المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الستون بعد المائة: الشعراء الصعاليك - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٨

[جواد علي]

الفصل: ‌الفصل الستون بعد المائة: الشعراء الصعاليك

‌الفصل الستون بعد المائة: الشعراء الصعاليك

قال صاحب "اللسان": "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك، قال حاتم طيء:

غنينا زمانا بالتصعلك والغنى

فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر1

"والتصعلك: الفقر. وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى: عروة الصعاليك لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه"2، وقيل: الصعلوك: الفقير، وهو أيضا المتجرد للغارات"3. والصعاليك، قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم، لأسباب عديدة، منهم عدم إدراك أهلهم أو قبيلتهم نفسياتهم، مما سبب نفورهم منهم، وخروجهم على طاعة مجتمعهم، وهروبهم منه، والعيش عيشة الذؤبان، معتمدين على أنفسهم في الدفاع عن حياتهم، وعلى قوتهم في تحصيل ما يعتاشون به، بالإغارة على الطرق والمسالك، وبمهاجمة أحياء العرب المبعثرة، أفرادا أو طوائف، وهم أبدا في خوف من متعقب يتعقبهم، لاسترداد ما أخذ أو سلب، أو متربص يتربص.

1 اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك"، "صادر".

2 اللسان "10/ 456"، "صعلك"، تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".

3 جمهرة أشعار العرب "115".

ص: 167

بهم الدوائر ليأخذ منهم ما غنموه بالقوة من غيرهم أو ما قد يجده في أيديهم. ولهذا كانوا يتكتلون أحيانا، بانضمام بعضهم إلى بعض، مكونين جماعات، جمعت بينها وحدة الهدف، وغريزة حماية النفس، والمصلحة المشتركة بعد أن حرمهم أهلهم ومجتمعهم من تقديم أية مساعدة أو حماية لهم، وسحب منهم حق الأخذ بالثأر والانتقام ممن قد يعتدي عليهم، بحق "العصبية"، وبعد أن جعل دمهم هدرا، وتبرأ منهم ومن كل جريرة يرتكبونها، فلا يطالب أهلهم بدمهم، ولا يطالبونهم بأي دم قد يسفحه الصعلوك.

ولا أستبعد أن تكون للمغامرة ولإثبات الشخصية، دخل أيضا في حدوث الصعلكة وفي تمرد الشباب على مجتمعهم، على غرار ما نجده اليوم من تمرد على مجتمعاتهم، لإثبات وجودهم وشخصيتهم في هذه المجتمعات، بطريقة البعث بالعرف والعادات وبعدم المبالاة لأوامر العائلة والمجتمع، مما يجعلهم يسيرون سيرة الصعاليك في ذلك الوقت، فلو نظرنا إلى حالة الصعاليك نجد أن منهم من كان من أسرة متمكنة أو لا بأس بأحوالها المالية، ومع ذلك عاش صعلوكا، لما وجد فيها من مغامرات ومجازفات ومطاردة وهجوم ودفاع. فحب المغامرة، وإثبات الشخصية، من أسباب الصعلكة في الجاهلية كذلك.

والصعاليك بعد، حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه، للأسباب المذكورة، نبتت في أكثرهم عقد نفسية، تكونت عندهم من سوء معاملة المجتمع لهم، ومن سوء فعلهم وتصرفهم الخاطئ تجاه مجتمعهم، فهم حاقدون لا يبالون من شيء ولو كان ذلك سلبا ونهبا وقتل أبناء قبيلتهم وعشيرتهم، لأنهم خلعوا منها، وحرموا من حق الدم، فكان خلعها لهم سبب شقائهم وبؤس حياتهم، فأي حق بقي إذن يمنعهم من الحقد على القبيلة ومن مهاجمة العشيرة؟ ثم إنهم حاقدون على مجتمعهم، لأن منهم فقراء معدومين، لا شيء عندهم يعتاشون عليه، ولا ملابس لديهم تقيهم من الحر أو البرد أو المطر، وكل ما تقع أعينهم عليه، هو مفيد لهم نافع، ومن حقهم بحكم فقرهم انتزاعه من مالكه، وإن كان مالكه فقيرا معدما مثلهم، لأن النفس مقدمة على الغير، وهم يعيبون الخامل منهم الذي يعيش صعلوكا ذليلا قانعا بما كتب عليه من الذل والتشرد، عائشا على صدقات الناس، ويرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقنا وبالسيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لايبالي فيمن سيقع السيف عليه، وإلا عد

ص: 168

من "العيال". قال "السليك":

فلا تصلي بصعلوك نَئوم

إذا أمسى يعد من العيال

ولكن كل صعلوك ضروب

بنصل السيف هامات الرجال1

"ولذلك كان صعاليك العرب ولصوصهم وأرباب الإغارة منهم يرون أن ما يحوونه من النعم بالغارة، وينالونه بالسرق والسلة، إنما ذلك مال منعت منه الحقوق، ودفع عنه بالبخل والعقوق، فأرسلهم الله إليه وسببه لهم رزقهم إياه، كما قال عروة الصعاليك:

لعل انطلاقي في البلاد وعزمتي

وشدّي حيازيم المطية بالرحل

سيدفعني يوما إلى رب هجمة

يدافع عنها بالعقوق وبالبخل2

"وكما أن فيهم من يتمدح ببذل القرى ومعاناة الطوى، وتحمل الكلفة ومواساة ذوي الخلة، فكذلك فيهم البخيل الجامع، واللئيم الراضع، ومن يؤثر التفرد بناره والاستئثار بزاده دون ضيفه وجاره، وينشد لبعضهم:

أعددت للأضياف كلبا ضاريا

عندي وفضل هراوة من أرزن

وقال الآخر:

وإني لأجفو الضيف من غير بغضة

مخافة أن يغري بنا فيعود

وقال الأصمعي: مر ابن حمامة بالحطيئة، فقال: السلام عليك. قال: قلت ما لا ينكر. قال: إني أردت الظل. قال: دونك، والجبل حتى يفيء عليك. قال: إني خرجت من عند أهلي بغير زاد. قال ما ضمنت لأهلك قراك. قال: إني ابن حمامة. قال: كن ابن نعامة. فمضى عنه آيسا.

قال: وخرج الحطيئة يوما من خبائه وبيده عصا، فقال له رجل: ما هذه؟ قال: عجراء من سلم. قال: إني ضيف. قال: للضيف أعددتها"3.

1 الشعراء الصعاليك "235".

2 الجمان في تشبيهات القرآن "262 وما بعدها".

3 الجمان في تشبيهات القرآن "260 وما بعدها".

ص: 169

والحطيئة من الملحفين في السؤال المستجدين الذين لا يخجلون من الاستجداء. فكان يلح في شعره بالطلب، ويحاول بكل الطرق جمع المال، حتى أهان نفسه، ولم يترك رجلا معروفا إلا ذهب إليه يسأله أن يعطيه مما عنده، فلما عين "عمر""علقمة بن علاثة" على حوران، قصده "الحطيئة"، فوجده قد مات، فقال:

وما كان بيني لو لقيتك سالما

وبين الغنى إلا ليال قلائل1

فأعطاه ولده مائة ناقة مع أولادها.

وقد عاب "الأعشى""علقمة بن علاثة"، بقوله:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا2

وقد وجد الصعاليك في الأغنياء البخلاء، هدفا صالحا لهم. فهؤلاء أصحاب مال، وهم أصحاب جوع، ولا بد للجوعان من أن يعيش، فلم يجدوا في مباغتة الأغنياء أي حرج يمنعهم من السطو على أموالهم، لأنها زائدة عليهم، وهم في حاجة إليها، وبذلك يضمنون لأنفسهم ولإخوانهم الجياع الصعاليك أسباب الحياة، فالحاجة عندهم تبرر الواسطة، وإذا امتنع إنسان على صعلوك وأبى تسليم ما عنده إليه، فهو لا يبالي من قتله، فالقتل ليس بشيء في نظره، منظره مألوف، والفقر ذاته قتل للإنسان، بل أشد فتكا به من القتل، والصعلوك نفسه لا يدري متى يقتل، فلا عجب إذا ما رأى القتل وكأنه شربة ماء.

وكان "أبو عبيدة"، لا يستأنس بسماع شعر الصعاليك، لأنهم فقراء، قال "أبو حاتم":"جئت أبا عبيدة يوما، ومعي شعر عروة بن الورد، فقال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير"3، فهو من المحبين للأغنياء، وما الذي يجنيه من الفقراء! وكان "أبو مالك عمرو بن كركرة" البصري، مثل "أبي عبيدة" في الابتعاد عن الفقراء، بل كان أشد منه تعصبا عليهم،

1 الجمان في تشبيهات القرآن "288".

2 الجمان في تشبيهات القرآن "259".

3 أمالي المرتضى "1/ 638".

ص: 170

قال الجاحظ: "كان أحد الطياب، يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء. ويقول إن فرعون عند الله أكرم من موسى"1. و "ابن كركرة" أعرابي، وكان مرجع الأعراب الوافدين إلى البصرة، وقد تحدث عنه "الجاحظ" في كتبه.

وقد عرف الصعاليك بـ "الذؤبان" وبـ "ذؤبان العرب"، "وذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم وشطارهم الذين يتلصصون ويتصعلكون، لأنهم كالذئاب"2.

وعرفوا باللصوص لأنهم كانوا يتلصصون. واللص السارق، في لغة طيء3، وقيل لهم:"الشطّار". "والشاطر من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرا، جمعه الشطار كرمّان. وهو مأخوذ من شطر عنهم، إذا نزح مراغما. وقد قيل إنه مولد"4. وعرفوا بـ "الخلعاء"، والخليع الشاطر، "وهو مجاز سمي به، لأنه خلعته عشيرته وتبرأوا منه، أو لأنه خلع رسنه. ويقال: خلع من الدين والحياء"5.

"وكان في الجاهلية إذا قال قائل مناديا في الموسم: يا أيها الناس! هذا ابني قد خلعته، وذلك إذا خاف منه خبثا أو خيانة، أو من هو بسبيل منه، فيقولون: إنا قد خلعنا فلانا، أي فإن جر لم أضمن، وإن جر إليه لم أطلب. يريد تبرأت منه. وكان لا يؤخذ بعد بجريرته وهو خليع"6. و "الخلعاء" جماعتهم.

"واختلعوه إذا ذهبوا بماله"7. ولعل لهذا التفسير صلة بالصعلكة التي تعني الفقر، فالفقر والإملاق والجوع من أهم الملازمات التي لازمت ورافقت الصعاليك، وفي هذا المعنى أيضا ما جاء في كتب اللغة: "وشفر المال تشفيرًا: قل وذهب"8، ولعل للفظة "الشنفرى"، صلة بهذا المعنى، وقد تكون للفظة "الرجل" التي تعني البؤس والفقر9، صلة بهذا المعنى كذلك. فقد عرف الصعاليك بـ "الرجليين".

1 الفهرست "72".

2 تاج العروس "1/ 248"، "ذاب"، الخزانة "3/ 532".

3 تاج العروس "4/ 432"، "لص".

4 تاج العروس "3/ 299"، "شطر".

5 تاج العروس "5/ 321"، "خلع".

6 تاج العروس "5/ 321"، "خلع".

7 تاج العروس "5/ 322"، "خلع".

8 تاج العروس "3/ 308"، "شفر".

9 تاج العروس "7/ 338"، "رجل".

ص: 171

وبـ "الرجيلاء"، وعرف الواحد منهم بـ "الرجليّ"1، وقد تكون للفظة "الخلع" صلة بالفقر والإملاق كذلك، بدليل ما ذكروه في تفسير "المعيل" من قولهم:"المعيل: الذي قصر ماله وعليه عيال"2. وقد عرف الصعاليك بـ "الرجليين" لاستعمالهم أرجلهم في الإقدام والهروب، لأنهم فقراء لا يملكون غير أرجلهم تحملهم إلى المواضع التي يريدون سرقتها، إذ لا خيل لهم يركبونها لعجز أكثرهم عن شرائها، فلا يكون أمامهم غير الاعتماد على الرجل.

والجوع حليف ملازم للصعاليك، لم ينفر منهم، ولم يبتعد عنهم لذلك كثر الحديث عنه في شعرهم وفي أخبارهم. وقد كانوا يهربون منه، لكنهم لم يفلتوا منه. فقد كان ممسكا بهم، ملازما لهم، ما داموا صعالكة، فالجوع نفسه جزء من أجزاء الصعلكة. وفي شعر "عروة بن الورد" أن الجوع كان ينزل به، حتى يكاد يهلكه، أنزل به الهزال، وأراه الموت، لولا أنه كان يتهرب منه بالغارة، لينال منها البلغة، فالمنايا خير من الهزال المقيت المميت3. وفي شعر للسليك بن السلكة، أن الجوع كان يغشاه في الصيف، حتى كان إذا قام تولاه إغماء شديد، يريه الدنيا ظلاما من أثر الجوع4.

وما دامت حياة الصعلكة جوع وفقر، وإملاق وهروب من متعقب، فالموت خير للصعلوك من حياة يعيشها فقيرا، لا أقارب له تعطف عليه، ولا أهل يشفقون عليه، ولا قوم يراجعونه ويتعهدونه بالحماية5، حياته موحشة قاسية، تفور بالأخطار والتهلكة والمغامرات، لايدري متى يأتيه الموت ومن أين يأتيه، إذا نام، خاف من غادر قد يغدر به، ومن متعقب يتعقب أثره، ومن طالب ثأر يريد الأخذ بثأره، ومن حيوان صعلوك مثله، يريد أن يقضي على

1 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، "أجارت السليك بن السلكة السعدي، وكان رجليًّا"، المحبر "433".

2 تاج العروس "5/ 321"،"خلع".

3

أقيموا بني لبني صدور ركابكم

فإن منايا القوم خير من الهزل

ديوان عروة "106".

4 الأغاني "18/ 135".

5

إذ المرء لم يبعث سواما ولم يرح

عليه ولم تعطف عليه أقاربه

فللموت خير للفتى من حياته

فقيرا ومن مولى تدب عقاربه

ديوان عروة "150"، وينسبان لغيره، حماسة أبي تمام "1/ 166، 167".

ص: 172

جوعه بافتراسه، وهو معذور في ذلك لأنه جائع لا طعام له، ومن هنا هان الموت في نظر الصعلوك، فهو معه يتبعه مثل ظله وملازم له، وتولدت في نفسه فلسفة "الآجال": فلسفة أن لكل نفس أجل، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الإنسان مهما عاش وعمر، فلا بد من أن يلاقي الموت ويستجيب له، لن ينجيه منه قصر "ريمان"، ولا حرس أبوابه المدججون بالسلاح، يمنعون الناس من دخوله، فالموت لايعرف جرس القصور ولا يحول بينه وبين من يريد الوصول إليه حائل مهما كان. قال أبو الطمحان القيني:

ولو كنت في ريمان تحرس بابه

أرجايل أحبوش وأغضف آلف

إذن لأتتني حيث كنت منيتي

يخب بها هاد بامري قائف1

ولقرب الموت من الصعاليك، ولتعقب أصحاب الثأر دوما لهم، لازموا سلاحهم، فكانوا لا ينامون إلا وسيفهم معهم. كما لازمهم الرقاد والسهر بالليل، خشية مباغتة غادر لهم، والليل رفيق الغدر، لذلك كان ليلهم قصيرا، ونومهم قليلا، من شدة قلقهم ومن تحسبهم لتعقب طلاب الثأر لهم، ونجد في شعرهم إشارات إلى مظاهر القلق الذي كان يستولي عليهم، فيحول بينهم وبين النوم.

ونجد في شعر للشنفرى توجع وتألم ومرارة، وإن صيغ بصورة الاستهتار بالموت وبالحياة، فهو إن جاءه الموت، فلن يبالي، ولمَ يبالي، وهو إنسان خليع بائس، إن مات لا يجد من يبكي عليه من أحد. فأي توجع أشد من هذا التوجع المصوغ في هذا البيت الساخر:

إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها

ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي2

ولكن الحياة على ما فيها من مرارة وشقاء، مطلوبة محبوبة، فرب لحظة فيها حبور تنسي كل ما كابده الإنسان من تعاسة وشقاء، والموت مكروه ممقوت، وإن تمناه المتمني، وما تمنيه له إلا لثورة طارئة في النفس ولضيق في الصدر، فإذا بان الموت لمتمنيه ضاق صدره، وتمنى لو مد في عمره، يدفعه الأمل إلى

1 الأغاني "11/ 133".

2 الأغاني "21/ 139"، الشعراء الصعاليك "33".

ص: 173

التفكير في احتمال تغير الأوضاع، وتحسن الحال، والحصول على الغنى والمال، بشرط أن يسعى ويضرب في الأرض وأن يكون صادق العزيمة، لايخور أمام المصائب مهما كانت شديدة عاتية ولا ينهار منها:

فسِرْ في بلاد الله والتمس الغنى

تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا1

وقد كان عماد الصعلوك في حياته، قوته الجسدية وسلاحه الذي يحارب به، وجماعته الذين يأوي إليهم، وكان يقاتل بضراوة، قتال المستميت، لأنه إن لم يدافع عن نفسه، هلك، إذ لا أمل له في وجود عصبية تدافع عنه، أو أهل يقومون بافتدائه وتخليصه من أسر إن وقع فيه، وسبيله الوحيد لخلاصه عند قيامه بغارة: المباغتة والهرب بما قد يحصل عليه بسرعة، كي يأمن العاقبة، وعمل الحيلة في التخلص من المأزق، لكيلا يقع في أيدي متعقبه، فيكون بذلك هلاكه، وفي جملة ذلك الفرار، للنجاة بالنفس من موت محتم. وهو فرار يؤدي به إلى معاودة الغارة والتلصص، إذ لا مورد له في هذه الحياة يتعيش منه غير هذين الموردين. فحاله في هذا الفرار حال "أبي خراش" الهذلي حيث يقول:

فإن تزعمي أني جبنت فإنني

أفر وأرمي مرة كل ذلك

أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا

وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك2

ونظرا لفقر الصعاليك، وعدم وجود مال لديهم يكفل لهم شراء فرس يركبونها في غاراتهم، اعتمد أكثرهم على أرجلهم في طلب رزقهم، وفي الحصول على معاشهم، وعلى خفة حركاتهم، وسرعتهم في الهروب من تعقب المتعقبين لهم في حالتي الفشل أو النجاح. وكان من بينهم من ضرب به المثل في زمانه في شدة العدو، وفي سرعة الركض، ورويت عنه الأقاصيص في ذلك. منهم "سليك بن المقانب بن السلكة"، وهو عدّاء بالغ. يقال: أعدى من السليك3. وقد عرفوا لذلك بـ "العدائين" لشدة عدوهم4، جمع "عداء"، ومنهم أيضا

1 ديوان عروة "191".

2 ديوان الهذليين "2/ 169"، الدكتور يوسف خليف، الشعراء الصعاليك "40".

3 تاج العروس "1/ 409"، "غرب".

4 الخزانة "2/ 17".

ص: 174

"الشنفرى": "شاعر عداء. ومنه المثل: أعدى من الشنفرى"1، وكان من العدائين. وفي المثل: أعدى من الشنفرى"2. كما عرفوا بـ "الرجليين" وبـ "الرجيلاء"، وهم "قوم كانوا يعدون. كذا في العباب. ونص الأزهري: يغزون على أرجلهم، الواحد رجليّ محركة أيضا

وهم سليك المقانب، وهو ابن سلكة، والمنتشر بن وهب الباهلي، وأوفى بن مطر المازني"3، "والرجلة بالفتح وبالكسر: شدة المشي، أو بالضم القوة على المشي، وفي المحكم: الرجلة بالضم المشي راجلا"4. وقد صار العدو من أهم صفاتهم ومميزاتهم التي امتازوا بها عن غيرهم، حتى قيل إن الخيل لم تكن تلحق بهم. ونعتوا بأنهم كانوا أشد الناس عدوا، وأنهم "لا يجارون عدوا"، و "لا يلحقون"5. ومن العدائين: "تأبَّط شرًّا"، و"عمرو بن البراق"، و "أسيد بن جابر"6. وورد أن العرب كانت تضرب بالسليك المثل في العدو، وتزعم أنه والشنفرى أعدى من رئي7.

وضرب المثل بسرعة عدوهم، واتخذ القصاص من شدة عدو الصعاليك مادة أدخلوها في قصصهم، وبالغوا فيها لتناسب طابع القص وأسلوبه، وقد وجد بعضه سبيلا إلى كتب الأخبار والأدب والعجائب والنوادر. وتؤلف المبالغات في سرعتهم وعدوهم أهم عنصر في القصص الذي يتحدث عنهم، نجد فيها أن الصعلوك يسابق الخيل، فيسبقها، هذا "أبو خراش" الهذلي، يدخل مكة، فوجد "الوليد بن المغيرة" المخزومي، يهم بإرسال فرسين له إلى "الحلبة" فيقول له: ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت فهما لك، فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما"8. وهذا "تأبط شرا" يوصف بأنه: كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر

1 تاج العروس "3/ 318"، "الشنفيرة".

2 تاج العروس "3/ 308 "، "شفر".

3 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، ثمار القلوب "135".

4 تاج العروس "7/ 336"، "رجل".

5 الأغاني "12/ 49"، "18/ 133 وما بعدها"، المرزباني "468"، الخزانة "2/ 16".

6 تاج العروس "3/ 308، 318"، "شفر"، "شنفر".

7 ثمار القلوب "134".

8 الأغاني "21/ 57".

ص: 175

إلى الظباء، فينتفي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"1. إلى غير ذلك من قصص وحكايات.

وقد فخر العداؤون بشدة عدوهم، وتباهوا بمقدرتهم على العدو السريع، حتى إنهم نسبوا سبب نجاتهم من الموت إلى عَدْوهم هذا، لا إلى قتالهم وشجاعتهم، وبالغوا في شعرهم به، حتى ذكروا أنهم كانوا يسبقون الخيل والظباء بل الطير2. هو نوع من "البطولة" في مفهوم الصعاليك، حتى إنهم -كما قلت- فضلوه على الشجاعة، وإذا كانت الشجاعة ضرب من الإقدام وإظهار المقدرة والرجولية؛ فالركض فرارًا نوع من البطولة أيضا، فيه مقدرة وشجاعة في ضبط الأعصاب وفي التصميم والإقدام على السلامة والنجاة بالنفس وبقاء الحياة وهكذا وجدوا لفرارهم عذرا اعتذروا به، فهم إن اختاروا الفرار وفضلوه على المعاركة والقتال فإنما اختاروه لأنه فيه أمل المعاودة إلى قتال جديد، ثم إنهم لا يرون سببا يدعو الإنسان إلى أن يرمي نفسه في المهالك، وأن يكون طعاما للوحوش الكاسرة3.

فليس في الهروب جبن، وليس في الإقدام شجاعة، والعاقل من اتعظ فنجى نفسه من الموت، وفي النجاة شجاعة.

وقد كان لسرعة عدو الصعاليك العدائين فضل كبير عليهم في النجاة من المهالك المحتمة، هذا "تأبط شرا"، يذكر في شعر له أنه وقع في فخ في موضع "العيكتين"، وكاد يهلك، لولا استعانته بالركض، ولا أحد أسرع منه، وبذلك نجا وخلص من الوقوع في داهية4. فلا عجب إذن، إذا ما افتخروا بسرعة عدوهم، وجاهروا بما لأرجلهم من فضل ومنة عليهم. فلولا العدو لما خرج "أبو خراش" سالما من موت كان قد أحاق به، ولكنه غلب الموت بشدة عدوه وهروبه منه، فعاد سالما إلى حليلته، فاستقبلته ابنته بقولها:

سلمت وما إن كدت بالأمس تسلم

وأنقذ بذلك ابنة "خراش" من الوقوع في اليتم5.

1 الأغاني "18/ 210".

2 الشعراء الصعاليك "209 وما بعدها".

3 الشعراء الصعاليك "209 وما بعدها".

4 المفضليات "7 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "42".

5 الأغاني "21/ 56 وما بعدها"، ديوان الهذليين "2/ 148".

ص: 176

فلا عجب إذن، إن رأينا"الحاجز الأزدي"، يفدي رجليه بأمه وخالته، وهو فداء في نظرنا غريب، لكنه ليس بغريب، بالنسبة إلى إنسان رجلاه رأسماله في هذه الحياة، بفضلهما سلم من المهالك، وحصل على قوته، ولولاهما لكان من الهالكين:

فدى لكما رجلي أمي وخالتي

بسعيكما بين الصفا والأثائب1

وكان الصعاليك يغيرون فرسانا كذلك، كانوا يجيدون ركوب الخيل والإغارة عليها، وعد بعضهم من خيرة فرسان الجاهلية، ولعروة بن الورد فرس يسمى "قرمل"2، وللسليك فرس يسمي "النحام"3، وللشنفرى فرس يسمى "اليحموم"4، وقد عرفت هذه الأفراس بشدة عدوها.

والسلاح للصعلوك، هو الحماية التي يتقي بها أذى الناس، ويستعين بها في القضاء على خصمه، وهو السيف والقوس والرمح والدرع والمغفر، وكان لا يفارق سلاحه، لأنه لا يدري متى ينقض عليه عدو له فيقتله، فكان لا بد له من حمل سيفه معه، واعتناقه له حين نومه، وقد عد "عروة بن الورد"، و"عمرو بن براقة" السلاح رأسمالهما الذي يتكلون عليه في هذه الحياة5.

ولصعوبة تصعلك الرجل بمفرده، تكتل الصعاليك كتلا، وكونوا لهم فرقا، تكونت من أشتات وأنماط من الرجال، فيهم الحر الثائر، وفيهم الضال الغاوي، وفيهم الأسود العبد، وفيهم القاتل الفاتك. وهم بالطبع من قبائل مختلفة ومن بطون متنافرة. فلا تجمعهم عصبية القبيلة، ولا نخوة العشيرة، ومع ذلك فبينهم رابطة قوية، ووحدة جمعت بينهم، هي وحدة الدفاع عن النفس، والذب عنها، والكفاح في سبيل المعيشة، بأي سبيل، وبأية طريقة وجدت ووقعت، حتى بالقتل. فمن وجد شخصا ومعه مال؛ لا يجد الصعلوك والقاتل سببا أخلاقيا

1 الأغاني "12/ 52".

2 قال عروة:

كليلة شيباء التي لست ناسيا

وليلتنا إذ مَنَّ ما مَنَّ قرمل

تاج العروس "8/ 79"، "القرمل".

3 ذيل الأمالي، للقالي "188".

4 ديوان الشنفرى، تحقيق الميمني، "لجنة""ص40".

5 ديوان عروة "207"، الأغاني "21/ 175".

ص: 177

يمنعه من قتله للحصول على ماله. فلما كان "عروة بن الورد" في أرض "بني القين" يتربص المارة، فمرت به إبل، فيها ظعينة ورجل يحرسها، خرج إليه "عروة" فرمى الرجل بسهم في ظهره، أرداه قتيلا، واستاق الإبل والظعينة1.

ولما خرج "الأخينس" الجهني فلقي "الحصين" العمري، وكانا فاتكين، وسارا حتى لقيا رجلا من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك، طمعا به، فاغتره "الحصين" فضرب بطنه بالسيف فقتله، واقتسما ماله، ثم ركبا، وطمع "الأخينس" في مال "الحصين" فتربص به الفرص حتى أخذه على غرة فقتله واستولى على ما كان عنده، في حكاية تروى، وفيه يقول الأخينس على لسان "صخرة" أخت "الحصين":

تساءل عن حصين كل ركب

وعند جهينة الخبر اليقين2

فالفاتك لا يجد مانعا أخلاقيا يمنعه من الفتك بأي شخص إن وجد عنده المال ووجد له فرصة مواتية، ثم هو لا يمتنع من الفتك حتى بزميله وصاحبه وشريكه في الإغارة والفتك، والتاجر لا يأمن من حراسه ومن مرافقيه حتي يصل مقره، لأن الفقر لا يعرف أخا ولا صديقا وشريكا، قاتل الله الفقر ووقانا شره!

ونجد "تأبط شرا"، يتبجح في شعر ينسب له، فيقول إنه لا يبيت الدهر إلا على فتى أسلبه، أو على سرب أذعره3. ونجد صاحب "لامية العرب"، إن صح أنها للشنفرى، يصف غارة ملأت الرعب في قلب من وقعت عليهم، قام بها في ليلة باردة، عاد منها سالما معافى بغنائم، وهو فرح بما تركه من قتل وسلب وألم في نفوس النساء والأطفال، إذ يقول:

فأيمت نسوانا وأيتمت إلدة

وعدت كما أبدأت والليل أليل4

ونجد "السليك" يخرج مع صعلوكين يريدون الغارة، فساروا حتى أتوا بيتا متطرفا، ووجد شيخا غطى وجه من البرد، وقد أخذته إغفاءة، ومعه إبله

1 ديوان عروة "113"، "إخراج عبد المعين الملوحي".

2 عيون الأخبار "1/ 181 وما بعدها"، "طبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي".

3 الأغاني "18/ 217".

4 الشعراء الصعاليك "49".

ص: 178

ترعى، فأسرع إليه وضربه بسيفه فقتله، ونهبوا إبله، وعادوا بها مسرعين فرحين، خشية شعور الحي بأمرهم وتعقبهم لهم. قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير، لقتله إنسانا نائما طاعنا في السن يرعى إبله، وإن وجدناه يبرر فعلته هذه، بأنه لم ينل هذه الإبل إلا بعد أن صكَّه الجوع، واستولى عليه الفقر، فهو قد قام به مضطرا1، والضرورات تبيح المحظورات.

ونرى "صخر الغي" المزني، يقول في شعر له، إنه قتل رجلا من "مزينة" وسلبه ماله، ليقوى به مال رجل فقير، لا يملك مالا:

في المزني الذي حششت به

مال ضريك تلاده النكد2

وعلى الرغم من هذا العنف، ومن هذه القساوة العنيفة، التي تصل إلى الوحشية نرى عند بعضهم، روحا إنسانية، فيها العطف على الضعيف ومساعدة المحتاج وبذل المال والنجدة، والبر للأهل والأقارب بل وللغريب أيضا. بل نجد هذه الروح أحيانا حتى عند القساة منهم، وسبب ذلك أن الصعالكة في ثورات نفسية، يعيشون عيشة قلقة مضطربة، فإذا كانوا في ثورة جامحة من جوع وحاجة وتألم بما حلّ بهم وبما هم فيه من سوء حال، هاجوا فكفروا بكل شيء، وثاروا على كل شيء وعلي كل أحد، وصاروا لا يبالون بعرف ولا سنة، يقتلون لأتفه الأسباب، لأنهم معرضون أنفسهم في كل لحظة للقتل. ثم إن القتل لا شيء بالنسبة إلى تلك الأيام، وإن تعاظم في نظرنا، فهم في ذلك مثل الأسود الجائعة، لا تعبأ بشيء، وكل همها الحصول على فريسة لتأكلها فتعيش عليها، فإذا وجد الصعلوك غنيمة، وعاد إلى مقره سالما ارتخت أعصابه، وهدأت سورته، وتذكر نفسه وما يقاسيه من ألم وجوع، فيعود إنسانا آخر، بارا بأصحابه حنونا عليهم، نادما على حياة يعيشها جعلته يعيش مثل الوحوش الكاسرة، كريما يعطي مما ناله بقوته وبسلاحه وبذكائه. هذا "عروة بن الورد" و "أبو خراش" الهذلي

1

وما نلتها حتى تصعلكت حقبة

وكدت لأسباب المنية أعرف

وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني

إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف

الشعراء الصعاليك "182 وما بعدها".

2 الشعراء الصعاليك "238".

ص: 179

وغيرهما، فنجد فيهم النقيضين، نجد فيهم القسوة بل الوحشية، ثم نجد فيهم العطف والشفقة والرحمة والإشفاق على الضعفاء، وما الجمع بين النقيضين إلا من واقع هذه الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية التي كانوا يعيشون فيها.

وفي شعر ينسب إلى "أبي خراش" الهذلي، امتداح للكرم ولكرامة الإنسان في الحياة، وترفع عن المذلة وتباه بإيثار الغير على نفسه، مع أنه فقير صعلوك، فهو يقول:

وإني لأُثوي الجوع حتى يملني

فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي

وأغتبق الماء القراح فأنتهي

إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

أرد شجاع البطن قد تعلمينه

وأوثر غيري من عيالك بالطعم

مخافة أن أحيا برغم وذلة

وللموت خير من حياة على رغمِ1

وقد عاش هؤلاء على المباغتة والغارات، فكانوا يتسترون في المواضع الوعرة، في مفارق الطرق وشعاب الجبال حتى إذا مر بهم مار، ووجدوا أن في إمكانهم الحصول على غنيمة، باغتوه، وأخذوا منه ما هو عنده. وقد يغيرون على الأحياء ليلا، فيأخذون ما يجدونه أمامه، ثم يجرون بسرعة حتى لا يدركهم أحد، ليصلوا إلى مواضع آمنة بعيدة عن التعقيب، مثل الكهوف والمغاور والآكام، يأوون إليها ويعشون بها عيشة الخائف المتشرد الهارب من مجتمعه، الحاقد عليه، لأن في قلبه حقدا عليه، لأنه لم يفهمه ولم يفهم سبب نقمته على مجتمعه. وأكثرهم من الشباب الذين خرجوا على طاعة أوليائهم أو على عرف مجتمعهم، أو عوملوا معاملة أشعرتهم أنها أذلتهم وجرحت كرامتهم، فانفصلوا بذلك عن أهلهم وعشيرتهم أو فصلهم أهلهم عنهم، فلم يبق أمامهم من سبيل سوى التصعلك والتشرد.

وكان من هؤلاء مثل "عروة بن الورد" من جمع حوله الصعاليك، ولفّهم حوله، فكان يغزو بالقوي الجسر منهم، فإذا أصابوا مغنما جاءوا به إلى أصحابهم الضعفاء ممن لا يتمكنون أو لا يتجاسرون على الغارة، فيصيبونهم مما أصابوا ويعينونهم بما غنموا، وحياة على مثل هذا الطراز، هي حياة شديدة قاسية ولا شك.

1 ديوان الهذليين "2/ 127"، "دار الكتب"، الأغاني "21/ 42".

ص: 180

وقد كانت المرتفعات الصعبة المشرفة على المسالك والطرق الضيقة من أهم الأماكن المحببة إلى نفوس الصعاليك وقطاع الطرق، يجتمعون بالمواضع المشرفة منها على الطرق لمراقبة المارة، من "مرقبة" تخفى معالمها لئلا يراها أو يفطن لوجودها سلاك الطرق، فإذا مروا بها انقضوا عليها منها، وكأنهم هبطوا عليهم من السماء. ونجد لها ذكرا في شعر الصعاليك واللصوص وقطاع الطرق1. وقد اشتهر جبل هذيل بمرقباته، ورد: "والمرقبة جبل كان فيه رقباء هذيل"2.

ونجد في شعر "تأبط شرا" أنه كان يغير على "أهل المواشي" و "أهل الركيب" والحبّ، وعلى "أرباب المخاض"، فعند هؤلاء ما يطمع فيه الفقير الصعلوك من مال وحب يعتاش عليه، ومن نوق حوامل3. ونرى "الأعلم" الهذلي، يذكر أنه يغزو المترف السمين، الذي يعيش بين الستائر والكنيف، بينما هو وأمثاله لا يملكون شيئا، فإذا هاجموه، خاف وانهدّ كيانه4. ولهذا صار الساكنون في الأرضين الخصبة والتجار والسابلة من خيرة الأهداف التي كان يترصدها الصعالكة، لعلمهم بوجود شيء عند أصحابها، أكثر مما يجدونه عند الأعراف الضاربين في البوادي النائية المكشوفة.

ويطمع الصعاليك أيضا بعضهم في بعض، فالحياة جوع وفقر، والفقر كافر لا يعرف عرف "المهنة" ولا مجاملات الصنف، ثم هم أبناء البادية، ومن طبع البادية، أن يغير أبناؤها بعضهم على بعض، للحصول على لقمة العيش، فكان الصعاليك تبعا لهذه السنة يغير بعضهم على بعض، خاصة إذا كانوا صعاليك متعادية. فكان بين صعاليك هذيل وصعاليك فهم، عداء شديد، وحقد دفين، بسبب العداوة بين الحيين5، عداوة مرجعها تجاور الحيين، واختلاف مصالحهما الحيوية، وطمع القبيلتين في "بجيلة"، و "بجيلة" في جوار "الطائف"، وهي غير

1 الشعراء الصعاليك "186 وما بعدها".

2 تاج العروس "1/ 276"، "رقب".

3

فيوما على أهل المواشي وتارة

لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل

ولكن أرباب المخاض يشفهم

إذا اقتفروه واحدا أو مشيعا

الأغاني "18/ 217"، حماسة أبي تمام "2/ 28".

4 الشعراء الصعاليك "237".

5 شرح أشعار الهذليين "1/ 233 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "48".

ص: 181

بعيدة عن فهم، ولا تبعد منازلها بعدا كبيرا أيضا عن ديار هذيل1.

وكان بين "صخر الغي" الهذلي و "تأبط شرا" عداء شديد. وقد سمى "الهذليُّ""تأبط شرا" بـ "ابن ترني" ازدراء به. ونجد في الشعر الوارد في هجاء الشاعرين بعضهما لبعض لونا طريفا من ألوان هذا الصراع الذي كان يقع بين الصعاليك2، وهو صراع أسبابه عديدة، صراع متولد من عصبية قبلية، أو من تنافس وتحاسد في الحرفة وعلى الرئاسة والزعامة والصيت والشهرة، أو في طمع كل واحد منهم في الآخر للاستيلاء على ما حصل عليه من مال ليتعيش به. وقد انتشر الصعاليك في كل موضع من جزيرة العرب، ففي كل مكان منها جوع وفقر وصعلكة، حتى صاروا قوة مرعبة مخوفة، لشد بأسهم في القتال، ولمعرفتهم بالمسالك وبمنافذ الطرق وبمداخلها وبأسرار البوادي وخفايا النجاد والجبال، فكانوا أن اتخذوا من الكهوف والمنحدرات والمسترات المشرفة على الأودية والطرق، مواضع رصد واختفاء، يراقبون منها حركات المارة، فإذا وجدوهم دخلوا موضعا صعبا، يمكن حصرهم به، انقضوا عليهم، فأخذوا منهم ما يكون عندهم من متاع هذه الدنيا، ثم هربوا بما غنموا إلى مخابئهم حيث لا يصل إليهم أحد، وإن وجدوا أن السابلة أقوى منهم وأشد بأسا، اتخذوا من الفرار وسيلة للسلامة والنجاة، فلا يلحقهم متعقب، ولايطمع أحد في إصابتهم بمكروه، وهم على علم واسع وخبرة عالية بمجاهل البوادي وبخبايا الأرض وهكذا يكونون في نأي عن التعقيب وفي منجاة من التعقب. ولما سدت السبل في وجه "النعمان بن المنذر" بعد أن غضب كسرى عليه، وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان، لجأ إلى "هانئ بن قبيصة" الشيباني، فأجاره وقال: "لزمني ذمامك، وإني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وأن ذلك مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لست أشير به لأدفعك عما تريد من مجاورتي، ولكنه الصواب، فقال هاته، قال: إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه، إلا أن يكون بعد الملك سوقة. والموت نازل بكل أحد، ولأن تموت كريما خير من أن تتجرع الذل أو تبقى سوقة بعد الملك. امض إلى صاحبك واحمل عليه هدايا ومالا وألق نفسك بين يديه،

1 شرح أشعار الهذليين "1/ 233 وما بعدها".

2 الشعراء الصعاليك "192".

ص: 182

فإما أن يصفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن يصيبك، فالموت خير من أن تتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها"1، وفي نصيحة هانئ للنعمان، وإشارته فيها إلى "صعاليك العرب" دلالة على انتشارهم في كل مكان. وأنهم صاروا خطرا على الأمن، يحسب له كل حساب.

ولما خلع "امرؤ القيس"، وصار ضليلا خليعا، "جمع جمعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"2، وأخذ يغير بهم على أحياء العرب، وما كان "امرؤ القيس" ليجمع جمعهم ويحزبهم حزبه لو لم تكن في نفسه حاجة إليهم، فقد كانوا قوة، وقد صاروا رعبا يخيف الناس، كالذي كان في جبل "تهامة" من تكتل خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة والسودان، من تكتلهم وتحزبهم وأخذهم من كان يمر بالغارة والنهب والسلب، بقوا على ذلك أمدا ثائرين على مجتمعهم، حتى ظهر الإسلام، فكاتبهم الرسول، وأمنهم أنهم أن آمنوا وأقاموا الصلاة، وصدقوا، "فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"3. فهم قوم متمردون ثائرون لايعطون أحدا طاعة، إلا طاعة أنفسهم والمترئس فيهم. ولعل هذا هو الذي حدا بأهل النسب والأخبار أن يقولوا: "والخلعاء: بطن من بني عامر بن صعصعة

كانوا لا يعطون أحدا طاعة"4.

وهكذا وضع "الصعاليك" أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم لتحقيق أهدافه التي يريدها، مقابل ترضيتهم وإعاشتهم، كما يفعل الجنود المرتزقة هذا اليوم من خدمة الدول الأجنبية، بانضمامهم إلى الفرق الأجنبية، كما هو الحال في "فرنسا" مثلا لاستخدامهم في القتال.

وقد جعلت حياة التشرد والغارات والهروب والفرار إلى مواضع بعيدة نائية وفي مجاهل البوادي، الصعاليك من أعلم الناس بدروب جزيرة العرب، وبالمواضع

1 الأغاني "2/ 126"، الخزانة "1/ 185 وما بعدها".

2 الخزانة "3/ 532"، "جمع جمعا من بني بكر بن وائل وغيرهم من صعاليك العرب"، معاهد التنصيص "1/ 5".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 278"، "صادر".

4 تاج العروس "5/ 321".

ص: 183

الصعبة منها بصورة خاصة. وقد وصف "السليك"، "البعيد الغارة" بأنه "أدل من قطاة"، ونعت الصعاليك جميعا بأنهم "أهدى من القطا"1، وافتخر الصعالكة أنفسهم بأنهم كانوا يعرفون عن خفايا البوادي والجبال ما لا يعرفه أحد غيرهم، وبذلك كانوا ينجون أنفسهم من تعقب المتعقبين لهم2.

ونجد لشذاذ العرب، ذكرا في أخبار الغزو في أخبار الأخذ بالثأر، وفي أخبار من كان يريد الانتقام من أعدائه، فلما غزا "زيد الخيل" الطائي "بني عامر" ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس، "جمع طيئا وأخلاطا لهم، وجمعوا من شذاذ العرب"3. ولما غزا "زهير بن جناب" الكلبي، بكرا وتغلب أخذ "من تجمع له من شذاذ العرب والقبائل" وغيرهم فغزا بهم4. وقد كان هؤلاء "الشذاذ" على استعداد لوضع أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم في مقابل أجر، أو يتكفل بإعاشتهم وإرزاقهم، أو من يرزقهم غنيمة من غارة يساهمون فيها، فلما أراد "أبو جندب" الهذلي، الأخذ بثأر جارين له قتلهما "بنو لحيان"، قدم مكة، فأخذ جماعة من خلعاء بكر وخزاعة، وخرج بهم على بني لحيان، وكان قد "قدم مكة، فواعد كل خليع وفتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا، فيصيب بهم قومه"، ليثأر لأخيه5.

وكانت مكة على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار، مكانا أوى إليه ذؤبان العرب وخلعاؤهم وصعاليكهم، حتى كثر عددهم بها، لما وجدوه فيها من حماية ومعونة، وكان أحدهم إذا جاءها، نادى قريشا نداء النخوة لتؤويه وتجيره، فيقوم أشرافها بحمايته وتقديم الجوار له، ومن هنا نجد الفتاك وأهل الغي والضلال يجوسون خلالها في أمن وسلام، لحرمة المدينة ولحرمة حقوق الجوار، ولعل المصالح الاقتصادية التي كانت تجنيها قريش من هذا الإيواء، كانت السبب الأول في جعل سراتها يقدمون العون والجوار لأولئك الذؤبان الفتاك الذين كانوا لا يتورعون عن الإقدام على أي عمل مهما كان شأنه خطيرا، حتى وإن كان فيه هلاكهم،

1 الأغاني "18/ 134"، المرزباني "468"، الشعراء الصعاليك "54".

2 الأصمعيات "1/ 35".

3 الأغاني "16/ 52".

4 الأغاني "21/ 96".

5 الأغاني "21/ 62 وما بعدها"، شرح أشعار الهذليين "1/ 83 وما بعدها".

ص: 184

أو جاء بالأذى على من أحسن إليهم وأجارهم، فهم قوم أصابهم طيش وركبهم التمرد والحقد على المجتمع، فهم لا يبالون بارتكاب أية موبقة ولو وقعت منهم في الحرم، فقد كان في وسع تجار قريش تأمين تجارتهم بالإحسان إلى هؤلاء الذين كان في استطاعتهم مهاجمة القوافل ونهب ما معها من أموال، كما كان بإمكانهم استخدامهم حراسا يخرجون مع قوافلهم لحراستها من بقية الصعاليك إلى وصولها إلى الأماكن التي تريدها، كما كان في استطاعتهم الاستفادة من الفتاك في الفتك بمن يناصبهم العداء، وفي القضاء على كل من يريد التحرش بقرشي أو بأموال قريش أو حلفائهم. وبذلك تمكنوا من حماية تجارتهم من الصعاليك ومن الأعراب الذين تمر تجارة قريش بهم، وإن كانت قريش قد أمنت جانبهم أيضا بعقد حبالها مع سادات القبائل بإيلاف عرف بـ "إيلاف قريش" في القرآن الكريم.

وكان "البراض"، وهو "رافع بن قيس" وهو من الفتاك، قد لجأ إلى مكة، فحالف "بني سهم" من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه "العاص بن وائل" فأتى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، فخلعه "حرب"، فلما ضاقت به السبل ذهب إلى الحيرة، وطلب من النعمان أن يجير له "لطيمته"، فقال له "الرحال بن عروة":"أنت تجيرها على أهل الشيح والقيصوم؟ وإنما أنت كلب خليع! " فأعطاها "النعمان" إلى "عروة"، فخرج "البراض" في أثره، فلما انتهي إلى "أوارة" قتله وانتهب اللطيمة، فكان بسببه حرب الفجار بين كنانة وقيس1.

وبين الصعاليك قوم من "الغربان""غربان العرب"، وأغربة العرب سودانهم. شبهوا بالأغربة في لونهم، وكلهم سرى إليهم السواد من أمهاتهم2. تصعلكوا لازدراء قومهم لهم، ولانتقاص أهلهم لشأنهم، وعدم اعتراف آبائهم ببنوتهم لهم، لأنهم أبناء إماء. أو لفقرهم، وظلم المجتمع لهم، وعدهم طبقة مملوكة، هم والحيوان المملوك سواء بسواء. ليس لأحدهم جسمه، ولا أهله ولا نسله، وكل ما يملكه وما يحصل عليه يكون ملك سيده، ومن خالف أمره منهم، جاز لسيده قتله، ولسيده حق الاستمتاع بمملوكته وبجواريه من غير

1 المحبر "195 وما بعدها".

2 تاج العروس "1/ 409"، "غرب".

ص: 185

قيد ولا شرط. وهذا ما جعل بعض الرقيق يهرب من سيده، فرارا من ظلمه، لينضم إلى الصعاليك، أو ليكون عصابة تلجأ إلى الجبال والكهوف، تهاجم المارة، والأحياء، لتحصل على ما تتعيش به. ولما ظهر أمر الرسول، كتب لجماعة كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة، وهم خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة، ومن فر من سادته من العبيد، كتابا، فيه أنهم "إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"1.

وأغربة العرب، أو أغربة الصعاليك بتعبير أصدق، كثيرون، فقد كانت عادة اتصال العرب بالزنجيات منتشرة في الجاهلية، وقد أولدت طبقة من الهجناء امتازت بسرعة العدو وبالشجاعة، وبتحمل المشقات، وكلها من مولدات الظروف. ولكن أشهر أغربة الصعاليك: السليك بن السلكة، وتأبط شرا. وقد جعل "ابن قتيبة" أغربة العرب ثلاثة: عنترة، وخفاف بن عمير الشريدي، والسليك بن عمير السعدي2، ولكن عددهم أكثر من ذلك بكثير، يدخل فيهم الصعاليك وغيرهم.

أما الباقون، فهم من شذاذ العرب، ومن الخلعاء المطرودين المنبوذين، الذين طردوا من أهلهم أو من عشيرتهم وقبيلتهم، وحرموا من "العصبية"، فلا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يسأل عن جرائرهم وأعمالهم، فدمهم هدر، ومسئوليتهم على عاتقهم وحدهم. وهم من عشائر مختلفة، فلا ينتسبون إلى نسب واحد، ونسبهم الوحيد الذي يربط بينهم، هو الصعلكة، والتمرد على المجتمع والتشرد في البوادي والهضاب والجبال، ولهذا نجد الصعاليك من مختلف قبائل وعشائر جزيرة العرب، قد يتكتلون في مجموعات تضم صعاليك من قبيلة واحدة، وقد يتكتلون في جماعات مختلفة. وتكون الألفة بين صعاليك القبيلة الواحدة أشد وأقوى من الألفة التي تكون بين صعاليك القبائل المختلفة، لما يكون

1 ابن سعد طبقات "1/ 278"، "ذكر بعثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وما كتب به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لناس من العرب وغيرهم".

2 الشعر والشعراء "1/ 172"، "دار الثقافة"، "عنترة"، الأغاني "8/ 240".

ص: 186

للنسب والدم من أثر في نفوسهم، وإن كفروا بعرف القبيلة وخرجوا على طاعتها. ونجد في شعر شعرائهم إشادة بأخوة "الصنف" و "الحرفة" تحل محل أخوة العشيرة والقبيلة، إذا مات أحدهم وقتل، حزنواعليه، وإن مرض عالجوه، وإن جاع قدموا له ما عندهم من طعام1.

وقد يستجير الخليع بمجير، فيقبل جواره، إلى حين أو بغير أجل محدد، أو على شروط، ففي حديث خروج "امرئ القيس" مطالبا بدم أبيه، أنه لجأ إلى "عامر بن جوين" أحد الخلعاء الفتاك، وعامر يومئذ خليع، تبرأ قومه من جرائره وتنصل أهله منه2، وفي حديث "البراض بن قيس" الكناني وكان خليعا فاتكا سكيرا، لا ينزل بقوم، إلا عمل منكرا فيهم، أنه لجأ إلى بني "الديل"، فشرب وجرّ جريرة، استوجبت خلعه فخلعوه، فأتى مكة، فنزل على حرب بن أمية، فحالفه وأحسن جواره، ثم شرب بمكة وأساء على عادته، حتى هم حرب أن يخلعه3، وفي حديث "أبي الطمحان" القيني، وكان خليعا فاسقا، متهتكا، لايعرف خلقا ولا أدبا، أنه نزل بمكة في جوار "الزبير بن عبد المطلب"، "وكان ينزل عليه الخلعاء"4، ونزل "مطرود بن كعب" الخزاعي، في جوار "عبد المطلب"، فحماه وأحسن إليه، وكان قد لجأ إليه لجناية كانت منه5. ووجد "قيس الحدادية" من يؤويه، مع أنه كان صعلوكا خليعا، عجز هو وأهله عن دفع دية قتيل قتلوه، فخلعته قبيلته خزاعة، فنزل عند بطن من خزاعة، يقال لهم: "عدي بن عمرو بن خالد"، فأحسنوا إليه، كما نزل في بجيلة على "أسد بن كرز" فأحسن إليه والى قومه6.

ولا ينسى بعض الصعاليك ذكر من أحسن إليهم فأكرمهم ورعاهم وحماهم. هذا "أبو الطمحان" القيني، يثني على من آووه وساعدوه حتى صيروه واحدا

1 الشعراء الصعاليك "203 وما بعدها".

2 الأغاني "9/ 95"، الخزانة "1/ 24".

3 الأغاني "19/ 75".

4 الشعر والشعراء "1/ 304"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الأغاني "11/ 125".

5 المرزباني، معجم "282".

6 الأغاني "13/ 2 وما بعدها".

ص: 187

منهم، لا تتحرش به كلابهم، لأنها عرفت ثيابه، وتأكدت أنه واحد منهم، فلا تهر عليه1. وهذا "حاجز" الأزدي، يفخر بانتسابه إلى "بني مخزوم" من قريش، وهم قوم لا يخذلون أحدا إذا استنصر بهم، وجعل حلفه فيهم، إذا أصاب حليفهم مكروه، هرعوا إليه لنجدته، فهم أهل النجدة والكرم2. وهذا "قيس بن الحدادية" يثني على "آل عمرو بن خالد" أحسن ثناء، ويدعو الله أن يجزيهم خيرا لما فعلوا من حميد الفعال لصعلوك خليع3.

والصعاليك كثيرون، وقد خلدت أسماء جماعة منهم في كتب الأدب والأخبار، أشهرهم وأبزرهم:"عروة بن الورد"، و "الشنفرى"، و "تأبط شرا"، و "السليك بن السلكة"، وآخرون.

وللصعاليك بعد قصص في الكتب، وقد بولغ في قصصهم لتؤثر في المسامع، ولتكون لذة للسامعين ومتعة يستمتعون بها أوائل الليل في أوقات سمرهم، وقد رصعت بشعر، على عادة العرب في رواية الأخبار. وفي بعض هذا القصص والشعر أثر الوضع المتعمد، الذي صنع ليمثل الحالة الاجتماعية في ذلك الوقت، حيث كان الأغنياء متخمين بالمال، بينما جيرانهم يموتون جوعا، فكأن هذا القصص قد وضع ليتحدث عن ذلك الوضع. وقد عرف هذاالقصص عند الغربيين كذلك، حيث كان الغنى وكان الفقر، فظهر الصعاليك، وظهر قصصهم وبولغ فيه، وما "روبن هود" الإنكليزي الذي آثر التصعلك وغزو الأغنياء، لإنفاق مايحصل عليه على الفقراء لإعاشتهم، إلا صورة من صور غارة "عروة بن الورد" وأمثاله من الصعاليك، وقد دونت أخبارهم في قصص، وصيغ بعض منها على صورة أشرطة "سينمائية" عرضت ولا تزال تعرض في دور "السينما" وفي "التليفزيون"، لما فيها من بطولة ومروءة ومساعدة ضعفاء واستهتار في الحياة.

1

وقد عرفت كلابهم ثيابي

كأني منهم ونسيت أهلي

الحيوان "1/ 380"، الشعراء الصعاليك "229".

2

قومي سلامان إذ ما كنت سائلة

وفي قريش كريم الحلف والنسب

إني متى أدع مخزوما ترى عنقا

لا يرعشون لضرب القوم من كثب

الأغاني "12/ 49".

3 الشعراء الصعاليك "229".

ص: 188

وأما "عروة بن الورد"، فهو من "عبس" وكان شاعرا فارسا وصعلوكا مقدما، عرف بـ "عروة الصعاليك""لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مايغنمه"1. وهو شاعر بدوي قح، وكان أبوه ممن كان له ذكر في حرب داحس والغبراء، وقد مدحه "عنترة"، وكانت أمه من "نهد"، ولم تكن من أهل البيوتات. وكان لشعره أثر في قومه: حتى كانوا يرون أنه أشعر الشعراء2.

وذكر أنه إنما لقب بعروة الصعاليك لقوله:

لحى الله صعلوكا إذ جن ليله

مصافي المشاش آلفا كل مجزر

يعدُّ الغنى من دهره كل ليلة

أصاب قراها من صديق ميسر

ينام عشاء ثم يصبح قاعدا

يحث الحصى عن جنبه المتعفر

ولله صعلوك صفيحة وجهه

كضوء شهاب القابس المتنور

مطل على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهر3

ويظهر من شعر لعروة، أنه كان نحيلا، شاحب الوجه هزيلا، فكانوا يعيرونه بذلك، وكان يجيبهم بقوله:

وإني امرؤ عافى إنائي شركة

وأنت امرؤ عافى إنائك واحد

أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى

بجسمي شحوب الحلق والحق جاهد

أفرق جسمي في جسوم كثيرة

وأحسوا قراح الماء والماء بارد4

ونحيف نحيل شاحب الوجه، لأنه يشرك الآخرين معه في أكله وشربه.

1 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".

2 الأغاني "2/ 184 وما بعدها""دار الكتب"، الخزانة "4/ 194"، بروكلمان، "1/ 109 وما بعدها".

3 الشعر والشعراء "2/ 566"، "الثقافة"، من قصيدة مطلعها:

أقلي عليّ اللوم يا بنت منذر

ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري

ديوان عروة بن الورد "66 وما بعدها"، "إخراج عبد المعين الملوحي"، "وزارة الثقافة والإرشاد. الجمهورية العربية السورية"، الأغاني "16/ 97 وما بعدها".

4 ديوان عروة "2"، الأغاني"3/ 72 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "257".

ص: 189

أما الهازئ به، فهو أناني، لا يشرك أحد معه في أكله، وإناءه واحد، لايأكل به أحد غيره، ولذلك سمن وثخن من التخمة، أما هو، وهو الوهاب فكان يقتر على نفسه، ويجوع، ليأكل غيره أكله، فأصابه من ثم هذا الهزال.

فهو إنسان، يقسم ما عنده وما يأتيه على نفسه وعلى غيره، وقد يقدم غيره على نفسه. ومن هنا "كان يقال: من قال إن حاتما أسمح العرب، فقد ظلم عروة بن الورد"1.

ويذكرون أنه أصاب في بعض غارته امرأة من كنانة فاتخذها لنفسه، فأولدها، فلقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا، فإنا نكره أن تكون سبية عندك قال: على شريطة، قالوا: وما هي؟ قال: على أن نخيرها بعد الفداء، فإن اختارت أهلها أقامت فيهم، وإن اختارتني خرجت بها. وكان يرى أنها لا تختار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وفادوا بها، فلما خيروها اختارت قومها، وتركته فنظم في ذلك شعرا2.

وذكر أن "معاوية" تذكر "عروة بن الورد"، فقال:"لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج منهم". وأن "عبد الملك بن مروان" تذكره يوما، فقال: "ما يسرني أن أحدا من العرب ممن ولدني لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:

وإني امرؤ عافى إنائي شركة

وأنت امرؤ عافى إنائك واحد3

وهو بيت يمثل خلق هذا الشاعر ومروءته التي أبت عليه ألا يشرك غيره من الضعفاء والمحتاجين فيما يحصل عليه ويناله من المتمكنين بالإكراه والقوة. إناؤه مليء لبنا، حتى يفيض ويكثر، فإن طرقه إنسان وجد اللبن أمامه، يشرب منه وهو شريكه فيه، شريكه في كل شيء عنده قل أو كثر، وهو يفتخر بذلك ويتبجح بإشراكه غيره إنائه على من حرص على ماله، وبخل بما عنده، مثل "قيس بن زهير"، الذي استأثر بما عنده، فلم يعط لمحتاج شيئا منه. فصار

1 الروض الأنف "2/ 180".

2 الشعر والشعراء "2/ 567".

3 ديوان عروة "2"، الأغاني "3/ 72 وما بعدها".

ص: 190

يسمن وغيره يجوع، على حين كان "عروة" يختار الجوع، ليأكل الجياع، لتعود إليهم القوة والحياة، ولا يبالي هو بنفسه إن جاع، وفي ذلك يقول:

وإني امرؤ عافى إنائي شركة

وأنت امرؤ عافى إنائك واحد

أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى

بوجهي شحوب الحلق والحق جاهد

أقسم جسمي في جسوم كثيرة

وأحسو قراح الماء والماء بارد

وكان قد قال هذه الأبيات ردا على أبيات "قيس بن زهير" التي خاطب بها "عروة" بقوله:

أذنب علينا شتم عروة خاله

بغرة أحساء ويوما ببدبد

رأيتك ألَّافا بيوت معاشر

تزال يد في فضل قعب ومرفد1

وللأخفش حديث عن مروءة "عروة" وعن إنسانيته فيقول: "عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: حدثني أبو فقعس، قال: كان عروة إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف؛ وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس، من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف، ويكسبهم، ومن قويَ منهم، إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا، وذهبت السنة، ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، وربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك سمي: عروة الصعاليك"2.

ومن هنا عد من أصحاب الكرم والسماحة والسخاء. حتى قيل إن عبد الملك قال: "من زعم أن حاتما أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد"3. وقيل إنه بلغه عن رجل من بني "كنانة بن خزيمة"، أنه من أبخل الناس وأكثرهم مالا، فبعث عليه عيونا، فأتوه بخبره فشد على إبله فاستقاها ثم قسمها في

1 ديوان عروة "51 وما بعدها".

2 ديوانه "8 وما بعدها"، الأغاني "3/ 78 وما بعدها"، التبريزي، شرح حماسة أبي تمام "2/ 9"، جمهرة أشعار العرب "114 وما بعدها".

3 ديوان عروة "3"، الأغاني "3/ 74".

ص: 191

قومه. فقال عند ذلك:

ما بالثراء يسود كل مسود

مثر ولكن بالفعال يسود

بل لا أكاثر صاحبي في يسره

وأصد إذ في عيشه تصريد

فإذا غنيت فإن جاري نيله

من نائلي وميسّري معهود

وإذا افتقرت فلن أرى متخشعا

لأخي غنى معروفه مكدود1

فالسيد بفعاله، وأعماله لا بالمال. وهو يقول في شعر له، إن فراشه فراش الضيف، وأن بيته بيت للضيوف، ويجالس الضيف ويحادثه، فالحديث جزء من القرى:

فراشي فراش الضيف والبيت بيته

ولم يلهني عنه غزال مقنع

أحدثه إن الحديث من القرى

وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

وفي خبر آخر، أن سنين شديدة أصابت الناس فأهلكتهم، وترك الناس الغزو لجدوبة الأرض، وكان عروة في تلك السنين غائبا، فرجع مخفقا، قد ذهبت إبله وخيله، وجاء "الكنيف"، أي الحظيرة والمأوى، فوجد أصحابه وقد سقطوا من الإعياء والشدة، فندب منهم رهطا، فنحر لهم بعيرا، وحملوا سلاحهم على بعير آخر، وقدد لهم بعيرا، فوزعه بينهم. وخرج بهم غازيا يلتمس الرزق. وهو يقول لهم: إن أصبنا رغبة فذلك الذي نريد، وإن رجعنا خائبين، كنا معذورين. قد أدينا ما علينا، ولن نقعد عن الطلب. فهو يحثهم على الرزق والطلب، دون تفكير في نجاح أو فشل، فالحياة: نجاح وفشل، ومن فشل، عليه المواظبة حتى ينجح ويستعيد قواه، وذلك قوله:

وقلت لقوم في الكنيف تروحوا

عشية بتنا عند ماوان رزح2

إلى آخر الأبيات:

وهو يصف في أبيات حالة الفقير وما يلقى من ظلم، وحالة الغني وما يلقاه

1 ديوان عروة "48"، شرح ديوان عروة "181".

2 ديوانه "20، 39 وما بعدها".

ص: 192

من إجلال. فيقول:

دعيني للغنى أسعى فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وخير

ويقصيه النديُّ وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

ويلفى ذو الغنى وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطير

وله شعر يحث فيه الناس على السير في البلاد، التماسا للزرق، لأن من لم يطلب معاشا لنفسه، وقعد في داره دون أن يعمل شكا الفقر، وصار كلا على غيره، حتى على ذوي قرباه، فيقول:

إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه

شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا

وصار على الأدنين كلا وأوشكت

صلات ذوي القربي له أن تنكرا

وما طالب الحاجات من كل جهة

من الناس إلا من أجد وشمرا

فسر في بلاد الله والتمس الغنى

تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا2

ومن شعره في المال والورثة قوله:

متى ما يجئ يوما إلى المال وارثي

يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر

يجد فرسا مثل القناة وصارما

حساما إذا ما هز لم يرض بالهبر3

ويقول في شعر آخر:

أليس ورائي أن أدب على العصا

فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي

رهينة قعر البيت كل عشية

يطيف بي الولدان أهوج كالرأل

يعني: أليس ورائي إن سالمت الناس، وتركت مخاطر التصعلك، أن يلحقني الكبر فأهون ويضجر مني أهلى4. فهو يعتذر بذلك عن التصعلك واتخاذه الصعلكة حرفة له.

1 ديوانه "91 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 234"، وقد روي برواية تختلف عن رواية الديوان.

2 ديوانه "89".

3 كتاب العصا "206"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الثانية".

4 الحيوان "4/ 356".

ص: 193

وقد زعم أن "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب"، قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة التي يقول فيها:

دعيني للغنى أسعى فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

ويقول: هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم"1.

وهو يرى أن الموت خير للفتي من حياته فقيرا. وأن الأقارب إذا ضنواعليه ولم يساعدوه، فعليه بالرحيل عنهم، والتماس الفجاج فإنها عريضة، إذا ضاقت عليه السبل. وهو لا يترك إخوانه أبدا ما عاش، كما أن الإنسان لا يتمكن من ترك شرب الماء:

إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح

عليه ولم تعطف عليه أقاربه

فللموت خير للفتى من حياته

فقيرا ومن مولى تدب عقاربه

وسائله أين الرحيل وسائل

ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه

مذاهبه أن الفجاج عريضة

إذا ضن عنه بالفعال أقاربه

فلا أترك الإخوان ما عشت للردى

كما أنه لا يترك الماء شاربه2

وهو يحث على المخاطرة بالنفس، فإن القعود مع العيال قبيح، حث عليها في أبيات نسبت إليه، وقيل إنها ليست له، بل هي للنمر بن تولب، هذا نصها:

قالت تماضر إذ رأت مالي خوى

وجفا الأقارب فالفؤاد قريح

ما لي رأيتك في الندى منكسا

وصبا كأنك في النديّ نطيح

خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة

إن القعود مع العيال قبيح

المال فيه مهابة وتجلة

والفقر فيه مذلة وفضوح3

والصعلوك الخامل، القعود الذي يعين نساء الحي، ولا يستعمل سيفه للحصول على رزقه، هو خليق أن يكون ممن يهان ويزدرى، والصعلوك العامل النشط،

1 ديوانه "3".

2 ديوانه "29".

3 ديوانه "43".

ص: 194

هو الرجل الذي يستحق الحياة، ويصلح أن يكون أنموذجا للرجال، صحيفة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور، مطلا على أعدائه، يهابونه ولا يستطيعون الاقتراب منه، إن لقي منيته لقيها حميدا، وإن عاش واستغنى فنعمة كبرى، ينفق منها على من يحتاج إليه من الناس1.

وتراه يقول في أبيات أخرى:

إذا آذاك مالك فامتهنه

لجادية وإن قرع المراح

وإن أخنى عليك فلم تجده

فنبت الأرض والماء القراح

فرغم العيش إلف فناء قوم

وإن آسوك والموت الرواح2

ومعناه: لاتبخل بمالك، ولا تحرص عليه، أعط منه السائل والمحروم والمحتاج، ولا تخش الفقر، فإن أخنى عليك، وقل مالك، وتركك الأصحاب فلا تيأس ولا تخنع لأحد، ولا تجزع، ففي الأرض رزق لكل أحد، ومتسع لكل نفس، وإن كان ذلك نبات الأرض وماؤها، ولا تهن نفسك، وتذل كرامتك، فتعيش على موائد غيرك، من اللؤماء الحقراء، فأكلك منهم، هو الموت الرواح، بل هو شر من الموت، فلا تقرب موائد أصحاب المنة، وإن آسوك وساعدوك، فمؤاساتهم كاذبة، عن مظاهر ونفاق.

وفي أبيات شعر، يذكر"عروة""أصحاب الكنيف" والتواءهم عليه، وكيف تمردوا عليه، مع فضله عليهم، وإشراكه لهم في كل ما كان يكسبه ويغنمه، فيقول:

ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم

كما الناس لما أخصبوا وتموّلوا

وإني لمدفوع إليّ ولاؤهم

بماوان إذ نمشي وإذ نتملل

وإذ ما يريح الحي هرماء جونة

ينوس عليها رحلها ما يحلل

موقعة الصفقين حدباء شارف

تقيد أحيانا لديهم وترحل

عليها من الولدان ما قد رأيتم

وتمشي بجنبيها أرامل عيل

1 ديوان عروة "78 وما بعدها".

2 ديوانه "42".

ص: 195

وقلت لها يا أم بيضاء فتية

طعامهم من القدور المعجل

مضيغ من النيب المسان ومسخن

من الماء نعلوه بآخر من عل

بديمومة ما إن تكاد ترى بها

من الظمأ الكوم الجلاد تنول

تنكر آيات البلاد لمالك

وأيقن أن لا شيء فيها يُقوَّل1

وهي أبيات، تعبر عن مرارة نفسه، وعن ألمه مما لاقاه من أصحاب الكنيف، مع أفضاله عليهم، وتقديمه لهم على نفسه، وهو يواسي نفسه فيها، فيقول إنهم ناس، ومن شأن الناس أنهم إذا أخصبوا وتمولوا وتحسنت أحوالهم، تنكروا لمن كان صاحب الفضل عليهم، وتجاهلوا كل ما قام به من صنيع نحوهم. أخرجتهم وأجسامهم هزال من شدة الجهد، لا يقدرون على المشي من شدة الضعف من الجوع، وقمت بأمرهم، حتى إذا قووا، ودنوا من بلادهم وعشائرهم، وأقبلت أقسم فيهم ما غنمته من إبل، فأعطيتهم بالتساوي، وأخذت لنفسي نصيب أحدهم، تنكروا لي وصاروا كالأباعد، ليس لهم شكر، خاصموه عارضوه.

وكان من شأنهم: أنه خرج مع صعاليكه يبحثون عن غنائم، حتى نزل أرض "بني القين"، فأقام مع أصحابه يوما عند موضع ماء، بانتظار مجيء الرعاة لإسقاء إبلهم، ثم ورد عليهم فصيل، فقالوا: دعنا فلنأخذه، فلنأكل منه يوما أو يومين، فقال: إنكم إذن تنفرون أهله، وإن بعده إبلا. فتركوه ثم ندمواعلى تركه، وجعلوا يلومون عروة على الجوع الذي جهدهم. ثم وردت إبل بعده بخمس، فيها ظعينة ورجل، والإبل مائة، فخرج "عروة" ورمى صاحبها في ظهره بسهم، فخر ميتا، واستاق عروة الإبل والظعينة2. وأتى بالإبل الكنيف فجعل يحلبها لهم، ثم حملهم حتى إذا دنوا من بلادهم وعشائرهم، أقبل يقسمها فيهم، وأخذ مثل نصيب أحدهم، واستخلص المرأة لنفسه، فقالوا: لا والله لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها من سهمه، فجعل عروة يهم أن يحمل عليهم فيقتلهم وينزع ما معهم، ثم يتذكر صنيعه بهم، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع، ففكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها امرأته، فأبوا إلا أن يجعلوا الراحلة لهم،

1 ديوانه "119 وما بعدها".

2 ديوانه "113 وما بعدها".

ص: 196

فانتدب رجل منهم فجعل الراحلة من نصيبه وأفقرها عروة، أي منحها إياه منيحة إذا استغنى عنها ردها؛ فقال عروة يذكر أصحاب الكنيف والتواءهم عليه تلك الأبيات المتقدمة1.

فهو في الأبيات المتقدمة يذكر أن الإنسان ذليل كسير ما دام فقيرا، يتقرب إلى القوي ويتبصبص له، ويتظاهر بحبه وإخلاصه له، فإذا نال حاجته، أو اغتنى تبطر على من كان محتاجا إليه، وتعاظم عليه، ونال منه.

وقد عرف "عروة" بـ "أبي الصعاليك" قيل إن الناس كانوا إذا أصابتهم السنة أتوه "فجلسوا أمام بيته حتى إذا بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك، أغثنا". فيخرج ليغزو بهم2. وقد كان يعد صعاليكه "عياله"3، وكان يرعاهم ويحدب عليهم حدب الوالد على عياله، ويخرج بالقوي منهم للغزو، بحثا عن غنيمة ينالها لإشباع أتباعه الجياع الصعاليك، بمال غني جمع غناه بالعقوق وبالبخل، لأنه لا يرضى أن يرى إخوانا له يهلكون من الجوع، ثم لا يجد ما يقدمه لهم لسد رمقهم4، وهو يطوف لذلك في البلاد باحثا عن غني ينفق منه على المعوزين وذوي الحاجات. وشر الناس في هذه الدنيا الفقير، يباعده القريب لفقره، وتزدريه حليلته، ولا يحترمه أحد؛ بينما يعظم الغني ويحترم، لا لسبب إلا لماله ولغناه، ذنبه قليل في نظر الناس، لأنه غني، وللغني رب غفور:

ذريني للغنى أسعى فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

وأدناهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وخير

يباعده القريب وتزدريه

حليلته ويقهره الصغير

ويلقى ذو الغنى وله جلال

يكاد فؤاد لاقيه يطير

قليل ذنبه والذنب جم

ولكن للغنى رب غفور5

1 ديوانه "118"، الأغاني "3/ 79 وما بعدها".

2 الأغاني "3/ 81".

3 ديوان عروة "99"، حماسة أبي تمام "2/ 7"، الشعراء الصعاليك "322".

4

أيهلك معتم وزيد ولم أقم

على ندب يوما ولي نفس مخطر

ديوان عروة "83"، الشعراء الصعاليك "325".

5 العقد الفريد "3/ 29"، عيون الأخبار "1/ 241 وما بعدها"، البخلاء "183، 391"، البيان والتبيين "1/ 234"، وتختلف نصوص هذه القصيدة باختلاف الموارد.

ص: 197

وفي قصيدته:

لحا الله صعلوكا إذا جن ليله

مصافي المشاش آلفا كل مجزر

يعد الغنى من دهره كل ليلة

أصاب قراها من صديق ميسر

ينام عشاء ثم يصبح طاويا

يحبُّ الحصى عن جنبه المتعفر

قليل التماس الزاد إلا لنفسه

إذا هو أمسى كالعريش المجور

يعين نساء الحي ما يستعنَّه

فيمسي طليحا كالبعير المحسر

ولكن صعلوكا صحيفة وجهه

كضوء شهاب القابس المتنور

مطلا على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهر

فإن يعدوا لا يأمنون اقترابه

تشوف أهل الغائب المتنظر

فذلك إن يلق المنية يلقها

حميدا وإن يستغن يوما فأجدر1

معان سامية، تعبر عن نفسية إنسانية، وعن عطف على الفقير والمحتاج والنساء "وصف فيها فضيلة الفقير الحر الباسل وذم الذي يستأجر شغله"2.

وفي شعر "عروة" إشارة إلى الموت، فهو يرى أن الحياة أجل، وأن الإنسان غير خالد في هذه الدنيا، حياته قصيرة، ثم يكون أحاديث للناس. إذا جاء أجله خرجت منه هامة تعلو كل نشز:

أحاديث تبقى والفتى غير خالد

إذا هو أمسى هامة فوق صير

تجاوب أحجار الكناس وتشتكي

إلى كل معروف رأته ومنكر

ثم تجاوب هذه الهامة أحجار الكناس، وتشتكي إلى كل معروف تراه ومنكر. أي تصوت في كل حال إذا رأت من تعرف ومن تنكر3.

والموت ملازم للإنسان، وهو ثغر كل ثنية، ولامفر منه:

وأن المنايا ثغر كل ثنية

فهل ذاك عما يبتغي القوم محصر

وغبراء مخشي رداها مخوفة

أخوها بأسباب المنايا مغرر4

1الخزانة "4/ 196"، "بولاق".

2 كارلو نالينو "79".

3 ديوانه "66 وما بعدها".

4 ديوان "77".

ص: 198

وقد نسبت له قصيدة مطلعها:

لحا الله صعلوكا مناه وهمّه

من الدهر أن يلقى لبوسا ومطعما

ينام الضحى حتى إذا الليل جنّه

تبين مسلوب الفؤاد مورما

ولكن صعلوكا يساور همه

ويمضي على الهيجاء ليثا مصمما

فذلك إن يلق الكريهة يلقها

حميدا وإن يستغن يوما فربما

وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه القصيدة لحاتم الطائي، لأن قصيدة عروة رائية، وليست هذه، ولحاتم قصيدة على هذا الروي، وليس فيها هذه الأبيات، وفيها ما يشبهها، وهو:

وليل بهيم قد تسربلت هوله

إذا الليل بالنكس الضعيف تجهما

ولن يكسب الصعلوك مالا ولا غنى

إذا هو لم يركب من الأمر معظما

يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة

يبت قلبه من قلة الهم مبهما

ولكن صعلوكا يساور همه

ويمضي على الأيام والدهر مقدما

يرى رمحه ونبله ومجنه

وذا شطب بين المهذة مخذما

وإحناء سرج قاتر ولجامه

معدا لدى الهيجاء طرفا مسوما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن يحي لا يقعد ضعيفا ملوما1

وفي كتاب "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي، أبيات على هذا النمط غير معزوة لقائلها، أوردها على أثر تحدثه عن "الشيظم بن الحارث الغساني"، وكان قد قتل رجلا من قومه، فخافهم، فلحق بالحيرة متنكرا، وكان من أهل بيت الملك، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوي إلى خربة من خراب الحيرة، فبينما هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلا يقول:

لحا الله صعلوكا إذا نال مذقة

توسد إحدى ساعديه فهوما

مقيما بدار الهون غير مناكر

إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما

يلوذ بأذراء المثاريب طامعا

يرى المنع والتعبيس من حيث يمما

يضن بنفس كدر البؤس عيشها

وجود بها لو صانها كان أحزما

1 الخزانة "4/ 194 وما بعدها".

ص: 199

فذاك الذي إن عاش عاش بذلة

وإن مات لم يشهد له الناس مأتما

بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني

رأيت غريب القوم لحما موضما

فهي أبيات في المعاني المتقدمة، لم يعرف اسم صاحبها1.

وهو يزجر امرأته سلمى لأنها تلومه على غاراته وغزواته، لما تخشاه عليه من الوقوع في المهالك، ومن ملاقاته حتفه. ويقول لها: إنه إنما يجازف ويخاطر في سبيلها، حتى يغينها فلا تذل بعده أو تستجدي أحدا، ثم إن عليه حق الوفاء لأقاربه وللضعفاء ولإخوانه الصعاليك الذين يلوذون به، فعليه مساعدتهم، وهو لا يتمكن من تقديم المساعدات لهم، إلا بهذه الغارات2.

وروي أن "عروة" كان يتردد على "بني النضير" فيستقرضهم إذا احتاج ويبيع منهم إذا غنم، فرأوا عنده "سلمى" فأعجبتهم، فسألوه أن يبيعها منهم فأبى، فسقوه الخمر، واحتالوا عليه حتى ابتاعوها منه وأشهدوا عليه، وفي ذلك يقول:

سقوني الخمر ثم تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور

وروي أيضا أن قومها افتدوها منه وكان يظن أنها لا تختار عليه أحدا ولا تفارقه، فاختارت قومها فندم وكان له بنون منها، ثم تزوجها بعده رجل من بني النضير. وفيها يقول عروة:

أرقت وصحبتي بمضيق عمق

لبرق في تهامة مستطير

وهي قصيدة أشار فيها إلى "سلمى"، ومفارقتها له، عند "بني النضير"، حيث يقول:

وآخر معهد من أم وهب

معرسنا فويق بني النضير

وفي هذه القصيدة البيت المتقدم، الذي يشير إلى أنهم سقوه الخمر، واحتالوا عليه، حتى ابتاعوها منه3.

1 ذيل الأمالي "179"، الخزانة "4/ 195".

2 الأصمعيات "35".

3 الروض الأنف "2/ 180 وما بعدها".

ص: 200

وقد أشار "عروة" في شعر ينسب إليه إلى "التعشير"، وهو أن ينهق الإنسان عشر مرات إذا أراد دخول "خيبر" لكي لا تصيبه الحمى. فقال:

وقالوا احب وانهق لا تضيرك خيبر

وذلك من دين اليهود ولوع

لعمري لئن عشرت من خشية الردى

نهاق الحمير إنني لجزوع1

وقد رفض عروة ذلك، وسخر من هذه الخرافة.

قال "الجاحظ": وكانوا إذا دخل أحدهم قرية خاف من جن أهلها، ومن وباء الحاضرة، أشد الخوف، إلا أن يقف على باب القرية فيعشر كما يعشر الحمار في نهيقه، ويعلق عليه كعب أرنب. ولذلك قال قائلهم:

ولا ينفع التعشير في جنب جرمة

ولا دعدع يغني ولا كعب أرنب

وقد قال عروة بن الورد، في التعشير، حين دخل المدينة فقيل له: إن لم تعشر هلكت:

لعمري لئن عشرت من خيفة الردى

نهاق الحمير إنني لجزوع2

ولعروة شعر في يوم "ساحوق"، وهو يوم لبني ذبيان على "بني عامر"، إذ يقول:

ونحن صبحنا عامرا في ديارها

علالة أرماح وعضبا مذكَّرا

بكل رقيق الشفرتين مهند

ولدن من الخطي قد طر أسمرا

عجبت لهم إذ يخنقون نفوسَهم

ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا

يشد الحليم منهم عقد حبله

ألا إنما يأتي الذي كان حُذِّرا

أي أنهم كانوا ذوي غدر بين، لو أنهم جاهدوا في الحرب وقتلوا، أما الآن فلا عذر لهم بين الرجال في خنقهم أنفسهم. وكان "الحكم بن الطفيل" وأصحابه قد خنقوا أنفسهم، بشد الحبل حول العنق3، وذلك تحت شجرة بالمروراة،

1 ديوانه "95"، الحيوان "6/ 359".

2 الحيوان "6/ 359".

3 الحيوان "2/ 273"، الخزانة "4/ 218"، العقد الفريد "2/ 318".

ص: 201

خشية الوقوع في الأسر. و "الحكم بن الطفيل" هو أخو "عامر بن الطفيل"، وقد عرف يوم "المروارة" بيوم "التخانق"1.

وقد عدت قصيدته التي تبدأ بـ:

أقلي علي اللوم يا ابنة منذر

ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري

من القصائد "المنتقيات"2.

وأما شعر "عروة"، فقد عد أشعر شعر "بني عبس" في رأي أبناء قبيلته. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للحطيئة: كم كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف حازم. قال: وكيف؟ قال: فينا قيس بن زهير، وكان حازما وكنا لا نعصبه، وكنا نقدم بإقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد، وننقاد لأمر الربيع بن زياد"3.

ويرى "بروكلمان"، أنه كان بدويًّا قُحًّا، رويت له أشعار أكثر مما روى لتأبط شرا والشنفرى، لكنه كان دونهما في تصوير حياة الجاهلية4.

ولعروة ديوان برواية "ابن السكيت""243هـ""244هـ"، طبع جملة طبعات. وقد ترجم إلى الألمانية والفرنسية5، وقد جمع "الأصمعي" شعره في ديوان لم يصل إلينا6.

وفي شعر عروة شعر مصنوع، وضع عليه، وفيه كما رأينا ما ليس له، وقد نسبه بعض العلماء إلى غيره، ونجد في شعره شعرا يمثل طبيعة مجتمع حضري غلبت عليه التفرقة الطبقية، فيه غنى حضر، وفقر أهل مدن، يظهر أنه وضع على لسانه حكاية عن وضع الناس في ذلك الوقت، خشية ناظمه من تعرض الحكام

1 الخزانة "4/ 216 وما بعدها".

2 الأغاني "2/ 190"، الشعر والشعراء "425"، الجمهرة. "114"، زيدان، تأريخ الأدب العربي"1/ 164".

3 ديوان عروة "3".

4 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 109".

5 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 109"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 164".

6 الشعراء الصعاليك "158".

ص: 202

أو الأغنياء له بسوء، فيما لو نشره باسمه، فآثر نظمه باسم "عروة".

و"الشنفرى"، وهو "ثابت بن أوس" الأزدي، وقيل بل "الشنفرى" اسمه لا لقب، وقيل: بل هو: "عمرو بن مالك" الأزدي، وقيل "عمرو بن براق"، وقيل غير ذلك، من "بني الأواس بن الحجر بن الهنء بن الأزد"1، من اليمانية في عرف أهل النسب. وهو من الصعاليك. ومن العدائين.

وكان من المرافقين للشاعر "تأبط شرا" في كثير من غزواته. وكان أكبر منه سنًّا، وتوفي قبله. وذكر أنه حلف يمينا أن يقتل من "بني سلامان" مائة رجل فقتل تسعة وتسعين، فأمسك به رجل عداء، هو "أسيد بن جابر" وهو عداء من العدائين وقتله. فمر به رجل من بني سلامان فركل جمجمته، فدخلت شظية منها في رجله فمات. فوفى الشنفرى بقسمه، وأتم العدد وهو ميت2. ويلاحظ أن أهل الأخبار يزعمون أن "عمرو بن هند" كان قد حلف يمينا أن يقتل من "بني دارم" مائة رجل، وأن يلقي بهم في النار، فسار إليهم فقتل تسعة وتسعين وأحرقهم بالنار، وبقي عليه أن يبر بقسمه بقتل واحد آخر منهم حتى يكمل العدد، فمر رجل من البراجم شم رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال إليه، فلما رآه "عمرو"، قال له: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم، فقال: إن الشقي وافد البراجم، وأمر فقتل وألقي في النار. فبرت به يمينه3. وقد يكون للقصتين ولقصص آخر من هذا النوع علاقة بطقوس أو بأساطير جاهلية قديمة، تجعل الأبطال، ينذرون نذورا تختلف عن نذور سائر الناس، هي قتل مائة نفس قربى إلى الآلهة، بدلا من تقديم الضحايا من الحيوانات.

وكان "الشنفرى" يحقد على "بني سلامان" حقدا شديدا، وسبب حقده عليهم، أنه كان قد وقع أسيرا وهو صبي في "بني شبابة بن فهم"، فانتمى

1 الخزانة "2/ 16 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 224"، المفضليات "1/ 106 وما بعدها"، مجالس ثعلب "426"، الحيوان "3/ 108"، "6/ 244"، أمالي القالي "1/ 157"، رسالة الغفران "351 وما بعدها".

2 الشعر والشعراء "1/ 25 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 308، 318"، "شفر"، "الشنيفرة"، الأغاني "21/ 87"، الخزانة "2/ 14""بولاق"، ذيل الأمالي "208 وما بعدها"، زيدان، تأريخ آداب "1/ 161".

3 الجزء الثالث من هذا الكتاب "ص251".

ص: 203

إليهم، ثم وقع أحد "بني شبابة" أسيرا في "بني سلامان بن مفرج" من الأزد، ففدى "بنو شبابة" الأسير به. فصار "الشنفرى" فيهم، وحسب منهم، ثم إنه أراد الزواج من ابنة رجل منهم، فرده والدها ردا عنيفا، أثر فيه، فعاد إلى "بني فهم"، وأخذ يغير على "بنى سلامان" للإهانة التي لحقته من الرجل، والتي كانت سبب صعلكته1.

ويروى أن الشنفرى أغار مع "تأبط شرا" و "عمرو بن براق" على "بجيلة"، فوجدوا بجيلة قد أقعدوا لهم على الماء راصدا، وقد علم "تأبط شرا" أنهم يريدونه، فتآمر مع الشنفرى وعمرو بن براق، على إنقاذه إن وقع في أيديهم، فلما جاء الماء قبضوا عليه، فعمد الشنفرى وابن براق إلى حيلة كانوا قد اتفقوا عليها لغش بجيلة، فأنقذوه، وهربوا ساخرين من بجيلة التي خدعت بها2. وللعرب قصص ترويه عن بساطة "بجيلة"، وسرعة انخداعها بالحيل.

وهو كما سبق أن ذكرت، أحد أغربة العرب، ويظهر أن الملامح الإفريقية كانت بارزة عليه، بدليل تلقيبه بالشنفرى، و"الشنفرى" الغليظ الشفاه، ويظهر أنه أخذ ملامحه من أمه السوداء. وأخباره متناقضة متضاربة، يظهر منها أن أباه قد قتله قاتل من "الأزد"، قتله "حرام بن جابر"، وكان قد قدم "منى" فقيل له: هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله3. فحقد على قتلة أبيه، وقرر الانتقام منهم شر انتقام، وأن لا يكف عنهم ما دام حيًّا، فكان يكثر من الغارة عليهم، يغير مع من معه من صعاليك، وقد يغير عليهم وحده4.

ويروى في قتله، أنه قتل من "بني سلامان بن مفرج" تسعة وتسعين رجلا، فأقعدت له رجالا يرصدونه، فلما دنا من ماء ليشرب، قبض عليه رجلان من "بني البقوم" من الأزد، فقبضا عليه، وأصبحا به في "بني سلامان". فربطوه إلى شجرة، فقالوا: قف أنشدنا، فقال الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:

1 بروكلمان "1/ 105"، الأغاني "21/ 134".

2 الخزانة "2/ 17".

3 الأغاني "21/ 137"، الخزانة "2/ 16".

4 الأغاني "21/ 135".

ص: 204

فلا تدفنوني إن دفني محرم

عليكم ولكن خامري أم عامر

إذا حملوا رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أرجو حياة تسرني

سمير الليالي مبسلا بالجرائر1

وذكر "المرتضى" أن هناك من نسب هذا الشعر إلى تأبط شرا2. وقد نسبه "الجاحظ" إلى "تأبط شرا"، إذ قال: "وقال تأبط شرا:

فلا تقبروني إن قبري محرم

عليكم ولكن خامري أم عامر

إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أبغي حياة تسرني

سمير الليالي مبسلا بالجرائر3

ويختلف نص هذا الشعر بعض الاختلاف عن النصوص الأخرى4.

ويذكر لما وقع بأيدي أعدائه، تفننوا في قتله، وأروه أصناف العذاب. قطعوا يده، وصاروا يسخرون منه، ويسألونه أين يدفنونه. فرد عليهم بمقطوعة رائعة، كما رثا يده بأرجوزة لما قطعوها، وقد ذكر أنه طلب منهم ألا يدفن، وإنما يلقى بجسده إلى الضباع. وروي أن رجلا من "بني سلامان" رماه بسهم في عينه فقتله، فقال "جزء بن الحارث" في قتله:

لعمرك للساعي أسيد بن جابر

أحق بها منكم بني عقب الكلب6

1 الشعر والشعراء، لابن قتيبة "1/ 25"، "دار الثقافة".

فلا تقبروني إن قبري محرم

عليكم ولكن أبشري أم عامر

إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أبغي حياة تسرني

سجيس الليالي مبسلا بالجرائر

حماسة أبي تمام "2/ 24 وما بعدها بولاق"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "73"، الخزانة "2/ 18"، أمالي المرتضى "2/ 72 وما بعدها"، "إذا احتملت رأسي"، أسماء المغتالين "232"، "المجموعة السادسة".

2 أمالي المرتضى "2/ 72 وما بعدها".

3 الحيوان "6/ 450".

4 راجع العقد الفريد "1/ 53"، "4/ 219"، الحماسة "1/ 188"، المخصص "3/ 258".

5 الشعراء الصعاليك "335".

6 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص232".

ص: 205

وقد ضاع أكثر شعر "الشنفرى". وقد طبعت لاميته، وللعلماء شروح وبحوث عليها. وهي في الفخر والحماسة، ولم يعرف كثير من قدماء علماء الشعر القديم هذه اللامية، ومن بينهم مؤلف كتاب "الأغاني". وقد تعرض "القالي" لموضوع "اللامية"، فقال: "حدثني أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية"1. ويعود الضمير "له" إلى خلف الأحمر. أي أن القصيدة هي من صنعه وعمله. وعدة القصيدة ثمانية وستون بيتا. وممن شرحها: الخطيب التبريزي، والزمخشري، وابن الشجري، وابن أكرم وغيرهم2. وقد ورد في "تأريخ الآداب العربية" لكارلو نالينو:"أما الشنفرى الأزدي فصاحب اللامية المشهورة التي يفتخر فيها بانفراده من قومه ووحشة عيشه في البراري كأنه لم يعاشر إلا السباع. وهي قصيدة غاية في الجمال تنطق بلسان حال الشاعر وإن كان بعض النحويين يزعمون أنها من مصنوعات حماد الراوية المتوفى سنة 155"3. وفي قوله: "وإن كان بعض النحويين يزعمون أنها من مصنوعات حماد الرواية" وهم، لا أدري أوقع منه، أم من الترجمة، لأن غالبية العلماء تنسبها إلى خلف الأحمر، لا إلى حماد. كما أن وفاته كانت سنة "156هـ"4.

وقد ذهب بعض المستشرقين الذين بحثوا أمر هذه القصيدة، إلى أن القصائد التي نحلها "خلف الأحمر" احتفظت دائما بعمود الشعر القديم وطابعه، أما هذه القصيدة، فلها طابع خاص يجعل من الصعب تصور صدورها من "خلف الأحمر"5.

1 الأمالي "1/ 156 وما بعدها"، الأغاني "21/ 84"، الخزانة "2/ 16"، زيدان، تأريخ أداب اللغة العربية "1/ 161 وما بعدها".

2 الخزانة "2/ 15"، "بولاق"، اللاميتان: لامية العرب ولامية العجم، من شروح الزمخشري والصفدي، علق عليهما وأعدهما: عبد المعين الملوحي، دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، رقم 13.

3 "ص73".

4 الفهرست "140".

5 بروكلمان "1/ 106 وما بعدها".

ص: 206

وذهب بعض آخر إلى جواز كونها من نظم "الشنفرى"1، وذكر أنها من مصنوعات "حماد" الراوية2.

وفي "المفضليات" قصيدة طويلة له، هي قصيدة تائية، ومقطعات، وفي قصيدته وصف لحياته ولبعض غاراته، وكيف كان يقود صعاليكه في طرق وعرة، وهم على أرجلهم، ثم يصف حاله، فهي قصيدة فيها بعض تأريخ هذا الشاعر وقصص غزوه وتعامله مع رفاقه3.

وقد طبع الأستاذ "عبد العزيز الميمني"، ديوان الشنفرى في "الطرائف الأدبية"4، وتوجد أشعاره أيضا في "ديوان الهذليين"5. وقد كان عند العيني ديوان للشنفرى في جملة دواوين عديدة كانت في حوزته6. وقد كتب عدد من المستشرقين عن الشنفرى وشعره بمختلف اللغات7.

وأما "تأبط شرا"، وهو "ثابت بن جابر بن سفيان"، وقيل "ثابت بن عمسل" فهو من فهم، وكان من أغربه العرب، لأن أمه أمة سوداء. وكان من العدائين المعروفين عند العرب. وله أخبار كثيرة في ذلك، وله مغامرات تحمل طابع القصص والأساطير. وله قصيدة في وصف "الغول" ذكر فيها كيف طير بسيفه قحف ابنة الجن8. وكان أحد رآبيل العرب. وذكر علماء اللغة أن الرئبال هو الذي ولدته أمه وحده9، وبه سميت رآبيل العرب، ومن السباع الكثير اللحم الحديث السن، والذئب الخبيث، وترأبلوا: تلصصوا أو أغاروا على الناس

1 بروكلمان "1/ 107".

2 تأريخ الآداب العربية "73"، الأغاني "13/ 5".

3 العصر الجاهلي "380 وما بعدها".

4 بروكلمان "1/ 105، 109"، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1937م.

5 الشعراء الصعاليك "159 وما بعدها".

6 العيني، كتاب المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية "48/ 596".

7 راجع بروكلمان "1/ 107".

8 الشعر والشعراء "174"، الأغاني "18/ 209"، "بولاق"، خزانة الأدب "1/ 66"، بروكلمان"1/ 104 وما بعدها"، شرح شواهد المغني، للسيوطي "19"، المفضليات "27 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 230 وما بعدها"، "دار الثقافة، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 104".

9 تاج العروس "5/ 100"، "أبط"، السيوطي، شرح شواهد المغني "1/ 50 وما بعدها"، "أحمد ظافر كوجان".

ص: 207

وفعلوا فعل الأسد، أو غزوا على أرجلهم وحدهم بلا وال عليهم1. وهذا المعنى هو أقرب المعاني وأقرب إلى الصحة في تفسير "رآبيل العرب". فهم الصعاليك الذين نبحث عنهم.

ويظهر أن أباه مات وهو صغير، وأن أمه التي كانت أمة سوداء على أغلب الروايات، أو أمة حرة في رواية، تزوجت الشاعر "أبا كبير" الهذلي، وهو من الصعاليك، من صعاليك هذيل، وأن أبناء قبيلته كانوا يعيرونه بسواده، مما ترك أثرا في نفسه، فتصعلك، وأخذ يرافق الصعالكة، ومنهم صعلوك شهير آخر، هو "الشنفرى" الذي رافقه في كثير من غزواته. وقد نعت "تأبط شرا" بأنه كان شاعرا بئيسا، يغزو على رجليه2.

ومما يروى من قصصه أنه كان يشتار عسلا من جبل ليس له غير طريق واحد، فأخذت لحيان عليه ذلك الموضع، وخيروه النزول على حكمهم أو إلقاء نفسه من الموضع الذي ظنوا أنه لا يسلم، فصب العسل الذي معه على الصفا وشد صدره على الزق ثم لصق على العسل، فلم يبرح ينزلق عليه حتى نزل سالما، فنظم في ذلك قصيدة مطلعها:

إذا المرء لم يحتل وقد جد جده

أضاع وقاسى أمره وهو مدبر3

ولعلماء الشعر قصص في تفسير تسمية هذا الشاعر بـ "تأبط شرا"، فزعم بعض منهم أنه "إنما سمي تأبط شرا لأنه أخذا سيفا وخرج، فقيل لأمه أين هو؟ قالت: لا أدري، تأبط شرا وخرج. وقيل أخذ سكينا تحت إبطه وخرج إلى نادي قومه فوجأ بعضهم، فقيل تأبط شرا. وزعم بعض آخر أن أم تأبط شرا قالت له يوما: إن الغلمان يجنون لأهلهم الكمأة فهلا فعلت كفعلهم، فأخذ جرابه ومضى فملأه أفاعي وأتى متأبطا به، فألقاه بين يديها فخرجت الأفاعي منه

1 تاج العروس "7/ 333"، "ربل"، الاشتقاق "162 ما بعدها"، اللآلئ "158 وما بعدها"، التيجان "242 وما بعدها"، أسماء المغتالين "215".

2 الشعر والشعراء "1/ 229"، "دار الثقافة"، الأغاني "18/ 215 وما بعدها"، BAUR. IN ZDMG، X، 7، 17، FF

3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 975"، الأغاني "18/ 215"، شرح ديوان الحماسة "1/ 38"، المحبر 197 وما بعدها"، الخزانة "3/ 357".

ص: 208

تسعى فولت هاربة. فقال لها نساء الحي: ما الذي كان ابنك متأبطا له؟ فقالت: تأبط شرا! وقيل: إنه رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت أبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش، فرمى به، فإذا هو الغول. فقال له قومه: ما كنت متأبطا يا ثابت؟ قال: الغول. قالوا: لقد تأبطت شرا، فسمي بذلك. وإنه قال في ذلك:

تأبط شرا ثم راح أو اغتدى

يوائم غنما أو يشيف على ذحل

وقيل سمّي بهذا البيت. قال رجل لتأبط شرا: "بم تغلب الرجال وأنت دميم ضئيل؟ قال: باسمي، إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبط شرا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت"1. وقيل إنما سمي "تأبط شرا"، لأن أمه رأته وقد تأبط جفير سهام وأخذ قوسا، فقالت له: هذا تأبط شرا، أو تأبط سكينا فأتى ناديهم فوجأ بعضهم، فسمي به لذلك، وكان لا يفارقه سيفه. قتلته هذيل في رواية، وقالت أخته ترثيه:

نعم الفتى غادرتم برخمان

بثابت بن جابر بن سنان

وكانت تسمى "ريطة". وذكر أن أمه هي التي رثته. وقد ذكر في أشعار هذيل2.

وكان سبب قتله، أنه خرج غازيا في نفر من قومه، إذ عرض لهم بيت من هذيل، بين صدى جبل، فأراد مهاجمته، فمنعه من كان معه من مباغتته، لخروج ضبع اعتافوا منه، فلم يبال بتشاؤمهم، فلما قارب البيت رآه غلام، فهرب إلى الجبل، فهجم تأبط شرا مع جماعته على البيت، فقتلوا شيخا وعجوزا،

1 الأغاني "21/ 146"، شرح حماسة أبي تمام "1/ 57"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 52".

2 تاج العروس "5/ 100"، "أبط" قال مليح الهذلي:

ونحن قتلنا مقبلا غير مدبر

تأبط ما ترهق بنا الحرب ترهق

اللسان "7/ 254"، "أبط".

ويل أم طرف قتلوا برخمان

بثامت بن جابر بن سنان

الشعر والشعراء "1/ 229"، "دار الثقافة"، الأغاني "18/ 209"، "بولاق"، المغتالين "215"، الخزانة "1/ 66".

ص: 209

وحاز جاريتين وإبلا، ثم أبصر تأبط شرا بالغلام، فاتبعه فرماه الغلام بسهم أصاب قلبه، وحمل على الغلام فقتله، ثم مات هو من السهم، وترك جثة، فاحتملته هذيل، وطرحته في غار يقال له غار "رخمان". فرثته أخته "ريطة" بقولها:

نعم الفتى غادرتم برخمان

ثابت بن جابر بن سفيان

قد يقتل القِرن ويَروي الندمان1

وفي بيت شعر ينسب إلى تأبط شرا، هو:

ولست أبيت الدهر إلا على فتى

أسلبه أو أذعر السرب أجمعا2

معنى يفيد أنه كان يغير على القادم والآيب، يسلبه ويأخذ ما عنده، لا يبالي بشيء إلا بحصوله على غنيمة السلب، وهو إن قابل قافلة، فلم يتمكن منها، يكون قد رضي من فعله بما ألقاه من رعب وذعر في قلوب أصحابها، ويكون قد اشتفى بذلك منها. فهو رجل منتقم، يريد أن يفرج عما ولد في قلبه من غل، بأية طريقة كانت، غل، ولد فيه، من سواد لونه، ومن ازدراء قومه له، ومن فقره وسوء حاله في هذه الحياة، وذلك فيما لو صح أن هذا الشعر هو من قوله.

ونسب قوم من الرواة إلى "تأبط شرا" قصيدة مطلعها:

ولقد سريتُ على الظلام بمغشم

جلد من التفيان غير مهبل

وهي قصيدة نسبها غيرهم إلى "أبي كبير" الهذلي، ووضعوا حولها قصة في شرح السبب الذي حمل "أبا كبير" أو "تأبط شرا" على نظمها3.

قال "الجاحظ" في كتابه "الحيوان ": "وقال تأبط شرا -إن كان قالها-:

1 أسماء المغتالين "215 وما بعدها".

2 الأغاني "18/ 217".

3 الشعر والشعراء "2/ 562 وما بعدها"، "الثقافة".

ص: 210

شامس في القر حتى إذا ما

ذكرت الشعرى فبرد وظل

وله طعمان أريٌ وشريٌ

وكلا الطعمين قد ذاق كل1

مما يدل على أنه في شك من أمر نسبة هذه القصيدة إليه.

وأشعار "تأبط شرا" متناثرة في كتب الأدب. ولم يطبع له ديوان بعد. ومن شعره أبيات، يذكر فيها أن "عذّالة" لامته حتى أكثرت من لومه، فكادت تخرق جلده أي تخراق، وقد عبر عن ذلك بقوله:

يا من لعذالة خذالة نشب

خرقت باللوم جلدي أي تخراق

تقول أهلكتَ مالا لو ضننت به

من ثوب عز ومن بز وأعلاق

سدد خلالك من مال تجمعه

حتى تلاقي ما كل امرئ لاق

عاذلتا إن بعض اللوم معنفة

وهل متاع وإن بقيته باق2

وهذه هي مشكلة أولئك الصعاليك، كانوا يخاطرون بحياتهم، للحصول على مال، فإذا حصلوا عليه، ونجوا من تعقب الناس لهم، أهلكوه. يتلفونه على ملذتهم، أو على أصدقائهم. وإذا بهم في حاجة إلى مال، وفي عسر وضيق.

ومن شعره قوله:

لتقرعنَّ عليّ السن من ندم

إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي3

وله شعر يصف فيه حاله، بقوله:

قليل التشكي للمهم يصيبه

كثير الهوى شتى النوى والمسالك

يظل بموماة ويمسي بغيرها

جحيشا وبَعْرُورِي ظهور المهالك

ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي

بمنخرق من شدة المتدارك

إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل

له كالئ من قلب شيحان فاتك

1 الحيوان "3/ 68 وما بعدها".

2 الشعر والشعراء "1/ 230"، "دار الثقافة"، أبو تمام ديوان الحماسة "382 وما بعدها".

3 الحيوان "1/ 63".

ص: 211

ويجعل عينيه ربيئة قلبه

إلى سلة من حد أخلق صائك

إذا هزه في عظم قرن تهللت

نواجذ أفواه المنايا الضواحك

يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي

بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك1

وهي قصيدة مدح بها عمه "شمس بن مالك"2.

وقد شك "الجاحظ" في نسبة هذه القصيدة إلى "تأبط شرا"، إذ قال:"ومن هذا الباب قول تأبط شرا، أو قول قائل فيه في كلمة له"3. وتنسب أيضا إلى "السليك بن السلكة" أحد غرابيب العرب4.

وله قصيدة ذكر فيها أنه التقى بالغول، وصار جارا للغيلان، وقد وصف حاله معها، حيث قال:

وأدهم قد جبت جلبابَه

كما اجتابت الكاعب الخيعلا

إلى أن حدا الصبح أثناءه

ومزق جلبابه الأليلا

على شيم نار تنورتها

فبت لها مدبرا مقبلا

فأصبحت والغول لي جارة

فيا جارتا أنت ما أهولا

وطالبتها بعضها فالتوت

بوجه تهول فاستهولا

وهي قصيدة ذكرها "ابن قتيبة"، وقد اكتفيت منها بالأبيات المتقدمة5. وقد عمل "ابن جني" ديوان "تأبط شرا"6، ونشرت بعض أشعاره وترجمت بلغات أعجمية7.

1 الحماسة، لأبي تمام "1/ 46 وما بعدها"، "بولاق"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "73"، "إذا خاص"، "إذا خاط"، الحيوان "6/ 467".

2 كارلو نالينو، "73".

3 الحيوان "6/ 255"، وتجد اختلافا بين نص الجاحظ لها، وبين نصها في الموارد الأخرى.

4 الحماسة "1/ 22"، القالي، أمالي "2/ 138"، التيجان "242"، زهر الآداب "2/ 18"، الصناعتين "279، 310"، ثمار القلوب "204"، الحيوان "6/ 256".

5 الشعر والشعراء "1/ 230 وما بعدها". إعجاز القرآن، للباقلاني "22"، مروج الذهب "2/ 134 وما بعدها"، "ذكر أقاويل العرب في الغيلان والتغول".

6 بروكلمان "1/ 104 وما بعدها".

7 Ch. Lyell، Four Poems by T. Sh. the Poet، brigand JRAS، 1918، 211-227

ص: 212

وأما "السليك بن السلكة"، فهو من تميم. وأمه أمة سوداء، وكان يغير على القبائل، ولا سيما القبائل اليمانية وقبائل ربيعة. وكان من العارفين باقتفاء الأثر ومن العالمين بالمسالك وبالطرق وبالأرض. يذكرون أنه كان إذا جاء الشتاء استودع بيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف، وأغار واحتاج إلى الماء، جاء إلى مواضع البيض، فاستخرج البيض منها وشرب ما فيه من ماء1.

وقد نسب "سليك" على هذا النحو: سليك بن يثربي بن سنان بن عمير بن الحرث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن سلكة، وهي أمه. ولذا قيل:"ابن السلكة" وقيل اسم والده: "عمرو بن يثربي"، ويقال "عمير"، وهو شاعر لص فتاك عدّاء. يقال: أعدى من سليك"، ويقال له: "سليك المقانب". قال قران الأسدي، وقيل أنس بن مدرك:

لَخُطّاب ليلى يالَ برثن منكم

على الهول أمضى من سليك المقانب2

وقال أهل الأخبار عنه، إنه أحد أغربة العرب وهجنائهم وصعاليكهم ورجيلاتهم، وكان له بأس ونجدة. وكان أدل الناس بالأرض وأجودهم عدوا على رجليه، وكان لا تعلق به الخيل. وتذكر قصة أنه خرج رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر عليه، فيذهب بإبله، وبينما هو نائم، وإذا برجل يجثم عليه، ويقول له: أستأسر، فتمكن منه السليك، ووجده صعلوكا فقيرا جاء مثله لعله يصيب شيئا، فاتفق معه على أن يغزوَا معا، فلما سارا وجدا رجلا صعلوكا انضم إليهما، واتفقوا على الغزو، ولما كانوا في جوف "مراد"، وجدوا نعما، فطلب "سليك" من رفيقيه الانتظار والتربص ريثما يذهب إلى الرعاء فيلهيهما، ثم يغيرا على النعم. فلما وصل إلى الرعاء، تودد إليهم، ثم قال لهم: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فأخذ يغني:

1 زيدان، تأريخ آداب "1/ 163"، الأغاني "8/ 133"، الشعر والشعراء "213".

2 اللسان "10/ 443"، "سلك"، تاج العروس "7/ 144"، "سلك"، "السليك بن سنان بن سلكة"، تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه "105 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الأولى".

ص: 213

يا صاحبي ألا لا حيّ بالوادي

إلا عبيد وآم بين أذواد

أتنظران قليلا ريث غفلتهم

أم تعدوان فإن الريح للعادي

فلما سمعا ذلك أطردا الإبل فذهبا بها1.

وذكر أن "بكر بن وائل" سارت للإغارة على "تميم". ورأته طلائعهما، فأرادت القبض عليه، حتى لا يذهب إليهم فيخبرهم بزحفهم عليهم. ولكنه ركض مسرعا، ففلت منهم، وأخبر قومه بغزوهم، فكذبوه، فقال في ذلك شعرا، وجاءت "بكر بن وائل" فأغارت عليهم2.

وقد وصفه "عمرو بن معدي كرب" في شعر منه:

وسيريَ حتى قال في القوم قائل

عليك أبا ثور سليك المقانب3

ومر "سليك" في بعض غزواته ببيت من "خثعم"، أهله خلوف، فرأى فيهم امرأة بضة شابة، فتسنّمها ومضى، فأخبرت القوم، فركب "أنس بن مدرك الخثعمي" في أثره فقتله، وطولب بديته، فقال: والله لا أديه ابن إفال، وقال:

إني وقتلي سليكا يوم أعقله

كالثور يضرب لما عافت البقر

غضبت للمرء إذ نيكت حليلته

وإذ يشد على وجعائها الثغر4

وقد ورد البيتان على هذه الصورة:

إني وقتلي سليكا ثم أعقله

كالثور يضرب لما عافت البقر

أنفت للمرء إذ نيكت حليلته

وإذ يشد على وجعائها الثغر5

ومن بقية الشعراء الصعاليك، "حاجز" الأسدي، و "قيس بن الحدادية"

1 الشعر والشعراء "1/ 282 وما بعدها"، "الثقافة"، الأغاني "18/ 134".

2 الشعر والشعراء "1/ 284"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 17"، "بولاق".

3 الشعر والشعراء "1/ 284"، "الثقافة".

4 الشعر والشعراء "1/ 285"، "الثقافة" أسماء المغتالين "220، 226 وما بعدها"، الأغاني "18/ 133"، المؤتلف "137"، الخزانة "2/ 17".

5 الحيوان "1/ 18".

ص: 214

الأزدي، و "أبو الطمحان" القيني، و "أبو خراش" الهذلي، وصخر الغي الهذلي1، وأخوه الأعلم الهذلي2، وعمرو ذو الكلب3.

فأما "قيس بن الحدادية"، فهو "قيس بن منقذ بن عبيد بن أصرم بن ضاظر بن حبشية بن سلول"، وله مع "عامر بن الظرب" حديث. وصفه "المرزباني" بـ "شاعر قديم كثير الشعر"4. وأمه من "بني حداد" كنانة، وقومها يجعلونها من حداد محارب. وكان صعلوكا خليعا5، ساهم مع جماعة من أهله في قتل رجل من قبيلتهم، وعجز قومه عن دفع ديته، فولوا هاربين، فنزلوا في "فراس بن غنم" ثم لم يلبثوا أن قتلوا منهم رجلا، فهربوا، فنزلوا على "أسد بن كرز" من "بجيلة"، فأحسن إليهم وتحمل عنهم ما أصابوه في خزاعة وفي فراس6. وقد نسب "قيس" إلى أمه الحدادية، وهي حضرمية من محارب7. وورد أن أمه من "محارب بن خصفة". و"حداد" من كنانة. ومن شعره:

أنا الذي أطرده مواليه

وكلهم بعد الصفاء قاليه8

ولا نجد في بطون الكتب شعرا كثيرا لقيس بن الحدادية، بحيث تنطبق عليه جملة "كثير الشعر" التي أطلقها "المرزباني" على شعر هذا الشاعر، مما يبعث على الاحتمال بضياعه منذ عهد طويل.

وألف "قيس بن الحدادية"، عصابة ضمت "شذاذا من العرب وفتاكا

1 شرح أشعار الهذليين "1/ 12"، الأغاني "20/ 19"، الشعر والشعراء "2/ 559"، ديوان الهذليين "2/ 57".

2 الشعر والشعراء "2/ 559".

3 الأغاني "20/ 19".

4 زيدان، تأريخ آداب "1/ 164".

5 المرزباني، معجم "202"، الأغاني "13/ 6".

6 الأغاني "13/ 2 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "96 وما بعدها".

7 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "86 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الأولى".

8 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "87"، الاشتقاق "277"، ألقاب الشعراء، لابن حبيب "139".

ص: 215

من قومه" وأخذ يغير على عشيرته بسبب خلعها له، وبقي شريدا متمردا يغزو بصعاليكه، إلى أن قتل صعلوكا1.

وأما "أبو الطمحان" القيني، فهو "حنظلة بن الشرقي" من بني كنانة بن القين، وكان فاسقا، نازلا بمكة على الزبير بن عبد المطلب، وكان ينزل عليه الخلعاء، وكان نديما له في الجاهلية. اختلف فيه، فمنهم من قال إنه جاهلي، ومنهم من قال إنه أدرك الإسلام. وقد زعم بعضهم أنه عاش مائتي سنة، وأنه ندم على ما اقترفه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والسرقة، ورووا له شعرا تبرأ فيه من الذنوب. ذكر أنه قيل له: ما أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدير، قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانية، فأكلت عندها طفشيلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت!؟ وكانت له ناقة يقال لها "المرقال"، وله إبل استقاها قوم نزلوا ضيوفا عليه وشربوا من ألبانها ثم أخذوها معهم، فقال في ذلك شعرا منه:

وأني لأرجو ملحها في بطونكم

وما بسطت من جلد أشعث أغبر2

وذلك أنه جاورهم. فكان يسقيهم اللبن؛ فقال أرجو أن تشكروا لي رد إبلي، على ما شربتم من ألبانها، وما بسطت من جلد أشعث أغبر، كأنه يقول: كنتم مهازيل فبسط ذلك من جلودكم3.

وروي أنه كان من المعمرين، عاش على حد قول بعضهم مائتي سنة. فقال في ذلك:

حنتني حانيات الدهر حتى

كأني خاتل أدنو لصيد

قصير الخطو يحسب من رآني

ولست مقيدا أني بقيد4

1 الشعراء الصعاليك "97 وما بعدها".

2 الشعر والشعراء "1/ 304 وما بعدها"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الأغاني "11/ 125"، الخزانة "3/ 426"، المعمرون للسجستاني "62"، المؤتلف "149"، أمالي المرتضى "1/ 257 وما بعدها".

3 الحيوان "4/ 473".

4 أمالي المرتضى "1/ 257".

ص: 216

ونسب "المرتضى" له قوله:

وإني من القوم الذين همُ همُ

إذا مات منهم ميت قام صاحبه

نجوم سماء كلما غاب كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وما زال منهم حيث كان مسود

تسير المنايا حيث سارت كتائبه1

وقد لاقى "أبو الطمحان" مصاعب عديدة، وكان لا يكاد يجد له مكانا يستقر فيه، حتى تقع له حادثة توقعه في مشكلات عويصة وفي شدة ومحنة، فكان ينتقل من جار إلى جار، ثم يهم بالعودة إلى أهله لولا خوفه من أداء الدية التي عليه أن يدفعها، فيحجم عن الذهاب إليهم، حتى استقر أخيرا في "بني فزارة" في جوار رجل يقال له "مالك بن سعد" أحد "بني شمخ"، وكان كريما، فآواه، وأعطاء إبلا لتكون دية جنايته وزاد عليها، وكان قد لمّح له أنه يريد العودة إلى أهله لولا هذه الدية، فلما وجد هذا السخاء من مالك، بقي عنده، وصار أحد عشيرته حتى هلك فيها، وهو طاعن في السن2. فذكره "السجستاني" لذلك في المعمرين، وأعطاه مائتي سنة من عمر مديد3!

ونسب إلى "أبي الطمحان" قوله:

إن الزمان ولا تفنى عجائبه

فيه تقطع ألاف وأقران

أمست بنو القين أفراقا موزعة

كأنهم من بقايا حي لقمان4

وله شعر في مدح "مالك بن حمار" الشمخي، وكان شريفا من أشراف العرب قتله "خفاف بن ندمة" السلمي5، يقول فيه:

1 أمالي المرتضى "1/ 257".

2 الأغاني "11/ 132 وما بعدها".

3 المعمرون "62".

4 البيان والتبيين "1/ 187".

5 الاشتقاق "2/ 172"، والبيان والتبيين "3/ 235"، وقد أخطأ السيد عبد السلام محمد هارون في الجزء الأول من كتاب الحيوان الذي حققه، إذ قال:"وهو يمدح مالك بن حماد الشمخي"، ثم علق عليه برقم "4" حاشية، ثم قال في الحاشية:"هو قاتل خفاف بن ندبة"،"ص380"، الأغاني "13/ 134".

ص: 217

سأمدح مالكا في كل ركب

لقيتهم وأترك كل رذل

فما أنا والبكارة من مخاض

عظام جلة سدس وبزل

وقد عرفت كلابُكم ثيابي

كأني منكم ونسيت أهلي

نمتكم من بني شمخ زناد

لها ما شئت من فرع وأصل1

وله أيضا:

فكم فيهم من سيد وابن سيد

وفيّ بعقد الجار حين يفارقه

يكاد الغمام الغر يزعب إن رأى

وجوه بني لأم وينهل بارقه2

وله في "بني نمير" قوله:

مهلا نمير فإنكم أمسيتم

منا بثغر ثنيّة لم تستر

سودا كأنكم ذئاب خطيطة

مطر البلاد وحرمها لم يمطر

يحبون ما بين أجا وبرقة عالج

حبو الضباب إلى أصول السخبر

وتركتم قصب الشريف طواميا

تهوى ثنيته كعين الأعور3

وله في الاتعاظ والاعتبار بدروس الغابرين، قوله:

ألا ترى مأربا ما كان أحصنه

وما حواليه من سور وبنيان

ظل العبادي يسقي فوق قلته

ولم يهب ريب دهر حق خوان

حتى تناوله من بعد ما هجعوا

يرقى إليه على أسباب كتان4

ولما في حياة الصعالكة من غرابة وطرافة ومغامرات، تستلذ لسماعها الآذان، وضع الوضاعون عليهم إخبارا كثيرة وأشعارا عديدة، تجد بعضها تحكي الأيام

1 البيان والتبيين "3/ 235".

2 البيان والتبيين "3/ 237".

كم فيهم من سيد وابن سيد

وفي بعقد الجار حين يفارقه

يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى

وجوه بني لام وينهل بارقه

الحيوان "3/ 93".

3 الحيوان "6/ 113".

4 الحيوان "6/ 154".

ص: 218

التي وضع الوضاعون فيه تلك الأشعار، من حيث الطعن في الأغنياء، وتفضيل الفقراء عليهم، وترجيح الفقير على الغني، لشعوره بشعور إنساني حرم منه الغني الذي لم يكن يفكر إلا بنفسه، كما أن في كثير من الشعر المصنوع طابع حياة المغامرات. وهو يختلف نصا من مؤلف إلى مؤلف، مما يدل على تعدد الروايات، وأنه أخذ من ألسنة متعددة، فتعدد بعددها.

ص: 219