الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والستون بعد المائة: شعر المخضرمين
المخضرم هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام1. والشعراء المخضرمون هم الذين عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام ونظموا الشعر في العهدين: الجاهلية والإسلام. والمخضرم من يدرك عهدين متناقضين.
والشائع بين الناس أن الإسلام قد سبب في انصراف الناس عن الشعر وعن روايته "بما شغلهم من أمور الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره. وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه"2. وقد نسب إلى "عمر" قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته"3، "لما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم
1 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم"، الخزانة "1/ 129"، "بولاق".
2 مقدمة ابن خلدون "581"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "103".
3 ابن سلام، طبقات "10"، المزهر "2/ 473".
كثير"1. والشائع بينهم أيضا أن الشعر قد أصيب بسبب ما تقدم بنكسة، فذبل وضعف وذهبت عنه قوة وسورة وجزالة وشدة الشعر الجاهلي، وأعرض بعض الشعراء مثل "لبيد" عن الشعر، إذ رأوا أن في كلام الله ما يغنيهم عنه، وقل بذلك عدد الشعراء ولا سيما الشعراء الفحول بالنسبة إلى أيام الجاهلية، وغلبت الليونة على الشعر الجديد، فصار شعر "حسان" الذي قاله في الإسلام ضعيفا لينا بالنسبة إلى شعره الجزل المتين الذي قاله في جاهليته.
وجوابي على هذه الدعاوى: صحيح أن الشعر الجاهلي قد نقص حجمه وضاع قسم كبير منه، ولكن ضياعة ذلك لم يكن بسبب الإسلام، وإنما بسبب الأحداث والتطورات التي طرأت على جزيرة العرب، بسبب دخولها في الإسلام، كحروب الردة مثلا والفتوح، وانفتاح أرض الله الواسعة أمام المسلمين، وفرار الكثير من أهل جزيرة العرب نحو الخارج بحثا عن أرض أخصب وماء أوفر، وجو أطيب وثراء وعيشة راضية. أما حروب الردة، فقد أكلت من المسلمين ومن المرتدين جماعة عرفت برواية الشعر وبحفظها له، وبنظم الشعر أيضا، فقل بهلاكهم عدد حفاظ الشعر، كما قل في الوقت نفسه عدد حفاظ القرآن. وأما الفتوح، فقد قتل فيها قوم من الشعراء ومن حفاظ الشعر، فهلك بموتهم شطر من الشعر الجاهلي، وتقلص عدد العلماء به. كما ألهت الناس عن الشعر، بما فتحت لهم من آفاق الأرض وبما درت عليهم من أموال وأشغال قلصت من فراغهم الذي كان يكوّن معظم حياتهم في البوادي، فجعلتهم في الأرضين الجديدة يصرفون معظم وقتهم في استغلال الأرضين التي صارت من نصيبهم، وفي إحياء الموات، وفي تربية المواشي، والاشتغال بالزراعة، وهي أشغال تستبد بوقت الإنسان، وتصرف ذهنه إليها لمعالجتها، فلا يشعر في مثل هذه الحالة بما كان يشعر به يوم كان في بواديه فارغ البال، يقضي وقته بالتعبير عن نفسه بشعر يقتل به فراغه، ويسلي به نفسه بالتغني به لأصدقائه، ثم هو قد يتيعش منه، بما يناله من قبيلته من مال واحترام، وبما قد يحصل عليه من مدحه للملوك وللسادات من عطايا وهبات ثمنا للمدح. ومحيط فيه شغل وعمل، وفيه تعب جسماني وعقلي لا يساعد على نمو الشعر فيه، ومن هنا كان إقبال أهل الحضر مثل أهل مكة وأهل يثرب
1 المزهر "2/ 474".
وأهل الطائف وأهل اليمامة على الشعر، ونبوغهم فيه أقل من إقبال أهل البوادي عليه، بسبب انشغال أهل القرى والحضر عامة بتدبير أمور الحياة، وبالحرف وباستغلال الأرض والمال والإتجار، وبسبب تكتلهم وتجمعهم وتلاصق بيوتهم بعضها ببعض، مما يجعلهم يطلعون على أحوال جيرانهم وعلى عوراتهم، ويقفون على أسرار حياتهم في الشعب وفي القرية، فلا يكون للهجاء عندهم لهذا الأثر الذي يكون له عند الأعراب، ولا يكون للمدح عندهم ما يكون له من أثر عند أهل البادية. ومن هنا نجد دولة الشعر وقد قل نفوذها في العالم العربي في هذا اليوم عما كان عليه نفوذها قبل ثلاثين سنة أو أكثر، بسبب التطور الحضاري الذي أخذ يغزو العالم العربي، وهو تطور يقلص من فراغ الإنسان ويستبد به، جاء له بهموم وبمشاكل نفسية وبأمراض الحضارة التي تريد المزيد من التمتع بمتع الحياة من جنسية ومادية، ليتمتع بها الإنسان في هذه الحياة التي لن يعود إليها مرة ثانية، فصار يفكر في الحصول على المادة جهد طاقته، ولو عن طريق إماتة أعصابه، ليستمتع بأقصى حد ممكن باللذة الحسية، التي صار يراها أنها سبب هذا الوجود، وذلك قبل فواتها منه، بموت يخترمه منها، فزاد الإقبال على المتعة، وعلي رأسها الاستمتاع باللذة الجنسية، وبلذة الشرب والتدخين، وقل الإقبال على الاستمتاع باللذات النفسية، وفي جملتها الشعر، فلا تجد اليوم له في أوروبة ما كان له من مكانة قبل عشرات السنين، وغلب النثر عليه، وقل عدد من كان يحفظ شعر الشعراء الماضين والمعاصرين، وعلي هذا النحو صار حالنا اليوم، فتناقص عدد حفاظ الشعر في النجف مثلا تناقصا كبيرامن حيث العدد والكم، والنجف في الشعر أو الأدب كوفة العراق بالأمس أيام الأمويين والعباسيين. فالإعراض الذي لاقاه الشعر في صدر الإسلام، لم يكن بسبب كره الإسلام له، وإنما بسبب التطور الذي طرأ على حياتهم، فغيرها من جميع الوجوه، نتيجة لخروجهم من جزيرتهم، ولاختلاطهم بأمم أعجمية ذات نظم أخرى، ونظرات متباينة مع نظرات العرب إلى مفهوم الحياة.
أما إعراض "لبيد" عن قول الشعر بعد اعتناقه الإسلام، فليس مرده اعتقاده بكره الإسلام للشعر، وإنما هو في رأيي بسبب تقدمه في السن، والإنسان متى تقدم في العمر خفتت مواهبه وبرد إحساسه، ووهنت عواطفه التي تكون متقدمة في أيام المراهقة والشباب، أو قد يكون هذا العامل وعامل آخر، هو سلطان
الدين الذي استولى عليه وهو في سن الشيخوخة، بحيث صيره يشعر بوجوب الانصراف نحو العبادة وحفظ ودراسة كتاب الله، ومع ذلك فهناك روايات روت أن معظم شعره الذي فيه تدين وزهد وحث على العمل الصالح، هو شعر قاله في الإسلام، وأن ما زعم من أنه ترك الشعر، وانكب كلية على قراءة القرآن زعم غير صحيح.
وأما إعراض "بشار بن عدي بن عمرو بن سيود" الطائي عن الشعر، فيظهر أنه عن وازع نفسي ديني، حمله على التفرغ لدراسة كتاب الله، وعلى الزهد، وقد يكون ذلك بسبب تقدمه في السن. وفي تركه الشعر يقول:
تركت الشعر واستبدلت منه
…
كتاب الله ليس له شريك
وودعت المدامة والندامى
…
إذا داعى منادي الصبح ديك1
وأما إعراض "مالك بن عمير" السلمي عن الشعر2، فهو حادث فردي كذلك، لا يعلم مبلغ درجته من الصحة، ومع ذلك، فإن كل من ترك الشعر من الشعراء لا يصل عددهم إلى عشرة، وهم قلة بالنسبة إلى عدد الشعراء المخضرمين الذين استمروا في نظمه في الإسلام.
وأما ما قالوه عن الضعف الذي ألم بشعر "حسان" الذي قاله في الإسلام، وعن متانة شعره وجزالته في الجاهلية، فلا يعقل إرجاع سببه إلى الإسلام، فقد اتخذ الرسول "حسانا" شاعرا له، يجبُّ عنه وعن الإسلام المشركين، كما شجع غيره في الرد على شعراء الشرك، وكان الرسول يستصوب الشعر الصلد الجزل المتين ذا المعاني الجيدة العميقة، ومصدر ضعف "حسان" في شعره في الإسلام، هو بسبب تقدمه في السن، والتقدم في السن -كماسبق أن قلت- يضعف المواهب، ومنها الشاعرية، ويخمل العواطف، فقد كان حسان في جاهليته شابا ورجلا، قوي الجسم ككل رجل، متقيد الحس، متألق الحس، متألق العاطفة، ذا شاعرية حساسة ثائرة، يشرب ويلهو ويسمع الغناء ويحضر مجالس الطرب، فلما جاء الإسلام، ودخل فيه مع من دخل، كان قد تقدم في السن،
1 الإصابة "1/ 174"، "رقم 767".
2 الإصابة "3/ 331"، "رقم 7672"
فبرد حسه، وضعف شعره في المعاني التي قالها في الجاهلية، وفي الدروب التي سلكها من دروب الشعر الجاهلي، ولكنه تألق في معان أخرى تنسجم مع عمره ومع المثل التي اعتنقها، فمن ثم صار شعره يختلف عن شعره في الجاهلية. ولم يقع ذلك لحسان وحده وإنما وقع هذا الحادث لكل شاعر هجم عليه العمر، واستبدت به الأعوام.
ومما وقع للشعر في الإسلام، أن الزعامة انتقلت فيه من البوادي إلى الحواضر، فبعد أن كان شعر الأعراب، بجزالته وبخشونته وبصلادته، هو المقدم عند علماء الشعر والمحبين له، وبعد أن كانت القبائل هي التي تنجب الفحول، صارت الحواضر هي التي تنبت الفحول، لتبدل الزمن، ووقوع تغير في الذوق، ولتغلب الحضارة على البداوة، ولاهتمام الناس بالمعاني، أكثر من اهتمامهم بالشكل وبمظهر القوالب فقل شعر الشعراء الأعراب الفصحاء، ثم انحسر الشعر من موطنه، كما انحسر أكثر سكان البوادي عن بواديهم، ليلحقوا بخير الحضر، وصار الشعر العربي الفصيح من حصة الحضر في هذه الأيام. كما حلت الكوفة ثم "دمشق" ثم بغداد فبقية الحواضر محل "الحيرة" وقصور الغساسنة ومضارب سادات القبائل في استقبال الشعراء وفي الإنعام عليهم بالهدايا والألطاف. ولتغير الذوق بتغير المجتمع، تغير الشعر كذلك، ولا سيما في أيام بني العباس.
وفي شعر المخضرمين شعر قيل في الرسول وفي حوادث الإسلام، وفي الرد على المشركين وتسفيه مقالتهم وفي دينهم ونيلهم من دين الله. قاله الشعراء بعد دخولهم في الإسلام. وعلي رأس هؤلاء من ذكرت من شعراء يثرب، يتقدمهم "حسان بن ثابت" شاعر الرسول، الذي كان يستدعيه الرسول في المناسبات ليجيب على شعر الشعراء الوافدين عليه، كالذي كان من أمره مع شاعر وفد "تميم" الزبرقان بن بدر.
وكان لرد شعراء يثرب على شعراء قريش ومن لف لفهم، أثر كبير في نفوس المشركين. يروى أن النبي قال لحسان بن ثابت:"اهجهم، يعني قريشا، فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس"1. وقد كان هجاؤه شديدا عليهم، له وقع في نفوسهم أشد
1 العمدة "1/ 12"، الأغاني "4/ 7"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "107".
من وقع شعر بقية الشعراء عليهم. فقد كان لسانه حادا قاطعا، لا سيما إذا ما تناول ناحية الهجاء وما يتعلق منه بالوقائع والأيام والنزاع القديم الذي كان بين أهل مكة ويثرب. فيجيد في ذلك كل الإجادة، ويتفوق بهذه الناحية على شعراء قريش.
وكان حسان وكعب يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة1.
وأما شعر شعراء مكة إلى عام الفتح، فكان في إيذاء الرسول والإسلام، وفي هجاء المسلمين، وتمجيد قريش ورثاء من قتل من المشركين وتعظيم أمر الجاهلية وسنة الآباء وما ألفوه عن آبائهم من أمور، وقد حفظت كتب السير والمغازي والتواريخ شيئا من شعرهم، من النوع الذي لم يتضمن قذعا شديدا بالإسلام، ولا شتما عنيفا وهجاء غليظا بالرسول وبالمسلمين. أما النوع الثاني الذي أفحش فيه أولئك الشعراء، وجاءوا فيه بشتائم وسباب، فقد أنف أصحاب السير والمغازي والتأريخ من روايته، فتركوه، ولو جمع الباقي من شعرهم مع ما رد عليه، لكُوّن منه ديوان ثمين في المعارضة التي كانت بين المشركين والمسلمين في مبدأ ظهور الإسلام، ولكان سجلا قيما لتأريخ ذلك الصراع، ولكيفية تغلب الإسلام على الشرك. فهو وثائق تأريخية من الدرجة الأولى، على أن يغربل ويفحص فحصاعلميا للتيقن من درجة صفائه ونقائه بالطبع.
ونوع آخر من أنواع الشعر كان عند المخضرمين، هو شعر القتال. القتال الذي وقع بين المسلمين والمشركين واليهود، إلى أن انتصر الإسلام. فاختفى صوت الشرك وصوت يهود، وبقي صوت الإسلام وحده، لا يعارضه أحد، ولا يجابهه صوت. فقد كان من عادة العرب، أنهم إذا تقاتلوا أنشدوا شعرا يفتخرون فيه بأنفسهم وبقبيلتهم وبشجاعتهم، ولا سيما حين يخرج فارس لمبارزة فارس آخر، وقد يقف الشعراء في صفوف المحاربين يحرضونهم على القتال والاستبسال.
1 الأغاني "15/ 29".
ونجد في بطون كتب السير والمغازي والتواريخ، نماذج طيبة من هذا الشعر: شعر القتال. قال المحاربون عند خروجهم من صفوف المقاتلين لمقابلهم من سيخرج من الجانب الثاني.
وتولد من هذا النوع من الشعر شعر آخر قيل في معارك الفتوح. في المعارك التي وقعت مع عرب الحيرة، ثم مع الفرس، وفي المعارك التي حدثت بين المسلمين وبين الغساسنة، وبين المسلمين والروم، ثم في الفتوحات الأخرى. فقد ساهم في هذا القتال شعراء مخضرمون، حاربوا في الجاهلية، وحاربوا في الإسلام. وحافظوا على تقاليدهم وأعرافهم القديمة التي كانت لهم في الجاهلية عند القتال، من التحمس في القتال والاندفاع من الصفوف إلى الأمام لمبارزة من قد يبرز لهم لمقاتلتهم، ومن التغني بالقتال ومبارزة العدو. ونجد في كتب الفتوح والتأريخ والأخبار، نماذج من هذا الشعر. ونجد في شعر "قيس بن مكشوح" المرادي وصفا ليوم القادسية، وفخرا بسيره مع جمع من قومه من "صنعاء" إلى وادي القرى فديار كلب، إلى اليرموك، فالشام، ثم القادسية بعد شهر، ثم مقابلته جمع كسرى وأبناء المرازبة، وهجومه على رأس الفرس1، ولو جمعنا هذا الشعر الذي قيل في هذا القتال لكوّنّا منه ديوانا2، يصور هجرة القبائل العربية من مواطنها إلى البلاد المفتوحة، ويتحدث عن الأبطال الذين ساهموا في جمع هذا الديوان، والملحمة الشعرية التي تروي قصص الفتوح، وما قام به المحاربون الشجعان في حروب الفتح3.
وهناك شعراء أسلموا، لكن قلوبهم بقيت على ما كانت عليه قبل الإسلام من عدم الاهتمام بأمور الدين، فلم يحفلوا بالإسلام، ولم يذكروا الرسول، وهم شعراء أهل البادية الأعراب.
وطالما كان يأتي الشعراء إلى "يثرب" على طريقتهم في الجاهلية في إنشاد شعرهم أمام رجل منهم عظيم، مثل ملوك الحيرة أو الغساسنة، أو سادات القبائل. فيقف الشاعر أمام الرسول لينشده شعره الذي أعده لهذه المناسبة، أو ليقول شعرا
1 الإصابة "3/ 261"، "رقم 7315"، الاستيعاب "3/ 235".
2 كارلو نالينو، تأريخ الأداب العربية "116".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173".
بالمناسبة. ولما قدم وفد "تميم"، المدينة، ودخلوا المسجد، وقالوا:"يا محمد، جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل، فخطب: "عطارد بن حاجب"، فلما انتهى قال الرسول لثابت بن قيس بن شماس، أجبه، فأجابه. ثم قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
منا الملوك وفينا تنصب البيع
فلما انتهى، أجابه حسان، فحكموا أن خطيب المسلمين أخطب من خطيب تميم، وأن شاعر الرسول أشعر من شاعرهم1.
وعادة التفاخر في مجالس الملوك وسادات القبائل، وإنشاد الشعر في ذلك، ورد الشعراء بعضهم على بعض، دفاعا عن قومهم، من العادات الجاهلية القديمة، التي بقيت في الإسلام كذلك، ولما أخذت الوفود تفد على الرسول بعد فتح مكة، كان في أعضائها من يخطب على طريقتهم في الخطابة، ومنهم من ينشد الشعر، ثم يعلنون إسلامهم، ومنهم من يشترط شروطا، وكان من بين المسلمين من يتولى الرد عليهم، وقد يجيبهم الرسول بنفسه.
وقد كره الإسلام من الشعر الجاهلي الشعر الذي يتعرض بالأعراض ويتحرش بعورات الناس، والشعر الذي يهيج الفتن، ويلقي البغضاء بين الإخوة، فيعيدها فتنة جاهلية، ومن هنا جاء النهي عنه في قوله:"لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا" 2، ولم يأت في عامة الشعر. وأخذ الخلفاء الشعراء الهجائين متى أقذعوا في شعرهم، وتحاملوا فيه على الناس، تحاملا يغض منهم. وهنا حبس "عمر" الحطيئة، وكان يقف بالمرصاد لمن يفعل فعله في نهش أعراض الناس. ولذلك تخوف المخضرمون في شعرهم من شعر الهجاء واحترسوا فيه امتثالا للمثل الإسلامية التي تأمر بالابتعاد عن ذكر المثالب والامتناع عن إيذاء الناس، وخوفا من تأديب الخلفاء لهم إن نهشوا أعراض المسلمين.
1 الطبري "3/ 115"، "قدوم وفد تميم ونزول سورة الحجرات".
2 البخاري، "كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، وفي أبواب أخرى، شرح النووي على صحيح مسلم "9/ 100 وما بعدها"، "حاشية على إرشاد الساري"، زاد المسلم "1/ 350 وما بعدها".
والقديم من شعر المخضرمين، ولا سيما شعر المتقدمين منهم في السن، هو استمرار في الواقع للشعر الجاهلي، نظم على طريقة أهل الجاهلية وأساليبهم في نظم الشعر وعلى معانيهم التي كانوا يتطرقون إليها في شعرهم في الغالب، فقد ولدوا في الجاهلية وقضى بعض منهم أكثر سني حياته فيها، ونظموا أكثر شعرهم في تلك الأيام وفي الأحداث التي وقعت فيها. ولذلك صار شعرهم يختلف عن شعر الشعراء الإسلاميين، لأنهم لم يشهدوا الجاهلية ولم يدركوها، وهم من ثَمّ لم يتأثروا بعقليتها كثيرا، ومن هنا يجب علينا أن نوجه لشعر الشعراء المخضرمين المسنين الذين قضوا أكثر أيام حياتهم في الجاهلية عناية خاصة، وأن نقوم بدراسته دراسة نقد دقيقة، إذ نتمكن بها من الوقوف على تطور الشعر الجاهلي ومكانته عند ظهور الإسلام.
ومن الشعراء المخضرمين من لقي الرسول وصحبه ومدحه وروى عنه، ومنهم من صحبه، لكنه لم يرو عنه، ومنهم من لم يره لكنه دخل في الإسلام. وقد ذكر بعض العلماء أسماء الشعراء الذين صحبوا الرسول ورووا عنه، منهم "حسان بن ثابت"، و"كعب بن مالك"، و"عبد الله بن رواحة"، و "عدي بن حاتم" الطائي، و "عباس بن مرداس" السلمي، و "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و "حميد بن ثور" الهلالي، و "أبو الطفيل عامر بن وائلة"، و "أيمن بن خريم" الأسدي، و "أعشى" بني مازن، و "الأسود بن سريع"، و "الحارث بن هشام"، و "عمرو بن شاس"، و "ضرار بن الأزور"، و "خفاف بن ندبة"، و "لبيد بن ربيعة"، و "ضرار بن الخطاب"، و "عبد الله بن الزبعرى"، ولم تكن للبيد، ولا لضرار ولا لابن الزبعرى رواية عنه. وكذلك "أبو ذؤيب" الهذلي، و "الشماخ بن ضرار"، وأخوه "مزرد بن ضرار"1.
وقد عد "ابن سلام""النابغة" الجعدي، والشماخ بن ضرار، ولبيد، وأبو ذؤيب الهذلي طبقة، وقال: وكان الشماخ أشد متونا من لبيد، ولبيد أحسن منه منطقا2.
1 الاستيعاب "3/ 561"، "حاشية على الإصابة".
2 الاستيعاب "3/ 561"، "حاشية على الإصابة".
و "النابغة" الجعدي، هو:"أبو ليلى عبد الله بن قيس"، أو "قيس بن عبد الله بن عدس"، وقيل:"حبّان بن قيس"، "حيان بن قيس"، وغير ذلك. قيل له "النابغة"، لأنه كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية، ثم عاد إليه بعد أن أسلم، فقيل: نبغ. قيل إنه كان قديما شاعرا مفلقا طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام، حتى زعم أنه كان أسن من النابغة الذبياني، واستدلوا على طول عمره بأبيات زعموا أنه قالها هي:
ألا زعمت بنو أسد بأني
…
أبو ولد كبر السن فاني
فمن يك سائلا عني فإني
…
من الفتيان أيام الختان
أتت مائة لعام ولدت فيه
…
وعشر بعد ذاك وحجتان
وقد أبقت صروف الدهر مني
…
كما أبقت من السيف اليماني1
وذكر "السجستاني" في كتاب المعمرين، أنه عاش مائتي سنة. وهو القائل:
قال"؟ " أمامة كم عمرت زمانه
…
وذبحت من عنز على الأوثان
ولقد شهدت عكاظ قبل محلها
…
فيها وكت أعد من الفتيان
والمنذر بن محرق في ملكه
…
وشهدت يوم هجائن النعمان
وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى
…
وقوارع تتلى من القرآن
ولبست في الإسلام ثوبا واسعا
…
من سيب لا حرم ولا منان2
وهو عند الأخباريين أسن من النابغة الذبياني وأكبر، واستدلوا على أنه أكبر من النابغة الذبياني، بأن النابغة الذبياني كان مع النعمان بن المنذر، وكان النعمان ابن المنذر بن محرق. وقد أدرك النابغة الجعدي المنذر بن محرق ونادمه، ولكن النابغة الذبياني مات قبله، وعمر بعده عمرا طويلا. ذكر بعضهم أنه عمر مائة وثمانين وذكر بعضهم أنه عمر أكثر من ذلك حتى ذكر بعض منهم أنه عمر مائتين
1 تختلف هذه الأبيات في النظم وفي الترتيب في كتاب الإصابة عنها في الاستيعاب وفي الكتب الأخرى، الإصابة "3/ 508 وما بعدها"، "رقم 8641"، الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، ابن هشام "1/ 53"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 53".
2 الإصابة "3/ 508"، "رقم 8641"، البخلاء "202 وما بعدها، 208 وما بعدها، ومواضع أخرى راجع ص612".
وعشرين سنة. وذكروا أن "عمر" قال له: كم لبثت مع كل أهل؟ قال ستين سنة. وأنشده قوله:
لقيت أناسا فأفنيتهم
…
وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم
…
وكان الإله هو المستآسا1
وجعل بعضهم عمره "240" سنة، وكان أكثرها في الجاهلية2.
وهو من "الفلج" جنوب نجد، وكان يزور بني لخم في الحيرة. وكان شاعرا مغلبا، ما هاجى قط إلا غلب، هاجى أوس بن مغراء، وليلى الأخيليلة، وكعب بن جميل فغلبوه جميعا، وذكر أنه مكث إلى أيام "عبد الله بن الزبير"3.
وذكروا أنه كان يذكر في الجاهلية دين إبراهيم والحنيفية ويصوم ويستغفر. وقال في الجاهلية كلمته التي أولها:
الحمد لله لا شريك له
…
من لم يقلها فنفسه ظلما
وفيها ضروب من دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار وصفة بعض ذلك على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إن هذا الشعر له، ولكنه قد صححه علماء الشعر مثل: يونس بن حبيب، وحماد الراوية، ومحمد بن سلام، وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة الجعدي4.
وروي أنه كان ممن فكر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان وذكر دين إبراهيم5.
1 الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، الأغاني "4/ 128"، الخزانة "1/ 512"، السيوطي، شرح شواهد "208"، الموشح "64"، ابن سلام، طبقات "26"، مجالس ثعلب "663"، الاشتقاق "338".
2 الروض الأنف "1/ 53"، "لبست أناسا"، أمالي المرتضى "1/ 264".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 614 وما بعدها"، الأغاني "5/ 1 وما بعدها"، "دار الكتب"، الجمحي، طبقات "26 وما بعدها"، الشعر والشعراء "158 وما بعدها"، المعجم، للمرزباني "321"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 614"، المعمرون للسجستاني "66"، الخزانة "1/ 512"، أسد الغابة "5/ 2 وما بعدها"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 232"، البخلاء "243".
4 الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، الخزانة "1/ 514 وما بعدها"، رسالة الغفران "202".
5 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641".
وذكر أن "النابغة" قدم على "عثمان" يستأذنه في السفر إلى البادية، لأن نفسه اشتاقت إليها، ليشرب من ألبانها، وليشرب من شيح البادية، فقال له عثمان:"أما علمت أن التعرب بعد الهجرة لا يصلح؟ قال: لا والله ما علمت وما كنت لأخرج حتى أستأذنك، فأذن له، وضرب له أجلا". ثم دخل على "الحسن بن علي" فودعه، فقال له: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشده:
الحمد لله لا شريك له
…
من لم يقلها فنفسه ظلما
فقال: يا أبا ليلى ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت؟ قال: يا ابن بنت رسول الله، والله إني لأول الناس قالها وإن السروق من سرق أمية شعره"1.
وذكر أنه كان من أصحاب "علي" وحارب معه يوم صفين، وله مع "معاوية" أخبار. ومات معمرا بأصبهان سنة "65هـ""684م". وكان معاوية سيره إليها مع "الحرث بن عبد الله بن عوف بن أصرم". وكان ولي أصبهان من قبل علي2.
وقد وفد النابغة على النبي وأنشده قصيدته الرائية التي فيها:
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى
…
ويتلو كتابا بالمجرة نيرا
إلى أن بلغ قوله:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
…
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا3
فقال رسول الله: "إلى أين أبا ليلى"؟ فقال: إلى الجنة. فقال رسول الله: "نعم إن شاء الله"4.
1 ابن سلام، طبقات "27".
2 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 232"، الإصابة "3/ 510".
3 تختلف الروايات في ضبط هذه الأبيات، ولعلماء الشعر روايات مختلفة عنها، رسالة الغفران "228"، أمالي المرتضى "1/ 226"، الأغاني "4/ 593".
4 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641"، الاستيعاب "3/ 552 وما بعدها".
ولما أنشده:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
…
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
…
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فاستحسنه الرسول وقال: "لا يفضض الله فاك". وذكر أن كلمة النابغة هذه قصيد مطول نحو مائتي بيت أوله:
خليلي غضا ساعة وتهجرا
…
ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وهو من أحسن ما قيل من الشعر في الفخر بالشجاعة سباطة ونقاوة وجزالة وحلاوة1. وقد تعرض فيها بأمور الجاهلية والإسلام.
وأسلم وحسن إسلامه وكان يرد على الخلفاء ورد على عمر ثم على "عثمان".
ويظهر أن القصيدة قد طولت على "النابغة" فيما بعد، وأنها لم تكن على هذا النحو من الطول لما أنشدها على الرسول. وقد روى بعض العلماء منها أربعة وعشرين بيتا2، لعلها هي الأبيات التي أنشدها أمام النبي.
وذكر أنه كان بالبصرة، فرعت "بنو عامر" في الزرع، فبعث "أبو موسى" الأشعري في طلبهم، فتصارخوا يا آل عامر! فخرج النابغة الجعدي ومعه عصبة له. فضربه أسواطا. فقال النابغة في ذلك:
رأيت البكر بكر بني ثمود
…
وأنت أراك بكر الأشعرينا
فإن تك لابن عفان أمينا
…
فلم يبعث بك البر الأمينا
فيا قبر النبي وصاحبيه
…
ألا يا غوثنا لو تسمعونا
ألا صلى إلهكم عليكم
…
ولا صلى على الأمراء فينا3
وقد مدح "النابغة" الجعدي عبد الله بن الزبير، ويظهر أنه كان في ضيق. وعسر، إذ يقول فيها:
1 الاستيعاب "3/ 555 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، وتجد أبياتا منها في الاستيعاب، الأغاني "5/ 8".
2 الإصابة "3/ 510"، "رقم 8641".
3 الاستيعاب "3/ 556 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
أتاك أبو ليلى تجوب به الدجى
…
دجى الليل جوّاب الفلاة عرمرم
لتجبر منه جانبا دعدت به
…
صروف الليالي والزمان المصمم
فأعطاه قلائص سبعا وفرسا وخيلا، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا1.
ومن جيد شعره قوله:
فتى كملت خيراته غير أنه
…
جواد فما يبقي من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه
…
على أن فيه ما يسوء الأعاديا2
قال العلماء في شعر "النابغة": "خمار بواف، ومطرف بآلاف. يريدون أن في شعره تفاوتا، فبعضه جد مبرز وبعضه رديء ساقط"3. ونسب إلى "الفرزدق" قوله في النابغة الجعدي: صاحب خلقان، يكون عنده مطرف بألف دينار، وخمار بواف"4.
وقد ذكر "أبو العلاء" المعري قصيدة النابغة التي يقول فيها:
ولقد أغدو بشرب أنف
…
قبل أن يظهر في الأرض ربش
فقال على لسان "النابغة" الجعدي: "ما جعلت الشين قط رويا، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط"5.
وروى "المعري" له قصيدة، استحسن منها قوله:
طيبة النشر والبداهة والـ
…
ـعلات عند الرقاد والنسم6
ومن شعره قوله في "زياد بن الأشهب بن أدد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة" العامري الجعدي:
مقام زياد عند باب ابن هاشم
…
يريد صلاحا بينكم ويقرب
1 الاستيعاب "3/ 558"، "حاشية على الإصابة".
2 الاستيعاب "3/ 558"، "حاشية على الإصابة".
3 الشعراء والشعراء "1/ 210"، "دار الثقافة"، البيان والتبيين "1/ 206".
4 أمالي المرتضى "1/ 269".
5 رسالة الغفران "209".
6 رسالة الغفران "219 وما بعدها"، تهذيب الألفاظ "631"، السمط "431".
وكان قد مشى في الصلح بن علي ومعاوية. وكان من أشراف أهل الشام ومن المقربين إلى معاوية1.
و"الطفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي، من الشعراء الأشراف. كان شاعرا لبيبا. تذكر رواية أنه أسلم حين كان الرسول بمكة، وأنه لما أتى مكة ذكر ناس من قريش أمر النبي، وسألوه أن يختبر حاله، فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي الإخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال وعاد إلى قومه. وتذكر رواية أنه عاد مرة أخري إلى مكة، ثم عاد إلى قومه حتى هاجر الرسول إلى المدينة، فجاء على رأس وفد من دوس ممن أسلم، فوصل والرسول محاصر "خيبر"، فمكث بالمدينة حتى إذا فتحت مكة، بعثه الرسول إلى "ذي الكفين" صنم "عمرو بن حممة" حتى أحرقه. وقد أورد "المرزباني" شيئا من شعره2.
وأعشى بن مازن، أو الأعشى المازني، هو "عبد الله بن الأعور"، وقيل إن اسم "الأعور" "رؤبة بن فزارة بن غضبان بن حبيب بن سفيان بن مكرز بن الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم". يكنى "أبا شعيثة". "وقال أهل الحديث: يقولون المازني وإنما هو الحرمازي، وليس في بني مازن أعشى". وذكر أنه أتى النبي فأنشده:
يا مالك الناس وديّان العرب
…
إني لقيت ذربة من الذرب
وفيه قصة امرأته وهربها3.
فكتب النبي إلى "مطرف بن نهصل"، وكانت امرأته عنده، أن يعيدها إليه، فأعادها، فقال:
1 الإصابة "1/ 562"، "رقم 2985".
2 الإصابة "2/ 216 وما بعدها"، "رقم 4254"، الاستيعاب "2/ 221 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، سيرة ابن هشام "1/ 234 وما بعدها".
3 الإصابة "2/ 267 وما بعدها"، "رقم 4535". ورويت الأبيات على هذا النحو:
يا سيد الناس وديان العرب
…
أشكو إليك ذربة من الذرب
كالذئبة العسلاء في طل السرب
…
خرجت أبغيها الطعام في رجب
فخالفتني بنزاع وهرب
…
أخلفت العهد ولطت بالذنب
وهن شر غالب لمن غلب
الاستيعاب "2/ 257"، "حاشية على الإصابة"، "1/ 122".
لعمرك ما حبي معاذة بالذي
…
يغيره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها
…
غواة رجال إذ ينادونها بعدي1
وذكر صاحب "الاستيعاب"، أن اسم والد "أعشى" مازن، هو "الأطول". وقيل اسم الأطول أو الأعور:"عبد الله".
وروي أن اسمه "عبد بن لبيد" الأعور. وقيل: "الأعور بن قراد بن سفيان". وكان قد خرج في "رجب" يمير أهله من هجر، فهربت امرأته بعده ناشزا عليه، فعاذت برجل منهم. فجاء "الأعشى" إلى الرسول وعاذ به. وأنشأ يقول قصيدته3.
ومن شعره:
يا حكم بن المنذر بن الجارود
…
سرادق المجد عليك ممدود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود
…
نبتَّ في الجود وفي بيت الجود
والعود قد ينبت في أصل العود4
و"الحطيئة"، وهو "جرول بن أوس بن مالك بن "حيوة" جؤية بن مخزون بن مالك" العبسي، ويكنى "أبا مليكة" "من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم، وكان يتصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسب ويجيد في جميع ذلك. وكان ذا شر وسفه، وكان إذا غضب على قبيلة انتمى إلى أخرى، زعم مرة أنه ابن عمرو بن علقمة من بني الحارث بن سدوس.
وانتمى مرة إلى ذهل بن ثعلبة، وأخرى إلى بني عمرو بن عوف. وله في ذلك أخبار مع كل قبيلة وأشعار مذكورة في ديوانه. وكان كثير الهجاء حتى هجا أباه وأمه وأخاه وزوجته ونفسه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ثم أسر وعاد إلى
1 الاستيعاب "2/ 258"، "حاشية على الإصابة".
2 الاستيعاب "2/ 256"، "حاشية على الإصابة".
3 الفائق "1/ 422 وما بعدها".
4 الإصابة "2/ 268"، "رقم 4535".
الإسلام1. وكان ملحفا شديد البخل، لا يقف إلحافه في السؤال عند حد، ولا يخجل من التصريح في الاستكداء وفي إذلال نفسه في الحصول على مال. طاف في الآفاق يمتدح الأمائل ويستجديهم. وقد عد في البخلاء. "قيل بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان"2. وقيل عنه إنه كان "دنيء الطبع، لئيم النفس، كثير الطمع، جعل الشعر متجرا، فكان له من الهجاء معاش ومكسب لأن الناس كانوا يهدون له الهدايا خوفا من شره. فقال الأصمعي: كان الحطيئة جشعا سئولا ملحفا دنيء النفس، كثير الشر قليل الخير، بخيلا قبيح المنظر، رث الهيئة مغموز النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، وقلما تجد ذلك في شعره"3، كان لا يبالي من هجو من سبق أن مدحه وأثنى عليه، لإغداقه المال عليه، بل يظهر أنه كان من ذلك الفريق من الناس المرضى النفوس الذين كانوا يسيئون إلى من أحسن إليهم، بل كانوا أول من يسيء إلى من أحسن إليهم، لعقد مستعصية في النفس.
وكان قصير القامة، ولقصره هذا لقب بالحطيئة. وكان ذميما، قبيح الوجه، سيئ الهيئة، ولعل هذه الأمور هي التي صيرته سيئ الطبع، هجاء لكل أحد، فلا يسلم من لسانه أحد. فلما هجا أباه، بأبيات قاسية شديدة منها:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي
…
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي
…
وأبواب السفاهة والضلال
قيل: "كان الحطيئة يرعى غنما له، وفي يده عصا. فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك؟ قال: عجراء من سلم. يعني عصا. قال: إني ضيف. فقال الحطيئة للضيفان أعددتها"4.
1 الإصابة "1/ 377 وما بعدها"، "رقم 1991"، العمدة "1/ 81 وما بعدها"، البيان "2/ 13 وما بعدها"، الخزانة "1/ 408"، الأغاني "2/ 41 وما بعدها"، "16/ 38"، الطبقات، لابن سلام "92 وما بعدها"، ديوان الأعشى "القاهرة 1958م"، "نعمان أمين طه"، الخزانة "2/ 406"، "هارون"، "1/ 409"، "بولاق".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 477 وما بعدها".
3 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "109 وما بعدها".
4 البيان والتبيين "2/ 147"، "3/ 80".
وهجا أمه بشعر موجع منه قوله:
تنحي فاقعدي مني بعيدا
…
أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني
…
ولكن لا أخا لك تعقلينا
أغربالا إذا استودعت سرا
…
وكانونا على المتحدثينا
جزاك الله شرا من عجوز
…
ولقاك العقوق من البنينا
حياتك ما علمت حياة سوء
…
وموت قد يسر الصالحينا
ثم هجا أخاه وزوجته، فلما لم يبق أمامه أحد سلم من هجائه إلا نفسه، إذ اطلع في حوض فرأى وجهه فقال:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
…
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه
…
فقبح من وجه وقبح حامله1
وقد جعل "المعري" هذا الشعر، سببا دخل به الجنة، لقوله بالصدق2.
وله قصيدة "سينية" مشهورة، هجا فيها "الزبرقان بن بدر"، فسجنه "عمر" عليها، منها قوله:
ملوا قراه وهرته كلابهم
…
وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وفيها:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
وقد قال "أبو عمرو بن العلاء" عن هذاالبيت""لم تقل العرب قط بيتا، أصدق "منه4.
1 الشعر والشعراء "1/ 240"، "والحطيئة الرجل الدميم أو القصير، ومنه لقب جرول الشاعر العبسي لدمامته. قاله الجوهري. وقيل: كان يلعب مع الصبيان فسمع منه صوت، فضحكوا. فقال: ما لكم! إنما كانت حطيئة، فلزمته نبزا، وقيل غير ذلك"، تاج العروس "1/ 57"، "حطا"، الخزانة "2/ 409"، "هارون".
2 رسالة الغفران "307".
3 رسالة الغفران "307".
4 الأغاني "2/ 184 وما بعدها"، السيوطي شرح شواهد "2/ 916 وما بعدها".
وقد حملت دمامة خلقة الحطيئة ورثة هيئته وسوء ملبسه الناس إلى ازدراء شأنه وعدم الاهتمام به عند حضوره مجلسا لا يعرفه فيه أحد، وإلى وقوعه في مشاكل معهم. وقد يكون من الصعب عليهم رتق الخرق بعد وقوعه وإصلاح حاله غير أن منهم من كان يجد سبيلا إلى ذلك، باسترضائه بتقديم المال له، وهو ما يطلبه، فينسيه ما أصابه من ازدراء وإهمال1. وزعم أنه كان مغمور النسب، وأنه كان من أولاد الزنا الذين شرفوا2.
وقد غلب الهجاء على طبعه، حتى عد من أنبغ الشعراء المتقدمين فيه. وقد ذهب "بروكلمان" إلى أن للهجاء الفضل في بقاء شعر الحطيئة3. فالهجاء باب له منفذ واسع إلى العواطف حفظه الأعداء والحساد للنيل ممن قيل بحقهم من أعدائهم وحسادهم، فحفظه الناس جيلا عن جيل.
ويقال إن "عمر" لما لقي الحطيئة قال له: "كأني بك عند بعض الملوك تغنيه بأعراض الناس. أي تغني بذمهم وذم أسلافهم في شعرك وثلبهم"4. ولما هجا "الحطيئة" "الزبرقان بن بدر" استعدى عليه "عمر"، فدعا "حسان بن ثابت" فقال: أتراه هجاه؟ قال: نعم وسلح عليه فحبسه، فقال وهو في حبسه شعرا يستعطف به "عمر" حتى رق عليه، وشفع له "عمرو بن العاص"، فأطلقه على ألا يهجو أحدا5. ويقال إنه كتب إلى عمر شعرا يتوسل فيه العفو عنه، وأن يرحم حال أولاده الصغار بذي مرخ، فيه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
…
حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
…
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
1 راجع قصته مع "عتيبة بن النهاس العجلي"، ثم قصة حضوره مجلس "سعيد بن العاص""سعيد بن العاصي"، وقصصا أخرى، وهي تتحدث عن ازدراء شأن الحطيئة لهيئته ولجهلهم به، ثم عن استرضائهم له بعد وقوفهم على أمره، الشعر والشعراء "1/ 240 وما بعدها".
2 الخزانة "2/ 407"، "هارون"، "1/ 409"، "بولاق".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 168".
4 اللسان "7/ 171"، "عرض".
5 الإصابة "1/ 378"، "رقم 1991"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 916 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 244 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 240".
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه
…
ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها
…
لكن لأنفسهم كانت بها الخير1
وإذا صح ما روي من أن الحطيئة لما قدم المدينة، يريد الرسول، أرصدت له قريش العطاء، خوفا من شره2، فيجب أن يكون قدومه قبل عام الفتح، وغلبة المسلمين على المشركين. ولكننا نجد بعض الرواة يشكون في دخوله في الإسلام في حياة الرسول. يقول "ابن قتيبة": "ولا أراه أسلم إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأني لم أسمع له بذكر فيمن وفد عليه من وفود العرب، إلا أني وجدته يقول في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه حين ارتدت العرب:
أطعنا رسول الله إذ كان حاضرا
…
فيا لهفتي ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
…
فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وقد مدح شعر الحطيئة، فذكر عنه "أبو الفرج الأصبهاني" أنه "كان من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم. وكان يتصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسيب، ويجيد في جميع ذلك". وقال "الأصمعي": "وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، إلا الحطيئة، فقلما تجد ذلك في شعره". وروي عن "إسحاق الموصلي" قوله: "ما أزعم أن أحدا من الشعراء بعد زهير أشعر من الحطيئة"4. قال "الجاحظ": وكان الأصمعي يقول: "الحطيئة عبد لشعره. عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا، لمكان الصنعة والتكلف، والقيام عليه"5، ونسب للأصمعي قوله:
1 ديوان "رقم 74" الشعر والشعراء "1/ 245"، البيان والتبيين "2/ 318".
2 الإصابة "1/ 378"، "رقم 1991".
3 الشعر والشعراء "1/ 238 وما بعدها"، "دار الثقافة"، الخزانة "2/ 408".
4 الإصابة "1/ 377 وما بعدها"، "رقم 1991"، الأغاني "2/ 43".
5 البيان والتبيين "1/ 206".
"زهير بن أبي سلمى، والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر"1.
وكان "الحطيئة" راوية كعب بن زهير، بل يقال إنه كان راوية زهير بن أبي سلمى2. وله ديوان برواية "السكري" عن "محمد بن حبيب"، طبع مرارا3. وذكر أنه قال لكعب بن زهير: قد علمت روايتي شعر أهل البيت وانقطاعي، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا، فإن الناس لأشعاركم أروى. فقال كعب:
فمن للقوافي شأنها من يحوكها
…
إذا ما ثوى كعب وفوز جرول4
وروي "أن أعرابيا وقف على حسان وهو ينشد، فقال له كيف تسمع؟ قال ما أسمع بأسا؛ فغضب حسان. فقال له: من أنت؟ قال: أبو ملكية. قال: ما كنت قط أهون عليّ منك حتى اكتنيت بامرأة، فما اسمك؟ قال: الحطيئة، فأطرق حسان، ثم قال: امض بسلام"5.
وذكر بعض الرواة أن "الحطيئة" لما حضرته الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة، أوصِ. فقال: ويل الشعر من راوية السوء. قالوا أوصِ، يرحمك الله. قال: من الذي يقول:
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت
…
ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز
قالوا: الشماخ. قال أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. وتستمر الرواية على هذا النوع من طلب قومه منه أن يوصي، ومن إجابته أجولة لا صلة لها بالوصية. حتى انتهت بأنهم حملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون وهو عليها حتى مات، وهو يقول:
1 البيان والتبيين "2/ 13".
2 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "110".
3 طبع سنة "1893م" بمدينة "لايبزك"، وطبع ببيروت، والقاهرة مع الشروح، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 168"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 170".
4 ابن سلام، طبقات "21".
5 الإصابة "1/ 378".
لا أحد ألأم من حطيئة
…
هجا بنيه وهجا المريئة
من لؤمه مات على الفريئة1
وروى "ابن قتيبة" القصة على هذا النحو: "قيل له حين حضرته الوفاة: أوصِ يا أبا مليكة: فقال: مالي للذكور دون الإناث، فقالوا: إن الله لم يأمر بهذا، فقال: لكني آمر به! ثم قال: ويل للشعر من الرواة السوء، وقيل له: أوصِ للمساكين بشيء، فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور! وقيل له: أعتق عبدك يساراً، فقال: اشهدوا أنه عبد ما بقي عبسيّ! وقيل له فلان اليتيم ما توصي له؟ فقال: أوصي بأن تأكلو ماله وتنيكوا أمه! قالوا: فليس إلاهذا؟! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم، لعلي أنجو! ثم تمثل:
لكل جديد لذة غير أنني
…
رأيت جديد الموت غير لذيذ
له خبطة في الحلق ليست بسُكَّر
…
ولا طعم راح يشتهى ونبيذ
ومات مكانه"2.
وهي قصة لا تخلو من أثر الوضع والصنعة، قيلت على لسانه، لما عرف عنه من اللؤم والبخل والتعرض بالناس. وقد رويت بصور مختلفة3.
وقد ذكر "الحطيئة""سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية"، القرشي الأموي في شعره، وكان سعيد ممن ندبه عثمان لكتابة القرآن. وكان جوادا، ولم ينزع قميصه قط، وكان أسود نحيفا، وكان يقال له:"عكة العسل"، قال الحطيئة فيه:
سعيد فلا يغررك قلة لحمه
…
تخدد عنه اللحم فهو صليب4
1 الأغاني "2/ 195 وما بعدها"، "الدار"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 475 وما بعدها"، الخزانة "1/ 141"، "بولاق".
2 الشعر والشعراء "1/ 239".
3 الخزانة "2/ 412 وما بعدها"، "هارون".
4 البيان والتبيين "1/ 314 وما بعدها"، "3/ 116".
ومن شعر "الحطيئة" المشهور قوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
…
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
وكان الرجل من "بني أنف الناقة" إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فلما مدحهم "الحطيئة" بهذا الشعر صار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة افتخارا، في قصة سبق أن تحدثت عنها1.
ومن جيد شعره قوله:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد2
والشاعر "كعب بن زهير" هو ابن الشاعر الجاهلي "زهير بن أبي سلمى". فهو شاعر ابن شاعر، وأبو شعراء. فقد كان ولدا "كعب" وهما:"عقبة"، و "العوام" شاعرين. وقد ذكر أن "بجيرا" أخو "كعب"، فارق أخاه عندما بلغا "أبرق" العراق، وذهب إلى الرسول لما سمع من خبره، فأسلم. فلما بلغ "كعبا" خبر إسلامه. ذم أخاه لمفارقته سنة آبائه وأجداده، وخروجه على ما ألف عليه أباه وأمه. بشعر قال فيه:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
…
على أي شيء أنت منزل ذلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا
…
عليه ولم تدرك عليه أخا لكا3
أو:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
…
على أي شيء ريب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا
…
عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
سقاك أبو بكر بكأس روية
…
فأنهلك المأمور منها وعلكا4
1 البيان والتبيين "4/ 38".
2 ديوان الحطيئة "25"، الأغاني "2/ 59"، البيان والتبيين "2/ 29".
3 الاستيعاب "3/ 281"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413"، وجاءت الأبيات على هذا النحو:
ففارقت أسباب الهدى واتبعته
…
على أي شيء ويب غيرك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا
…
عليه ولم تعرف عليه أخا لكا
كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "114". "الطبعة الثانية 1970م".
ورويت الأبيات على هذه الصورة أيضا:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
…
فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا
سقيت بكأس عند آل محمد
…
فأنهلك المأمون منها وعلكا
فخالفت أسباب الهدى وتبعته
…
على أي شيء وَيْبَ غيرك دلكا1
ووردت بصورة أخرى2، مما يدل على اختلاف الرواية، ووقوع خطأ في الاستنساخ. وقد لام فيها قومه لدخول أكثرهم في الإسلام، وهجاهم هجاء مرًّا3.
فبلغت أبياته رسول الله فأهدر دمه. وكتب بجير بذلك إليه، ويقول له النجاء، ثم كتب إليه أنه لا يأتيه أحد مسلما إلا قبل منه وأسقط ما كان قبل ذلك، ولما انتهى إلى "كعب" قتل "ابن خطل"، قدم المدينة فسأل عن أرق أصحاب النبي، فدل على "أبي بكر"، فأخبره خبره، فمشى "أبو بكر" وكعب على أثره وقد التثم حتى صار بين يدي النبي فقال: رجل يبايعك. فمد النبي يده، فمد كعب يده فبايعه وأسفر عن وجهه فأنشده قصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم إثرها لم يجز مكبول
هي قصيدته الشهيرة التي طبعت مرارا وشرحت شروحا كثيرة، وتعد من "المشوبات". فكساه النبي بردة له، فاشتراها "معاوية" من ولده بعشرين ألف درهم، وهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد4.
وهي قصيدة نظمها على نفس شعراء البادية وطريقتهم في مدح الملوك وسادات القبائل، ولولا الأبيات:
1 الشعر والشعراء "1/ 80"، ابن هشام "889"، "طبعة أوروبة"، الأغاني "15/ 147 وما بعدها"، المرزباني، معجم "343"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 156"، الخزانة "4/ 8".
2 المصون "200 وما بعدها"، كارلو نالينو "114".
3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 156".
4 الشعر والشعراء "1/ 89 وما بعدها"، "دار الثقافة"، طبقات ابن سلام "83"، المرزباني، معجم "343"، الأغاني "15/ 147"، الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413".
نبئت أن رسول الله أوعدني
…
والعفو عن رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
…
ـقرآن فيه مواعيظ وتفصيل
والبيت:
إن الرسول لنور يستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول
لقلنا: إنه إنما أراد ملكا أو سيد قبيلة لا نبيا، جاء يعلن دخوله في دينه، واقتناعه بنبوته1.
ويذكر علماء الشعر أن "الحطيئة" قال لكعب: قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك، فإن الناس أروى لأشعاركم، فقال:
فمن للقوافي شأنها من يحوكها
…
إذا ما مضى كعب وفوز جرول
كفيتك لا تلقى من الناس واحدا
…
تنخل منها كل ما يتنخل
يثقفها حتى تلين كعوبها
…
فيقصر عنها من يسيء ويعمل2
وقد ذكر "ابن قتيبة" هذه الأبيات في أثناء ترجمته "زهيرا" على هذه الصورة:
ومن للقوافي شأنها من يحوكها
…
إذا ما توى كعب وفوز جرول
يقول فلا يعيا بشيء يقوله
…
ومن قائليها من يسيء ويعمل
يقومها حتى تلين متونها
…
فيقصر عنها كل ما يتمثل
كفيتك لا تلقى من الناس شاعرا
…
تنخل منها مثل ما أتنخل3
"قيل لخلف الأحمر: زهير أشعر أم ابنه كعب، قال: لولا أبيات لزهير أكبرها الناس لقلت إن كعبا أشعر منه"4.
1 كارلو نالينو "104 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 91"، الإصابة "3/ 280"، "رقم 7413".
3 الشعر والشعراء "1/ 88".
4 الشعر والشعراء "1/ 77 وما بعدها"، الإصابة "3/ 280".
وكان لكعب ابن يقال له: "عقبة بن كعب"، شاعر، وولد لعقبة العوام، وهو شاعر كذلك1. فنحن إذن أمام بيت توارث نظم الشعر.
وقد جمع علماء الشعر شعر "كعب" في ديوان، كما شرحوا وفسروا قصيدة "بانت سعاد" التي نالت عندهم مكانة كبيرة، لأنها قيلت في مدح الرسول، ولتقدير الرسول لها وإعطائه البردة، تقديرا لقيمتها، حتى عرفت بقصيدة البردة، فصارت من أشهر أشعار العرب، التي يتغنى بها في المناسبات، حتى تفنن المغنون في غنائها، وخلدت اسم الشاعر حتى اليوم. وقد ترجمت إلى عدة لغات أعجمية. وشطرت وخمست، لما صار لها من مكانة في أعين الشعراء2.
ومن الشعراء المخضرمين: "العباس بن مرداس" من "بني سليم"، وأمه "الخنساء". أسلم قبل فتح مكة بيسير. ولما فرغ الرسول من رد سبايا "حنين" إلى أهلها، أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا يتألفهم ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، وصفوان بن أمية، وكل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس بن عنان بن محمد بن سفيان المجاشعي التميمي، وعيينة بن حصن الفزازي، ومالك بن عوف النصري، أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا من قريش، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، أو أباعر، فسخطها، وقام بين يدي الرسول يعاتبه، فقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ
…
ـد بين عيينة والأقرع
وأبياتا أخرى. فلما أنشد هذه الأبيات بين يديه، قال:"اقطعوا عني لسانه"، فأعطي حتى رضي. وقيل أعطي مائة3.
1 الشعر والشعراء "1/ 80 وما بعدها".
2 للوقوف على التفاصيل المتعلقة بقصيدة البردة خاصة. وبشعر كعب، راجع بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 156 وما بعدها"، وزيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 183 وما بعدها"،ودائرة المعارف الإسلامية.
3 الخزانة "1/ 73 وما بعدها"، المرزباني، معجم "262"، الشعر والشعراء "1/ 218"، "2/ 632 وما بعدها"، الطبري "3/ 137"، اللآلي "32".
ورويت الأبيات على هذه الصورة:
كانت نهابا تلافيتها
…
وكرّى على القوم بالأجرع
وحثي الجنود لكي يدلجوا
…
إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيـ
…
ـد بين عيينه والأقرع
إلا أفائل أعطيتها
…
عديد قوائمه الأربع
وما كان بدر ولا حابس
…
يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ
…
فلم أُعطَ شيئا ولم أمنع
وما كنت دون امرئ منهما
…
ومن تضع اليوم لا ترفع1
ولما بلغ زوجة العباس بن مرداس نبأ إسلامه، قالت:
لعمري لئن تابعت دين محمد
…
وفارقت إخوان الصفا والصنائع
لبدلت تلك النفس ذلا بعزة
…
غداة اختلاف المرهفات القواطع2
ومن شعره قصيدته:
لأسماء رسم أصبح اليوم دارسا
…
وأقفر إلا رحرحان وراكسا
وتعد من "المنصفات"3.
وروي أن "حرب بن أمية" جد معاوية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مرة بقرية، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، قال له "مرداس" والد العباس: أما ترى هذا الموضع! قال: بلى فما له؟ قال: نعم المزدرع هو، فهل لك أن تكون شريكي فيه، ونحرق هذه الغيضة ثم نزرعه بعد ذلك؟ قال: نعم. فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنينا وضجيجا، ثم ظهرت منها حيّات بيض تطير وخرجت منها. ولم يلبث حرب ومرداس أن ماتا: فأما مرداس فدفن بالقرية، ثم ادعاها بعد ذلك
1 ابن سعد، طبقات "4/ 272"، "صادر"، وقد رويت بشيء من التغيير في كتاب الشعر والشعراء "2/ 634".
2 الأغاني "13/ 66".
3 الخزانة "3/ 518"، الحماسة "1/ 168"، البيان والتبيين "3/ 61".
"كليب بن أبي عهمة" الظفري، فقال في ذلك عباس بن مرداس:
أكليب مالك كل يوم ظالما
…
والظلم أنكد وجهه ملعون
عجبا لقومك يحسبونك سيد
…
وإخال إنك سيد معيون
فإذا رجعت إلى نسائك فادّهن
…
إن المسالم رأسه مدهون
وافعل بقومك ما أراد بوائل
…
يوم الغدير سميّك المطعون1
وكان للعباس ولد اسمه "جاهمة" أسلم وصحب النبي2.
وكان "زيد الخيل بن مهلهل بن زيد" الطائي ممن وفد على رسول الله سنة تسع، فسماه النبي:"زيد الخير". وكان شاعرا خطيبا شجاعا يكنى "أبا مكنف". وأمه من "كلب". وكان أحد شعراء الجاهلية وفرسانهم المعدودين، وكان جسيما طويلا. مات "زيد الخيل" منصرفه من عند النبي، وقيل في خلافة عمر3.
ذكر أنه مر بغلام، فسأله من أنت؟ قال: أنا بجير بن زهير، فحمله على ناقة، ثم أرسل به إلى أبيه. فأراد "زهير بن أبي سلمى" والد الغلام إثابته، فأرسل إليه فرس ابنه "كعب" وكانت من جياد خيل العرب، فاستاء "كعب" من ذلك، وقال شعرا ليوقع بين قوم "زهير" وبين قوم "زيد الخيل"، وهجا زيدا4.
وكان لزيد الخيل ابنان، يقال لهما مكنف وحريث، أسلما وصحبا النبي وشهدا قتال "الردة" مع "خالد بن الوليد". وحماد الراوية مولى "مكنف". ولحريث شعر في رثاء "أوس بن خالد"، وكان قد قتل في حرب5.
وكان "مكنف" أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنى. وأسلم وحسن إسلامه، وشهد قتال أهل الردة مع "خالد بن الوليد". وكان أسلم هو وأخوة حريث
1 الحيوان "2/ 143"، الأغاني "4/ 89"، معاهد التنصيص "1/ 13"، الحيوان "6/ 208".
2 ابن سعد، طبقات "4/ 274"، الإصابة "1/ 220 وما بعدها"، "رقم 1052".
3 الإصابة "1/ 555"، "رقم 2941"، الأغاني "16/ 6"، الخزانة "2/ 446"، عيون الأثر "2/ 236"، الشعر والشعراء "1/ 205"، "الثقافة"، الحيوان "2/ 204 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 4848 وما بعدها".
5 الشعر والشعراء "1/ 205 وما بعدها".
ابن زيد الخيل" ويقال له أيضا "الحارث"، وصحبا النبي. وشهدا قتال أهل الردة مع "خالد" واشترك "مكنف" في قتال "بني أسد" لما ارتدوا مع "طليحة" الأسدي. ونسبت له هذه الأبيات في قتال طليحة:
ضلوا وغرهم طليحة بالمنى
…
كذبا وداعي ربنا لا يكذب
لما رأونا بالفضاء كتائبا
…
يدعو إلى رب الرسول ويرغب
ولّوا فرارا والرماح تؤزهم
…
وبكل وجه وجهوا نترقب1
و"حميد بن ثور بن حزن" الهلالي، من الشعراء المخضرمين الفصحاء، وكان كل من هاجاه غلبه. وقد وفد على النبي، فأنشده شعرا فيه:
أصبح قلبي من سليمى مقصدا
…
إن خطأ منها وإن تعمدا
حتى أتيت المصطفى محمدا
…
يتلو من الله كتابا مرشدا
وذكر أنه كان في عداد الصحابة الذين رووا عن الرسول، وضعفه بعضهم. قيل إنه عاش إلى خلافة عثمان. وذكر بعض العلماء أنه عاش إلى ما بعد ذلك وأنه دخل على بعض خلفاء بني أمية، فقال له: ما جاء بك؟ فقال:
أتاك بي الله الذي فوق من ترى
…
وبرّك معروف عليك دليل2
وقد عدّه "ابن قتيبة" في الإسلاميين3
و"الأسود بن سريع بن حمير بن عبادة" التميمي السعيد، ممن رأى الرسول وغزا معه وروى عنه. وكان شاعرا توفي في أيام "معاوية"، وذكر أنه توفي سنة "42هـ". وقيل فقد يوم الجمل، وقيل ركب سفينة وحمل معه أهله وعياله، لما قتل "عثمان"، فما رؤي بعد. وكان قاصا، قيل إنه كان أول من قص في مسجد البصرة4.
1 الإصابة "3/ 436"، "رقم 8199".
2 الإصابة "1/ 355"، "1834"، تهذيب ابن عساكر "4/ 460"، ياقوت، إرشاد "4/ 153"، العيني "1/ 177"، الأغاني "4/ 97"، السيوطي، شرح شواهد "73"، ديوانه، "دار الكتب المصرية 1951م"، الفائق "2/ 354".
3 الشعر والشعراء "1/ 306 وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 59 وما بعدها"، "رقم 161"، الاستيعاب "2/ 72"، "حاشية على الإصابة".
وكان "ضرار بن الأزور بن مرداس" الأسدي، فارسا شجاعا وشاعرا مطبوعا، استشهد يوم اليمامة، وقيل بعد ذلك. وقد أتى النبي فأنشده:
خلعت القداح وعزف القيا
…
ن والخمر أشربها والثمالا
وكرى المجبر في غمرة
…
وجهدي على المشركين القتالا
وقالت جميلة بددتنا
…
وطرحت أهلك شتّى شمالا
فيا رب لا أغبنن صفقة
…
فقد بعت أهلي ومالي بدالا1
ولضرار قصيدة قالها في يوم الردة، لما بلغه ارتداد قومه من "بني أسد"، منها:
بني أسد قد ساءني ما صنعتم
…
وليس لقوم حاربوا الله محرم
وأعلم حقا أنكم قد غويتم
…
بني أسد فاستأخروا أو تقدموا
نهيتكم أن تنهبوا صدقاتكم
…
وقلت لكم: يا آل ثعلبة اعلموا
عصيتم ذوي أحلامكم وأطعتم
…
ضجيما وأمر ابن اللقيطة أشأم
وقد بعثوا وفدا إلى أهل دومة
…
فقبح من وفد ومن يتيمم
ولو سئلت عنا جنوب لخبرت
…
عشية سالت عقرباء بها الدم
وضجيم هو "طلحة بن خويلد"، كانت أمه حميرية أخيذة، وابن اللقيطة:"عيينة بن حصن"، وقوله: يا آل ثعلبة، أراد ثعلبة الحلاف بن دودان بن أسد. وعقرباء بأرض اليمامة2. وكان "عيينة" قد انضم إلى "طلحة" الذي تسميه الموارد "طليحة" استصغارا لشأنه، كما دعت "مسلمة" "مسيلمة"، وقال: "والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش؛ وقد مات محمد، وبقي "طليحة"، وقاتل معه حتى هرب. وكان يدير المعركة وهو متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، حتى جاءه الوحي بقوله:"إن لك رحا كرحاه، وحديثنا لا تنساه"، ثم لم يصمد، فهرب3.
وضرار هو الذي قتل "مالك بن نويرة" بأمر "خالد بن الوليد"4.
1 الإصابة "2/ 200"، "رقم 4172"، الاستيعاب "2/ 203"، "حاشية على الإصابة".
2 الخزانة "2/ 5 وما بعدها"، "بولاق".
3 الطبري "3/ 256".
4 الخزانة "2/ 8 وما بعدها"، "بولاق".
وكان "هوذة بن علي" الحنفي شاعرا وخطيبا، ذكر أنه كتب إلى الرسول كتابا يقول فيه:"ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر اتبعك". وقد مات عام الفتح1. وهو شاعر يجب إدخاله في الجاهليين، لأنه لم يعتنق الإسلام، وقد تحدثت عنه هنا، لأنه من المتأخرين، وله خبر مع الرسول.
و"فروة بن مسيك بن الحارث بن سلمة" المرادي، شاعر، وهو صحابي مخضرم. وكان من أشراف قومه، قدم على رسول الله، مفارقا لملوك كندة، فبايعه، ونزل على "سعد بن عبادة"، فكان يحضر مجلس رسول الله ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام. ثم استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها، وكتب معه كتابا إلى الأبناء باليمن يدعوهم إلى الإسلام، فأقام فيهم حتى توفي رسول الله. وذكر أن النبي، أجاز "فروة" باثني عشر أوقية، وحمله على بعير نجيب وأعطاه حلة من نسج عمان. واستعمله "عمر" -كماجاء في رواية- على صدقات مذحج2.
وقد جمع شعر "فروة" في ديوان، رجع "السيوطي" إليه، ونقل منه3.
و"عمرو بن معد يكرب" الزبيدي من أشراف اليمن وساداتهم، وقد اشتهر وعرف بالشجاعة، قال عنه "أبو عمرو بن العلاء":"لا يفضل عليه فارس في العرب". وكان فحلا في الشجاعة والشعر. وأكثر شعره في الحماسة. وقد اشتهر سيفه "الصمصامة"، والأرجح أنه شهد "القادسية"، وكان له أثر فيها. واختلف في صبحته للنبي، فمن العلماء من ذكر أنه لم يلق الرسول، وإنما قدم المدينة بعد وفاته، ومنهم من ذكر أنه قدم المدينة في وفد "زبيد"؛ فأسلم سنة تسع أو عشر، وصحب الرسول. ولا تخلوا أقوال الرواة فيه من أثر العصبية لليمن أو عليها، وقد اختلف في عمره، وأكثره أنهم مات بعد أن تجاوز المائة. ومنهم من جعل عمره فوق المائة والخمسين4. وهو ابن خالة "الزبرقان بن بدر".
1 ابن سعد، الطبقات "1/ 262".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 82 وما بعدها".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 82".
4 الإصابة "3/ 18 وما بعدها"، "رقم 5972"، الأغاني "14/ 24"، المؤتلف "156"، المرزباني، معجم "208"، الخزانة "1/ 442"، "3/ 460"، الشعر والشعراء "1/ 286 وما بعدها".
التميمي، وأخته "ريحانة بنت معدي كرب" والدة "دريد بن الصمة"، و "عبد الله بن الصمة". وكانت تحت "الصمة بن الحارث"1.
وورد في بعض الروايات، أنه قدم على رسول الله المدينة فأسلم، ثم ارتد بعد وفاته فيمن ارتد باليمن، ثم عاد إلى المدينة فشهد اليرموك ثم هاجر إلى العراق فأسلم، وشهد القادسية، وله بها أثره وبلاؤه، وشهد مع النعمان بن مقرن المزني فتح نهاوند، فقتل هنالك، مع النعمان وطليحة بن خويلد، فقبروهم بموضع يقال له:"الإسفيذهان"2.
ومن شعره الذي يتمثل به، قوله:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
…
وجاوره إلى ما تستطيع
وقوله:
أريد حباءه ويريد قتلي
…
عذيرك من خليك من مراد
وتمثل به علي بن أبي طالب، لما رأى عبد الرحمن بن ملجم المرادي3.
ولعمرو بن معد يكرب، ديوان برواية "أبي عمرو الشيباني" رآه "ابن حجر" وقاله عنه "ورأيت في ديوانه رواية أبي عمرو الشيباني من نسخة فيها خط أبي الفتح بن جني قصيدة يقول فيها:
والقادسية حين زاحم رستم
…
كنا الكماة نهز كالأشطان
ومضى ربيع بالجنود مشرقا
…
ينوي الجهاد وطاعة الرحمن4
وأورد "ابن حجر" له أشعارا أخرى.
ونجد لعمرو بن معدي كرب شعرا في وصف الحرب، ذكر أن "عمر" سأله:
1 الشعر والشعراء "1/ 289".
2 الشعر والشعراء "1/ 289 وما بعدها"، الخزانة "1/ 425 وما بعدها"، "بولاق".
3 المرزباني، معجم "16"، "فراج".
4 الإصابة "3/ 20"، "رقم 5972"، الأغاني "14/ 24"، الخزانة "1/ 425"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 419".
"أخبرني عن الحرب"، فقال: هي كما قال الشاعر:
الحرب أول ما تكون فتية
…
تسعى بزينتها لكل جهول
حتي إذا استعرت وشب ضرامها
…
عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
…
مكروهة للضم والتقبيل
وهي في بضع الروايات من شعره1.
ومن شعر "عمرو بن معدي كرب" قوله:
سوى أن أصوابا بأعقق لم يزل
…
بها آنس من أهلها غير بارح
وجدنا به العمرين عمرو بن عدية
…
وعمرو بن عمرو في حلال سُلاطح
وجدنا بني عمرو ثمانين فارسا
…
لكل صباح كاشر الناب كالح
وكان الغدانيون تحت رماحهم
…
رماح بني عمرو غداة المصابح
مصافين أصهارا ورحما وجيرة
…
وما كان فيهم فارس غير جامح
وقوله:
وجدك مخصي على الوجه ناعس
…
تشير به الركبان ما قام أفرع3
وله أشعار قالها في حروبه في العراق مع جيش الفتح.
و"ساعدة بن جؤية""ساعدة بن جؤين""جؤية"، هو من الشعراء المخضرمين، أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم، وليست له صحبة. قيل عن شعره إنه محشو بالغريب والمعاني الغامضة4. وهو شاعر من شعراء مضر، محسن، قيل عن شعره إنه ليس فيه من الملح ما يصلح للمذاكرة5.
1 شرح ديوان الحماسة "1/ 252، 368، 408"، الجمان في تشبيهات القرآن "339".
2 الصفة "115".
3 الصفة "126".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 19، 156"، ديوان الهذليين "1/ 167"، الخزانة "1/ 267 وما بعدها"، "ساعدة بن جوين ويقال ابن حرية
…
قال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي: ساعدة بن حوية"، الإصابة "2/ 106"، "رقم 3650".
5 الخزانة "1/ 476"، "بولاق".
و "أبو ذؤيب""خويلد بن خالد بن محرث"، شاعر مخضرم، مجيد. وهو من "هذيل". رحل إلى المدينة، فوصلها والرسول مسجى، فكان ممن صلى عليه وشهد دفنه. "سئل حسان من أشعر الناس؟ فقال حيّا أم رجلا؟ قالوا حيّا، قال: هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب. وتقدم أبو ذؤيب على جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي أولها:
أمن المنون وريبها تتوجع1
…
التي يرثي بها بنيه.
وقد قال عنه بعض المؤرخين إنه شاعر مجيد مخضرم كان أشعر هذيل، وهذيل أشعر أحياء العرب2. وقال المرزباني عنه: كان فصيحا كثير الغريب متمكنا من الشعر، وعاش في الجاهلية دهرا وأدرك الإسلام، وأسلم. وعامة ما قاله من الشعر في إسلامه3. هلك في زمان عثمان وقيل في زمن "عمر"4
وكان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي5.
وتعد قصيدته المذكورة التي قالها في رثاء بنيه الخمسة أو الثمانية الذين قتلوا أو هلكوا بالطاعون في عام واحد، من أجود شعره. وهي قصيدة تفيض بالأسى والحنان على بنيه الذين ترك فراقهم أسى وحسرة في قلبه. وأولها:
أمن المنون وريبها تتوجع
…
والدهر ليس بمعتب من يجزع
ومن أبياتها الجيدة:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع6
1 السيوطي "شرح شواهد "1/ 29"، الشعر والشعراء "2/ 547 وما بعدها"، الأغاني "6/ 56 وما بعدها"، الخزانة "1/ 201"، المؤتلف "19"، ابن سلام، طبقات "110"، معاهد التنصيص "2/ 165".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 30"، ديوان الهذليين "1/ 158"، "دار الكتب المصرية".
3 الإصابة "4/ 66"، "رقم 288"، حسن المحاضرة "1/ 113"، أسد الغابة "5/ 188"، ياقوت، إرشاد "4/ 185 وما بعدها".
4 السيوطي، شرح "1/ 30 وما بعدها"، الإصابة "4/ 66"، "رقم 288"، رسالة الغفران "151، 166، 199، 200".
5 الشعر والشعراء "2/ 547 وما بعدها".
6 جمهرة أشعار العرب "128 وما بعدها"، "بولاق"، السيوطي، شرح شواهد "92 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "111 وما بعدها".
وقد وصف فيها حاله، وكيف أن جسمه صار شاحبا من الوجد على ما حل ببنيه، وكيف أنه صار لايعرف طعم الراحة ولا النوم، حتى صار بعيش ناصب، يخال نفسه إنه لاحق بهم مستتبع، ولقد حرص بأن يدافع عنهم، ولكن المنية متى أقبلت فلا دافع لها:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
…
وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع
ولأبي ذؤيب شعر في رثاء الرسول وردت أبيات منها في "الاستيعاب" وقد اختلف في المكان الذي توفي به هذا الشاعر، كما اختلف في سنة وفاته1. وقد طبع ديوانه2. وكان أبو ذؤيب، شاعرا فحلا، لا غميزة فيه ولا وهن3. ومن شعره في رثاء الرسول قوله:
لما رأيت الناس في عسلانهم
…
من بين ملحود له ومضرح
متبادرين لشرجع بأكفهم
…
نص الرقاب لفقد ابيض أروح
فهناك صرت إلى الهموم ومن يبت
…
جار الهموم يبيت غير مروح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها
…
وتزعزعت آطام بطن الأبطح
وتزعزعت أجبال يثرب كلها
…
ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته
…
بمصابه وزجرت سعد الأذبح4
وكان لأبي ذؤيب ابن يقال له "مازن بن خويلد"، ويكنى أبا شهاب، وهو أحد شعراء هذيل5.
و"أبو خراش"، "خويلد بن مرة الهذلي" من شعراء هذيل، وهو شاعر مشهور، أدرك الإسلام شيخا كبيرا ووفد على "عمر" وفي أيامه كانت وفاته. وكان أحد الفصحاء. يقال إنه كان سريع الجري. دخل مكة
1 الاستيعاب "4/ 67"، "حاشية على الإصابة"، الخزانة "1/ 203"، "بولاق".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 169 وما بعدها".
3 ابن سلام، طبقات "29"، "ليدن"، أمالي المرتضى "1/ 217، 259، 293، 492، 616".
4 الروض الأنف "2/ 379".
5 الشعر والشعراء "2/ 550".
في الجاهلية، وللوليد بن المغيرة فرسان، فقال: ما تجعل لي إن سبقتهما عدوا؟ قال: إن فعلت فهما لك، فسبقهما. يقال إن ضيوفا من اليمن نزلوا عليه، فذهب يستقي لهم الماء فنهشته حية، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، ولم يعلمهم ما أصابه. فباتوا يأكلون، فلما أصبحوا وجدوه في الموت، فأقاموا حتى دفنوه. فبلغ عمر خبره. فكتب إلى عامله أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته1.
ومن شعره:
لا هم هذا رابع إن تما
…
أتمه الله وقد أتما
إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأي عبد لك لا ألما
قاله وهو يسعى بين الصفا والمروة، وثم شجر يومئذ2.
ولأبي خراش أخ يقال له: "عروة بن مرة"، من شعراء هذيل المعدودين، وأخ آخر اسمه "أبو جندب بن مرة"، أحد شعراء هذيل المعدودين أيضا3.
و"صخر" الغي، هو "صخر بن عبد الله" الخيثمي الهذلي، من شعراء الخلاعة، وقد عرف بشدة بأسه وكثرة شره، وله صاحبه اسمها "دهماء". وقد ذكرها في قصيدته:
إني بدهماء عز ما أجد
…
يعتادني من حبابها زؤد
عاودني حبها وقد شحطت
…
صرف نواياها فإنني كمد4
1 الإصابة "1/ 457"، "رقم 2345"، الخزانة "3/ 232"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 423"، الأغاني "21/ 54"، طبع ديوانه في مجموعة الشعراء الهذليين، الخزانة "1/ 212 وما بعدها"، "بولاق".
j. hell، neue hudhailiten diwane، 2 leipzig، 1933
كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "111".
2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 652"، الخزانة "1/ 211".
3 الشعر والشعراء "2/ 554 وما بعدها".
4 رسالة الغفران "345"، الشعر والشعراء "2/ 559"، الأغاني "20/ 19"، ديوان الهذليين "2/ 57"، الإصابة "2/ 192"، "رقم 4127".
وهو على رأي "المرزباني" من المخضرمين1.
و"النمر بن تولب بن زهير بن أقيش"، شاعر مخضرم، يكنى "أبا ربيعة" ويسمى "الكيّس"، أدرك الإسلام وهو كبير، وهو من "الصحابة". وهو من "بني عكل". وصف بأنه كان جوادا واسع القرى، كثير الأضياف، وهابا لماله. وأنه كان أفتى الشعراء، شاعرا فصيحا جريئا على المنطق2. قال عنه "المرزباني": كان شاعرا فصيحا، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا، ونزل البصرة بعد ذلك. وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيّس لجودة شعره وكثرة أمثاله. وكان جوادا وعمر طويلا حتى أنكر عقله، فيقال إنه عمر مائتي سنة. وهو القائل:
يحب الفتى طول السلامة جاهدا
…
فكيف يرى طول السلامة يفعل
وله شعر يخاطب به النبي منه:
إنا أتيناك وقد طال السفر
…
أقود خيلا وجعا فيها ضرر3
وفرق "ابن حزم" بين "النمر بن تولب بن أقيش" العكلي، وبين "النمر بن تولب" وبين "النمر بن قاسط". وقال إنه الذي عاش حتى خرف. ويقال إن للنمر بن تولب العكلي ابنا يقال له "ربيعة" هاجر إلى الكوفة4.
وكان "النمر" شاعر الرباب في الجاهلية، ولم يمدح أحدا ولا هجا، واستحسن من شعره قوله:
1 الإصابة "2/ 192"، "رقم 4127".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 181 وما بعدها"، الأغاني "22/ 287"، طبقات الشعراء "134"، الشعر والشعراء "268"، العمدة "2/ 118"، الشعر والشعراء "1/ 227 وما بعدها"، "دار الثقافة"، الأغاني "19/ 157"، "ساسي"، المعمرون "70، 87"، الخزانة "1/ 152"، ابن سلام، طبقات "133"، "37"، "ليدن"، البيان والتبيين "1/ 3، 12، 55، 154، 184، 185، 284، 408"، "2/ 134"، "3/ 44"، البخلاء "163، 229، 384"، رسالة الغفران "153".
3 تختلف روايات هذا الشعر، الإصابة "3/ 542"، "رقم 8804"، الاستيعاب "3/ 549 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "3/ 543"، "رقم 8804".
تدارك ما قبل الشباب وبعده
…
حوادث أيام تمر وأغفل
يود الفتى طول السلامة والغنى
…
فيكف يرى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة
…
ينوء إذا رام القيام ويحمل1
ومن الشعر المنسوب إليه قوله:
خاطر بنفسك كي تنال رغيبة
…
إن القعود مع العيال قبيح
إن المخاطر مالك أو هالك
…
والجد يجدي مرة فيريح
وقوله:
ومتي تصبك خصاصة فارج الغنى
…
وإلى الذي يهب الرغائب فارغب
لا تغضبن على امرئ في ماله
…
وعلى كرائم أصل مالك فاغضب2
وقد تعرض "النمر بن تولب" في شعره إلى قصة "زرقاء" اليمامة وجديس، وإلى قصة غزو "تبع" لجديس واستباحته اليمامة3. وقد ورد ذكر "عادياء" في شعره بقوله:
هلا سألت بعادياء وبيته
…
والخيل والخمر التي لم تمنع4
وفي شعره قصص عن "لقمان" وعن "لقيم بن لقمان" من أخته5، ويظهر أنه كان من الأشخاص الذين كانوا يهتمون بالقصص والحكايات المروية عن الجاهليين، فأدبج شيئا منه في شعره.
و"الخنساء بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عُصيّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم" السلمية، واسمها "تماضر"، ممن أدركن الإسلام. وقد أسلمت فعدت صحابية. و "الخنساء" لقبها، قدمت على رسول الله مع قومها فأسلمت. وذكر أن الرسول كان يستنشدها ويعجبه شعرها.
1 الاستيعاب "3/ 551"، الخزانة "1/ 156"، "بولاق".
2 بلوغ الأرب "3/ 134 وما بعدها".
3 الخزانة "1/ 155 وما بعدها"، "بولاق".
4 البخلاء "164".
5 البيان والتبيين "1/ 184".
"وأجمع أهل العلم بالشعر على أنه لم يكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وكانت أول أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها معاوية ثم أخوها صخر، فأكثرت من الشعر وأجادت"1. وهي أم الشاعر "العباس بن مرداس"، وأم إخوته الثلاثة وكلهم شاعر. ولم تلد إلا شاعرا، وذكر "الكلبي" أن أم ولد "مرداس" جميعا الخنساء، إلا العباس، فإنها ليست أمه، ولم يذكر من أمه.
غير أن "أبا فرج الأصبهاني" ذكر أنها أمه. وكان النبي يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول هيه يا خناس ويومئ بيده2.
روي أنها كانت تقول الشعر في زمن النابغة الذبياني، وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكانت "الخنساء" ممن أنشدته شعرها، ويقال إنه لما سمع شعرها، قال:"والله مارأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين"3. ومن جيد شعرها، قولها في "صخر" أخيها:
لا بد من ميتة في صرفها غير
…
والدهر من شأنه حول وإضرار
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار4
وذكر أنها كانت سوّمت هودجها براية في الموسم، وعاظمت العرب بمصيبتها بابنها "عمرو" وبأخويها صخر ومعاوية، وجعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وأن هندا ابنة عتبة لما قتل ببدر أبوها وعمها شيبة وأخوها الوليد فعلت كذلك وقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء، فصارتا تبكيان وتتناشدان5.
وروي أن رسول الله كان يستحسن قول الخنساء في صخر أخيها:
لا بد من ميتة في صرفها غير
…
والدهر من شأنه حول وإضرار
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 253 وما بعدها"، الخزانة "1/ 209"، "بولاق"، الأغاني"13/ 19"، الخزانة "3/ 403"، بروكلمان "1/ 164 وما بعدها".
2 الخزانة "1/ 208 وما بعدها"، "بولاق".
3 الشعر والشعراء "1/ 260 وما بعدها".
4 المحاسن والأضداد "93"، "أشم أبلج تأتم الهداة به"، الشعر والشعراء "1/ 263".
5 السيوطي، شرح شواهد "255".
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
وذكر أنها زارت "عائشة" وتحدثت معها1.
وروي أنها حضرت حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فحثتهم على القتال والاستماتة فقتلوا جميعا، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلتهم. وكان "عمر" أمر أن تعطى الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى توفي2، وله قصة معها، وذكر أنه لما طلب منها أن تكف عن البكاء، قال لها:"ما الذي أقرح ما في عينيك؟ قالت: البكاء على سادات مضر، قال: إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب وحشو جهنم. قالت: فداك أبي وأمي فذلك الذي زادني وجعا". ثم طلب منها أن تنشده من شعرها، فأنشدته:
سقى جدثا أعراق غمرة دونه
…
وبيشة ديمات الربيع ووابله3
و"خفاف بن ندبة"، هو "خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية" ويكنى أبا خراشة، وهو ابن عم الخنساء و "ندبة" أمه. وهو شاعر مشهور من المخضرمين، وله شعر يمدح به "أبا بكر"، وبقي إلى زمن "عمر"، وكان أسود حالكا4. شهد الفتح وكان معه لواء "بني سليم"، وذكر "الأصمعي"، أنه ودريد أشعر الفرسان. وله يقول: العباس بن مرداس:
أبا خراشة أما أنت ذا نفر
…
فإن قومي لم تأكلهم الضبع5
ويعد من فرسان قيس وشعرائها المذكورين.
وضابئ بن الحارث بن أرطأة البجرمي، وسويد بن كراع العكلي، والحويدرة الذبياني، واسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول، وسحيم عبد بني الحسحاس الأسديين، من طبقة واحدة، تكون الطبقة التاسعة في "طبقات الشعراء "،
1 المحاسن والأضداد "93".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 254".
3 المحاسن والأضداد "94".
4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 325".
5 الإصابة "1/ 448"، "رقم 2273".
لابن سلام1. وكان "ضابئ"، رجلا بذيًّا كثير الشر، وكان بالمدينة، صاحب صيد وصاحب خيل، وقد حبسه عثمان، وبقي في سجنه حتى مات2.
و"سحيم" عبد بني الحسحاس، شاعر مشهور مخضرم، أدرك النبي، وتمثل النبي بشيء من شعره. وكان عبدا أسود شديد السواد أعجميا. وذكر أن اسم "عبد بني الحسحاس""حميمة"، وقيل "سُحيم"، وأنه شبب بنساء قومه، ثم ببنت سيده فقتله سيده. وقيل إن قتله كان في خلافة عثمان3. وله ديوان مطبوع4. وورد أن "عمر" أمر بقتله لأبيات فاحشة. وذكر أنه حُفر له أخدود وضع فيه وألقي عليه الحطب ثم أحرق5. وورد أن "عمر" استنشده شعره، وأنه أنشده قصيدته:
ودع سليمى إن تجهزت غاديا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا6
وكان سحيم حبشيا معلّطا قبيحا، وهو القائل في نفسه:
أتيت نساء الحارثيين غدوة
…
بوجه يراه الله غير جميل
فشبهني كلبا ولست بفوقه
…
ولا دونه إن كان غير قليل
اشتراه "عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي"، وكتب إلى "عثمان":"إني قد اشتريت لك غلاما حبشيا شاعرا، فكتب إليه عثمان: لا حاجة بنا إليه، فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم". "ويقال سمعه عمر بن الخطاب ينشد:
ولقد تحدر من كريمة بعضهم
…
عرق على جنب الفراش وطيب
1 "ص39 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "40".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 327"، الخزانة "1/ 273"، الأغاني "20/ 9"، الخزانة "1/ 271"، ابن سلام، طبقات "156"، أسماء المغتالين "272"، ديوان المعاني، للعسكري "2/ 166"، الخزانة "1/ 128 وما بعدها"، "بولاق".
4 ديوان سحيم عبد بني الحساس "تحقيق عبد العزيز الميمني"، "دار الكتب المصرية 1950م".
5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 171".
6 الإصابة "2/ 108"، "رقم 3664".
فقال له: إنك مقتول، فسقوه الخمر ثم عرضوا عليه نسوة، فلما مرت به التي كان يتهم بها أهوى إليها، فقتلوه"، إلى غير ذلك من قصص1.
و"سحيم بن وثيل بن أعيقر بن أبي عمرو بن إهاب بن حميري" الرياحي، شاعر مخضرم، تفاخر هو وغالب بن صعصعة والد الفرزدق، فتناحرا الإبل وقد وصف بأنه شاعر خنذيذ شريف مشهور الذكر في الجاهلية والإسلام. وله قصيدة مطلعها:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
وماذا يدرك الشعراء مني
…
وقد جاوزت حد الأربعين2
و"ربيعة بن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد" الضبي، أحد الشعراء المخضرمين، وكان أحد شعراء مضر. ذكر أنه وفد على كسرى في الجاهلية، ثم عاش إلى أن أسلم3. "وذكره دعبل في طبقات الشعراء، وقال مخضرم حبسه كسرى بالمشقر ثم أدرك القادسية"4. وكانت عبد القيس أسرته، ثم منت عليه بعد دهر5.
والشاعر "أبو زيد، حرملة بن المنذر بن معد يكرب بن حنظلة" الطائي من شعراء طيء، وكان نصرانيا ومات على دينه بعد خلافة عثمان6. وكان نديم
1 الشعر والشعراء "1/ 320 وما بعدها"، الخزانة "2/ 102 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، المحاسن والأضداد "143 وما بعدها".
2 الخزانة "1/ 123"، البيان والتبيين "2/ 246"، الأمالي "1/ 246"، الاشتقاق "224"، الشعر والشعراء "626"، الأصمعيات "رقم 1"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 459 وما بعدها"، الشعر والشعراء "2/ 538"، "دار الثقافة"، ابن سلام، طبقات "489"، ذيل الأمالي "3/ 52"، الأغاني "19/ 5"، الإصابة "2/ 109"، "رقم 3665".
3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 467"، "2/ 860"، شرح المفضليات "335"، الخزانة "3/ 569"، الأغاني "19/ 90"، السمط "37".
4 الإصابة "1/ 511"، "رقم 2736".
5 الشعر والشعراء "1/ 236وما بعدها".
6 السيوطي شرح شواهد "2/ 640 وما بعدها"، الأغاني "11/ 23"، ابن سلام، طبقات "132 وما بعدها"، الخزانة "2/ 155"، الأمالي، للقالي "3/ 183"، جمهرة أشعار العرب "138".
"الوليد بن عقبة"، يشرب الخمر معه، ولما صار "الوليد بن عقبة" إلى "الرقة"، سار "أبو زيد" إليه، فكان ينادمه، وكان يحمل في كل يوم أحد إلى البيعة، فيحضر مع النصارى، ويشرب، ولما مات دفن على "البليخ"، وهناك أيضا قبر "الوليد بن عقبة"1. وقد اشتهر بوصف الأسد، وكان مغرى بوصفه في شعره2. وورد في رواية أنه أسلم بتأثير "الوليد بن عقبة" عليه. لكن الأغلب أنه بقي على نصرانيته، وقد استعمله "عمر" على صدقات قومه، ولم يستعمل نصرانيا غيره. قيل إنه رثى "علي بن أبي طالب" وكان له أخ "من خلصة ملوك العجم". وذكر أنه بقي إلى أيام معاوية3.
و"الشماخ بن ضرار" الذبياني من الشعراء كذلك، أدرك الجاهلية والإسلام. و "الشماخ" لقب، واسمه "معقل"، وقيل "الهيثم". "قال ابن الكلبي: كان الشماخ أوصف الناس للخمر وللقوس"، وأرجز الناس على بديهة، وهو كثير الهجاء، له مهاجاة مع "الحليج بن سعد" التغلبي. وله شعر في مدح "عرابة" الأوسي، وكان قدم المدينة، فأوقر له عرابة راحلته تمرا وبرا وكساه وأكرمه4. وكان له أخوان: مزرد وجزء، رويت مقطعات صغيرة من شعرهما. وللشماخ ديوان شعر مطبوع5. قال عنه "ابن سلام": "فأما الشماخ: فكان شديد متون الشعر، أشد أسر الكلام من لبيد، وفيه كزازة. ولبيد أسهل منه منطقا، وكان للشماخ إخوة، وهو أفحلهم، ومزرد هو أشبههم به6. ذكر أن "الوليد بن عبد الملك" أنشد شيئا من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارا. قيل: كان يهجو قومه
1 الشعر والشعراء "1/ 221".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173".
3 الإصابة "4/ 80".
4 الإصابة "2/ 151 وما بعدها"، "رقم 3981"، الشعر والشعراء "1/ 234 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 896".
5 الشعر والشعراء "1/ 232 وما بعدها"، الأغاني "8/ 97"، الخزانة "1/ 526"، الموشح "67"، ابن سلام، طبقات "110"، المؤتلف "138"، ديوانه، "طبعة أحمد بن الأمين الشنقيطي"، "القاهرة 1327هـ"، بروكلمان "1/ 170"، كارلو نالينو، تأريخ آداب العرب "110 وما بعدها".
6 ابن سلام، طبقات "29".
وضيفه ويمنّ عليهم بقراه، وهو أرجز الناس على البديهة. وجعله "الجمحي" في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام، وقرنه بالنابغة الجعدي، ولبيد، وأبي ذؤيب الهذلي. وقال: إنه كان شديد متون العشر، أشد كلاما من لبيد1. وكان معاصرا للحطيئة، ويروى أن "الحطيئة" كان يعدّه أشعر بني غطفان2.
وأخوه "مزرد"، واسمه "جزء بن ضرار". وقيل يزيد وجزء أخوهما. وهو "مزرد بن ضرار بن سنان بن عمر بن جحاش بن بجالة الغطفاني" الثعلبي.
يقال مزرد لقب له، لقب به لقوله:
فقلت تزردها عبدي فإنني
…
لزرد الشيوخ في الشباب مزرد
وكان يكنى "أبا ضرار"، وقيل:"أبا الحسن"، وهو أسن من الشماخ، وكان هجّاءً حلف أن لا ينزل به ضيف إلا هجاه، ولا سكب سنه ولا بيت بيته إلا هجاء، ثم أدرك الإسلام فأسلم. قدم على رسول الله فأنشد له أبياتا منها:
تعلم رسول الله لم أر مثلهم
…
أحسن على الأدنى وأقرب للفضل
تعلم رسول الله أنا كأننا
…
أفأنا بأنمار ثعالب ذي غسل
وأنمار رهطه، وكان يهجوهم.
وورد عن "عائشة" أنها قالت: من صاحب هذه الأبيات: تعني التي في عمر لما مات:
جزى الله خيرا من أمير وباركت
…
يد الله في ذاك الأديم الممزق
قالوا: مزرد، فسألت من مزرد؟ فحلف بالله أنه لم يشهد الموسم تلك السنة، ومنهم من نسب هذه الأبيات التي قبلها للشماخ3.
1 الخزانة "1/ 526"، "بولاق".
2 بروكلمان، "1/ 170".
3 الإصابة "3/ 385"، "7921".
ومعن بن أوس بن نصر بن زياد المزني، شاعر مجيد فحل من المخضرمين. عمر إلى أيام ابن الزبير1، وهو من شعراء مضر. ذكر "المرزباني"، أنه كان رضيع "عبد الله بن الزبير"، وكان مصاحبا له، وكف في آخر عمره2.
و"سويد بن أبي كاهل" أو "سويد بن غطيف" وقيل اسمه: "غطيف بن حارثة" اليشكري، ويقال "الوائلي"، ويقال "الغطفاني"، ويكنى "أبا سعيد"، هو شاعر مخضرم. وهو صاحب قصيدة مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا
…
فوصلنا الحبل منها ما اتسع
وهي قصيدة من أغلى الشعر وأنفسه في نظر علماء الشعر، ذكر أن العرب كانت تفضلها وتقدمها، وتعدها من حكمها، وكانت في الجاهلية تسميها "اليتيمة" لما اشتملت عليه من الأمثال. وللشاعر شعر كثير، ولكن برزت هذه على شعره3.
ذكر أنه كان إذا غضب على قومه، ادعى إلى غطفان، فقال رجل من "بني شيبان":
من يشتري مسجدي ذبيان إذ ظعنوا
…
إلى فزارة أو من يشتري الدارا
فأجابه سويد:
إن المساجد لا تباع وإنما
…
باعت كحيلة بظرها البيطارا4
1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 808"، جعل "زيدان" وفاته سنة "29هـ"، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 184".
2 الأغاني "10/ 164"، الخزانة "2/ 258"، المرزباني، معجم الشعراء "ص322"، راجع معاهد التنصيص "694"، عيون الأخبار "3/ 18"، شرح الحماسة، للمرزوقي "1126"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 172 وما بعدها"، معن بن أوس، لمصطفي كمال، القاهرة "1927م".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 740، حاشية2"، الشعر والشعراء "1218، 184"، "1/ 334" دار الثقافة، الخزانة "2/ 546"، الأغاني "11/ 171"، شعراء النصرانية "425"، طبقات ابن سلام "35، 128"، المزهر "2/ 487"، الإصابة "2/ 117"، "رقم 3720".
4 الاشتقاق "205".
وعدّ من المعمرين، ذكر أنه عمر في الإسلام ستين سنة بعد الهجرة1.
وقد وضعه "ابن سلام" مع الحارث بن حلزة، وعنترة، وعمرو بن كلثوم في الطبقة السادسة من شعراء الجاهلية2.
و"الزبرقان بن بدر" شاعر تميم من الشعراء المخضرمين. وكان اسمه "الحصين". ولما قدم وفد "تميم" إلى المدينة في أشرافهم، كان الزبرقان أحدهم، ولما تفاخروا بأنفسهم وتباهوا بفعالهم، قالوا للرسول: يامحمد ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر، فقال قصيدته التي مطلعها:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
منا الملوك وفينا تنصب البيع3
وذكر أن الرسول ولاه صدقات قومه فأداها في الردّة إلى أبي بكر فأقره، ثم إلى عمر4.
وقد هجا "الحطيئة" الزبرقان بن بدر، وكان سبب ذلك أن الحطيئة لقي الزبرقان بـ "قرقرى" ومعه ابناه أوس وسوادة وبناته وامرأته فعرفه الزبرقان وسأله أين تريد؟ قال: العراق لأصادف من يكفيني عيالي وأصفيه مدحي، فقال له: لقيته، قال: من؟ قال: أنا، قال: من أنت؟ قال الزبرقان بن بدر. وكتب له كتابا إلى امرأته، لتعطيه وتنفق عليه، فبلغ ذلك:"بغيض بن عامر" وإخوته وبني عمه، وكانوا ينازعون "الزبرقان" الرياسة، فدسوا إلى "أم بدرة" امرأة الزبرقان أن الزبرقان ير يد أن يتزوج بنت "الحطيئة"، ولذلك أمرك أن تكرميه، فجفته أم بدرة، فأرسل بغيض وأهله إلى "الحطيئة" أن ائتنا فنحن أحسن لك جوارا من الزبرقان، وأطمعوه ووعدوه، فتحول إليهم، فلما جاء "الزبرقان" بلغه الخبر فركب إليهم، فقال لهم: ردوا علي جاري، فأبوا حتى كاد أن يكون بينهم حرب، فحضرهم أهل الحي فاصطلحوا على أن يخيروه
1 الخزانة "2/ 546 وما بعدها"، "بولاق".
2 الطبقات "35"، رسالة الغفران "137".
3 الطبري "3/ 116"، "دار المعارف"، "قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات".
4 الإصابة "1/ 524 وما بعدها"، "رقم 2782".
فاختار بغيضا ورهطه، فجعل الحطيئة يمدحهم من غير أن يتعرض بالزبرقان، فلم يزل كذلك حتى أرسل الزبرقان إلى شاعر من "النمر بن قاسط" يقال له:"دثار بن شيبان" فهجا بغيضا وآل بيته، فلما سمع الحطيئة شعر دثار، حمي لجيرانه، فقال شعره في الزبرقان معرضا به، فاستعدى الزبرقان "عمر" عليه، فحبس الحطيئة أياما، فقال وهو محبوس:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
…
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
…
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
وشفع له "عمرو بن العاص" فأطلقه1.
وقيس بن عاصم بن سنان المنقري، من الصحابة ومن الشعراء الفرسان الشجعان. ومن الحلماء. قدم في وفد تميم على النبي، فقال رسول الله:"هذا سيد أهل الوبر"2. وقد عاش بعد الرسول3.
و"عمرو بن سنان بن سُمي بن سنان بن خالد بمن منقر" المنقري، من "بني منقر"، فهو من شعراء تميم. ويعرف بـ "عمرو بن الأهتم"، سمي أبوه سنان الأهتم، لأن "قيس بن عاصم" المنقري ضربه بقوس فهتم فمه. وكانت أم سنان سبية من الحيرة، يقال إنها سبيت وهي حامل. قال قيس بن عاصم:
نحن سبينا أمكم مقربا
…
يوم صبحنا الحيرتين المنون
جاءت بكم غفرة من أرضها
…
حيرية ليست كما تزعمون
لولا دفاعي كنتم أعبدا
…
منزلها الحيرة والسيلحون
و"غفرة" هي أم سنان
1 الإصابة "1/ 177"، "رقم 781 في ترجمة بغيض بن عامر بن شماس"، "رقم 1991"، "في ترجمة الحطيئة".
2 الإصابة "3/ 242 وما بعدها"، "رقم 7196".
3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 587".
وأخو "عمرو بن الأهتم"، عبد الله بن الأهتم، جد خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم الخطيب. وآل الأهتم خطباء1، وكلهم من البلغاء المشهورين2.
وعمرو بن الأهتم، ممن وفد على رسول الله، وكان في الجاهلية يدعى "المُكحّل" لجماله، وكان له ابن يقال له "نعيم بن عمرو" من أجمل الناس، وفيه تأنيث، وله يقول عبد الرحمن بن حسان:
قل للذي كاد لولا خط لحيته
…
يكون أنثى عليه الدر والمسك
هل أنت إلا فتاة الحي إن أمنوا
…
يوما وأنت إذا ما حاربوا دعك3
ومن شعره قوله في حق الزبرقان بن بدر، وكان ينافسه:
ظللت مفترش العلياء تشتمني
…
عند النبي فلم تصدق ولم تصب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم
…
والروم لا تملك البغضاء للعرب
فإن سؤددنا عود وسؤددكم
…
مؤخر عند أصل العجب والذنب4
و"نافع بن الأسود بن قطبة بن مالك" التميمي ثم الأسيدي، شاعر مخضرم يكنى "أبا نجيد". وقد شهد فتوح العراق، وأنشد له "سيف" في الفتوح
1 الشعر والشعراء "2/ 528"، المرزباني، معجم "21".
2 الإصابة "2/ 517"، "رقم 5772".
3 الأغاني "4/ 155"، "14، 83"، المفضليات "رقم 23"، الميداني "1/ 5"، الأمثال، للعسكري "1/ 5".
4 الإصابة "مفترش الهلباء"، "2/ 518"، الاستيعاب"، "2/ 530"، "حاشية على الإصابة".
أشعارا كثيرة، يفتخر فيها بقومه، ويذكر فيها مشاهده في فتوح الشام والعراق1.
ومن شعراء تميم المخضرمين: "متمم بن نويرة" الذي قتله "خالد بن الوليد" لما سار لقتال أهل الردة، وتزوج امرأته، مما أدى إلى غضب بعض الصحابة ومنهم "عمر" على "خالد"، لأمور أخذوها في قتله عليه. ومن شعره المشهور في رثاء "مالك" قوله:
أبى الصبر آيات أراها وإنني
…
أرى كل حبل بعد حبلك أقطعا
وإني متى ما أدع باسمك لا تجب
…
وكنت جديرا أن تجيب وتسمعا
وكنا كندمانيْ جذيمة حقبة
…
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
…
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا
…
فقد بان محمودا أخي يوم ودعا
أقول وقد طال السنا في ربابه
…
وغيث يسح الماء حتى تريعا
سقى الله أرضا حلها قبر مالك
…
دهاب الغوادي المدنات فأمرعا
وآثر سيل الواديين بديمة
…
ترشح وسميا من النبت خروعا2
وهي قصيدة مؤثرة تعد من المراثي الجيدة القوية، تعبر عن قلب منفطر عن شدة ما حل به من ألم. قيل إن "عمر" قال لمتمم لما دخل عليه أنشدني بعض ما قلت في أخيك فأنشده شعره المتقدم، قال له "عمر":"يا متمم، لو كنت أقول الشعر لسرني أن أقول في زيد بن الخطاب مثل ما قلت في أخيك، قال متمم: يا أمير المؤمنين، لو قتل أخي قتلة أخيك ما قلت فيه شعرا أبدا، فقال عمر: يا متمم ما عزاني أحد في أخي بأحسن ما عزيتني به"3. وقد ضربت الشعراء الأمثال به وبأخيه مالك في أشعارهم.
1 الإصابة "3/ 550"، "8850".
2 المفضليات "2/ 32".
3 الشعر والشعراء "1/ 255"، ابن سلام، طبقات، "169 وما بعدها"، الخزانة "1/ 234"، المرزباني، معجم "461".
ومما سبق إليه مالك، وأخذه الناس منه قوله:
جزينا بني شيبان أمس بقرضهم
…
وعدنا بمثل البدء والعود أحمد
فقال الناس: العود أحمد1.
"يروى أن عمر قال للحطيئة: هل رأيت أو سمعت بأبكى من هذا؟ قال: لا والله ما بكى بكاء عربي قط ولا يبكيه"2. وكان عمر يستمع إلى قوله في رثاء أخيه.
ومن شعره المشهور قوله:
وكل فتى في الناس بعد ابن أمه
…
كساقطة إحدى يديه من الخبل3
وكان "مالك بن نويرة" من الشعراء كذلك. وقد عرف بـ "فارس ذي الخمار". وذو الخمار فرسه4. ولقب بـ "الجفول". وهو من شعراء وفرسان "بني يربوع" المعدودين. وكان من أشرافهم ومن أرداف الملوك. استعمله النبي على صدقات قومه. وبقي عليها إلى وفاة الرسول، فيقال إنه لما بلغه خبر وفاته أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك.
فقلت خذوا أموالكم غير خائف
…
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
فإن قام بالدين المحوق قائم
…
أطعنا وقلنا الدين دين محمد
وقد قتل خالد بن الوليد، مالكا، في قصة ترد في كتب الردة والفتوح
1 الشعر والشعراء "1/ 256".
2 الإصابة "3/ 340"، "رقم 7719".
3 الإصابة "3/ 340"، "رقم 7719".
4 الشعر والشعراء "1/ 254 وما بعدها"، ابن حزم، جمهرة "224"، ابن سلام، طبقات "48"، الأغاني "15/ 239"، فوات الوفيات "2/ 295".
والتأريخ، وتزوج امرأته، وكانت فائقة في الجمال، مما حمل بعض الصحابة على مؤاخذته على هذا العمر، منهم "عمر"1.
ومن المخضرمين "النجاشي""قيس بن عمرو" الحارثي2، وكان ممن لازم عليًّا وشهد معه "صفين"، ومدحه. وقد بلغ "عليًّا" وهو بالكوفة أنه كان سكران في شهر "رمضان" مع "أبي سماك" الأسدي، فهرب "أبو سماك"، وقبض على "النجاشي" فحده "علي" ثمانين سوطا، ثم زاده عشرين، فقال له: ما هذه العلاوة؟ فقال: لجرأتك على الله في شهر رمضان، ثم وقفه للناس ليروه، فهرب إلى "معاوية" وهجا "عليا" على ما يقال، وهجا أهل الكوفة. وكان هجاء، هجا "بني العجلان"، فاستعدوا عليه "عمر". فهدد "عمر" النجاشي، وقال له: إن عدت قطعت لسانك. وهجا قريشا هجاء مرا. وهجا "عبد الرحمن بن حسان بن ثابت"، ولما مات "الحسن بن علي" رثاه النجاشي، وتوفي بعد ذلك بقليل.
وروي أنه هاجى "تميم بن مقبل" من "بني العجلان"، وهو من شعراء الجاهلية، الذين أدركوا الإسلام، وعمر طويلا. وكان يتهاجى مع "النجاشي"، فاستعدى "تميم""عمر" على النجاشي، فسمع "عمر" ما قال فيه وفي بني قومه، فلما وصل إلى بيته:
أولئك أولاد الهجين وأسرة
…
اللئيم ورهط العاجز المتذلل
وما سمي العجلان إلا لقوله
…
خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
قال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه3. وكان "عمر" قد
1 الإصابة "3/ 336"، "رقم 7697"، ابن الأثير، الكامل "2/ 237 وما بعدها"، المحبر "126"، المرزباني، معجم "260".
2 الشعر والشعراء "1/ 246 وما بعدها"، الإصابة "3/ 551 وما بعدها"، "رقم 8855"، الخزانة "4/ 368"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 239".
3 الإصابة "1/ 189 وما بعدها"، "رقم 862"، ابن سلام، طبقات "34"، ديوان تميم بن مقبل "11 مقدمة ".
حكم "حسانا" في هجاء "النجاشي" لتميم، فلما حكم "حسان" بإقذاعه في هجائه له حبس "النجاشي" عليه. وقد جمع "أبو سعيد" السكري شعر "تميم بن مقبل"1، وجمعه غيره من العلماء. وهو "تميم بن أبي بن مقبل". وقد اشتهر بوصف القداح، حتى جعل من أوصف العرب للقدح، ولذلك يقال:"قدح ابن مقبل"2.
ويعد "تميم بن مقبل" من عوران قيس، وعددهم خمسة شعراء، هم: تميم بن مقبل، وعمرو بن أحمر الباهلي، والشماخ معقل بن ضرار، وراعي الإبل عبيد بن حصين التميري، وحميد بن ثور الهلالي3. وهو من الجاهليين الذين أدركوا الإسلام، فأسلم، فهو من المخضرمين. وقد أدرك زمن معاوية، وكان هواه مثل هوى قبيلته مع "معاوية" على "علي". وكان عثمانيا له قصيدة في رثاء أهل الجاهلية، وكان يتذكر الجاهلية ويترحم على أيامها، ويحن إليها، ويرى أن الزمان قد تغير، وأن الأرض قد تغيرت، وتبدلت أخلاق الناس، فصار يرى نفسه غريبا في مجتمع غريب عنه، له مُثل تختلف عن مثل أهل الجاهلية، فصار يحن إلى أيام ما قبل الإسلام.
قيل لتميم بن مقبل: تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم: فقال:
وما لي لا أبكي الديار وأهلها
…
وقد زارها زوار عك وحميرا
وجاء قطا الأحباب من كل جانب
…
فوقّع في أعطافنا ثم طيّرا
وفي هذه القصيدة المؤلفة من خمسين بيتا، والمنشورة في ديوانه، والتي وردت بروايات مختلفة، حنين ظاهر إلى أيام الجاهلية، وتوجع بيّن للتغير الذي حدث فاجتث ذكريات الأيام القديمة، إذ باد أهلها، وتنكر الناس لها، وبرز من
1 ابن النديم، الفهرست "123".
2 الشعر والشعراء "1/ 336 وما بعدها"، الإصابة "1/ 195"، الخزانة "1/ 113" طبقات ابن سلام "125".
3 رسالة الغفران "237"، الجمهرة "2/ 390"، المعارف "253".
لم يكن معروفا إذ ذاك من الناس. فهو يرى أن الجاهلية بأيامها وبمثلها وبرجالها وبقبائلها، وبمروءتها، أحسن حالا من الأيام الجديدة التي أخذت مكانها، والتي أحلت الموالي ونكرات الناس محل السادة الأشراف1.
وكان قد تزوج "الدهماء" زوجة أبيه في الجاهلية، على عادتهم في تزوج نساء الآباء، وأحبها حبا شديدا، فلما جاء الإسلام وحرم هذا الزواج، اضطر إلى تطليقها، وهو مكره، فكان يقول:
هل عاشق نال من دهماء حاجته
…
في الجاهلية قبل الدين مرحوم2
ولعل هذا الطلاق، كان في جملة العوامل التي جعلته يحن إلى الجاهلية ويذكرها بخير.
ومما ينسب إليه قوله:
فاخلف وأتلف إنما المال عارة
…
وكله مع الدهر الذي هو آكله
وأيسر مفقود وأهون هالك
…
على الحي من لا يبلغ الحي نائله
وقوله:
خليلي لا تستعجلا وانظرا غدا
…
عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا3
1 أولها:
تأمل خليلي هل ترى ضوء بارق
…
يمان مرته ريح نجد ففترا
وفيها يقول:
أجدي أرى هذا الزمان تغيرا
…
وبطن الركاء من موالي أقفرا
وكائن ترى من منهل باد أهله
…
وعيد على معروفه فتنكرا
ديوان تميم بن مقبل "ص129 وما بعدها"، "تحقيق الدكتور عزة حسن".
2 ديوان ابن مقبل "المقدمة"، "تحقيق الدكتورة عزة حسن"، "دمشق 1962".
3 بلوغ الأرب "3/ 143".
وكان "عبد الرحمن بن حسل" الجمحي من الشعراء الهجائين. كان أبوه من أهل اليمن، فسقط إلى مكة، فولد له بها:"كلدة" و"عبد الرحمن"، وكانا ملازمين لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، فنسبا إلى "بني جمح".
وذكر أنهما كانا أخوي "صفوان" لأمه. وذكر أنه كان بعسكر "يزيد بن أبي سفيان"، وأنه كان من مسلمة الفتح. وقد هجا "عثمان" لما أعطى مروان خمسمائة ألف من خمس "إفريقية" فقال:
وأحلف بالله جهد اليمين
…
ما ترك الله أمرا سدى
ولكن جعلت لنا فتنة
…
لكي نبتلي بك أو تبتلى
دعوت الطريد فأدنيته
…
خلافا لما سنه المصطفى
ووليت قرباك أمر العباد
…
خلافا لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس الغنيمـ
…
ـة آثرته وحميت الحمى
ومالا أتاك به الأشعري
…
من الفيء أعطيته من دنا
فإن الأمينين قد بينا
…
منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة
…
ولا قسما درهما في هوى1
فأمر "عثمان" به فحبس بخيبر. وقيل إن "عليا" كلم "عثمان" فيه فأطلقه وشهد الجمل مع علي، ثم صفين فقتل بها. وذكر أنه قال وهو في السجن:
إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا
…
أبا حسن غلا شديدا أكابده
بخيبر في قعر الغموص كأنها
…
جوانب قبر أعمق اللحد لاحده
أإن قلت حقا أو نشدت أمانة
…
قتلت فمن للحق إن مات ناشده2
1 تختلف هذه الأبيات بعض الاختلاف عنها في كتاب الإصابة، الإصابة "2/ 387 وما بعدها"، "رقم 5108"، الاستيعاب "2/ 406 وما بعدها"، وقد دعاه صاحب الاستيعاب "عبد الرحمن بن حنبل".
2 الإصابة "2/ 387 وما بعدها"، "رقم 5108".
و "ألس بن أبي أناس بن زنيم" الكناني، هو من الشعراء الذين كانوا قد هجوا الرسول فأهدر النبي دمه، فبلغه ذلك، فقدم عليه معتذرا، وأنشده شعرا مدحه به، وكلمه فيه "نوفل بن معاوية" الديلي، فعفا عنه، قائلا للرسول:"أنت أولى بالعفو، ومن منا لم يؤذك ولم يعادك، وكنا في الجاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة؟ " فقال: "قد عفوت عنه". فقال: "فداك أبي وأمي". وأول القصيدة يقول فيها:
فما حملت من ناقة فوق رحلها
…
أبر وأوفى ذمة من محمد
ويقول فيها:
ونبي رسول الله أني هجوته
…
فلا رفعت سوطي إليّ إذا يدي
فإني لا عرضا خرقت ولا دما
…
هرقت فذكر عالم الحق واقصد1
وقد ذكر "ابن قتيبة"، أن "أبا أناس"، والد "أنس"، هو القائل في رسول الله:
فما حلمت من ناقة فوق حملها
…
أعف وأوفى ذمة من محمد2
وقد قال "دعبل بن علي" في طبقات الشعراء، هذا أصدق بيت قالته العرب. وفي جملة ما جاء في هذه القصيدة التي تنسب إلى أنس بن زنيم قوله:
ونبي رسول الله أني هجوته
…
فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي
فإني لا عرضا خرقت ولا دما
…
هرقت فذكر عالم الحق وأقصد3
1 الإصابة "1/ 81 وما بعدها"، "رقم 267".
2 الشعر والشعراء "2/ 623".
3 الإصابة "1/ 82"، "267".
وذكر أن "عبيد الله بن زياد" كان يحرش بين الشعراء، فأمر "حارثة" أن يهجو "أنس بن زنيم"، فقال فيه أبياتا، منها قوله:
وخبرت عن أنس أنه
…
قليل الأمانة خوانها
فأجابه أنس بأبيات أولها:
أتتني رسالة مستنكر
…
فكان جوابي غفرانها1
وأنس هو القائل لعبد الله بن الزبير، حين تزوج مصعب عائشة بنت طلحة على ألف ألف درهم:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة
…
من ناصح لك لا يريد خداعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل
…
وتبيت سادات الجنود جياعا
لو لأبي حفص أقول مقالتي
…
وأقص شأن حديثكم لارتاعا2
وكان "أسيد بن أبي إياس بن زنيم" الكناني ابن أخي "سارية" الكناني، ممن هجوا الرسول أيضا، فأهدر النبي دمه، فخرج إلى "الطائف" وأقام بها، مثل غيره ممن هجوا الرسول فخافواعلى أنفسهم، فلجأوا إلى ثقيف. فلما كان عام الفتح، خرج مع "سارية بن زنيم"، وقدم على الرسول فأسلم. ومدحه بشعر. وذكر أنه كان قد رثى قتلى بدر، فأهدر النبي دمه. وروي أنه قال في علي بن أبي طالب وفي مخاطبة قريش:
في كل مجمع غاية أخزاكم
…
صدع يفوق على المذاكي القرح
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم
…
ذبحا وقتلا بعضه لم يرتح
لله دركم ألما تذكروا
…
قد يذكر الحر الكريم ويستحي3
وورد في رواية أنه كان قد أسلم وأدرك "أحدا". وتشابه قصته في هدر
1 الإصابة "1/ 82"، "رقم 267".
2 الشعر والشعراء "2/ 623 وما بعدها".
3 الإصابة "1/ 62"، "رقم 175".
النبي دمه وفي هجائه للرسول قصة "أنس بن زنيم" الكناني، المتقدم، وهو ابن أخي "أسيد" على رواية "الإصابة"1.
وروي أن "سارية بن زنيم" الكناني، كان ممن هجا الرسول كذلك، فبلغ ذلك الرسول، فتوعده. فجاء إليه معتذرا فأنشد:
تعلم رسول الله أنك قادر
…
على كل حي من تهام ومنجد
تعلم رسول الله أنك مدركي
…
وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم بأن الركب إلا عويمرا
…
هم الكاذبون المخلفو كل موعد
ونبي رسول الله أني هجوته
…
فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي2
وتليها أبيات أخرى، نسبت كلها إلى "أنس بن زنيم". ويظهر أن التباسا قد وقع عند الرواة، فخلطوا بين الثلاثة من "آل زنيم".
وقد ذكر أن "سارية" هذا كان خليعا في الجاهلية، لصا كثير الغارة، وأنه كان يسبق الفرس عدوا على رجليه، ثم أسلم، وأرسله "عمر" فيمن أرسله من المسلمين لفتح فارس.
وكان "بشير بن أبيرق""بشر بن أبيرق" الشاعر يقول الشعر ويهجو به أصحاب النبي، وينحله بعض العرب4.
وجعل "ابن سلام": "أمية بن حرثان بن الأشكر""أمية بن الأسكر" و "حريث بن مُحفّض"، و "الكميت بن معرور بن الكميت" الأسدي، و "عمرو بن شأس" الأسدي، طبقة واحدة، هي الطبقة العاشرة من طبقاته. وكلهم ممن عاش في الجاهلية والإسلام5، وكان "أمية بن الأسكر" الكناني من سادات قومه وفرسانهم، وله أيام، وابنه "كلاب بن أمية"، أدرك النبي.
1 الإصابة "1/ 62، 81"
2 الإصابة "1/ 81"، "2/ 2"، "رقم 3034".
3 الإصابة "2/ 3".
4 الاشتقاق "264"، تاج العروس "8/ 129"، "نحل".
5 "ص44 وما بعدها".
فأسلم مع أبيه. وقد سكن "كلاب" البصرة1. وروى لأمية شعرا في حروب الفجار2.
و"حريث بن حفض""حريث بن محفص"، المازني من بني تميم، من "خزاعي بن مازن". وهو مخضرم له في الجاهلية أشعار، وتمثل الحجاج بأبيات من شعره، مثلا لأهل الشام في طاعتهم وبأسهم، وهي قوله:
ألم تر قومي إن دعوا لملمة
…
أجابوا وإن أغضب على القوم يغضبوا
بني الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم
…
وآباؤهم أباء صدق فأنجبوا
فإن يك طعن بالرُديني يطعنوا
…
وإن يك ضرب بالمناصل يضربوا3
و"عمرو بن شأس" الأسدي، المكنى بـ "أبي عرار"، شاعر كثير الشعر مقدم، شهد القادسية4، ومنهم المستوغر، واسمه "عمرو بن ربيعة"، ويكنى "أبا بهنس"، وهو من تميم، زعم أنه عاش ثلاثين وثلاثمائة سنة، وأدرك أيام معاوية5. وذكر أن "عمرو بن شأس" عاش حتى أدرك أيام عبد الملك بن مروان6.
ومن الشعراء المخضرمين "المنذر بن رومانس" الكلبي، وهو أخو النعمان بن المنذر لأمه، وأمهما "رومانس". وله شعر قاله بعد فتح الحيرة، يتذكر فيه أيام الحيرة الأولى، وكيف كانوا يحكمون العراق ونجدا7.
1 الخزانة "2/ 506 وما بعدها"، "بولاق".
2 الإصابة "1/ 78"، "رقم 2536".
3 الشعر والشعراء "2/ 561"، الإصابة "1/ 375"، "رقم 1972".
4 المرزباني، معجم "22 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات "164"، الأغاني "10/ 60".
5 المرزباني، معجم "23".
6 الشعر والشعراء "1/ 338 وما بعدها".
7 المرزباني، معجم "269".
ومن المخضرمين "أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، وهو أحد الصحابة الذين أسلموا قديما، وفي بيته أسلم "عمر"، لأنه كان زوج أخته فاطمة، توفي سنة "50"، وقد أورد الجاحظ له شعرا، وهو شعر نسب أيضا لوالده، وتروى كذلك لنبيه بن الحجاج1.
و"سالم بن دارة من الشعراء المخضرمين" وهو "سالم بن مسافع "مسافح" بن عقبة بن يربوع بن كعب بن عدي" من "غطفان". وكان رجلا هجاء وبسببه قتل. قتله "زميل بن أبير""زميل بن عبد مناف"، "زميل بن أبرد"، "زميل بن وبير" من بين فزارة وكان "سالم" قد أمعن في هجاء فزارة، وألح عليها في الهجاء، فقال في جملة ما قاله: َ
حَدَبْدبا بَدَبْدبا منك الآن
…
استمعوا أنشدكم يا ولدان
إن بني فزارة بن ذبيان
…
قد طرقت ناقتهم بإنسان
مشيا أعجب بخلق الرحمن
…
غلبتم الناس بأكل الجردان
كل متل كالعمود جوفان
…
وسرق الجار ونيك البعران
إلى غير ذلك من شعر مقذع، فلما أمعن في الهجاء، تعقبه "زميل بن أبير""زميل بن أم دينار" الفزازي، فلحق به وضربه بالسيف ضربة جرحته، وكان قد خرج من المدينة، فعاد إليها، يتداوى، فدفعه "عثمان" إلى طبيب نصراني، ويقال إن "أم البنين""بسرة بنت عيينة بن حصن" الفزاري، وكانت عند "عثمان"، جعلت للطبيب جعلا حتى سمه فمات2.
ومن شعره في هجاء فزارة قوله:
لا تأمنن فزاريًّا خلوت به
…
على قلوصك واكتبها بأسيار
وله شعر يخاطب به "عينة بن حصن" الفزاري، وكان قد ارتد في خلافة
1 البيان والتبيين "1/ 235"، الخزانة "3/ 99"، عيون الأخبار "1/ 242".
2 الخزانة "2/ 144 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، نوادر المخطوطات "2/ 101، 156 وما بعدها"، الحيوان "1/ 267".
"أبي بكر" ثم عاد إلى الإسلام، وقال لأبي بكر: قصتي وقصة الأشعث بن قيس الكندي واحدة، فما بالكم أكرمتموه وزوجتموه، ولم تفعلوا ذلك بي، فأجاب سالم عن ذلك بقوله:
يا عيينة بن حصن آل عدي
…
أنت من قومك الصميم صميم
لست كالأشعث المعصب بالتا
…
ج غلاما قد ساد وهو فطيم
جده آكل المرار وقيس
…
خطبه في الملوك خطب عظيم
إن تكونا أتيتما خطب العذ
…
ر سواكما تقد الأديم
فله هيبة الملوك وللأشـ
…
ـعث إن حان حادث قديم
إن للأشعث بن قيس بن معدي
…
كرب عزة وأنت بهيم1
وأتى "سالم بن دارة" عدي بن حاتم، فمدحه، فشاطره "عدي" ماله2.
والأغلب بن عمرو بن عبيدة بن حارثة بن دُلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن الصعب بن علي بن بكر بن وائل، من الشعراء المخضرمين، ويعد من أرجز الرجاز، وأرصنهم كلاما وأصحهم معاني. وهو أول من أطال الرجز، وكان الرجل قبله يقول البيت والبيتين إذا فاخر أو شاتم. وذكر أنه استشهد بنهاوند3. وله ديوان4. وقيل إن الخليفة "عمر" كتب إلى "المغيرة بن شعبة" وهو على الكوفة، أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام، فكتب إلى لبيد، فكتب لبيد إليه سورة البقرة في صحيفة، وقال: قد أبدلني الله بهذه في الإسلام مكان الشعر، وجاء "الأغلب" إلى المغيرة، فقال له:
أرجزا تريد أم قصيدا
…
لقد طلبت هينا موجودا
فكتب بذلك إلى "عمر"، فكتب إليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة
1 الإصابة "2/ 107"، "2657".
2 الشعر والشعراء "2/ 315 وما بعدها".
3 الأغلب بن جشم بن عمرو بن عبيدة"، الإصابة "1/ 71"، "رقم 225"، الخزانة "2/ 239"، المؤتلف "22"، الأغاني "18/ 164".
4 الخزانة "2/ 258"، "بولاق".
فزدها في عطاء لبيد، وله قوله:
المرء توّاق إلى ما لم ينل
…
والموت يتلوه ويلهيه الأمل
وأنشد له "أبو الفرج" أرجوزة يهجو فيها سجاح التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذاب1.
وكان "هريم بن جواس" التميمي، يهاجي "الأغلب"، وهو من المخضرمين، وافقه بسوق عكاظ، فقال له:
قبحت من سالفة ومن قفا
…
عبد إذا ما رسب القوم طفا
فما صفا عدوكم ولا صفا
…
كما شرار البقل أطراف السفا
فقال له: من أنت ويلك؟ قال:
أنا غلام من بني مقاعس
…
الضاربين فلك الفوارس2
ومن الشعراء المخضرمين: "عقيبة بن هبيرة" الأسدي. وكان جريئا، وفد على معاوية بن أبي سفيان فدفع إليه رقعة فيها:
فهبنا أمة ذهبت ضياعا
…
يزيد أميرها وأبو يزيد
أكلتم أرضنا فجردتموها
…
فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع في الخلود إذا هلكنا
…
وليس لنا ولا لك من خلود
ذروا خون الخلافة واستقيموا
…
وتأمير الأراذل والعبيد
وأعطونا السوية لا تزركم
…
جنود مردفات بالجنود
فقال له معاوية: ما جرأك على؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك! فقال: ما أظنك إلا صادقا! فقضى حوائجه3.
ومنهم "حضرمي بن عامر بن مجمع بن موألة "مولة" من بني أسد،
1 الإصابة "1/ 71"، "رقم 225".
2 الإصابة "3/ 584"، رقم "9094".
3 الخزانة "2/ 260 وما بعدها"، "هارون"، "1/ 343 وما بعدها"، "بولاق".
وهو شاعر فارس سيد، له في كتاب "بني أسد" أشعار وأخبار. وقدم مع وفد "بني أسد"، وفيهم ضرار بن الأزور، وسلمة بن حبيش، وقتادة بن القائف، وأبو مكعب، وكتب لهم الرسول كتابا. فتعلم "حضرمي" سورة "عبس وتولى"، فزاد فيها:"وهو الذي أنعم على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى"، فقال له النبي:"لا تزد فيها". وورد أن السورة هي سورة: سبح اسم ربك الأعلى. وكان يكنى: "أبا كدام"، وله شعر في حرب الأعاجم، أنشد بعضه "عمر بن الخطاب"، وقد نقل عنه "سيف بن عمر" في الفتوح بعض أخبار مسيلمة والردة1.
ومن المخضرمين "حنيف بن عمير" اليشكري، قاتل "محكم بن الطفيل" يوم اليمامة. وله شعر في قتله2.
ومن الشعراء المخضرمين: "ربيعة بن مقروم بن قيس"، وكان ممن أصفق عليه "كسرى"، ثم عاش في الإسلام زمانا. شهد القادسية وجلولاء، وهو من شعراء "مضر" المعدودين3.
ومن الشعراء المخضرمين: "أبو بكر بن الأسود بن شعوب" الليثي، وهو "شداد بن الأسود"4. وقيل اسمه:"عمرو بن سُمي بن كعب بن عبد شمس" الكناني، وأمه "شعوب" من بني خزاعة، وله شعر كثير قاله وهو كافر، ثم أسلم بعد. ومن شعره، قصيدة في رثاء قتلى المشركين ببدر، يقول فيها:
فماذا بالقليب قليب بدر
…
من القينات والشرب الكرام
إلى أن يقول:
يخبرنا الرسول لسوف نحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام5
1 الإصابة "1/ 340"، "رقم 1759"، الخزانة"2/ 56"، "بولاق".
2 الإصابة "1/ 381"، "رقم 2016"، الخزانة"2/ 544 وما بعدها".
3 الخزانة "3/ 565 وما بعدها"، "بولاق".
4 ابن هشام "2/ 113"، "حاشية على الروض الأنف".
5 هناك اختلاف في رواية أبيات هذه القصيدة وفي ألفاظها، ابن هشام، سيرة "2/ 113"، "حاشية على الروض الأنف"، نوادر المخطوطات، كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "المجموعة الأولى""ص83 وما بعدها".
ومن المخضرمين: "قطبة بن الزبعرى"، وهي أمه. وهو "قطبة بن زيد بن سعد بن امرئ القيس بن ثعلبة" من بني القين بن جسر. وكان سيد قضاعة في الجاهلية وأول الإسلام. وله مفتخرا:
حميت القوم قد علمت معد
…
ومن للقوم من مولى وجار
حبوت بها قضاعة إن مثلي
…
حقيق أن يذب عن الذمار
ولست كمن يُغمز جانباه
…
كغمز التين تجنيه الجواري1
ومن المخضرمين "عبدة بن الطبيب"2، "عبدة بن الطيب"3، وهو من "بني عبد شمس بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم". ومن جيد شعره في رثاء قيس بن عاصم، قوله:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
…
ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمة
…
إذا زار عن شحط بلادك سلما
فلم يك قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنه بنيان قوم تهدما4
وقوله:
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
…
والعيش شح وإشفاق وتأميل5
وقد أعجب "عمر" بهذه القصيدة الطويلة التي على اللام6.
1 من نسب إلى أمه "86"، نوادر المخطوطات، "المجموعة الأولى".
2 الشعر والشعراء "2/ 913"، البيان والتبيين "1/ 122".
3 بلوغ الأرب "3/ 143".
4 الشعر والشعراء "2/ 614"، وتختلف هذه الأبيات عما ورد في الإصابة "3/ 100"، "رقم 6392".
5 بلوغ الأرب "3/ 143".
6 البيان والتبيين "1/ 240".
"واسم الطيب: يزيد بن عمرو بن علي بن أنس بن عبد الله بن عبد تميم بن جشم بن عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم". وهو من مشاهير الشعراء، وقد ساهم في فتوح العراق، وهو القائل في قتال الفرس:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول
…
أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
ثم يقول:
يقارعون رءوس الفرس ضاحية
…
منهم فوارس لاعزل ولا ميل
وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: قول عبدة:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنه بنيان قوم تهدما
أرثى بيت قيل.
ومن شعره قوله:
ولقد علمت بأن قصري حفرة
…
غبراء يحملن إليها شرجع
فبكت بناتي شجوهن وزوجتي
…
والأقربون إليّ ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها
…
تسفى عليّ الريح حين أودع1
وقوله:
لما نزلنا نصبنا ظل أخبية
…
وفار للقوم باللحم المراجيل
وردا وأشقر لم يهنئه طابخه
…
ما غيّر الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسومة
…
أعرافهن لأيدينا مناديل2
ومن المخضرمين "عدي بن عمرو بن سويد بن زبان" الطائي، المعروف بالأعرج. وهو القائل:
1 الإصابة "3/ 100 وما بعدها"، "رقم 6392".
2 ثمار القلوب "219".
تركت الشعر واستبدلت منه
…
إذا داعي صلاة الصبح قاما
كتاب الله ليس له شريك
…
وودعت المدامة والندامى
ومن الشعراء المعمرين: "أبو الطمحان" القيني، واسمه حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين. زعم أنه عاش مائتي سنة، فقال في ذلك:
حنتني حانيات الدهر حتى
…
كأني خاتل أدنو لصيد
قصير الخطو يحسب من رآني
…
ولست مقيدا أني بقيد
تقارب خطو رجلك يا سويد
…
وقيدك الزمان بشر قيد2
ونسب إليه قوله:
إن الزمان ولا تفنى عجائبه
…
فيه تقطع آلاف وأقران
أمست بنو القين أفراقا موزعة
…
كأنهم من بقايا حي لقمان3
وقد اختلف فيه، فزعم بعض أنه جاهلي لم يدرك الإسلام، وزعم بعض آخر أنه أدركه. وأنه قال شعرا يتبرأ فيه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والسرقة، وكان نديما للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ونسب له قوله:
وإني من القوم الذين هُمُ هُمُ
…
إذا مات منهم ميت قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب
…
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
…
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه4
1 الإصابة "3/ 104 وما بعدها"، "رقم 6417"، المرزباني، معجم "251"، البيان والتبيين "1/ 246".
2 أمالي المرتضى "1/ 257".
3 البيان والتبيين "1/ 187"، "3/ 235".
4 أمالي المرتضى "1/ 257"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الخزانة "3/ 426"، المعمرون "57"، المؤتلف "149".
ومن المعمرين الشعراء: "الربيع بن ضبع" الفزازي، زعم أنه أدرك أيام "عبد الملك بن مروان" وأنه دخل عليه فقال له: "يا ربيع، أخبرني عما أدركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب الماضية، قال: أنا الذي أقول:
هأنذا آمل الخلود وقد
…
أدرك عقلي ومولدي حجرا
فقال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي، قال: وأنا القائل:
إذا عاش الفتي مائتين عاما
…
فقد ذهب اللذاذة والفتاء
قال: قد رويت هذا من شعرك، وأنا غلام، وأبيك يا ربيع، لقد طلبك جد غير عاثر، ففصل لي عمرك، قال: عشت مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام، وعشرين ومائة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام". وأخذ عبد الملك يسأله، وهو يجيب. وقد علق "المرتضى" على هذا الخبر بقوله: "إن كان هذا الخبر صحيحا فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له إنما كان في أيام معاوية، لا في أيام ولايته، لأن الربيع يقول في الخبر: عشت في الإسلام ستين سنة. وعبد الملك ولي في سنة خمس وستين من الهجرة، فإن كان صحيحا فلا بد مما ذكرنا، فقد روي أن الربيع أدرك أيام معاوية"1.
وزعم أنه قال شعرا لما بلغ مائتي سنة، وشعرا آخر لما بلغ مائتين وأربعين2. وهو مثل شعر المعمرين في العمر وفي ذهاب الشباب، وتقدم السن، وفي عدم تحمل السنين والشيخوخة، وغير ذلك من الأعراض التي تلازم الشيوخ.
ومن شعراء بني تميم: "حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة" الغداني من "بني يربوع"، كان من فرسان "بني تميم" ووجوهها وساداتها، وكان يعارض الشعراء نظراءه في الشعر، ولم يكن معدودا في فحول الشعراء3.
1 أمالي المرتضى "1/ 253 وما بعدها"، الخزانة "3/ 306".
2 أمالي المرتضى "1/ 254 وما بعدها"، المعمرون "6 وما بعدها"، ذيل الأمالي "214"، الخزانة "3/ 306"، شرح أدب الكاتب، للجواليقي "266".
3 أمالي المرتضى "1/ 380 وما بعدها"، الأغاني "21/ 13 وما بعدها"، الإصابة "1/ 370"، "رقم 1973".
وقد نسبوا له قوله:
لعمرك ما أبقى لي الدهر من أخ
…
حفي ولا ذي خلة لي أواصله
ولا من خليل ليس فيه غوائل
…
فشر الأخلاء الكثير غوائله
وقل لفؤاد إن نزا بك نزوة
…
من الروع أفرخ أكثر الروع باطله
وروى الشريف "المرتضى" أشعارا أخرى، أكثرها في المنايا، وفي الصدق والإخلاص، والنصح، وتجنب أمكنة السوء، وفي تجاوز الأقرباء على حقوق القريب وفي الوقوع في الفقر حيث يقول:
وإذا افتقرت فلا تكن متخشعا
…
ترجو الفواضل عند غير المفضل
واستغن ما أغناك ربك بالغنى
…
وإذا تكون خصاصة فتجمل1
وقد كان في أيام "زياد بن أبيه"، وكان مستهترا بالشراب2. وله شعر عاتب به "عبيد الله بن زياد" لما تغير عليه بعد اختصاصه بأبيه3.
ومما استحسن من شعره قوله:
يا كعب ما راح من قوم ولا ابتكروا
…
إلا وللموت في آثارهم حادي
يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت
…
إلا تقرب آجالا لميعاد4
وكانت لخفاف بن نضلة بن عمرو بن بهدلة الثقفي، وفادة على النبي، وفد عليه فقال:
إني أتاني في المنام مخبر
…
من جن وجرة في الأمور موات
يدعو إليك لياليلا ولياليا
…
ثم احزأل وقال لست بآت
فركبت ناجية أضر بمتنها
…
جمر تحت به على الأكمات
حتى وردت إلى المدينة جاهدا
…
كيما أراك فتفرج الكربات
1 أمالي المرتضى "1/ 383".
2 أمالي المرتضى "1/ 384".
3 أمالي المرتضى "1/ 386".
4 أمالي المرتضى "1/ 228".
ويروى أن النبي استحسنها، وقال: إن من البيان لسحرا وإن من الشعر كالحكم1.
و"بشر بن قطبة بن سنان" الفقعسي، من الشعراء الفرسان، شهد اليمامة مع "خالد بن الوليد"، وقال في ذلك:
أروح وأغدو في كتيبة خالد
…
على شطبة قد ضمها الغزو خيفق
ومنها:
إذا قال سيف الله كروا عليهم
…
كررنا ولم نجعل وصاة المعوق
أقول لنفسي بعدما رقّ بالها
…
رويدك لما تشققي حين تشفقي
وكوني مع الراعي وصاة محمد
…
وإن كذبت نفسي المنافق فاصدق2
ومن شعراء "بني أشجع": "بقيلة" الأشجعي، وكان سيدا كبيرا شاعرا.
ومن شعره:
إلبس قريبك إن أطماره خلقت
…
ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا
فإن أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
…
على المجالس إن كيسا وإن حمقا3
وكان "امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية الأكرمين" الكندي، من الشعراء، وكان ممن حضر حصار حصن "النجير"، فلما أخرج المرتدون ليقتلوا، وثب على عمه ليقتله، فقال له عمه: ويحك أتقتلني وأنا عمك؟ قال: أنت عمي والله ربي، فقتله. وكان ممن ثبت على الإسلام، وأنكر على الأشعث ارتداده. وقد كتب إلى "أبي بكر" في الردة:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا
…
وبلغها جميع المسلمينا
فليس مجاورا بيتي بيوتا
…
بما قال النبي مكذبينا4
1 الإصابة "1/ 448"، "رقم 2274".
2 الإصابة "1/ 176"، "رقم 775".
3 الإصابة "1/ 166"، "رقم 721".
4 الإصابة "1/ 77 وما بعدها"، "رقم 250"، أسد الغابة "1/ 115"، الاستيعاب "1/ 94 وما بعدها". "حاشية على الإصابة".
ومن شعره:
قف بالديار وقوف حابس
…
وتأن إنك غير آيس
ماذا عليك من الوقو
…
ف بهامد الطللين دارس
لعبت بهن العاصفا
…
ت الرائحات من الروامس
وقد أخذه الكميت كله غير القافية فقال:
قف بالديار وقوف زائر
…
وتأيَّ إنك غير صاغر1
ومن الشعر المنسوب إليه، المعروف بخفة رويّه، قوله:
يا تملك يا تملي
…
صليني وذري عذلي
ذريني وسلاحي ثم
…
شدي الكف بالغزل
ونبلي وفقاها
…
كعراقيب قطا طحل
ومني نظرة بعدي
…
ومني نظرة قبلي
وثوباي جديدان
…
وأرخي شرك النعل
وإما مت يا تملي
…
فكوني حرة مثلي
وتروى هذه الأبيات للفند الزماني2.
وشداد بن عارض الجشمي من الشعراء المشهورين، ذكره "ابن إسحاق" في المغازي، ولما سار رسول الله إلى الطائف، قال في ذلك:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها
…
وكيف ينصر من هو ليس ينتصر
إن الرسول متى ينزل بلادكم
…
يظعن وليس به من أهلها بشر3
و"هوذة بن الحرث بن عجرة بن عبد الله بن يقظة" السلمي المعروف بـ "ابن الحمامة"، وهي أمه، من الشعراء المخضرمين، قال لعمر بن الخطاب لما قدّم أناسا عليه في العطاء:
1 الشعر والشعراء "2/ 486"، تهذيب ابن عساكر "3/ 113".
2 الشعر والشعراء "1/ 29"، السمط "504".
3 الإصابة "2/ 139"، "رقم 3852".
لقد دار هذا الأمر في غير أهله
…
فأبصر أمين الله كيف تريد
أيدعى خثيم والشريد أمامنا
…
ويدعى رباح قبلنا وطرود
فإن كان هذا في الكتاب فهم إذا
…
ملوك بني حر ونحن عبيد
ولمالك بن عامر بن هانئ بن خفاف الأشعري، قصيدة طويلة يشرح فيها أحواله، مذ كان في الجاهلية إلى دخوله في الإسلام، ومجيئه النبي، ثم اشتراكه في الفتوح والقادسية، ثم مساهمته في حرب صفين مع "علي". وقد ختمها بقوله:
كأن الفتى لم يعش ليلة
…
إذا صار رمساعلى صور
وطول بقاء الفتى فتنة
…
فأطول لعمرك أو أقصر
وقيل إنه أول من عبر دجلة يوم المدائن، وله في ذلك قصيدة رجز2.
ولقصيدة "مالك" الطويلة أهمية خاصة بالنسبة لدارسي الأدب العربي، لأنها تتناول ترجمة حياة الشاعر، وتسجل سيرته بشعر، وهو نموذج لم يتطرق إليه شعراء العربية بكثرة.
و"مالك بن عمير" السلمي من الشعراء المعروفين، ذكر أنه جاء إلى النبي فقال:"يا رسول الله إني امرؤ شاعر، فافتني في الشعر؟ " فقال: "لأن يمتلئ ما بين لبتك إلى عاتقك قيحا خير لك من أن تمتلئ شعرا" ويذكر الخبر أنه قال للرسول: "فامسح عني الخطيئة"، فمسح الرسول يده على رأسه ثم أمرها على كبده ثم على بطنه، وترك بعد ذلك الشعر3.
ومن المخضرمين "شبيل بن ورقاء""شبيل بن وفاء" من زيد بن كليب بن يربوع، وكان شاعرا مذكورا جاهليا، فأدرك الإسلام وأسلم إسلام سوء.
وكان لا يصوم رمضان، فقالت له بنته: ألا تصوم؟ فقال:
تأمرني بالصوم لا در درها
…
وفي القبر صوم يا تبال طويل4
1 الإصابة "3/ 585"، "رقم 9095".
2 الإصابة "3/ 326"، "رقم 7642".
3 الإصابة "3/ 331"، "رقم 7672".
4 "لا أباك"، الشعر والشعراء "1/ 633"، الاشتقاق "142".
و "أنس بن مدرك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف" الخثعمي ثم الأكلبي، والمعروف بـ "أبي سفيان" هو من الشعراء الجاهليين الذين أدركوا الإسلام. وكان شاعرا وقد رأس؛ إذ كان سيد خثعم في الجاهلية، كما كان فارسها. وذكر أنه قتل "السليك بن سلكة" الشاعر المعروف، وكان قد اعتدى على امرأة من خثعم، فلحقه وقتله، فطالب "عبد ملك بن مويلك" الخثعمي بدية "السليك"، وكان "السليك" يعطيه إتاوة من غنيمته على الحيرة، فأبى "أنس" أن يديه لفجورة، كما كانت له أخبار مع "دريد بن الصمة" في الجاهلية. وقد عاش طويلا فزعموا أنه عاش مائة وأربعا وخمسين سنة1.
وكان "سواد بن قارب" الدوسي من الشعراء، وكان يتكهن في الجاهلية ثم أسلم. ورووا له أبياتا فيها إشارة إلى "الرئي" والجن2.
1 الإصابة "1/ 85"، "رقم 280".
2 الاستيعاب "2/ 122 ما بعدها"، "حاشية على الإصابة".