس" أشار إلى "ابن مندلة""ملك العرب" بقوله:

فأقسمت لا أعطي مليكا ظلامة

ولا سوقة حتى يئوب ابن مندلة

وروي أن هذا البيت، هو لعمرو بن جوين5.

وتذكر قصة رواها "أبو الحسين" النسابة، أن "حجرا" والد امرئ القيس نهى ابنه عن قول الشعر، فلما لم ينته عنه، أمر أحد غلمانه أن يقتله ويأتيه بعينيه، فانطلق به الغلام، فاستودعه جبلا منيفا، وعلم أن أباه سيندم على قتله. وعمد الغلام إلى جؤذر كان عنده فنحره وامتلخ عينيه، فأتي بهما حجرا، فانفجر حجر من الغضب والندم، حتى هم بقتل الغلام، فأخبره الغلام، أنه لم يقتله، وأنه لا زال حيا، وأنه كان يعلم أن والده سيندم على قتله. فأمره عندئذ بالذهاب إليه، والعودة به إلى بيته، فأتاه به. وكف امرؤ القيس عن قول الشعر حتى قتل أبوه6. وهي قصة نجد أمثالها في أساطير الأمم الأخرى. وإلى هذه القصة أشار "امرؤ القيس" بقوله:

فلا تتركني يا ربيع لهذه

وكنت أراني قبلها بك واثقا

1 الشعر والشعراء "1/ 55"، "الثقافة".

2 الشعر والشعراء "1/ 67 وما بعدها"، "الثقافة".

3 الشعر والشعراء "168"، "الثقافة".

4 أحمد بن حنبل، مسند "2/ 228"، طبقات الشافعية، للسبكي "1/ 256"، "1964م".

5 تاج العروس "8/ 132"، "ندل".

6 شرح شواهد المغني، للسيوطي "21"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 98"، "دعا مولى له يقال له ربيعة"، الشعر والشعراء، "1/ 51"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 160 وما بعدها".

ص: 94

وتذكر رواية أخرى أن أباه نهاه بعد عودته إليه من قول الشعر، ثم إنه قال:

ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي

فبلغ ذلك أباه فطرده1.

والمشهور بين علماء الشعر، أن امرأ القيس إنما طرد، لأنه كان يقول الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فزجره أبوه ومنعه عن قوله، فلما لم ينته طرده. فكان يسير في أحياء العرب ومع أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام، فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فيصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمّون من أرض اليمن، فقال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر! ثم شرب سبعا، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه حتى يدرك ثأره. وهكذا صيروا "امرأ القيس" من الصعاليك، وجعلوه في عدادهم، فاتكا كثير الغزل والولوع بالنساء، يتنقل في أحياء العرب ويغير بهم، فيصف الأوثان، ويبكي على الدمن، ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك2.

ويرجع سند أكثر الروايات المتقدمة والتي بعدها إلى "ابن الكلبي"، ولابن الكلبي كتاب يتصل بامرئ القيس اسمه:"كتاب تسمية ما في شعر امرئ القيس من أسماء الرجال والنساء"3، وله روايات مدونة في الأغاني وفي كتب أدب أخرى عن هذا الشاعر وعن ملوك كندة، ويظهر أنه قد اصطنع قصص امرئ القيس، وأضاف على القصص شعرا، ليكون له سندا وتفسيرا، وقد يكون أخذ القصص من أفواه الأعراب والرواة الذين حرفوا تأريخ امرئ القيس ووالده وحوروه وحولوه على طريقتهم المألوفة إلى قصص وأساطير، تميل نفوسهم إلى الاستماع إليها، فنقلها عنهم كما سمعها. غير أن "ابن الكلبي"، كان كما

1 الشعر والشعراء "1/ 52"، "الثقافة".

2 نزهة الجليس "2/ 147 وما بعدها".

3 الفهرست "148".

ص: 95

نعلم من الوضاعين، وكان من العارفين بدروب الشعر، وكان أيضا مثل والده ممن يضع الشعر على ألسنة الناس.

وتذكر قصة "امرئ القيس" أنه انتقم من "بني أسد" قتلة والده، فقرت عيناه بأخذه الثأر منهم. وقد نظم ذلك في شعره1. وتذكر أنه خرج إليهم أول ما خرج مع بكر وتغلب، وهم الذين كانوامعه، فأدرك بين أسد ظهرا، فكثرت الجرحى والقتلى، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدا؛ قالوا: بلى، ولكنك رجل مشئوم، وانصرفوا عنه، فمشى هاربا لوجهه، حتى أمده "مرثد الخير بن ذي جدن" الحميري، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر رجالا من القبائل، ثم خرج فظفر ببني أسد، وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه إليه الجيوش، فتفرق من كان معه ونجا في عصبته، فكان ينزل على بعض العرب ويرحل حتى قدم على السموأل، ثم على قيصر، على نحو ما ذكرت.

وتذكر رواية أن "امرأ القيس" لما مر ببكر بن وائل طالبا منهم النصرة، سألهم عن شاعر محسن فيهم، فأتوه بعمرو بن قميئة الضبعي، وقد أسن، فأعجب به "امرؤ القيس" فأخذه معه، حتى ذهب إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، طالبا منه النجدة، فقال له: إني لست أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت، ولكني أسير معك إلى الملك قيصر، فهو أقوى مني على ما سألت، وكانت للحارث وفادة على الملك، فأوفده معه3. فالذي أخذ "امرأ القيس" إلى الروم هو "الحارث"، على هذه الرواية. والمعروف من الروايات الأخرى أن هذا الملك طالب "السموأل" بأسلحة "امرئ القيس" التي أودعها عنده، فلما أبى السموأل إلا إعطاءها إلى "آل امرئ القيس" الشرعيين وورثته، حاصره، وقتل ابنه، فضرب العرب بالسموأل المثل في الوفاء.

1 تأريخ ملوك العرب الأولية "ص126 وما بعدها".

2 الرافعي "3/ 195 وما بعدها".

3 الخزانة "3/ 613 وما بعدها"، "بولاق".

4 نزهة الجليس "2/ 151".

ص: 96

وكنية امرئ القيس "أبو يزيد"، ويقال:"أبو وهب"، ويقال:"أبو الحارث"، ويقال "أبو كبشة". وأما اسمه، فاختلف فيه، فقيل:"عدي"، وقيل "مليكة"، وقيل" حندج". وكان يقال له:"الملك الضلِّيل"، و"الضليل"، و "ذو القروح"1.

ويذكر أهل الأخبار أن "امرأ القيس" كان معناعريضا ينازع كل من قال إنه شاعر، فنازع "التوءم اليشكري"، "الحارث بن التوءم"2 فقال له:"إن كنت شاعرا فملط أنصاف ما أقول وأجزها". ونازع "عبيد بن الأبرص"3.

وإذا ما أخذنا بآراء بعض المستشرقين في سنة وفاة الشاعر "امرئ القيس" من أنها كانت بين السنة "530" والسنة "540" بعد الميلاد4، فيكون عصر أقدم شعر جاهلي وصل إلينا لا يزيد عمره على القرن السادس للميلاد، وأواخر القرن الخامس للميلاد. وهذا التقدير معقول يتناسب مع الأخبار المروية عن هذا الشاعر. روي أن رؤبة بن العجاج قال: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثتني عمتي. قالت: سألت امرأ القيس، ما معنى قولك: كرك لأمين على نابل؟ فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لؤاما وظُهارا، فما رأيت أسرع منه ولا أحسن، فشبهت به5. ولو أخذنا بهذه الرواية وصدقناها، فلن نتمكن من الارتفاع بها من حيث الزمن إلى أكثر من هذا التقدير.

وذكر أن "امرأ القيس" لما هرب من "المنذر بن ماء السماء" صار إلى جبلي طيء: أجأ وسلمى، فتزوج أم جندب. وصادف أن جاءه "علقمة بن عبدة التميمي"، فتذاكرا الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك، وقال علقمة: بل أنا أشعر منك! فتحاكما إلى أم جندب، فأخذ كل واحد منهما يقول شعرا وهي تسمع، وتعلق عليه، ففضلت أم جندب "علقمة" عليه، فغضب امرؤ القيس وطلقها، فخلف عليها علقمة، فسمي علقمة الفحل1.

1 السيوطي، شرح "21 وما بعدها".

2 "قتادة بن التوءم اليشكري، اللسان "6/ 213"، "مجس"، "لقي التوءم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة"، العمدة "1/ 202".

3 اللسان "6/ 214"، "مجس"، السيوطي، شرح "25"، العمدة "1/ 176"، "2/ 87".

4 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 265".

5 التنبيهات على أغلاط الرواة "4".

6 السيوطي، شرح شواهد "92 وما بعدها".

ص: 97

وجاء في كتاب "الشعر والشعراء": "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني. وهو الحارث الأكبر. والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى، ومما يشهد لهذا، أن "عمرو بن المسبح" الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في وفود العرب وهو ابن مائة وخمسين سنة وأسلم، وعمرو يومئد أرمى العرب. وهذا الذي ذكره امرؤ القيس"1.

و"عمرو بن المسبح""المسيح؟ " الطائي، هو الذي عناه "امرؤ القيس" بقوله:

رب رام من بني ثعلب

مخرج كفيه من ستره

وكان كما يزعم أهل الأخبار أرمى العرب يومئذ ومن فرسانهم المعروفين. ومن المعمرين. عمر على ما يقولون مائة وخمسين سنة، وجعلوه ممن أدرك أيام الرسول، بل زعموا أنه وفد عليه فأسلم. وجعل بعض أهل الأخبار وفاته في خلافة "عثمان". وتوقف "ابن قتيبة" في "المعارف"، فقال:"لا يدرى أقبض قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعده""ولست أدري أقبض قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أم بعده"3.

وذكروا أنه هو القائل:

لقد عمرت حتى شف عمري

على عمرو بن علة وابن وهب4

ولا يعقل خبر بقاء "عمر بن المسبح" الطائي إلى أيام النبي، ولا سيما خبر

1 الشعر والشعراء "50 وما بعدها"، "1/ 66"، "الثقافة".

2 الإصابة "3/ 17"، "رقم 5964"، ابن دريد، الاشتقاق "232"، المعمرون "86"، الشعر والشعراء "1/ 67"، "الثقافة"، الاستيعاب "2/ 513"، "حاشية على الإصابة".

3 المعارف "314".

4 الإصابة "3/ 17"، "رقم 5964".

ص: 98

من جعل موته في خلافة عثمان ولعل شخصا كان اسمه مثل هذا الإسم، فاشتبه أمره على الرواة، فظنوه صاحب امرئ القيس. ولو كان هو صاحبه لما سكت عشاق الشعر والباحثون عن شعر صاحبه عنه، ولوجدنا له خبرا مع الرسول أو عمر عن حياة امرئ القيس.

وقد أشير إلى "البريد" في شعر "امرئ القيس"، إذ ذكر أنه نادم "قيصر" وأركبه البريد:

ونادمت قيصر في ملكه

فأوجهني وركبت البريدا

إذا ما ازدحمنا على سكة

سبقت الفرانق سبقا بعيدا1

وكانت البرد منظومة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة، وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وآبائه، وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى مشكاب، وإلى المنذر بن ساوى، وكذلك كانت برده إلى عمان، إلى الجلندى بن المستكبر، فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام، فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان إلى الروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم2.

ويرجع الفضل في تخليد شعر "امرئ القيس" إلى "حماد" الراوية، وإلى "أبي عمرو بن العلاء"3. وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول:"فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة"4. وإلى "الفرزدق" الذي كان من أروى الناس لأحاديثه وأشعاره5، وإلى "ابن الكلبي" الذي نجد عنه نقولا في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، تخص "امرأ القيس"6، وفي كتاب الأغاني، وهو من أهم الأخباريين الراوين لأخبار كندة.

1 ديوان "262"، رسائل الجاحظ "1/ 275، 290 وما بعدها"، "كتاب البغال".

2 رسائل الجاحظ "1/ 291 وما بعدها"، "كتاب البغال".

3 المزهر "2/ 253"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 99".

4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 142".

5 الشعر والشعراء "1/ 64"، "الثقافة".

6 الشعر والشعراء "1/ 53، 59، 67، 68".

ص: 99

وذكر "الرياشي" أن كثيرا من الشعر الوارد في ديوان امرئ القيس، هو منحول عليه، وهو لجماعة من أصحابه، مثل عمرو بن قميئة1. وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعرا بين طويل وقطعة2. وقد عني علماء الشعر والأخبار بجمع أشعاره في ديوان، فجمعه غير واحد منهم، وشرحه كثيرون، وطبع جملة طبعات، وترجم إلى مختلف اللغات3.

وقد اختلف رواة الشعر في ضبط عدد أبيات معلقة امرئ القيس كما اختلفوا في تقديم وتأخير الأبيات، "وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة"4. وذكر "البغدادي": أن قصيدة امرئ القيس التي مطلعها:

ألاعم صباحا أيها الطلل البالي

هي من عيون شعره، وعدتها ستة وخمسون بيتا، وأكثرها وقعت شواهد في كتب المؤلفين، وفي كتب النحو والمعاني5.

"وكان امرؤ القيس يروي شعر أبي دؤاد الإيادي ويتوكأ عليه. وهو فحل قديم كان أحد نعّات الخيل المجيدين". "ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول، فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك، حتى لا يخلو أكثر شعره من هذاالوصف"6.

وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، والشنفرى، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرًّا، والتوءم اليشكري.

1 الموشح للمرزباني "34"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 99".

2 العمدة "1/ 67"، الرافعي "3/ 203".

3 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 100 وما بعدها"، ودائرة المعارف الإسلامية.

4 الرافعي "3/ 199".

5 الخزانة "1/ 28"، "بولاق".

6 الرافعي "3/ 204".

ص: 100

وزعم أن "التوءم" اليشكري لقي "امرأ القيس" يوما فقال له: إن كنت شاعرا كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها: قال: نعم: فقال امرؤ القيس:

أحار ترى بريقا هب وهنا

فقال التوءم:

كنار مجوس تستعر استعارا

واستمرا على ذلك. ولما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في أيامه من يطاوله، آلى أن لا ينازع الشعر أحدا أبدا1.

ونجد للباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" آراء في بعض أشعار "امرئ القيس"، حيث ينتقد بعض الأبيات ويبين ما فيها من عيوب2. وكما نجد في كتب "النقد" آراء في شعره، وهي بين مستحسن ومستهجن لبعض الأبيات أو القصائد. "ومن الخصائص العروضية في شعره كثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الإقواء في القافية، وكثرة التصريع في غير أول القصيدة"3.

وللقدماء ملاحظات عن شعر "امرئ القيس"، وقد شك بعض منهم في كثير من شعره وذهبوا إلى أنه من الموضوعات، وقد أشاروا إليه، ثم جاء المستشرقون، فركنوا إلى ما قاله القدماء عنه، وأبدوا رأيهم فيه. وتحدث المحدثون من العرب عنه، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، حيث أنكر شعره لحجج أوردها في كتابه في الأدب الجاهلي4.

وعاش في أيام "امرئ القيس" شاعر آخر عرف أيضا بامرئ القيس، هو "امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل بن أبي زهير بن جناب بن هبل"5.

و"طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك"، من قيس بن ثعلبة. وهو ابن أخي "المرقش الصغير"، وكان من المقربين إلى "عمرو بن هند" ملك

1 الرافعي "3/ 288".

2 الباقلاني، إعجاز القرآن.

3 بروكلمان "1/ 99".

4 راجع أيضا شوقي ضيف: العصر الجاهلي "ص248 وما بعدها".

5 السيوطي، شرح شواهد "1/ 26".

ص: 101

الحيرة، ومن المنادمين لأخيه "أبو قابوس". وهو ابن أخت "جرير بن عبد المسيح" المعروف بـ "المتلمس". وقد قال الشعر وهو صغير السن، ومات أبوه وهو وصغير، وأكل أعمامه ماله، وأبوا تقسيمه، فهجاهم، واشتهر بمعلقته التي عاتب فيها ابن عمه "مالكا" لأنه لم يعن أخاه "معبدا" في جمع شتات إبله. وقد قتل بالبحرين على ما يذكره أهل الأخبار في قصص متضارب، اختلف في سبكة الرواة1.

واسم "طرفة" عمرو، وإنما سمي طرفة لقوله:

لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا

ولا أميريكما بالدار إذ وقفا

وقيل إن كنيته "أبو عمرو"2. وقد فضل بعض علماء الشعر شعره على شعر سائر الشعراء الجاهليين3.

وكان "طرفة" أحدث الشعراء سنا وأقلهم عمرا، قتل وهو ابن عشرين سنة. فيقال له "ابن العشرين". وقيل بضع وعشرين سنة. وأمه"وردة" من رهط أبيه، وفيها يقول لأخواله وقد ظلموها حقها، بأن يعطوها حقها:

ما تنظرون بمال وردة فيكم

صغر البنون ورهط وردة غيب4

ويقال إن أول شعر قاله "طرفة" أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخا، فلما أراد الرحيل قال:

يا لك من قبرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ماشئت أن تنقري

قد رفع الفخ فماذا تحذري

لا بد يوما أن تصادي فاصبري5

1 الخزانة "1/ 413""بولاق"، الأغاني "21/ 185"، الموشح "57"، المرزباني، معجم "201"، طبقات ابن سلام "115"، الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها"، الخزانة "2/ 805"، المزهر "2/ 441".

3 المصدر نفسه.

4 الأبيات في ديوانه "11"، الشعر والشعراء "1/ 119"، "الثقافة".

5 الشعر والشعراء "1/ 120"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 417".

ص: 102

وروي أن أخته رثته بقولها:

عددنا له ستًّا وعشرين حجة

فلما توفاها استوى سيدا ضخما

فجعنا به لما رجونا إيابه

على خير حال لا وليدا ولا قحما1

ورغم قلة ما نسب إلى "طرفة" من الشعر، فقد قدمه علماء الشعر على غيره من الشعراء بأن جعلوا ترتيبه بعد امرئ القيس، ولهذا ثنوا بمعلقته. ذكر "ابن قتيبة" أنه أجود الشعراء قصيدة2. وقد ذكر "ابن سلام" أن معظم شعر "طرفة" قد ضاع حتى لم يبق منه بأيدي المصححين لشعره إلا بقدر عشر قصائد، مع أنه كان من أقدم الفحول، وقد حمل عليه كثير من الشعر3.

وكان في حسب من قومه، جريئا على هجائهم وهجاء غيرهم. وكانت أخته عند "عبد عمرو بن بشر بن مرثد"، كان "عبد عمرو" سيد أهل زمانه، فشكت أخت طرفة شيئا من أمر زوجها إليه، فقال:

ولا عيب فيه غير أن له غنى

وأن له كشحا إذا قام أهضما

وأن نساء الحي يعكفن حوله

يقلن عسيب من سرارة ملهما

فبلغ عمرو بن هند الشعر، فأبلغه إلى "عبد عمرو" وهو معه في صيد، فقال "عبد عمرو":أبيت اللعن، الذي قال فيك أشد مما قال في، قال: وقد بلغ من أمره هذا؟ قال نعم. فأرسل إليه، وكتب له إلى عامله بالبحرين فقتله. في قصة منمقة مدونة في أكثر كتب الأدب والأخبار. وقد تعرضت لها في مكان آخر من هذاالكتاب. ويقال إن الذي قتله "المعلى بن حنش العبدي"، والذي تولى قتله بيده "معاوية بن مرة الأيفلي"، حي من طسم وجديس4. وقيل "الربيع بن حوثرة" عامله على البحرين5. وقيل إن قاتله: "عبد هند

1 الخزانة "1/ 416".

2 الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها"، الخزانة "2/ 419"، "هارون".

3 طبقات "23".

4 الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها".

5 الشعر والشعراء "1/ 121"، الخزانة "2/ 421 وما بعدها"، "هارون"، الأغاني "21/ 125"، نوادر المخطوطات "المجموعة السادسة""ص212 وما بعدها".

ص: 103

ابن جرد بن جري بن جروة بن عمير" التغلبي، عامل "عمرو بن هند" على البحرين. وأن "عمرو بن هند"، كان قد جعل "طرفة" و"المتلمس" في صحابة "قابوس" أخيه، فكان "قابوس" يتصيد يوما، ويشرب يوما، فكان إذا خرج إلى الصيد خرجا معه، فنصبا وركضا يومهما، فإذا كان يوم لهوه وقفا على بابه يومهما كله، فلما طال ذلك عليهما، هجا طرفة "عمرو بن هند" وأخاه، فبلغ الهجاء الملك، فقرر قتلهما1. وورد أن "عمرو بن هند"، كان قد رشح أخاه "قابوس بن المنذر" ليملك بعده، وأنه جعل "طرفة" و "الملتمس" في صحابة "قابوس" وأمرهما بلزومه، فكان قابوس شابا يعجبه اللهو، وكان يركب للصيد، فيركض يتصيد، وهما معه يركضان حتى يرجعا عشية وقد تعبا، فيكون قابوس من الغداة في الشراب فيقفان بباب سرادقه إلى العشي، فضجرا منه فهجواه وهجوا عمرا معه، فبلغ ذلك الهجاء "عمرا" ففعل بهما ما فعل2.

ويقال إن "طرفة" كان ينادم يوما "عمرو بن هند"، فأشرفت ذات يوم أخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده، فقال:

ألا يا بأبي الظبي

الذي يبرق شنفاه

ولولا الملك القاعد

قد ألثمني فاه

فحقد ذلك عليه، وكان قال أيضا:

وليت لنا مكان الملك عمرو

رغوثا حول قبتنا تدور

لعمرك إن قابوس بن هند

ليخلط ملكه نوك كثير

وقابوس هو أخو "عمرو بن هند". وكان فيه لين. ويسمى قينة العرس. فحقد "عمرو بن هند" عليه واستدعاه، وكتب له كتابا، وكتب بمثل ذلك "للملتمس"، وشكَّ المتلمس في أمر الصحيفة، ومزقها، ومضى "طرفة" إلى البحرين، فأخذه "الربيع بن حوثرة" فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فقبره بالبحرين. وكان لطرفة أخ يقال له "معبد بن العبد"، فطلب

1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص112 وما بعدها".

2 الخزانة "1/ 412 وما بعدها".

ص: 104

بديته، فأخذها من الحواثر1.

ويرى "بروكلمان" أن "طرفة" لم ينادم أبا قابوس، وإنما نادم "عمرو بن مامة" أخا الملك من أبيه، باليمامة. وكان قد التجأ إلى "مراد" من عداوة أخيه. فعاقب الملك "طرفة" بأخذ إبله التي تركها في "تبالة" من ديار "لخم"، فهجاه طرفة2. وقد ذكر "المرتضى" رواية تذكر أن صاحب المتلمس وطرفة هو "النعمان بن المنذر"، وذلك أشبه بقول طرفة:

أبا منذر كانت غرورا صحيفتي

ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وأبو منذر، هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان3.

وذكر أن عائشة سئلت: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا، إلا لبيت طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. فقال أبو بكر: ليس هكذا. فقال: إني لست بشاعر، ولاينبغي لي"4.

وينسب إلى طرفة قوله:

عفا من آل ليلي السهـ

ـب فالأملاح فالغمر

فعرق فالرماح فالـ

ـلوىمن أهله قفر

وأبلي إلى الغرا

ء فالماوان فالحجر

1 الشعر والشعراء "1/ 121""الثقافة"، "فليت"، الخزانة "1/ 412 وما بعدها".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 92".

3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 804 وما بعدها".

ص: 105

فأمواه الدنافالنجـ

ـد فالصحراء فالنسر

فلاة ترتعيهاالعيـ

ـن فالظلمان فالعفر

وينسب للخرنق أيضا1.

ويقدم علماء الشعر "طرفة" على غيره من الشعراء، بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه2. وقد جعله "لبيد" بعد "امرئ القيس" في الشعر، وقال عنه "أبو عبيدة": "طرفة أجودهم واحدة، ولا يلحق بالبحور، يعني امرأ القيس وزهيرا والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل".

وقد ذكر علماء الشعر أبياتا جيدة لطرفة سبق بها غيره من الشعراء، فأخذهاعنه الشعراء وضمنوها أو ضمنوا معناها شعرهم. وممن اقتبس منه:"لبيد" و "الطرماح" و "عدي بن زيد" العبادي، وعبد الله بن نهيك بن إساف الأنصاري وغيرهم3.

وتعد "معلقة""طرفة" أطول المعلقات أبياتا، فهي تتألف من "105" أبيات في شرح القصائد العشر للزوزني4، وقد يزيد عليها بيت أو أكثر في بعض الروايات5. وتنتهي المعلقة بذكر الموت، وبالنصح، وبأن الأيام معارة فما استطعت من معروفها فتزود به، ثم ختمها بقوله:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

وهي حكم، لا تصدر في العادة إلا من شيخ شارف على الموت ومن حكيم عرك الأيام، ومن رجل خبير مجرب. والقصيدة نفسها من نفس رجل، يجب أن يكون قد خبر الحياة، ومارس الشعر زمنا، فهل تكون من نظم شاب هو ابن عشرين سنة، أو بضع وعشرين؟

1 الصفة "225".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 92".

3 الشعر والشعراء "1/ 121"، "الثقافة".

4 "ص133 وما بعدها".

5 نزهة الجليس "2/ 158 وما بعدها".

ص: 106

وفي معلقة "طرفة" أبيات تشير إلى وقوفه على سفن الفرات ودجلة والبحر، إذ يقول فيها1:

كأن حدوج المالكية غدوة

خلايا سفين بالنواصف من دد

عدولية أو من سفين ابن يامن

يجور بها الملاح طورا ويهتدي

يشق حباب الماء حيزومها بها

كما قسم الترب المفائل باليد

ويقول فيها أيضا2:

وأتلع نهاض إذا صعدت به

كسكان بوصي بدجلة مصعد

وزهير بن أبي سلمى، من هذا الرعيل الذي عدت إحدى قصائده من المعلقات. وكان على ما يقال راوية لأوس بن حجر زوج أمه، وكان أوس راوية للطفيل الغنوي، وهو والد "كعب بن زهير" الشاعر الشهير الذي كساه الرسول بردة له، بعد أن كان قد أمر بقتله لما بلغه من هجائه له. فلما سمع "كعب" بذلك جاء إلى المدينة فأسلم، وطلب العفو، وقال قصيدته الشهيرة بحضرة الرسول فعفى عنه وأعطاه البردة. أما والده "زهير"، فقد توفي قبل المبعث، ولا صحة لما ذكره البعض من أنه لقي الرسول3. وقد كان يكنى بـ "أبي بجير"4. وأتى "بجير" النبي وأسلم. وقد زعم أنه رأي رؤيا في منامه، أن سببا تدلى من السماء إلى الأرض وكان الناس يمسكونه، فأوله بنبي أخر الزمان، وأن مدته لا تصل إلى زمن بعثه، وأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره. ثم توفي قبل المبعث بسنة5.

وهو "زهير بن أبي سلمى"، واسم "أبي سُلمى" ربيعة بن رياح المزني، من مزينة بن أد بن طابخة، وكانت محلتهم في بلاد "غطفان"، فظن الناس أنه من غطفان. وقد ذهب "ابن قتيبة" إلى أنه من "غطفان" ورد على

1 المعلقة، البيت "3، 5".

2 المعلقة، البيت "28".

3 الأغاني "9/ 150"، الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413"، الخزانة "1/ 436 وما بعدها".

4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 131".

5 الخزانة "2/ 325 وما بعدها".

ص: 107

من زعم أنه من مزينة1. وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول، المتقدمين على سائر الشعراء بالاتفاق، وإنما اختلف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني2. ويقال إنه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير3. وكان والد "زهير "شاعرا، وأخته "سلمى" شاعرة، وأخته "الخنساء" شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين وابن ابنه "المضرب بن كعب" شاعرا4، وقد عرف بأمه، وكان أخوه: "بشامة بن الغدير" شاعرا، كثير الشعر5.

ويظهر من شعر ينسب إليه أنه عاش أكثر من مائة سنة، إذ نراه يتأفف من هذه الحياة، ومن مشقاتها، حتى سئم منها، إذ يقول:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

ويقول:

بدا لي أن الله حق فزادني

إلى الحق تقوى الله ما كان باديا

بدا لي أني عشت تسعين حجة

تباعا وعشرا عشتها وثمانيا

أو:

ألم ترني عمرت تسعين حجة

وعشرا تباعا عشتها وثمانيا6

ويظهر أن بيت بدا لي أن الله حق فزادني، وما بعده من الشعر المنحول عليه، ولم يرد في رواية أبي العلاء، والأصمعي، والمفضل الضبي، والسكري7.

1 الخزانة "2/ 332"، "هارون"، "والناس ينسبونه إلى مزينة، وإنما نسبه في غطفان"، الشعر والشعراء "1/ 76"، الأغاني "9/ 146".

2 الخزانة "2/ 332 وما بعدها".

3 الشعر والشعراء "1/ 76".

4 الخزانة "2/ 333".

5 من نسب إلى أمه من الشعراء، نوادر المخطوطات، "المجموعة الأولى"، "ص91".

6 رسالة الغفران "182 وما بعدها".

7 رسالة الغفران "182 رقم 1".

ص: 108

وفي شعر زهير، زهد ووعظ وتهذيب، حمل بعض الباحثين على اعتباره نصرانيا، ويشك "بروكلمان" في ذلك، إذ يرى أن أثر النصرانية وإن كان واسع الانتشار في جزيرة العرب في ذلك الوقت، بيد أنه لا توجد لدينا أدلة تحملنا على جعله نصرانيا1. وقد ذكر علماء الشعر أن "زهيرا" كان يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث وذلك قوله:

يؤخر فيودع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم2

ومن جيد شعره في تحديد اليمين قوله:

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء3

وقد ثمن شعره وقدره العلماء. قال "الثعالبي" فيه: "إنه أجمع الشعراء للكثير من المعاني في القليل من الألفاظ"4. وفي معلقته أبيات في نهاية الحسن والجودة، وقد جرت مجرى الأمثال الرائعة5.

وورد أن "عمر بن الخطاب" كان لا يُقدّم عليه أحدا. وذكر أن "عمر" قال لابن عباس: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. قيل بم كان ذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل بما لا يكون في الرجال. قال: فأنشدته حتى برق الصبح. وورد أن عمر كان جالسا "مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل ابن عباس، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بالشعر، فلما جلس قال: يا ابن عباس، من أشعر العرب؟ قال: زهير بن أبي سلمى. قال فهل تنشد من قوله شيئا نستدل به على ما قلت، قال: نعم، امتدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال:

1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 95".

2 الشعر والشعراء "1/ 78"، "الثقافة".

3 الشعر والشعراء "1/ 79"، "الثقافة".

4 خاص الخاص "75"، الإعجاز والإيجاز "37".

5 كارلو نالينو "77".

ص: 109

لو كان يقعد فوق الشمس من أحد

قوم لأولهم يوما إذا قعدوا

محسَّدُون على ما كان من نعم

لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا1

وورد في رواية أخرى، أن "عمر" قال لابن عباس:"أنشدني لشاعر الشعراء، الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير"2.

وكان زهير أستاذ الحطيئة. وسئل عنه "الحطيئة" فقال: ما رأيت مثله في تكفّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها، حيث شاء، من اختلاف معانيها، امتداحا وذما. قيل له: ثم من؟ قال: ما أدري، إلا أن تراني مسلنطحا واضعا إحدى رجلي على الأخرى رافعا عقيرتي أعوي في أثر القوافي.

قال أبو عبيدة: يقول من فضل زهيرا على جميع الشعراء: إنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعر. قال وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الفرزدق يشبه بزهير. وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشبههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا به مذهب المطبوعين. قال: وكان زهير يسمي كُبْرَ قصائده الحوليات.

وكان جيد شعره في هرم بن سنان المري. وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم: "أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل! فقال عمر رضي الله عنه ذهب ما أعطيمتوه وبقي ما أعطاكم3" وقد عيب على "زهير" لأخذه عطايا "هرم بن سنان"، إذ عد أهل الأخبار ذلك نوعا من التكسب بالشعر، وهو مرذول عند العرب4.

وقد قدمه "الأخطل" كذلك، وقال "ابن الأعرابي": "كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعرا وهو شاعر وخاله شاعر وأخته

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 131 وما بعدها" الشعر والشعراء "1/ 76".

2 الشعر والشعراء "1/ 81"، "الثقافة".

3 الشعر والشعراء "1/ 81 وما بعدها"، "الثقافة".

4 العمدة "1/ 49".

ص: 110

سلمى شعرة، وابناه كعب وبجير شاعران، وأخته الخنساء شاعرة"1. "ومن قدّم زهيرا قال: كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم امتثالا في شعره"2. وقيل إن أمدح بيت قالته العرب، هو بيت زهير:

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ولزهير قصيدة أولها:

ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى

من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا

يقال إنه قالها لما طلب "كسرى" النعمان بن المنذر، ففر فأتى طيًّا، فسألهم أن يدخلوه جبلهم، فأبوا فلقيه بنو رواحة من عبس، فقالوا له: أقم فينا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فقال: لا طاقة لكم بكسرى، وأثنى عليهم خيرا. وورد أن "الأصمعي" أنكر كون هذه القصيدة لزهير. ونسبها بعضهم "لصرمة بن أبي أنس الأنصاري"، وهي لا تشبه كلام زهير4.

ولزهير شعر سبق به غيره، فأخذه الشعراء منه وضمنوه شعرهم. وقد ذكر العلماء أمثلة على ذلك5. "ويروى أن لزهير سبع قصائد نظم كلا منها في عام كامل، ومن ثم سميت: الحوليات"6.

ومن أولاد زهير بن أبي سلمى، كعب وبجير. وكان "بجير" قد أسلم قبل "كعب". فبلغ ذلك كعبا، فقال شعرا تعرض فيه للرسول فهدر الرسول دمه" فكتب "بجير" إليه شعرا يخوفه فيه ويدعوه إلى الإسلام، فجاء وأسلم7.

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 133".

2 المصدر نفسه "1/ 132".

3 الشعر والشعراء "1/ 77".

4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 282 وما بعدها"، ديوان زهير "283 وما بعدها"، الخزانة "2/ 588 وما بعدها"، "بولاق".

5 الشعر والشعراء "1/ 83 وما بعدها"، "الثقافة".

6 الخصائص، لابن جني "1/ 330"، بروكلمان "1/ 95".

7 السيوطي، شرح شواهد "2/ 524"، العمدة "1/ 165"، ابن هشام، سيرة "3/ 26"، الروض الأنف "2/ 305".

ص: 111

و "لكعب" ولد يقال له "المضرب بن كعب". كان شاعرا1، واسمه:"عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى" لقب بالمضرب، لأنه شبب بامرأة من بني أسد، فضرب، فسمي المضرب. روى له الشريف "المرتضى" شعرا2.

وكانت لزهير بنت كانت شاعرة كذلك. ذكر أن بنت زهير دخلت على "عائشة"، وعندها بنت "هرم بن سنان"، فسألت بنت هرم: بنت زهير من أنت؟ قالت: أنا بنت زهير. قال: أوَمَا أعطى أبي أباك ما أغناكم؟ قالت: إن أباك أعطى أبي ما فني، وإن أبي أعطى أباك ما بقي، وأنشدت بنت زهير:

وإنك إن أعطيتني فمن الغنى

حمدت الذي أعطيت من ثمن الشكر

وإن يفن ما تعطيه في اليوم أو غد

فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر3

والشاعر "لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب" العامري، ويكنى "أبا عقيل"، وهو من أشراف قومه في الجاهلية والإسلام، وكان سخيا من أسرة معروفة. وكان في شبابه من فرسان زمانه، وقد شارك قبيلته في غاراتها على أعدائها، وذب عنها بسيفه وبقلمه. وهو من الشعراء المترفعين الذين ترفعواعن مدح الناس لنيل جوائزهم وصلاتهم كما كان من الشعراء المتقدمين في الشعر4.

وقد عرف والده بـ "ربيعة المقترين"، "أو "ربيع المقترين"، لسخائه، وقد ذكره "لبيد" ابنه في شعره بقوله:

ولا من ربيع المقترين رزئته

بذي علق فاقني حياءك واصبري

وتحدث عن كرمه، فقال:

وأبي الذي كان الأرا

مل في الشتاء له قطينا5

1 الخزانة "2/ 333"، المؤتلف "281".

2 أمالي المرتضى "1/ 458".

3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 754 وما بعدها".

4 الخزانة "2/ 246"، "هارون"، "1/ 337"، "بولاق".

5 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "17"، "شرح الدكتور إحسان عباس"، "الكويت 1962".

ص: 112

وقد قتل والده وهو صغير السن، فتكفل أعمامه بتربيته. ويرى "بروكلمان" احتمال مجيء "لبيد" إلى هذه الدنيا في حوالي سنة "560م". أما وفاته، فكانت سنة أربعين، وقيل إحدى وأربعين، لما دخل معاوية الكوفة إذ صالح "الحسن بن علي" ونزل "النخيلة"، وقيل إنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة عثمان، وقد رجح "ابن عبد البر" هذه الرواية، وورد أنه توفي سنة نيف وستين1.

وقد عرفت أم "ربيعة بن مالك"، أي والد "لبيد" بـ "أم البنين"، وهي بنت "عمرو بن عامر بن صعصعة"، وكانت تحت "مالك بن جعفر بن كلاب"، فولدت له منه "عامر بن مالك" مُلاعب الأسنة، و"طفيل بن مالك" فارس قُرزل، وهو أبو "عامر بن الطفيل"، و"ربيعة بن مالك" أبا لبيد، وهو ربيع المقترين، و "معاوية بن مالك" معود الحكام "معود الحكماء"، وإنما سمي "معود الحكام" "معود الحكماء" بقوله:

أعود مثلها الحكام بعدي

إذا ما الحق في الأشياع نابا2

وقيل إنه لما مات دفن في صحراء "بني جعفر بن كلاب" رهطه، وأنه لما قدم الكوفة وأقام بها، رجع بنوه إلى البادية أعرابا3. وروي في خبر أنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة "عثمان"، فبعث "الوليد" إلى منزله عشرين جزورا فنحرت عنه. وقد رجح "ابن عبد البر"، هذه الرواية. وورد في رواية أخرى أنه توفي في عهد "زياد" وفي خلافة معاوية4.

وقد ذكر من ترجم حياته أنه كان فارسا شجاعا سخيًّا، وقد جعله "ابن قتيبة"

1 الاستيعاب "3/ 307"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 152 وما بعدها".

2 أمالي المرتضى "1/ 193".

أعود مثلها الحكماء بعدي

إذا ما الحق في الحدثان نابا

اللسان "14/ 399"، "سما"، وورد "معوذ الحكماء"، بالذال المعجمة، تاج العروس "2/ 440"، "عود".

3 المعارف "332".

4 الاستيعاب "3/ 309"، "هامش على الإصابة"، الإصابة "3/ 308"، "رقم 7543".

ص: 113

في جملة المائة فارس الذين وجههم "الحارث بن أبي شمر" الغساني، وهو "الأعرج" إلى "المنذر بن ماء السماء" لقتله، فلما صاروا إلى معسكر "المنذر"، أظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه، فقتل أكثرهم، ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان فأخبره الخبر. فحمل الغسانيون على عسكر "المنذر" فهزموهم، وهو يوم "حليمة". وقد ذكر "ابن قتيبة" في كتابه "الشعر والشعراء" أن "الحارث" كان قد أمر "الوليد" على المائة فارس1، وذكر في كتابه "المعارف"، أنه كان غلاما إذ ذاك2. وقد وقعت معركة "يوم حليمة" سنة "554م"، فيجب أن يكون مولد "لبيد" قبل هذا العهد. ولو أخذنا برأي أهل الأخبار القائل إنه عاش فوق المائة، وأنه كان يوم توفي ابن مائة وثلاثين سنة، أو مائة وأربعين، أو مائة وسبع وخمسين أو مائة وستين3، جاز لنا تصور اشتراك "لبيد" في ذلك اليوم، غلاما أو شابا. ولم يذكر "ابن قتيبة" كيف جاء "لبيد" إلى "الحارث"، وهو في هذا العمر، ولم اشترك مع من اشترك في اغتيال "المنذر". ولكننا نجد "الميداني"، يسمي لبيدا الذي اشترك في اغتيال المنذر "لبيد بن عمرو"4، أي شخصا آخر، وهي رواية أدعى إلى القبول من رواية "ابن قتيبة".

وتقول قصة يرويها أهل الأخبار عن سبب نظم لبيد لأرجوزته الشهيرة، التي أولها:

يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة

إذ لا تزال هامتي مقزعة

أن "لبيدا" كان غلاما آنذاك، وكان قد ذهب مع وفد "بني عامر" أبناء "أم البنين"، وعليه "أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، وقد وضعوه على رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها. وكان "النعمان" قد ضرب قبة على "أبي براء" وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، وكان

1 الشعر والشعراء "1/ 194"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 337"، "بولاق".

2 "فوجه إليهم مائة رجل، فيهم "لبيد" الشاعر، وهو غلام"، المعارف "642".

3 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، الاستيعاب "3/ 306 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

4 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 295 وما بعدها".

ص: 114

"الربيع بن زياد" العبسي ينادم النعمان ويتقدم على من سواه، وكان يدعى "الكامل"، وكان يعادي "بني جعفر"، فأوغر صدر "النعمان" عليهم، حتى صد عنهم ونزع القبة عن "أبي براء". فلما وقف "لبيد" على خبرهم، قال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك فأرجز به رجزا ممضا مؤلما، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ قالوا وهل عندك ذلك؟ قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة، فقال فيها قولا أعجبهم.

فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا له رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه "الربيع" ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفد. فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريِّين فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد: وقد دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة، على عادة الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم قال رجزه حتى إذا بلغ قوله:

مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه

إن استه من برص مُلمعه

وإنه يدخل فيها إصبعه

يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنه يطلب شيئا ضيّعه

نفر "النعمان" من "الربيع" ورمقه شزرا، وكره مجالسته لتأثير هذه الأبيات فيه، وأعاد القبة على "أبي براء"1.

وقد أيد "ابن رشيق" رواية من ذكر أن "لبيدا" كان غلاما يوم قال قصيدته المذكورة بقوله: "والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر" وكان فحاشا عيابا بذيًّا سبابا لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمي بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه"2. فجعل "لبيد" غلاما مراهقا.

ويروي أهل الأخبار خبرا يؤيد الخبر المتقدم. يقول خبرهم: "نظر النابغة

1 الفاخر "ص141 وما بعدها"، الأغاني "16/ 22"، نزهة الجليس "2/ 507 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 189 وما بعدها"، العمدة "1/ 27"، الخزانة "4/ 117"، مجالس ثعلب "449 وما بعدها".

2 العمدة "1/ 51".

ص: 115

إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنسب له. فقال له: يا غلام، إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئا؟ قال: نعم يا عم، قال: فأنشدني شيئا مما قلته، فأنشده قوله:"ألم تربع على الدمن الخوالي" فقال له: يا غلام أنت أشعر بني عامر. زدني يا بني، فأنشده: طلل لخولة بالرسيس قديم. فضرب بيديه إلى جبينه وقال: اذهب فأنت أشعر من قيس كلها: أو قال: هوازن كلها". ويقال: إنه أنشده: عفت الديار محلها فمقامها، فقال: اذهب فأنت أشعر العرب1.

وإذا أخذنا بالروايتين المذكورتين القائلتين إن "لبيدا" كان صبيا أو غلاما في أيام حكم الملك النعمان، وجب علينا افتراض أن ميلاده لم يكن بعيدا عن سنة "580" أو "581" أو "582م"، السنة التي تولى فيها "النعمان" الملك. ومعنى هذا أنه لم يعمر طويلا، وهو خلاف ما يذكره أهل الأخبار. وإن كل ما يمكن أن نتصوره من عمره، أنه كان في حوالي الثمانين حين داهمته منيته.

وقد جعل "بروكلمان" مولده حوالي السنة "560م"، وجعل وفاته سنة "40هـ". حوالي السنة "660م"، ومعنى هذا أنه كان من أبناء المائة حين جاء أجله2.

وللبيد شعر في "النعمان بن المنذر"، وصف فيه مجلسه. فذكر أنه كان قاعدا كعتيق الطير يُغضي ويُجل، والهبانيق قيام، بأيديهم الأباريق، تحسر الديباج عن أذرعهم، ينتظرون أمرا يصدره إليهم. وهو شعر مدون في ديوانه يعد من جيد شعره.

وله قصيدة في رثاء "النعمان"، وتعرض فيها للموت ولزوال النعيم، ولعدم دوام الدنيا لأحد، ثم تحدث عن النعمان وعن أعماله وتجارته ختمها بقوله:

وأمسى كأحلام النيام نعيمهم

وأي نعيم خلته لا يزايل

ترد عليهم ليلة أهلكتهم

وعام وعام يتبع العام قابل4

1 الأغاني "14/ 97"، شرح ديوان لبيد "21".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 145".

3 ديوان لبيد "195"، الشعر والشعراء "1/ 203"، "الثقافة".

4 القصيدة رقم "36" من الديوان، شرح ديوان لبيد "ص266"، الخزانة "1/ 339 وما بعدها"، "بولاق".

ص: 116

وقد ذكر فيها "الله" بقوله:

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

بلى كل ذي لب إلى الله واسل

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

وكل أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفر منها الأنامل

وكل امرئ يوما سيعلم سعيه

إذا كشفت عند الإله المحاصل1

وهي قصيدة أزيد من خمسين بيتا. وأولها:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل2

وروي أن لبيد أنشد النبي قوله:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فقال له صدقت، فقال: وكل نعيم لا محالة زائل

فقال له: كذبت، نعيم الآخرة لا يزول. وروي أن ذلك كان مع "أبي بكر"، وروي في خبر آخر أنه كان مع "عثمان بن مظعون"3.

وللبيد شعر يرثي به أخاه لأمه "أربد"، وكان قد أصابته صاعقة فقتل. وكان "أربد" أكبر منه سنا. وأبوه "قيس بن جزء بن خالد بن جعفر""أربد بن قيس بن مالك بن جعفر"4، وكان يعطف على "لبيد" كثيرا وعلى ذوي رحمه، فارسا كريما، فلما أصابته الصاعقة تألم "لبيد" مما ألم بأخيه كثيرا، فرثاه برجز وبقصيدة وقد وجدت في النسخة العربية لتأريخ الأدب العربي لبروكلمان هذا النص:"ولما استقام السلطان للنبي بالمدينة، سار لبيد يحمل رسالة إليه من عمه: أربد: فأعجبه دينه"5. وهو وهم فأربد هو أخوه لا عمه. قال

1 القصيدة رقم "36"، البيت "8" وما بعده.

2 الخزانة "2/ 252"، "هارون".

3 الخزانة "2/ 255 وما بعدها".

4 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر بن صعصعة"، الخزانة "2/ 250 وما بعدها".

5 بروكلمان "1/ 145".

ص: 117

الطبري: "وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه"1. وكان من خبره أنه قدم مع وفد "بني عامر بن صعصعة" على الرسول، وفيه "عامر بن الطفيل" وثلاثون من رءوس القوم وشياطينهم، وفي رأس "عامر" الغدر بالرسول، بأن يشاغله في الحديث، فيعلو "أربد" النبي بالسيف، فلم يتجاسر "أربد" على ضربه، ورجع الوفد إلى بلاده. فلما كان "عامر" ببعض الطريق أصيب بالطاعون فمات، ومات "أربد" بعد ذلك بقليل بالصاعقة2.

وذكر أن "عامر" لما مات نصبت "بنو عامر" نصابا ميلا في ميل حمى على قبره، لا تنتشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش، وكان "جبار بن سلمى بن عامر بن مال" غائبا، فلما قدم قال: ما هذه الأنصاب؟ قالوا نصبناها حمى على قبر "عامر"، فقال ضيقتم على أبي علي. إن أبا علي بان من الناس بثلاث. كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، وكان لا يضل حتى يضل النظم، وكان لا يجبن حتى يجبن السيل3.

وفي إصابة "أربد" بالصاعقة يقول "لبيد" يبكيه:

ما إن تعرى المنون من أحد

لا والد مشفق ولا ولد

أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السّماك والأسد

فجّعني الرعد والصواعق بالفارس

يوم الكريهة النجد4

وهي قصيدة دون أبياتها "ابن هشام"5.

وله قصيدة أخرى في رثاء "أربد" مطلعها:

ألا ذهب المحافظ والمحامي

ومانع ضيمها يوم الخصام

1 الطبرى "3/ 145"، ابن هشام، سيرة "2/ 372".

2 الطبرى "3/ 144 وما بعدها"، وروى "ابن سعد" خبر وفد "عامر بن صعصعة" بشكل آخر، ذكر أنه طلب من الرسول أن يجعل له ميزة على غيره إن أسلم، أو أن يجعل الأمر إليه من بعده فلما رفض الرسول ذلك، قال: لأملأنها عليك خيلا ورجالا، ابن سعد، الطبقات "1/ 310"، "وفد عامر بن صعصعة"، سيرة ابن هشام "2/ 337"، "حاشية على الروض الأنف"، "الروض الأنف "2/ 337".

3 الخزانة "1/ 474"، "بولاق".

4 الشعر والشعراء "198"، ابن هشام "2/ 338"، "حاشية على الروض الأنف"، تفسير الطبري "13/ 84 وما بعدها".

5 سيرة "2/ 338".

ص: 118

وقد رواها "ابن هشام"1. وقصائد أخرى عديدة2، تدل على شدة تأثره بوفاة "أربد".

وقد اختلفت الروايات في زمن إسلام "لبيد". قيل إنه أسلم سنة وفد قومه "بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" فأسلم3. وقيل إن "لبيد بن ربيعة" و "علقمة بن علاثة" كانا من المؤلفة قلوبهم4. وقيل إنه وفد على الرسول بعد وفاة أخيه "أربد" فأسلم5.

وتجمع روايات أهل الأخبار وعلماء الشعر على إقبال "لبيد" على الإسلام من كل قلبه، وعلى تمسكه بدينه تمسكا شديدا، ولا سيما حينما بدأ يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه وبقرب دنو أجله، ويظهر أن شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقت في أيامه، فابتعد عن السياسة وانزوى في بيته، وابتعد عن الخوض في الأحداث، ولهذا لا نجد في شعره شيئا، ولا فيما روي عنه من أخبار، أنه تحزب لأحد أو خاصم أحدا.

وروي أن "لبيدا" ترك الشعر في الإسلام وانصرف عنه. فلما كتب "عمر" إلى عامله "المغيرة بن شعبة" على الكوفة يقول له: "استنشد من قِبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام"، أرسل إلى "الأغلب" الراجز العجلي، فقال له: أنشدني؟ فقال:

أرجزا تريد أم قصيدا

لقد طلبت هينا موجودا

ثم أرسل إلى لبيد، فقال:"أنشدني ما قلته في الإسلام"، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال:"أبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر" فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص من عطاء "الأغلب" خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد6. وروي أن "عمر" كتب إلى عامله بالكوفة: سل لبيدا والأغلب

1 سيرة "2/ 338".

2 ابن هشام، سيرة "2/ 338 وما بعدها".

3 الاستيعاب "3/ 306"، "حاشية على الإصابة".

4 الاستيعاب "3/ 306"، الخزانة "2/ 246"، "هارون".

5 الأغاني "14/ 90".

6 الأغاني "14/ 97"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 120 وما بعدها".

ص: 119

العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام؟ فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه1.

وروي الخبر المتقدم بشكل آخر. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للبيد: أنشدني، فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعرا بعد إذ علمني الله سورتي البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه خمسمائة، وكان ألفين. فلما كان في زمن "معاوية" قال له معاوية: هذان الفودان فما بال العلاوة؟ وأراد أن يحطه إياها، فقال أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان! فرق له، وترك عطاءه على حاله، ومات بعد يسير2. وورد في رواية أخرى أن "معاوية" كتب إلى "زياد" أن اجعل أعطيات الناس في ألفين، وكان عطاء "لبيد" ألفين وخمسمائة. فقال له" زياد": "أبا عقيل هذان الخراجان، فما بال هذه العلاوة؟ قال: ألحق الخراجين بالعلاوة، فإنك لا تلبث إلا قليلا حتى يصير لك الخراجان والعلاوة! فأكملها "زياد" ولم يكملها لغيره. فما أخذ لبيد عطاء آخر حتى مات"3.

وقيل إن لبيدا لم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا، هو:

ما عاتب الحر الكريم كنفسه

والمرء ينفعه القرين الصالح4

في رواية. وورد على هذه الصورة:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح5

في رواية أخرى.

وقيل هو هذا البيت:

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى كساني من الإسلام سربالا6

1 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543".

2 الشعر والشعراء "1/ 195 وما بعدها"، الاستيعاب "3/ 309"، "حاشية على الإصابة".

3 الإصابة "3/ 308"، "رقم 7543".

4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 155"، الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543".

5 الشعر والشعراء "1/ 195"، "الثقافة".

6 الشعر والشعراء "1/ 195"، "الثقافة".

ص: 120

وذكر بعض العلماء أن البيت:

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

ليس للبيد، بل هو لـ "قردة بن نفاثة"1.

ومن الشعر المستجاد المنسوب إلى لبيد، قصيدته:

إن تقوى ربنا خير نقل

وبإذن الله ريثي وعجل

أحمد الله فلا ند له

بيديه الخير من شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

وقد زعم بعض العلماء أنها قيلت في الجاهلية، ولكنها لا يمكن أن تكون من شعر الجاهلية، لما فيها من آراء إسلامية، ثم إنها قيلت بعد موت "أربد"، وكان لبيد مسلما آنذاك على ما جاء في بعض الأخبار2.

ومما جاء فيها:

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي

ولقد أفلح من كان عقل

إن تري رأسي أمسى واضحا

سلط الشيب عليه فاشتعل

وقوله:

غير أن لا تكذبنها في التقى

واخزها بالبر لله الأجل

وهي قصيدة تبلغ عدتها "85" بيتا3، بعض أبياتها لشعراء آخرين، وقد نسبها بعض العلماء إليه، فأدخلت في القصيدة4.

1 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، الاستيعاب "3/ 307"، "حاشية على الإصابة".

2 ديوان لبيد "174 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 21".

3 الخزانة "2/ 28"، "بولاق".

4 ديوان لبيد "199 وما بعدها".

ص: 121

ومما جاء فيها في حق "أربد" قوله:

من حياة قد مللنا طولها

وجدير طول عيش أن يمل

وأرى أربد قد فارقني

ومن الأرزاء رزء ذو جلل1

وقد عاب بعض العلماء عليه قوله:

ومقام ضيق فرجته

بمقامي ولساني وجدل

لو يقوم الفيل أو فيّاله

زال عن مثل مقامي وزحل

"وقالوا: ليس للفيال من الخطابة والبيان، ولا من القوة، ما يجعله مثلا لنفسه، وإنما ذهب إلى أن الفيل أقوى البهائم، فظن أن فياله أقوى الناس! قال أبو محمد، وأنا أراه أراد بقوله: لو يقوم الفيل أو فياله مع فياله، فأقام "أو" مقام الواو"2.

وفي هذه القصيدة إشارة إلى صلاة اليهود، حيث يقول:

يلمس الأحلاس في منزله

بيديه كاليهودي المصل3

"قال أبو الحسن الطوسي: كأنه يهودي يصلي في جانب يسجد على جبينه. قال البغدادي: واليهودي يسجد على شق وجهه"4.

وقد تعرض "كارلو نالينو" لهذه القصيدة: فقال: "ومن المشهور ما في ديوانه من العبارات الدينية، بل الشبيهة بالعقائد الإسلامية"، ثم كر أبياتا منها، ثم قال:"ولكن ليس كل ما ينسب إليه في ديوانه من هذا الباب صحيحا، بل لا اختلاف في بعض الأشعار أنها مصنوعة"5.

1 البيتان "79-80".

2 الشعر والشعراء "1/ 200 وما بعدها".

3 البيت رقم "32" من القصيدة "26" في ديوانه "ص183".

4 ديوان لبيد "183".

5 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "78".

ص: 122

ونسب له قوله:

من يبسط الله عليه إصبعا

بالخير والشر بأيّ أولعا

يملأ منه ذنوبا مترعا1

وقوله:

وما الناس إلا كالديار وأهلها

بها يوم حلوها وغدوا بلاقع

وقوله:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

وفي هذه الأبيات إشارات إلى رأي لبيد في الدنيا وفي الموت، وهي آراء يقولها في العادة المعمرون، فإذا صح أنها له، فلا بد وأن تكون من شعره الذي قاله بعد تقدمه في السن.

ويظهر أن الكبر هو الذي حمل "لبيدا" على ترك الشعر أو الإقلال منه، فالتقدم في السن يوقف القريحة ويجمد الذهن. فلما أرسل "الوليد بن عقبة" إليه شعرا، ومعه مائة بكرة، قال لبيد لابنته: أجيبيه فقد رأيتني وما أعيا بجواب شاعر4. وفي هذا الجواب دلالة على توقف قريحته عن قول الشعر، وأنه لم يعد باستطاعته نظمه، وليس السبب هو الإسلام.

وكانت مناسبة إرسال "الوليد بن عقبة" الشعر والهدية إليه أنه "لبيد" كان آلى في الجاهلية ألا تهب الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وألزمه نفسه في إسلامه. فهبت الصبا، ولم يكن عند "لبيد" ما يعينه على الإطعام، فخطب "الوليد" الناس بالكوفة، وقال: إن أخاكم لبيدا آلى ألا تهب له الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وهذا اليوم من أيامه، فأعينوه، وأنا أول من أعانه.

1 أمالي المرتضى "1/ 319".

2 أمالي المرتضى "1/ 453".

3 أمالي المرتضى "1/ 55".

4 الشعر والشعراء "1/ 196 وما بعدها"، "الثقافة".

ص: 123

ونزل فبعث إليه بمائة بكرة وكتب إليه شعرا يمدحه فيه ويذكر له كرمه ونذره1.

ويشك "بروكلمان" في صحة ما ورد من ترك "لبيد" الشعر بعد دخوله في الإسلام. ويرى أن كثيرا من شعره مطبوع بطابع إسلامي، ويبعد أن يكون مما صنع عليه، وإن زيد عليه بعض الزيادات2.

ونجد في قصيدة "لبيد" الكبرى التي مطلعها:

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها3

أسماء مواضع كثرة من نجد والحجاز4.

ولعلماء الشعر آراء في شعر لبيد، من ذلك ما قالوه في قوله:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح

فقالوا: إنه شعر جيد المعنى والسبك، لكن ألفاظه قصرت عن معناه. فإنه قليل الماء والرونق5.

وقد ذكروا له أشعارا سبق بها غيره من الشعراء، أخذها غيره عنه، فأعادها علماء الشعر إلى أصلها. كما عابوا عليه بعض الأمور الصغيرة التي لا يمكن أن يفلت منها شاعر6.

و"عنترة بن شداد العبسي"، هو "عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد" العبسي. وشداد جده أبو أبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه. وقال غيره: شداد عمه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه.

وكان يلقب بـ "عنترة الفلحاء" لتشقق شفتيه.

وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر، وذلك أنه كان لأمة سوداء يقال لها "زبيبة"،

1 الشعر والشعراء "1/ 196 وما بعدها"، "الثقافة"، الأغاني "15/ 298"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 155".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 145".

3 القصيدة رقم "48" في الديوان، شرح ديوان لبيد "ص297".

4 الإكليل "223".

5 الشعر والشعراء "1/ 114"، "الثقافة".

6 الشعر والشعراء "1/ 199 وما بعدها"، "الثقافة".

ص: 124

وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده، وكان لعنترة إخوة من أمه عبيد. وكان سبب ادعاء أبي عن عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من "بني عبس"، فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمه في رواية أخرى: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر، فكر وقاتل يومئذ حتى استنقذ ما بأيدي عدوهم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه1.

وورد في رواية أن إخوته قالوا له: اذهب فارع الإبل والغنم واحلب وصر.

فانطلق يرعى وباع منها ذودا، واشترى بثمنه سيفا ورمحا وترسا ودرعا ومغفرا، ودفنها في الرمل. وكان له مهر يسقيه ألبان الإبل. وإن في الجاهلية من غلب سبا. وإنه جاء ذات يوم إلى الماء فلم يجد أحدا من الحي، فبهت وتحير حتى هتف به هاتف: أدرك الحي في موضع كذا، فعمد إلى سلاحه فأخرجه وإلى مهره فأسرج واتبع القوم الذين سبوا أهله فكر عليهم ففرق جمعهم وقتل منهم ثمانية نفر، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أريد العجوز السوداء والشيخ الذي معها، يعني أمه وأباه، فردوهما عليه. فقال له عمه: يا بني كر، فقال: العبد لا يكر، ولكن يحلب ويصر. فأعاد عليه القول ثلاثا وهو يجيبه كذلك. قال له: إنك ابن أخي وقد زوجتك ابنتي عبلة. فكر عليهم فأنقذه وابنته منهم. ثم قال: إنه لقبيح أن أرجع عنكم وجيراني في أيديكم: فأبوا، فكر عليهم حتى صرع منهم أربعين رجلا قتلى وجرحى فردوا عليه جيرانه. فأنشد:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم2

وروي أنه كان من معاصري "امرئ القيس"، وأنه اجتمع به3، وأن امرأة "شداد" أبي "عنترة" ذكرت لشداد أن عنترة أرادها عن نفسها، فأخذه أبوه فضربه ضرب التلف، فقامت المرأة فألقت نفسها عليه لما رأت ما به

1 الشعر والشعراء "1/ 171 ما بعدها"، "الثقافة"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 481 وما بعدها".

2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 479 وما بعدها".

3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 482".

ص: 125

من الجراحات، وبكته. وكان اسمها:"سمية"، فقال عنترة:

أمن سمية دمع العين مذروف

لو كان منك قبل اليوم معروف1

وذكر أنه كان من أشد أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلا البيتين والثلاثة، حتى سابّه رجل من عبس، فذكر سواد أمه وأخوته، وعيّره بذلك، وبأنه لا يقول الشعر، فاغتاظ منه ورد عليه، وهاجت قريحته فنظمت له قصيدة:

هل غادر الشعراء من متردم

وهي أجود شعره، وكانوا يسمونها "المذهبة"2.

وله كأكثر الشعراء أبيات شعر، استحسنها علماء الشعر، وقالوا إنه أجاد فيها وأحسن، وما سبق إليه ولم ينازع فيه في بعض ذلك الشعر3.

وهو أحد أغربة العرب، وهم ثلاثة: عنترة، وأمه زبيبة، سوداء، وخفاف بن عمير الشريديّ، من بني سلمى، وأمه ندبة، وإليها ينسب، وكانت سوداء، والسليك بن عمير السعدي "السيلك بن سلكة"، وأمه سلكة، وإليها ينسب، وكانت سوداء4. وذكر أنه كان يفخر بأخواله السود، رهط أمه، فدعاهم بـ "حام" حيث يقول:

إني لتعرف في الحروب مواطني

في آل عبس مشهدي وفعالي

منهم أبي حقًّا فهم لي والد

والأم من حام فهم أخوالي5

وإذا صح أن هذا الشعر هو لعنترة، دل على وقوف الجاهليين على اسم "حام"، الوارد في التوراة، على أنه جد السودان، ولا بد أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب.

1 المحاسن والأضداد "143".

2 الشعر والشعراء "1/ 172 وما بعدها"،"الزوزني "136"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 481".

3 الشعر والشعراء "1/ 174"، "الثقافة".

4 الشعر والشعراء "1/ 172"، "الثقافة".

5 الشعر والشعراء "1/ 175".

ص: 126

وذكر أنه كان قد أغار على "بني نبهان" فرماه "وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع" النبهاني، فقطع مطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فمات1.

ويعد "عمرو بن كلثوم" التغلبي من كبار شعراء الجاهلية، وكان معاصرا للملك "عمرو بن هند""544-568م"، وهو قاتله في خبر سبق أن تحدثت عنه. وهو من الشعراء الذين مالوا إلى الحكم في نظم الشعر2. وقد عرف بـ "أبي الأسود"3. ويقال إن أخاه "مرة بن كلثوم" التغلبي، هو قاتل المنذر بن النعمان بن المنذر. وكان "عمرو بن كلثوم" سيد قومه، سادهم وهو ابن خمس عشرة، ومات وله مائة وخمسون سنة4. وكان خطيبا حكيما وشاعرا، أوصى بنيه عند موته بوصية بليغة حسنة5، ضبط نصها الرواة فيما بعد، وكأنهم كتبوها بخط يدهم.

وقصيدته الشهيرة التي هي إحدى السبع، هي من جيد شعر العرب القديم، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أولهم

يا للرجال لفخر غير مسئوم6

وفي قتل "عمرو بن كلثوم""عمرا بن هند" يقول أحد شعراء تغلب، وهو "أفنون بن صريم" التغلبي:

لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا

لتخدم ليلى أمه بموفق

فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا

وأمسك من ندمانه بالمخنق7

ويذكر في سبب نظم "عمرو بن كلثوم" قصيدته الشهيرة، أن قبيلة "تغلب"

1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات"، "ص210 وما بعدها".

2 بروكلمان "1/ 103"، الأغاني "9/ 175"، الخزانة "1/ 52"، الشعر والشعراء "1/ 157 وما بعدها"، المرزباني، معجم "6/ وما بعدها".

3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 121"، الخزانة "1/ 517 وما بعدها".

4 الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، المرزباني، معجم "7".

5 الأغاني "11/ 59"، "بولاق"، المرزباني، معجم "7".

6 الشعر والشعراء "1/ 159 وما بعدها"، "لشعر غير مسئوم"، الخزانة "1/ 517 وما بعدها"، الأغاني "11/ 54"، "دار الكتب"، الخزانة "1/ 519"، "بولاق".

7 المحبر "204"، الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، "11/ 54"، "دار الكتب".

ص: 127

كانت من أشد الناس في الجاهلية، وكانت بينهم وبين "بكر" حزازة وعداوة، ويقال: جاء ناس من بني تغلب إلى بكر بن وائل يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم فرجعوا، فمات سبعون رجلا عطشا. فاجتمعت "تغلب" لحرب "بكر"، واستعدت لهم "بكر" حتى إذا التقوا، خافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت، فدعا بعضهم بعضا إلى الصلح، فتحاكموا في ذلك إلى "عمرو بن هند". فجاءت تغلب يقودها "عمرو بن كلثوم" وجاءت بكر، ومعها "الحارث بن حلزة اليشكري"، فألقى قصيدته:

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يمل منه الثواء

وتأثر "عمرو بن هند" بها، فحكم لبكر، وأنشد:"عمرو" قصيدته:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا

ولا تبقي خمور الأندرينا1

وفي جملة أبياتها:

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا2

ويذكر بعض الرواة أن "عمرو بن كلثوم" ارتجل قصيدته الشهيرة ارتجالا، وأنها كانت تبلغ ألف بيت أو تزيد3. وأن ما وصل إلينا منها هو بعضها. وتبلغ "96" بيتا في كتاب "شرح القصائد العشر" للتبريزي4. يظهر من دراستها وإمعان النظر فيها أنها لم تنظم دفعة واحدة، وأنها لم تكن بهذا الطول يوم ألقاها الشاعر، بل زيدت فيما بعد حسب المناسبات، لأن فيها أبياتا تمس أمورا وقعت فيما بعد، في ظروف متأخرة.

ويروى أن "عمرو بن كلثوم"، جاء سوق عكاظ، فألقى معلقته هناك. وروي أن "معاوية بن أبي سفيان" قال "إن قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرا"5.

1 التبريزي، شرح القصائد العشر "379 وما بعدها".

2 أمالي المرتضي "1/ 57، 327"، "2/ 147".

3 شعراء النصرانية "197 وما بعدها".

4 "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "ص380-382".

5 الخزانة "1/ 517 وما بعدها"، "بولاق".

ص: 128

ويلاحظ أن في معلقة "عمرو بن كلثوم" أبياتا خرجت على روي القافية، مثل قوله:

تركنا الخيل عاكفة عليه

مقلدة أعنتها صفونا1

وقوله:

ندافع عنهم الأعداء قدما

ونحمل عنهم ما حملونا2

وقوله:

نحز رءوسهم في غير بر

فما يدرون ماذا يتقونا3

وقوله:

إذا ما عَيَّ بالإسناف حي

من الهول المشبه أن يكونا4

وقوله:

برأس من بني جشم بن بكر

ندق به السهولة والحزونا5

وقوله:

إذا عض الثقاف بها اشمأزت

وولتهم عشوزنة زبونا6

وقوله:

علينا كل سابغة دلاص

ترى فوق النجاد لها غضونا

إذا وضعت عن الأبطال يوما

رأيت لها جلود القوم جونا7

1 البيت رقم "24" من المعلقة.

2 البيت رقم "31".

3 البيت رقم "36".

4 البيت رقم "39".

5 البيت رقم "45".

6 البيت رقم "50".

7 البيتان رقم "70 وما بعده".

ص: 129

وقوله:

وأنا المانعون لما يلينا

إذا ما البيض زايلت الجفونا1

ومواضع أخرى من هذا القبيل2. وكان من اللازم مسايرة القافية التى هي "الأندرينا".

ولعمرو أشعار، فيها هجاء للنعمان بن المنذر. فقد ذكر أن النعمان توعد "عمرو بن كلثوم"، فبلغه ذلك، فدعا كاتبا من العرب، فكتب إليه:

ألا أبلغ النعمان عني رسالة

فمدحك حوليٌّ وذمك قارح

متى تلقني في تغلب ابنة وائل

وأشياعها ترقى إليك المسالح

وهجاه في شعر آخر، ذكر فيه أمه، وعيره بها، وعيره في شعر آخر بأن خاله صائغ يصوغ القروط والشنوف بيثرب، ورماه فيه باللؤم3.

وتنسب لعمرو أبيات نظمها في البذل والسخاء وفي إعطاء المال، أولها:

لا تلومنّي فإني متلف

كل ما تحوي يمني وشمالي

لست إن أطرفت مالا فرحا

وإذا أتلفته لست أبالي4

ولعمرو بن كلثوم ديوان صغير، نشر في مجلة المشرق. وقد ترجمت معلقته إلى الألمانية5. وفي معلقة "عمرو" أشعار مضطربة وتكرار، وعدم تجانس في وحدة الموضوع. وقد يكون ذلك بسبب تلاعب الأيدي في القصيدة. وإذا عثر على نصها القديم، الذي زعم أنه كان ألف بيت أو يزيد، فإنها ستكون أطول قصيدة في تأريخ الشعر العربي نسبها علماء الشعر إلى أحد من الجاهليين.

وذكر أن "عمرو كلثوم"، أغار على "بني حنيفة" باليمامة، فأسره

1 البيت رقم "77".

2 الأبيات "80-83"، "88".

3 الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، "11/ 58"، "دار الكتب".

4 المرزباني، معجم "7".

5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 57، 67 وما بعدها، 103"، المشرق "1922م"، "ص591 وما بعدها".

ص: 130

"يزيد بن عمرو الحنفي"، ثم سقاه الخمر في قصر بـ "حجر" اليمامة، حتى مات. وذكر أن "يزيد" أراد المثلة به، بربطه بجمل، ثم ضرب الجمل، ليركض به، فصاح:"يا آل ربيعة! أمثلة"1.

وتذكر رواية أن نهاية "عمرو بن كلثوم" كانت انتحارا بشرب الخمر. وذلك أن الملوك كانت تبعث إليه بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد إليها. فلما ساد ابنه "الأسود بن عمرو" بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه.

فغضب "عمرو بن كلثوم" وقال: "ساواني بولي، فحلف لا يذوق دسما حتى يموت. وجعل يشرب الخمر صرفا على غير طعام. فلم يزل يشرب حتى مات2.

و"الحارث بن حلزة" اليشكري، هو من "بني يشكر"، من بكر بن وائل. وكان أبرص، وقد اشتهر بقصيدته التي هي إحدى المعلقات، كما اشتهر بمثلها "عمرو بن كلثوم" و "طرفة بن العبد". يذكر أنه ارتجلها بين يدي "عمرو بن هند" ارتجالا، في شيء كان بين بكر وتغلب بعد الصلح، وكان ينشده من وراء السجف، للبرص الذي كان به. وكان من عادة الملك أن يسمع الأبرص من وراء سبع ستور، وينضح أثره بالماء إذا انصرف عنه. فلما سمعت أم "عمرو بن هند" قصيدته، قالت:"تالله ما رأيت كاليوم قط رجلا يقول مثل هذا القول يكلم من وراء سبع ستور"، فقال الملك:"ارفعوا سترا وأدنوا الحارث"، كان كلما استحسن شيئا منها أمر برفع ستر، حتى رفعت الستور السبعة. وأقعده الملك قريبا منه استحسانا لها وتقديرا له. وكان الحارث متوكئا على عنزة فارتزت -كما يقول أهل الأخبار- في جسده وهو لا يشعر3. وقد زعم أنه قال قصيدته المشهورة وهو ابن مائة وخمس وثلاثين4.

والقصيدة من قصائد الفخر والتبجح بالمفاخر والمآثر، وقد عرض فيها بقبيلة "تغلب"، وعرض بـ "عمرو بن هند" كذلك. وقد ضرب المثل بالفخر

1 الشعر والشعراء "224 وما بعدها".

2 المحبر "470 وما بعدها".

3 الشعر والشعراء "1/ 127"، الخزانة "1/ 158"، "بولاق".

4 الخزانة "1/ 158"،"بولاق"، "1/ 519"، "بولاق".

ص: 131

فقيل: "أفخر من الحارث بن حلزة"1. ويرى "نولدكه" أن سبب اختيار "حماد" الراوية لهذه القصيدة وضمها إلى القصائد الأخرى المختارة، هو أن حمادا كان مولى لقبيلة "بكر بن وائل"، وكانت هذه القبيلة في عداء مع قبيلة "تغلب"، ولما كان "حماد" قد اختار قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي لشهرتها، لم يسع حمادا أن يعدل عن اختيارها، ولكنه اضطر إلى اختيار قصيدة أخرى إلى جانبها تشيد بمدح "بكر بن وائل" سادته، فاختار قصيدة "الحارث بن حلزة" الذي لم يبلغ في الشهرة شهرة الشعراء الآخرين2.

ويزعم أهل الأخبار أنه ارتجلها أمام الملك، بينما يذكرون أنه كان قد قال لقومه قبل ارتجاله لها أمام الملك:"إني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه فرواها ناسا منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضهم فحين علم أنه لا يقوم بها أحد مقامه"، احتملها وأنشدها أمام الملك3. وقد قالها لتكون حجة لقومه في نزاعهم السياسي مع قبيلة تغلب، ودفاعا عنهم أمام الملك4.

ويرى "بروكلمان" أن شعر "الحارث" أقل أصالة من شعر "عمرو بن كلثوم". وهو قريب من شعر "زهير" في ميله إلى مذهب التعليم والتهذيب5. وقد قدم "أبو عبيدة" شعره وجعله أحد ثلاثة نفر اشتهروا بجودة قصائده، إذ قال: "أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد"6.

وللحارث بن حلزة شعر يذكر فيه "ابن مارية"، وهو "أبو حسان""قيس بن شراحيل بن مرة بن همام"، وكان ممن سعى في الصلح بين بكر وتغلب. وفي جملة ما قاله فيه:

وإلى ابن مارية الجواد وهل

شروى أبي حسان في الأنس7

1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 125".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 67 وما بعدها".

3 الخزانة "1/ 519".

4 كارلو نالينو "75".

5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 103".

6 الخزانة "1/ 158"، "بولاق".

7 المفضليات "54".

ص: 132

وفي قصيدة "الحارث بن حلزة" أسماء مواضع من محالهم ومحال حلالهم.

وهي قصيدته التي تبدأ بـ:

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يمل منه الثواء2

وللحارث بن حلزة ديوان صغير2، وأشعار منثورة في كتب الأدب والأخبار3.

و"الأعشى""ميمون بن قيس بن جندل" من "سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، ويكنى أبا بصير. وهو ممن عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام.

ذكر "ابن قتيبة" أنه كان أعمى4. وهو وهم، وإنما عمي في أواخر أيامه، كما يفهم ذلك من شعره، بعد أن لعب به الكبر، وتحكمت به الشيخوخة، وصار عاجزا، يقوده قائد، يوجهه أنّى يشاء، تسيره عصاه، وهو يخاف العثار5. وقد وصف شيخوخته هذه وصفا مؤلما، صادرا من قلب منفطر حزين يبكي أيامه الأولى، أيام اللذة والمتعة، أيام اللهو والخمرة والنساء، أيام مضت، حلت محلها أيام سوء، لا يفرق فيها الأبيض من الأسود ولا الليل والنهار، ثم هو وحده لا خمر ولا امرأة ولا لحم دسم، عافته المرأة، لذهاب ماله وشبابه، وتركه الزنا على رغم منه، ولم يعد يرى في هذه الأيام إلا الهم والحزن والألم.

وأم الأعشى بنت "علس" أخت المسيب بن علس من بني "جُماعة"، ثم من بني "ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ولد بقرية باليمامة يقال لها "منفوحة"، وفيها داره وبها قبره. ويقال إنه كان نصرانيا، وهو أول من سأل بشعره6.

ويسمى "صناجة العرب". لأنه أول من ذكر الصنج في شعره فقال:

1 الصفة "220".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 103"، مجلة المشرق "1922م""ص591 وما بعدها".

3 الأغاني "9/ 171 وما بعدها"، المفضليات رقم "25"، "62"، "127".

4 الشعر والشعراء "1/ 178"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 84 وما بعدها"، الأغاني "9/ 108"، رسالة الغفران "159".

5 القصيدة رقم "12" ، "258" من ديوانه، المرزباني، معجم "401"، طبقات ابن سلام "15"، الأغاني "9/ 108"، المؤتلف "12"، رسالة الغفران "159".

6 المرزباني، معجم "325"، "فراج".

ص: 133

ومستجيب لصوت الصنج تسمعه

إذا ترجع القينة الفضل1

وذكر أنه إنما عرف بصناجة العرب لكثرة ما تغنت العرب بشعره، أو لجودة شعره، أو لأن العرب كانت تتغنى بشعره على صوت الصنج، إلى غير ذلك من شروح وتفاسير2.

وقد نشأ "الأعشى" راوية لشعر خاله "المسيب بن علس"، وهو من شعراء الجاهلية المقلين. ثم نبغ هو في الشعر، فعلا اسمه على اسم خاله، حتى حلق في سماء الشعر، ولا سيما في وصف الخمر، حيث حظي الخمر عنده بموقع ممتاز في شعره، فأجاد في وصفه وفي أثره في النفس. وتفنن في وصف الخمر، حتى سبق بوصفه هذا سائر شعراء الجاهلية، ولم يلحق به في هذه الناحية من الشعر أحد. وقد عدّه بعض علماء الشعر رابع الشعراء الأربعة، فهو يأتي بعد امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمي، والنابغة الذبياني3. وقد أجاد أيضا في وصف القيان.

قيل: كان الأعشى يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره4، وزعم أن "كسرى" سمعه يوما ينشد، فقال: من هذا؟ آسْروذ كويذ تازى، أي مغني العرب، فأنشد:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق

وما بي من سقم وما بي معشق

فقال كسرى: فسروا لنا ما قال! فقالوا: ذكر أنه سهر من غير سقم ولا عشق!

فقال كسرى: إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص!! 5 إلى غير ذلك من قصص مصنوع.

1 المرزباني، معجم "325"، "فراج"، الشعر والشعراء "1/ 179"، "الثقافة"، السيوطي، شرح شواهد "240".

2 المزهر "2/ 431"، الخزانة "1/ 85"، "بولاق".

3 المزهر "2/ 431"، الخزانة "1/ 85"، "بولاق".

3 رسالة الغفران "229"، "بنت الشاطئ".

4 الشعر والشعراء "1/ 179"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 85".

5 الشعر والشعراء "1/ 180"، "الثقافة".

ص: 134

وكان يفد أيضا على ملوك الحيرة، ويمدح الأسود بن المنذر، أخا النعمان1. وقال له "النعمان بن المنذر": لعلك تستعين على شعرك هذا؟ فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها:

أأزمعت من آل ليلى ابتكارا

وشطت على ذي هوى أن تزارا

وفيها يقول:

وقيدني الشعر في بيته

كما قيد الآسرات الحمار2

وورد في شعر الأعشى قوله:

وكنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التغن3

وإذا كان ما نسب إلى الأعشى من قوله:

لسنا كمن جعلت إياد دارها

تكريت تنظر حبها أن يحصدا

جعل الإله طعامنا في مالنا

رزقا تضمنه لنا لن ينفدا

مثل الهضاب جزارة لسيوفنا

فإذا تراع فإنها لن تطردا

ضمنت لنا أعجازهن قدورنا

وضروعهن لنا الصريح الأجردا4

صحيحا، فإنه يشير إلى أرض يقال لها "تكريت". وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "تكريت" بنواحي الموصل، سميت بتكريت بنت وائل، أخت "قاسط"5. ويظهر أن الساسانيين قد أبعدوا بعض بطون "إياد" إلى هذه الديار، فأجبروهم على الإقامة بها، وأما النسب المذكور، فقد وضع فيما بعد. ويظهر من هذا الشعر أن تلك البطون قد تعلمت الزراعة، فزرعت الحب، والزراعة مزدراة في نظر العرب، ولهذا تبجح الشاعر عليها وافتخر، بكون قومه أصحاب إبل

1 الشعر والشعراء "1/ 180"، "الثقافة".

2 الشعر والشعراء "1/ 180 وما بعدها"، "الثقافة".

3 أمالي المرتضى "1/ 31، 35"، ديوانه "22".

4 ديوان الأعشى رقم 34، تاج العروس "1/ 576"، "كريت".

5 تاج العروس "1/ 576"، "كريت".

ص: 135

ضخمة، يعقرونها لمن ينزل بساحتهم من ضيوف، أما إياد فهم أصحاب زراعة وحصاد.

وكان الأعشى ينادم "هوذة بن علي" الحنفي، صاحب اليمامة، وكان نصرانيا على ما يقال. وذكر أن "الأعشى" كان نصرانيا كذلك، وكان يزور "الحيرة" كما كان يزور أسقف "نجران". وله راوية يروي شعره اسمه "يحيى بن متى" من عباد الحيرة، وقد أشار في شعره إلى أمور توراتية مثل حمامة نوح وأخبار سليمان. لا ندري إذا كان قد أخذها من التوراة، أو أنه سمعها من رجال الدين أو من قصص نصارى الحيرة1.

وله أشعار كثيرة في مدح "هوذة""هوذة بن علي بن ثمامة" الحنفي، منها قصيدته التي مطلعها:

أحيتك تيًّا أم تركت بدائكا

وكانت قتولا للرجال كذلكا

وأقصرت عن ذكري البطالة والصبا

وكان سفيها ضلة من ضلالكا

إلى أن قال:

إلى هوذة الوهاب أهديت مدحتي

أرجي نوالا فاضلا من عطائكا

تجانف عن جو اليمامة ناقتي

وما عمدت من أهلها لسوائكا

وهذه القصيدة تشبه أشعار المحدثين والمولدين في الرقة والانسجام2.

ومن شعره في مدح "هوذة" قوله:

له أكاليل بالياقوت زينها

صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا

وقوله:

وكل زوج من الديباج يلبسها

أبو قدامة مجبورا بذاك معا3

1 راجع قصائده 13، و34، و79 من ديوانه، وبروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، الأغاني "16/ 76"، رسالة الغفران "174".

2 الخزانة "2/ 61 وما بعدها"، "بولاق".

3 أمالي المرتضى "2/ 172".

ص: 136

وكان يزور اليمن، ويقف بأبواب أقيالها، لينال منهم هداياهم. وفي خبر يرجع سنده إلى "الأعشى"، أنه قال:"أتيت سلامة ذا فايش "فائش" فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه، فأنشدته:

إن محلا وإن مرتحلا

وإن في شعر من مضى مثلا

استأثر الله بالوفاء وبالـ

ـعدل وولى الملامة الرجلا

الشعر قلدته سلامة ذا

فائش والشيء حيث ما جعلا

قال: صدقت، الشيء حيث ما جعل، وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللا وأعطاني كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا، فبعتها في الحيرة بثلاثمائة ناقة حمراء"1. والشعر المذكور هو من قصيدة رقمت برقم "35" في ديوانه وتقع في "24" بيتا، وفي ترتيب بعض أبياتها اختلاف. وقد شكك "ابن قتيبة" في صحة نسبتها إلى الأعشى، كما شك غيره في صحة نسبتها إليه، لأسباب ذكروها2. وقد نسبها "الهمداني" إلى الأعشى3.

ونسب "الهمداني" إلى الأعشى قصيدة أخرى في مدح "سلامة" أولها:

رأيت سلامة ذا فائش

إذا زاره الضيف حيا وبش

وقال لهم مرحبا مرحبا

وأهلا وسهلا بهم وابتهش4

وتنسب إلى الأعشى قصيدة أخري في مدح "سلامة ذو فائش"، وهو:

"سلامة ذا فائش" بن يزيد بن مرة بن عريب بن مرثد بن حُريم الحميري5، وقد ذكر "الهمداني" أن "ذا فائش" هذا، هو "ذو فائش الأصغر"، واسمه "سلامة بن يهبر" القيل. وأورد أبياتا في مدحه أولها:

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 239"، الأغاني "6/ 124"، ديوان الأعشى الكبير "ص68، رقم القصيدة 8"، "شرح وتحقيق الدكتور محمد حسين"، رسالة الغفران "175".

2 ديوان الأعشى الكبير "232"، الأغاني"8/ 85"، الأمالي "2/ 99".

3 الإكليل "2/ 198".

4 الإكليل "2/ 195".

5 هي القصيدة التي رقمت برقم "8" في ديوانه، "ص68 وما بعدها"، ديوان الأعشى "19"، "أوروبا"، رسالة الغفران "218".

ص: 137

تؤم سلامة ذا فائش

هو اليوم حم لميعادها

وكم دون بيتك من صفصف

ودكداك رمل وأعقادها

وهي أبيات من القصيدة المرقمة برقم "8" في ديوان الأعشى، وتقع في "56" بيتا.

ودون "الهمداني" أبيات شعر زعم أنها في مدح "ذي فائش"، الذي هو "سلامة بن يهبر" القيل، ذكر أن "إبراهيم بن المحابي"، أنشدها إياه، أولها:

وذو فائش قد زرته في ممنع

من النيق فيه للوعول مواردا1

وذكر "الهمداني" أبياتا من الشعر في مدح "زرعة بن عمرو""زرع بن عمرو". وكان "زرعة بن عمرو" يتولى وآباؤه للتبابع أعمال "المعافر" و"مأرب" وحضرموت، وكان قد حارب "مذحجا"، وفيه يقول "الأعشى" وقد وفد على بعض أولاده ومدحهم، قصيدة أولها:

تسنم في العلا زرع بن عمرو

وشيد ما بنى عمرو وزادا2

ودون "الهمداني" أبيات شعر في مدح "حجر بن زرعة" ذكر انها للأعشى، وقال إنه كثيرا ما يفد إلى المعافر، ثم قال: وقيل إنها للمسيب بن علس. وأولها:

حللت على حجر بن زرعة بعدما

برى الجسم مني مشفقات العواذل3

ونسب "الهمداني" أبيات شعر في مدح "فهد بن النعمان"، وكان قيلا بالمعافر. وقد وفد عليه. وأول هذه الأبيات:

ونادمت فهدا بالمعافر حقبة

وفهد سماح لم تشبه المواعد

1 الإكليل "2/ 195".

2 الإكليل "2/ 115".

3 الإكليل "5/ 117".

4 الإكليل "2/ 363".

ص: 138

ونسب الرواة إلى "الأعشى" قصيدة في مدح "مسروق بن وائل" الحضرمي. وهو ممن وفد إلى "النبي" في وفد حضر موت فأكرمه1. وهي قصيدة رقمت برقم "70" في ديوانه2.

وفي "يزيد بن صهر بن أبي ثابت" الشيباني، من سادة بني شيبان، وذوي الرأي فيهم، يقول الأعشى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

وهي لاميته الشهيرة التي تعد من المعلقات3. ومما جاء فيها في وصف مجلس الشرب والخمر:

نازعتهم قضب الريحان مرتفقا

وقهوة مزة راووقها خضل

لا يستفيقون منها إلا وهي راهنة

إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا

يسعى بها ذو زجاجات لها نطف

مقلص أسفل السربال معتمل

ومستجيب لصوت الصنج يسمعه

إذا ترجع فيه القينة الفضل4

وكان يبغي من أسفاره هذه جمع المال للاستمتاع بلذة الحياة ولذة الحياة عنده: الخمر والطعام والنساء، وقد جمعها بقوله:

إن الأحامرة الثلاثة أهلكت

مالي وكنت بهن قدما مولعا

الخمر واللحم السمين مع الطلى

بالزعفران ولا أزال مردعا5

وهو من الشعراء الذين تعهروا في شعرهم، على شاكلة "امرئ القيس". وقد أبدع في وصف صاحبته "قتيلة". وهو لا يخشى من التصريح بأنه إنما يحب النساء، لأجل الاستمتاع بهن. فليست المرأة إلا أداة اللذة في هذه الحياة. فهو يبحث عنها، ولا يبالي من أي نوع كانت، جارية أم حرة، عاهرة أم

1 الإصابة "3/ 338"، "رقم 7935".

2 شرح ديوان الأعشى "328 وما بعدها"، الإكليل "2/ 376".

3 طبقات ابن سلام "23"، الأغاني "8/ 100"، رسالة الغفران "174"، "حاشية".

4 رسالة الغفران "171 وما بعدها"، تهذيب الألفاظ، لابن السكيت "227".

5 ديوان الأعشى "ص"، "دكتور م. محمد حسين".

ص: 139

متزوجة، وهو على شاكلة "امرئ القيس" يطيب له أن يصور صاحبته متزوجة، تخون زوجها، وتقدم له الحب واللذة، لأن في الاتصال بالمتزوجة مجازفة من الرجل ومن المرأة، والمجازفة من سيماء العشاق الفرسان الشجعان.

وقد تمكن الأعشى باتصاله بملوك الحيرة والغساسنة، وبقيس بن معد يكرب، وسلامة ذي فائش وبسادة نجران، وبهوذة، وبأمثالهم من حكام وسادة، من الحصول على مال طيب، ومن التمتع بمشاهدة مجالس أولئك السادة، ومن الشرب بصحاف الذهب والفضة، ومن أكل أكلات الحضر، التي لا يعرفها إلا أصحاب المال والترف، ومن الاستمتاع بسماع الغناء العربي والأعجمي، ومن التأثر بالحياة الرفيعة التي يحياها أهل الحضر. فأثرت تلك الحياة فيه. وصار يقبل عليها ويبحث عنها في كل مكان. وما الحياة تلك إلا اللهو بالخمر والنساء والطعام الطيب، حتى كان يتلف ماله في سبيلها، إن عسر الحصول عليها بغير ثمن.

وهو في شعره صريح يعلن فيه حبه لجمع المال، لا يخشى من التصريح به أحدا، ولعله كان يريد الإعلان عن ذلك، ليرزقه الناس من عندهم، ويزيدوا في ماله. نراه يقول:

وطوفت للمال آفاقها

عمان وحمص فأوريشَلَم

أتيت النجاشي في داره

وأرض النبيط وأرض العجم

فنجران فالسرو من حمير

فأي مرام له لم أرم

ومن بعد ذلك إلى حضر موت

فأوفيت همي وحينا أهم1

ثم هو يعدد المواضع التي زارها فيقول:

ألم ترني جولت ما بين مأرب

إلى عدن فالشأم والشأم عاند

وذا فائش قد زرت في متمنع

من النيق فيه للوعول موارد

ببعدان أو ريمان أو رأس سَلْيَة

شفاء لمن يشكو السمائم بارد

وبالقصر من أرياب لو بتَّ ليلة

لجاءك مثلوج من الماء جامد

ونادمت فهدا بالمعافر حقبة

وفهد سماح لم تشبه المواعد

1 الصفة "224"، ديوان الأعشى القصيدة رقم "4"، والقصيدة رقم 63.

ص: 140

وقيسًا بأعلى حضرموت انتجعته

فنعم أبو الأضياف والليل واكد1

ويظهر من الشعر المتقدم أنه طاف بلادا كثيرة، فيها أرض العجم، وأرض النبط، وبلغ حمص و"أورشليم"، أي القدس، وعمان، وزار جزيرة العرب حتى وصل حضرموت واليمن، وعبر إلى "النجاشي" في داره. وهي أسفار بعيدة متعبة بالنسبة لذلك الوقت، وربما كان هذا الشعر مما أقحم عليه.

وله أشعار كثيرة في مدح "قيس بن معد يكرب"2، الذي كان يرزقه ويغدق عليه المال، وهو لا يجد غضاضة من التصريح في مدحه له أن لا يحرمه من نداه الجزيل. ولهذا عده علماء الشعر أول من سأل بشعره، وابتذل نفسه في السؤال، وأسرف في الترحال من أجل جمع المال. ومن شعره في "قيس" وفي الاستجداء منه، قوله:

ونبئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خيرا أهل اليمن

فجئتك مرتاد ما خبّروا

ولولا الذي خبروا لم ترن

فلا تحرمني نداك الجزيل

فإني إمرؤ قبلكم لم أهن

وهي قصيدة نونية، موجودة في ديوانه3.

وللأعشى قصيدة في مدح "أبي الأشعث بن قيس" الكندي. والأشعث اسمه "معد يكرب" كان أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث، وهو من الصحابة، وفد على النبي سنة عشرة وأسلم، وكان شريفا مطاعا جوادا شجاعا، وهو أول من مشت الرجال في خدمته وهو راكب، وكان من أصحاب "علي" في وقعة صفين. ومن شعر الأعشى في مدح "أبي الأشعث"، وهو "قيس بن معد يكرب" قوله:

1 الصفة "100، 225" الإكليل "2/ 102".

2 تأريخ ملوك العرب الأولية "124".

3 ديوان الأعشى "15"، "أوروبا"، شرح ديوان الأعشى "ش"، رسالة الغفران "218"، وله قصيدة مطلعها:

أأزمعت من آل ليلى ابتكارا

وشطت على ذي هوى أن يزارا

في مدحه أيضا، راجع ديوانه "ص35"، "أوروبا"، رسالة الغفران "227".

ص: 141

من ديار هضب كهضيب القليب

فاض ماء الشئون فيض الغروب

أخلفتني بها قتيلة ميعا

دي وكان للوعد غير مكذوب

وكان الأعشى، إذا زار اليمن تخرف بـ "أثافت"، وكان له بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل "أثافت" من أعنابهم. وقد ذكرها "الأعشى" في شعره، إذ قال:

أحب أثافت وقت القطاف

ووقت عصارة أعنابها

وكانت تسمى "درني" في الجاهلية. وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله:

أقول للشرب في درني وقد ثملوا

شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل2

وذكر غير "الهمداني" أن "درني" المذكورة في شعر الأعشى، هي ناحية من شق اليمامة. قال الأعشى:

حل أهلي ما بين درني فبادو

لي وحلت علوية بالسخال

فهي ليست بـ "أثافت"، كما ذكر ذلك "الهمداني"3. نجد الهمداني يذكر "درنا" في مواضع اليمامة. ولما كان "الهمداني" من العلماء بمواضع جزيرة العرب، فلا أعتقد أنه وهم حين ذكر قول "الرئيس الكباري"، إن "درني" هي "أثافت"، فلعل "درني" غير "درنا" اليمامة4.

وقد هجا "الأعشى""علقمة بن علاثة" من سادات "بني عامر" وأشرافهم. وكان سبب ذلك، أنه مدح "الأسود" العنسي، فأعطاه خمسمائة

1 الخزانة "2/ 463 وما بعدها"، "بولاق".

2 ديون الأعشى "ف"، "دكتور م. محمد حسنين"، "وأثافت وتسمى أثافة بالهاء وبالتاء أكثر، وخبرني الرئيس الكباري من أهل أثافت قال: كانت تسمى في الجاهلية درني وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله:

أقول للشرب في درني وقد ثملوا

شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل

الصفة للهمداني "66".

3 تاج العروس "9/ 189"، "درن".

4 الصفة "137".

ص: 142

مثقال ذهبا وخمسمائة حللا وعنبرا، فخرج، فلما مر ببلاد "بني عامر" وهم قوم "علقمة" و"عامر بن الطفيل"، خافهم على ما معه، فأتى "علمقة بن علاثة"، فقال له: أجرني! قال قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى ومن الموت. قال: لا فأتى "عامر بن الطفيل"، فقال له: أجرني! قال: قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى: ومن الموت! قال عامر: ومن الموت أيضا. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن مت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. قال: الآن علمت أنك قد أجرتني. فحرضه عامر على تنفيره على علقمة، فغلبه عليه بقصائد. فلما سمع علقمة نذر ليقتلنه إن ظفر به. فقال الأعشى قصيدة مطلعها:

شاقك من قيلة أطلالها

بالشط فالجزع إلى حاجر

ولما نذر "علقمة" دم الأعشى جعل له على كل طريق رصدا. فاتفق أن الأعشى خرج يريد وجها ومعه دليل فأخطأ به الطريق، فألقاه على ديار بنى عامر بن صعصعة، فأخذه رهط "علقمة" فأتوه به. فقال له علقمة: الحمد لله الذي مكنني منك، فقال الأعشى:

أعلقم قد صيرتني الأمور

إليك وما أنت لي منقص

فهب لي ذنوبي فدتك النفوس

ولا زلت تنمي ولا تنقص

في أبيات، فعفا عنه، فقال الأعشى ينقض ما قال أولا:

علقم يا خير بني عامر

للضيف والصاحب والزائر

والضاحك السن على همه

والغافر العثرة للعاثر1

وكان "عامر بن الطفيل" لما نافر "علقمة" خرج مع لبيد الشاعر والأعشى، فحكما "أبا سفيان"، فأبى أن يحكم بينهما، فأتيا "عيينة بن حصن" فأبى، فأتيا "غيلان بن سلمة" الثقفي، فردهما إلى "حرملة بن الأشعر" المرّي، فردهما إلى "هرم بن قطبة" الفزازي، فحكم بتساويهما في الشرف والمنزلة.

1 الشعر والشعراء "1/ 182"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 43 وما بعدها".

ص: 143

ولم يفضل فانصرفا على ذلك1.

ويقال إن النبي قال لحسان: يا حسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله لنا فيه؟ فأنشده حسان قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة:

علقم ما أنت إلى عامر

الناقض الأوتار والواتر

فنهى النبي حسان عن تلاوتها. وذكر أن النبي رخص في الأشعار كلها إلا هاتين الكلمتين: كلمة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وكلمة الأعشى في علقمة بن علاثة2.

وقد اختلفت الروايات في "علقمة" فرواية تذكر أنه أسلم وصحب الرسول، ورواية تذكر أنه لم يسلم، وأنه كان عند "قيصر"، وأنه أثنى أمامه على الرسول حين كان عنده، بينما تناول أبو سفيان منه، ورواية تذكر أنه أسلم ثم ارتد ولحق بالشام، ثم عاد إلى الإسلام، ورواية تذكر أن "عمر" استعمله على "حوران"، فمات بها. وقد رثاه "الحطيئة" بقصيدة، وكان قد ذهب إليه لنيل نواه، فوجده قد مات، وقد أوصى له بجائزة في حياته، فأعطاه ابنه مائة ناقة يتبعها أولادها.

ولما كان الأعشى تاجرا من تجار الشعر، اتخذ الشعر متجرا يتاجر به، فيمدح من يعطيه، ويهجو من لا يحسن إليه ويصله، لذلك صار شعره في الرجال الذين اتصل بهم، بين مدح وبين هجاء.

وقد أفادنا "الأعشى" فائدة كبيرة في ذكر أسماء المواضع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره التعلق بهذا الموضوع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره المتعلق بهذا الموضوع. كما أورد شعرا لغيره يتعلق بالمواضع، انفرد به في بعض الأحيان. ومما ذكره من شعر الأعشى في بعض مواضع اليمامة، قوله:

قالوا نُمارٌ فبطن الخال جادهما

فالعسجدية فالأبلاء فالرجل

1 الإصابة "2/ 496 وما بعدها"، "5676".

2 الخزانة "2/ 43"، "بولاق"، الإصابة "2/ 496"، "رقم 5677".

3 الإصابة "2/ 497 وما بعدها"، "رقم 5677".

ص: 144

فالسفج يجري فخنزير فبُرْقته

حتى تتابع فيه الوتر والحبل1

ونجد في شعر الأعشى قصصا من قصص أهل الجاهلية، من ذلك ما رواه عن سد "مأرب" في قصيدته التي يقول فيها:

ففي ذلك للمؤتسي أسوة

ومأرب قفّى عليه العرم

رخام بنته لهم حمير

إذا جاءه ماؤهم لم يرم

فأروى الزروع وأعنابها

على سعة ماؤهم لم يرم2

وهي أبيات نظمت على طريقة ذلك الوقت في ذكر نكبات الماضي، وما حل بالقبائل والمدن والقرى من مصير سيئ، لاتخاذها درسا وعبرة للأحياء. وهي لذلك تكون ذات صبغة أدبية أخلاقية، لا يهتم فيها للتأريخ ولواقع الأحداث، وإنما للقص والتأثير في العواطف والقلوب.

ومنها قصيدته التي ذكر فيها من أهلكه الدهر من الجبابرة ومطلعها:

ألم تروا إرما وعادا

أفناهم الليل والنهار

وقبلهم غالت المنايا

طسما فلم ينجها الحذار

وحل بالحي من جديس

يوم من الشر مستطار

وأهل جو أتت عليهم

فأفسدت عيشهم فباروا

فصبحتهم من الدواهي

نائحة عقبها الدمار

وقد روى أهل الأخبار قصص هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الأعشى في شعره، وقد رصعوها على عادتهم بالشعر، نسبوه إلى أبطال ذلك القصص3.

وأشار "أبو العلاء" المعري إلى شعر نسب للأعشى أوله:

أمن قَتْلَةَ بالأنقا

ء دار غير محلوله

كأن لم تصحب الحي

بها بيضاء عطبوله

1 الصفة "137".

2 ديوان الأعشى البيت "67" وما بعده من القصيدة رقم 4.

3 الخزانة "1/ 347 وما بعدها"، "بولاق".

ص: 145

أناة ينزل القوسى

منها منظر هوله

وما صهباء من عانة

في الذارع محموله

تولي كرمهاأصهـ

ـب يسقيه ويغدو له

ثوت في الخرس أعواما

وجاءت وهي مقتوله

بماء المزنة الغرا

ء راحت وهي مشموله

بأشهى منك للظمآ

ن لو أنك مبذوله

فنفى على لسان الأعشى أن يكون من شعره، أو أن يكون قد صدر عنه1.

وقد ورد في بعض الأخبار أن الأعشى كان نصرانيا. ويرى "بروكلمان" أن من الجائز أن يكون نصرانيا، غير أن نصرانيته لم تكن مؤثرة عليه، وهو إذا كان قد تحدث عن الله وعن البعث، وعن الحساب ويوم الدين، فقد تحدث غيره عن هذه الأمور أيضا ولم يكن من النصارى2. ونحن لا نكاد نجد في شعره ما يؤيد كونه نصرانيا صحيحا قويم الدين، له علم بأحكام شريعته ونواهيها، ولعل نصرانيته الوحيدة البادية عليه، هي في حلفه برهان دير هند، وإشارته إلى عيد الفصح وإلى طوفان نوح، وزيارته "بني الحارث بن كعب" سادة نجران، وهم نصارى، وتشبيهه "قيس بن معد يكرب" بالرهبان في عدله وتقواه3. وقوله:

وإني ورب الساجدين عشية

وما صك ناقوس النصاري أبيلها4

وقوله:

ربّي كريم لايكدر نعمة

وإذا يناشد بالمهارق أنشدا5

1 رسالة الغفران "211 وما بعدها".

2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها، القصيدة رقم 15 حيث يحلف بثوب راهب اللج.

3 ديوان الأعشى "دكتور م. محمد حسين"، راجع القصيدة رقم 5 من مدح قيس بن معد يكرب الكندي، والقصيدة رقم 15.

4 القصيدة رقم 23.

5 القصيدة رقم 34.

ص: 146

ولكننا نجده يقسم بالكعبة إذ يقول:

إني لعمر الذي خطت مناسمها

تخدى وسيق إليه الباقر الغيل1

ويقول:

وإني وثوبي راهب اللّج والتي

بناها قصيّ والمضاض بن جرهم

ويقول:

وما جعل الرحمن بيتك في العلا

بأجياد غربي الفناء المحرم2

وورد أن الأعشى كان يقول بالقدر. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى، وكان نصرانيا عباديا، وكان معمرا، قال: كان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا، قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى:

استأثر الله بالوفاء وبالعد

ل وولى الملامة الرجلا

قلت: فمن أين اخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبيل العبادين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك"3. وقد جعله "المرتضى" في عداد من كان على مذهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى لقوله البيت المذكور4.

وقد نسب الأعشى هلاك الإنسان وموته إلى فعل الدهر، إذ يقول:

فاستأثر الدهر الغداة بهم

والدهر يرميني ولاأرمي

يا دهر قد أكثرت فجعتنا

بسراتنا ووقرت في العظم

1 القصيدة رقم "6".

2 قصيدة رقم "15".

3 الأغاني "8/ 79".

4 أمالي المرتضى "1/ 21"، ديوانه "155".

5 أمالي المرتضى "1/ 46".

ص: 147

ومن شعره قوله:

وأرى الغواني لايواصلن امرأ

فقد الشباب وقد يصلن الأمردا1

وهو شعر يظهر أنه قاله بعد أن عبث به الكبر، وفقد الشباب، فقاله على عادة الشعراء في ذمهم المرأة حين بلوغهم هذه المرحلة من العمر.

وروي أنه مر بأبي سفيان بن حرب فسأله عن وجهه الذي قدم منه فعرّفه، ثم سأله: أين يقصد؟ فقال: أريد محمدا. فقال: إنه يحرم عليك الزنا والخمر والقمار، فقال له: أما الزنا فقد تركني ولم أتركه، وأما الخمر فقد قضيت منه وطرا، وأما القمار فلعلي أن أصيب منه خلفا. قال: فهل لك إلى خير؟ قال: وما هو قال: بيننا وبينه هدنة فترجع عامك هذا وتأخذ مائة ناقة حمراء، فإن ظهر أتيته، وإن ظهرنا كنت قد أصبت عوضا من رحلتك.

قال: لا أبالي. فانطلق به أبو سفيان إلى منزله وجمع له أصحابه وقال: يا معشر قريش، هذا أعشى بني قيس بن ثعلبة، وقد عرفتم شعره، ولئن وصل إلى محمد ليضربن عليكم العرب بشعره، فجمعوا له مائة ناقة وانصرف، فلما كان بناحية اليمامة ألقاه بعيره فوقصه فمات2.

ويذكر علماء الشعر، أن الأعشى كان قد هيأ قصيدة لينشدها أمام النبي، في صلح الحديبية، فلما صرفه "أبو سفيان" عن الذهاب إلى يثرب لم يقرأها. ومطلع القصيدة:

ألم تغتمض عيناك ليلة أمردا

وبتَّ كما بات السليم مسهدا3

وهي قصيدة نحلت عليه، ولا يمكن أن تكون من شعر هذا الشاعر الذي لم يتعود على التعمق في جزئيات أمور الدين، ثم إن القسم الخاص بمدح النبي من

1 أمالي المرتضى "1/ 612".

2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 240"، الخزانة "1/ 85"، رسالة الغفران "172 وما بعدها".

3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 576"، القطعة رقم 17 من ديوان الأعشى، الإكليل "2/ 259"، الخزانة "1/ 85 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 178 ما بعدها".

ص: 148

هذه القصيدة وبأحكام الإسلام ضعيف الحبك، لا يتناسب مع المطلع ولا مع شعر الأعشى الآخر، ولهذا ذهب أكثر المعاصرين إلى أنها من الشعر المصنوع1. وفيها أمور من المجرمات لايمكن أن يكون الأعشى قد وقف عليها.

ومماجاء في هذه القصيدة:

ألا أيهذا السائلي أين يممت

فإن لها في أهل يثرب موعدا

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولامن حفى حتى تلاقي محمدا

متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم

تراحي وتلقي من فواضله يدا

أجدك لم تسمع وصاة محمد

نبي الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

وأبصرت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله

وأنك لم ترصد لما كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنها

ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا

ولا تقربن جارة إن سرها

عليك حرام فانكحن أو تأبدا

نبي يرى ما لا يرون وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجدا2

وأنت إذا قرأت هذه الأبيات والأبيات الأخرى التي لم أذكرها، فستخرج جازما أنها من الشعر المصنوع المنحول على الأعشى. ففيها نهي عن أكل الميتة، وعن عبادة الأوثان، والحث على الصلاة، وعلى إيصال السائل المحروم وغير ذلك من آراء إسلامية، تجد جذوبها في القرآن.

وذكر أن الأعشى سمى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة. فقال:

وغريبة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها3

وقال بعض علماء الشعر: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في

1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 148"، طه حسين، في الأدب الجاهلي "258"، فؤاد أفرام البستاني، مجلة المشرق "المجلد 30"، "ص763 وما بعدها"، ديوان الأعشى "134"، "الدكتور م. محمد حسين".

2 وفي رسالة الغفران بعض الاختلاف عما جاءت في ديوانه وفي كتب الأدب، رسالة الغفران "178 وما بعدها".

3 تاج العروس "8/ 255"، "حكم".

ص: 149

بيت، وأشجع الناس في بيت، فأغزل بيت قوله:

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

وأخنث بيت قوله:

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

وأشجع بيت قوله:

قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا

أو ينزلون فإنا معشر نزل1

ومن جيد شعره قوله:

عهدي بها في الحي قد درعت

صفراء مثل الهرة الضامر

لو أسندت ميتا إلى نحرها

عاش ولم ينقل إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر2

وكان الأعشى سليط اللسان، إذا هجا أقذع، شديدا في هجائه، لذلك كان الناس يخشون جانبه، ويرهبون لسانه، وكان مداحا، يمدح فينال عطاء الممدوحين. وله أسلوب خاص في نظم الشعر، وفي العرض والسبك، وموسيقى النظم، وفي شعره طلاوة، وفي أبياته حلاوة. وقد أبدع في أمور، منها وصف الخمر، ووصف الحمر الوحشية، ولا نجد في شعره مكانة للأطلال والديار، وهو يطيل في النسيب3.

ومن أمثلة ما يروونه عن أثر شعره في الناس، أن رجلا بائسا مسكينا اسمه "المحلق"، كان والد ثمان بنات، ولايملك شيئا سوى ناقة، سمعت زوجته بذكر الأعشى وبمروره منهم في طريقه إلى سوق "عكاظ"، فأشارت على زوجها أن يركض إلى الأعشى ليستضيفه، لعله يمدحه، فيزوج بناته وينال شرف مديحه.

1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 967 وما بعدها"، الخزانة "3/ 518"، "بولاق".

2 أمالي المرتضى "1/ 451".

3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 148 وما بعدها".

ص: 150

بين الناس. ففعل، وذبح ناقته الوحيدة وأكرمه مع بناته غاية الإكرام، فلما علم الأعشى بسوء حاله، أعد له قصيدة، ألقاها في عكاظ، مطلعها:

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

فلما رأى الناس "المحلق"، وقد حياه الأعشى، أقبل الناس يخطبون منه بناته، فما قام من مقعده حتى خطبت بناته جميعا1.

ولعل خفة عروض شعر الأعشى ومرونته، وما في شعره من ترنيم ورنين، وما فيه من سهولة، تدل على براعة في الشعر، هي التي حملت بعض علماء الشعر على تقديمه على غيره، أو على رفع مكانته بوضعه في طبقة الشعراء الفحول من الطبقة الأولى، غير أن من العلماء من انتقد شعره، وانتقد إكثاره من إدخال الألفاظ الأعجمية في نظمه2.

وكان للأعشى راوية اسمه "عبيد"، كان يصحبه ويروي شعره، وكان عالما بالإبل. ومنه أخذ الرواة أخبار الأعشى وشعره. وكان "سماك" أحد الرواة المتصلين به، وعنه أخذ "حماد" الراوية أخباره عن الأعشى. وعنه أيضا أخذ "شعبة بن الحجاج" أخباره عن "الأعشى". وعن "شعبة" روى "مؤرج بن عمرو السدوسي""أبو فيد" أحد علماء البصرة المتوفى سنة "195هـ". وعنه أخذ "الرياشي" أخباره عن "الأعشى". و "الرياشي" هو "أبو الفضل" العباس بن الفرج مولى سليمان بن علي الهاشمي. وكان عالما باللغة والشعر كثير الرواية عن "الأصمعي". وقد توفي الرياشي سنة "257هـ"3.

وقد شك علماء الشعر في صحة نسب بعض الشعر إلى "الأعشى". فقد روى "أبو عبيدة" أن "أباعمرو بن العلاء" زاد بيتا على قصيدة:

بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا

واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا

وهو البيت الثاني من هذه القصيدة. وروى غيره أن "حماد" الراوية، هو

1 الخزانة "3/ 211 وما بعدها"، "بولاق".

2 الموشح "49 وما بعدها"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 149".

3 الشعر والشعراء "1/ 181"، الفهرست "92".

ص: 151