الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع والستون بعد المائة: شعراء ثقيف
وثقيف من القبائل التي لم تنجب عددا يذكر من الشعراء. وشاعرهم الوحيد الذي نال شهرة، وظهر أمره هو "أمية بن أبي الصلت" الثقفي. وقد علل "ابن سلام" قلة الشعر بالطائف بقوله:"وبالطائف شعراء، وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"1.
وقد عرفت ثقيف بفصاحة لسانها، وبمقدرتها في الكتابة، ولهذا ورد ذكرها في حادث تدوين القرآن.
ومن شعراء ثقيف "أبو الصلت بن أبي ربيعة"، وهو والد "أمية بن أبي الصلت"، وغيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد يا ليل2، وأبو محجن الثقفي. وكانت زوجة "أبي الصلت":"رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف"، فهي من قريش. وهي والدة "أمية"3.
ونسبت إلى "أبي الصلت" قصيدة زعم أنه مدح فيها أهل فارس حين
1 ابن سلام، طبقات "65 وما بعدها".
2 ابن سلام، طبقات "66".
3 الشعر والشعراء "1/ 396".
قتلوا الحبشة، ومدح "سيف بن ذي يزن"، وهنأه فيها لتوليه الملك1، وقد أشار فيه إلى قصة "سيف"، وكيف ذهب إلى "هرقل" يستنجده على الحبشة، فلم يجد عنده ما طلب، ثم كيف ذهب إلى "كسرى"، وبقي عند بابه تسع سنوات حتى أمده بالجنود وعلي رأسهم باذان ووهرز، إلى أخر القصة التي ترد في كتب الأخبار والتواريخ. وقد نسبها بعض الرواة إلى ابنه "أمية".
وأمية بن أبي الصلت من الشعراء الذين رغبوا عن عبادة الأوثان وآمنوا بالله والبعث، ووقف على كتب أهل الكتاب فتأثر بها، وكان يجالسهم ويختلط بهم. وكان أبوه شاعرا، وروى رواة الشعر شيئا من شعره، وكان ابنه "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شاعرا كذلك وله صحبة. وذكر أن العرب اتفقت على أن "أمية" كان أشعر ثقيف2.
ذكر أنه كان في الجاهلية نظر الكتب وقرأها ولبس المسوح وتعبد أولا بذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وتجنب الأوثان. ولما ظهر الإسلام حسد النبي، فلم يسلم، لأنه كان طمع في النبوة، أو أنه أراد أن يسلم، فلما سمع بقتلى بدر، توقف ورثى قتلى المشركين، وذهب إلى الطائف فمات بها. وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل إنه توفي سنة تسع من الهجرة، وقيل قبل ذلك. وورد في رواية أنه مات في الجاهلية ولم يدركه الإسلام. وقد صدقه النبي في بعض شعره، وقال: قد كاد أمية أن يسلم3. وقد كان يكنى بـ "أبي عثمان" وبـ "أبي القاسم"4.
وورد في بعض الروايات أن في حقه نزلت الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} 5. ويرجع سند القائلين بذلك إلى "عبد الله بن عمرو" وإلى "ابن الكلبي"6.
1 ابن سلام، طبقات "66"، ابن قتيبة، الشعر "1/ 371".
2 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552"، الأغاني "3/ 179 وما بعدها"، "16/ 69"، خزانة "1/ 118"، بروكلمان "1/ 13 وما بعدها".
3 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552"، الخزانة "1/ 119 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "84، 384".
4 كنى الشعراء ومن غلبت كنيته عليه "289"، "نوادر الخطوط".
5 سورة "الأعراف"، الآية "175".
6 تفسير الطبري "9/ 82"، تفسير الآلوسي "9/ 98".
وروي أن النبي سأل "الرشيد بن سويد" أن ينشده من شعر أمية، فأنشده إياه، فقال:"كاد ليسلم". وأن النبي أنشد قول أمية:
رجل وثور تحت رجل يمينه
…
والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال: "صدق، وهذه صفة حملة العرش". وذكر أن معظم شعر أمية كان في الآخرة، كما كان معظم شعر عنترة بذكر الحرب1.
وقد دون "ابن هشام" قصيدة "أمية" التي نظمها يرثي من أصيب من قريش يوم بدر، ومطلعها:
ماذا ببدر بالعقنـ
…
ـقل من مرازبة جحاجح
ألا بكيت على الكرا
…
م بني الكرام أولي المدائح
كبكا الحمام على فرو
…
ع الأيك في الغصن الجوانح2
وذكر أن النبي نهى عن روايتها لما ورد فيها من رثاء قتلى بدر3، ولكني أشك في صحة صدور هذا النهي من الرسول، إذ لو كان الرسول قد نهى عن إنشادها، فكيف دونها "ابن هشام" وغيره، ولا تزال مدونة، وقد قال "ابن هشام" إنه دون القصيدة إلا بيتين نال فيهما من أصحاب الرسول4.
ودون "ابن هشام" قصيدة أخرى لأمية قالها يرثي ويبكي "زمعة بن الأسود" وقتلى "بني أسد"5 من أبياتها:
عين بكى بالمسبلات أبا العا
…
ص ولا تذكري على زمعه
لبني مسلم لهم خرت الجو
…
زاء لا خاتة ولا خدعه
وهم الهامة الوسيطة من كعـ
…
ـب ومن هم كذروة القمعه
1 الخزانة "1/ 120 وما بعدها".
2 ابن هشام، سيرة "2/ 114"، "حاشية على الروض الأنف"، البيان والتبيين "1/ 291".
3 الحيوان، للجاحظ "1/ 291""عبد السلام محمد هارون"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 113".
4 ابن هشام، سيرة "2/ 114".
5 ابن هشام، سيرة "2/ 114"، "حاشية على الروض الأنف".
أنبتوامن معاشر شعر الرأ
…
س وقد بلغوهم المنعه
وهم المطعمون إن قحط القطـ
…
ـر وأصحت فلا ترى قزعه
أمسى بنو عمهم إذا جلس النا
…
دي عليهم أكبادهم وجعه1
ومن شعره الذي قاله في التحريض على رسول الله قوله:
لله در بني علي
…
أيِّم منهم وناكح
إن لم يغيرواغارة
…
شعواء تحجر كل نابح
بزهاء ألف أو بألـ
…
ـف بين ذي بدن ورامح
وروي أنه كان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب3. وكان يسمي السماء في شعره:"صاقورة" و "حاقورة"، و "برقع". ويقول في الله عز وجل:
هو السليط فوق الأرض مقتدر
ويقول: وأبديت الثغرورا، ويريد الثغر4.
وفي شعر "أمية" إشارة إلى قصة أصحاب الفيل، إذ قال:
إن آيات ربنا بينات
…
لا يماري بهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى
…
ظل يمشي كأنه معقور5
كل دين يوم القيامة عند الله
…
إلا دين الحنيفة زور6
ونسبت إلى "أمية" قصيدة طويلة عدتها تسعة وسبعون بيتا، ذكر فيها شيئا من قصص الأنبياء: داود، وسليمان، ونوح، وموسى، وذكر قصة إبراهيم
1 نسب قريش "206".
2 نسب قريش "10 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "1/ 369"، "دار الثقافة".
4 الشعر والشعراء "1/ 371".
5 الجمان في تشبيهات القرآن، لابن ناقياالبغدادي. "384".
6 رسالة الغفران "542".
وإسحاق، وزعم أنه هو الذبيح، وقد وردت في ديوانه الذي جمعه "محمد بن حبيب"، وفي أبياتها بيت هو:
ربما تكره النفوس من الأمـ
…
ـر له فرجة كحل العقال1
وقد وجد هذا البيت في قصيدة رواها "الأصمعي" لأبي قيس اليهودي، وقيل هي لابن صرمة الأنصاري مطلعها:
سبحوا للمليك كل صباح
…
طلعت شمسه وكل هلال
ووجد أيضافي أبيات لحنيف بن عمير اليشكري، قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة في أبيات هي:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال
…
طال ليلي بفتنة الرحال
إنها يا سعاد من حدث الدهر
…
عليكم كفتنة الدجال
إن دين الرسول ديني وفي القو
…
م رجال على الهدى أمثالي
أهلك القوم محكم بن طفيل
…
ورجال ليسوا لنا برجال
ربما يجزع النفوس من الأمر
…
له فرجة كحل العقال2
وقد تحدث "أمية" في قصيدته اللامية عن الخلق وعن كيفية تكون الأرض وظهور الأنهار والعيون، ثم عن الموت والبعث والنشر، وهي قصيدة أرى أنها منحولة، وهي لا يمكن أن تكون من شعر تلك الأيام، وقد نحلت على لسان "أمية" وأظن أن ذلك في أيام الحجاج، الذي كان يتعصب له لكونه شاعر ثقيف، وهو منها3.
ومما نسب إلى أمية هذا الشعر:
والأرض معقلنا وكانت أمنا
…
فيها مقامتنا وفيها نولد
1 ربما تكره النفوس من الشر له فرجة كحل العقال.
2 الخزانة "2/ 543 وما بعدها"، "بولاق".
ربما تكره النفوس من الأمـ
…
ـر له فرجة كحل العقال
أمالي المرتضى "1/ 486".
3 راجع ديوان أمية طبعة "شولتس" SHULTHES""، وطبعة بشير يموت.
وبها تلاميذ على قذفاتها
…
حبسوا قياما فالفرائص ترعد
وهذا الشعر:
صاغ السماء فلم يخفض مواضعها
…
لم ينتقص علمه جهل ولا هرم
لا كشفت مرة عنا ولا بليت
…
فيها تلاميذ في أقفائهم دغم
وهذا البيت، الذي هو من الشعر الأول:
فمضى وأصعد واستبد إقامة
…
بأولى قوى فمبتل ومتلمد1
وروى أهل الأخبار قصصا عنه، وهو من نوع القصص الذي يروى وقوعه للأنبياء، مثل تكليم الجن له، ووقوع طير على صدره، وشقه له، لتنظيف قلبه، في قصة أخذت من خبر غسل قلب الرسول ولا شك. ثم حكاية شعوره بدنو أجله، ووفاته2. وقد حاول وضاع هذا القصص تبجيل "أمية" وإعطائه قدسية خاصة وإظهاره بمظهر الصالحين حتى كاد الوحي ينزل عليه لولا ظهور الرسول. وقد حاول بعض أهل الأخبار تخفيف أثر ما روي عن معارضة "أمية" للإسلام، ومنهم من أماته قبل الإسلام، وبذلك خلصه من تهمة اشتراكه مع المشركين في محاربة الإسلام. وهي روايات يظهر أنها ظهرت في أيام الحجاج، وبتأثير منه.
وأكثر ما نسب إليه من شعره محمول عليه، ونجد في كتاب "البدء والتأريخ" لمطهر بن طاهر المقدسي شعرا فيه عبارات وألفاظ قرآنية، لا شك في أنها مصنوعة، وقد حملت عليه. وقد ذهب "كليمان هوار" إلى أن شعره كان من مصادر القرآن، ومعنى هذا أنه شعر صحيح قاله "أمية" قبل الإسلام، فتعلمه الرسول منه، ونزل به الوحي. وقد عارضه "بروكلمان" وآخرون من طائفة المستشرقين، وهم يرون أن هذاالشعر قد صنع ونسب إليه في عهد مبكر، ربما كان في القرن
1 رسالة التلميذ، لعبد القادر بن عمر البغدادي "222 وما بعدها"، من "نوادر المخطوطات"، "تحقيق عبد السلام هارون"، "المجموعة الثانية، القاهرة 1951م".
2 الإصابة "1/ 135".
الأول للهجرة، وقد أدخل فيه قصص أخذ من القرآن1.
وتعد قصيدة "أمية" التي مطلعها:
عرفت الدار قد أقوت سنينا
…
لزينب إذ تحل بها قطينا
في المجمهرات.
ونسب لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، والد أمية قوله:
لن يطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن
…
لجج في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته
…
فلم يجد عنده القول الذي قالا
ثم انتحي نحو كسرى بعد تاسعة
…
من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحمله
…
أنك عمري لقد أسرع قلقالا
من مثل كسرى وباذان الجنود له
…
ومثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
لله درهم من عصبة خرجوا
…
ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
غلبا جحاجحة بيضا مراجحة
…
أسدا تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن عتل كأنها غبط
…
بزمخر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
…
أضحي شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا
…
في رأس غمدان دارا منك محلالا
ثم أطل المسك إذ شالت نعامتهم
…
وأسبل اليوم من بُرديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادوا بعد أبوالا2
وهي قصيدة زعم أنه قالها في "سيف بن ذي يزن"، وزعم أنها لابنه "أمية بن أبي الصلت". وقد رواها "الطبري" في تأريخه، على هذه الصورة:
1 CI HUART، IN JA.، SER.، X، I، IV، "1904"، P.125، TOR ANDRAE، DER URSPRUNG D. ISLAM UND D. CHRISTENTUM، STOCKHOLM، "1926"، S. 48
بروكلمان. تأريخ الأدب العربي "1/ 113".
2 الشعر والشعراء "1/ 371 وما بعدها"، التيجان "305"، الأغاني "16/ 73"، الروض الأنف "1/ 52"، ابن سلام، طبقات "218"، البحتري، حماسة "16".
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن
…
ريَّم في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامتهم
…
فلم يجد عندهم بعض الذي قالا
ثم انتحي نحو كسرى بعد سابعة
…
من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم
…
إنك لعمري لقد أطولت قلقالا
من مثل كسرى شهنشاه الملوك له
…
أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
لله درهم من عصبة خرجوا
…
ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
غر جحاجحة بيض مرازبه
…
أسد تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غبط
…
في زمخر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
…
ضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج متكئا
…
في رأس غمدان دارا منك محلالا
وأطل بالمسك إذ شالت نعامتهم
…
وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا1
وقد نسبها لوالد أمية.
وقد ذكر "ابن هشام"، أن "ابن إسحاق" نسب هذه القصيدة لأبي الصلت بن أبي ربيعة، ويروي أنها لامية. وقد رواها على هذا النحو:
ليطلب الوتر أمثال بن ذي يزن
…
ريم في البحر للأعداء أحوالا
يمم قيصر لما حان رحلته
…
فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة
…
من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم
…
إنك عمري لقد أسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا
…
ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة
…
أسدا تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غبط
…
بزمجر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
…
أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هينئا عليك التاج مرتفقا
…
في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم
…
وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
1 الطبري "2/ 147 وما بعدها".
وقد ذكر "ابن هشام" أن "هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتا: تلك المكارم لا قعبان من لبن. فإنه للنابغة الجعدي"1.
وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا، ولا له إلمام بأمور التأريخ، فالقصيدة التي مطلعها:
لك الحمد والمن رب العبا
…
د أنت المليك وأنت الحكم
هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا:
محمد أرسله بالهدى
…
فعاش غنيا ولم يهتضم
ثم خذ الأبيات التالية له وفيها:
عطاء من الله أعطيته
…
وخص به الله أهل الحرم
وقد علموا أنه خيرهم
…
وفي بيتهم ذي الندى والكرم
يعيبون ما قال لما دعا
…
وقد فرج الله إحدى البهم
به وهو يعدو بصدق الحديـ
…
ـث إلى الله من قبل زيغ القدم
أطيعوا الرسول عباد الإلـ
…
ـه تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب
…
ومن حر نار على من ظلم
دعاني النبي به خاتم
…
فمن لم يجبه أسر الندم
نبي هدى صادق طيب
…
رحيم رءوف بوصل الرحم
به ختم الله من قبله
…
ومن بعده من نبي ختم
يموت كما مات من قد قضى
…
يرد إلى الله باري النسم
مع الأنبياء في جنان الخلود
…
هم أهلها غير حل القسم
وقدس فينا بحب الصلاة
…
جميعا وعلّم خط القلم
كتابا من الله نقرأ به
…
فمن يعتريه فقدما أنم2
1 ابن هشام "1/ 52 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "1/ 371".
2 ديوان أمية، قصيدة رقم 23 في طبعة "فردرش شولثيس"، "ص23 وما بعدها"، و"ص55 وما بعدها" من "طبعة بشير يموت"، الخزانة "1/ 122"، "بولاق".
اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان شاعرا مغاضبا للرسول، وأنه مات كافرا، وأن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر، وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا، فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ ومبشر يخطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه:"آمن شعره وكفر قلبه"، أو "آمن لسانه وكفر قلبه"، ولم يقصد الرسول إيمان أمية بالله وبرسوله، وإنما إيمان لسانه وشعره بالله، وكفره برسوله، إذ لم يؤمن به، فمات على كفره وعنده وبغضه للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، ويريد تثبيت الناس على الإيمان به بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فظهر من تزلزل إيمانه بسبب وفاته، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، أي قبل وفاة الرسول، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها1؟
أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيدٍ لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلواعلى مقاتل النظم.
وروي أن بعض الرواة نسبوا إلى أمية بيتا في قصيدة هو:
الحمد لله لا شريك له
…
من لم يقلها فنفسه ظلما
وفي القصيدة ضروب من التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار غير أن العارفين بالشعر ينكرون أن تكون لأمية، وإنما نسبوها إلى النابغة الجعدي، وذكروا أن هذا البيت هو من شعر النابغة الذي كان يتأله في الجاهلية وأنكر الخمر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم2.
ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت:
1 "وكانت وفاة أمية بن أبي الصلت قبل ذلك بيقين سنة تسع من الهجرة"، الإصابة "1/ 493"، "رقم 2590".
2 ابن سلام "106"، الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641".
جهنم لا تبقي بغيا
…
وعدن لا يطالعها رجيم
ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في عبارات هذه الأبيات:
فذا عسل وذا لبن وخمر
…
وقمح في منابته صريم
ونخل ساقط الأكتاف عد
…
خلال أصوله رطب قميم
وتفاح ورمان وموز
…
وماء بارد عذب سليم
وفيها لحم ساهرة وبحر
…
وما فاهوا به لهم مقيم
وحور لا يرين الشمس فيها
…
على صور الدُّمى فيها سهوم
نواعم في الأرائك قاصرات
…
فهن عقائل وهم قروم
على سرر ترى متقابلات
…
ألا ثم النضارة والنعيم
عليهم سندس وجياد ريط
…
وديباج يرى فيها قتوم
وحلوا من أساور من لجين
…
ومن ذهب وعسجد كريم
ولا لغو ولا تأثيم فيها
…
ولا غول ولا فيها مليم
وكأس لا تصدع شاربيها
…
يلذ بحسن رؤيتها النديم
تصفق في صحاف من لجين
…
ومن ذهب مباركة رذوم1
ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام. وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن.
ومن الغريب أن بعض الباحثين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم
1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف، كتاب البدء والتأريخ "1/ 202 وما بعدها"، ثم ديوانه.
من نظر في الكتب وكان مُقرًّا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية، مع أنها من الشعر المزيف المصنوع!
ثم خذ قصيدته في "عيسى بن مريم" وحمل أمه به1، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ومن الممكن إدراك هذا المصنوع المزيف بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.
ولأمية شعر في الموت، حيث يقول:
من لم يمت عبطة يمت هرما
…
وللموت كأس والمرء ذائقها2
ويروى له قوله في الله:
وأشهد أن الله لا شيء فوقه
…
عليًّا وأمسى ذكره متعاليا3
وزعم أن أمية، قال عند موته:
إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأي عبد لك إلا ألما
وقد تمثل به النبي وصار من جملة الأحاديث. قالوا في ذلك: يجوز إنشاد الشعر للنبي، وإنما المحرم إنشاؤه. وقد زعم أن البيت لأبي خراش الهذلي، وذكر أنه لا يعرف قائله ولا بقيته، وقد أخذه أبو خراش وضمه إلى بيت آخر، وكان يقولهما، وهو يسعى بين الصفا والمروة4.
ومن شعر أمية قوله:
زعم ابن جدعان بن
…
عمرو أنني يوما مدابر
ومسافر سفرا بعيدا
…
لايئوب له مسافر5
1 ديوان أمية "58"، "بشير يموت".
2 أمالي المرتضى "1/ 533".
3 أمالي المرتضى "2/ 196".
4 الخزانة "2/ 295"، "هارون".
5 اللسان "4/ 275"، "دبر".
ومن ولد "أمية بن أبي الصلت": عمرو، وربيعة، ووهب، والقاسم. وكان ربيعة والقاسم شاعرين1. وذكر أنه نظم شعرا رد به على أبيه في انتسابه، منها:
وإنا معشر من جذم قيس
…
فنسبتنا ونسبتهم سواء2
وهو القائل:
وإن يك حيا من إياد فإننا
…
وقيسا سواء ما بقينا وما بقوا
ونحن خيار الناس طرا بطانة
…
لقيس وهم خير لنا إن هم بقوا3
ولا نعرف من أمر "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شيئا يذكر. وقد أورد له "المرزباني" شعرا في مدح "بني دهمان"4. وذكر أنه رثى "عثمان بن عفان" في قصيدة منها:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به
…
خلاف رسول الله يوم الأضاحي
فطيبوا نفوسا بالقصاص فإنه
…
سيسعى به الرحمن سعي نجاح5
وأورد له "ابن قتيبة" أربعة أبيات مطلعها:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم
…
تركوه رب صواهل وقيان6
ورويت له مرثية في عثمان بن عفان منها:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به
…
خلاف رسول الله يوم الأضاحي
فطيبوا نفوسا بالقصاص فإنه
…
سيسعى به الرحمن سعي نجاح7
1 رسائل الجاحظ "1/ 258".
2 الإصابة "1/ 493"، "رقم 2590".
3 رسائل الجاحظ "1/ 258"، الأغاني "3/ 179 وما بعدها"، "ربيعة بن أبي الصلت، صاحب ربيعتان نهر بقرب الأبلة، ومن ولده: كلدة بن ربيعة، كان من رجال أهل البصرة"، الاشتقاق "1/ 185".
4 الشعر والشعراء "1/ 372"، "دار الثقافة"، المرزباني، معجم "213"، الأغاني "3/ 179"، الحيوان، للجاحظ "1/ 64".
5 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052".
6 الشعر والشعراء "1/ 372".
7 الإصابة "3/ 213"، "7052".
وله موعظة في أسلوب يشبه أسلوب الأعشى بن ربيعة، نشرها "كاير" في ديوان الأعشى1.
ومن شعراء ثقيف "عوف بن عامر بن حسان بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف" الكاهن، وكان جاهليا كاهنا شاعرا2، و "كنانة بن عبد يا ليل بن سالم بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف"، وكان يمدح النعمان بن المنذر3. و "كنانة بن عبد يا ليل بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غِيَرة بن عوف بن ثقيف"، وهو شاعر ذكره "ابن سلام"4.
ومسعود بن معتب بن مالك الثقفي من شعراء ثقيف، وهو جاهلي. وابنه عروة بن مسعود، الذي دعا قومه إلى الإسلام، فقتلوه. وكان "مسعود" غنيا، وكان يخشى عليها من أن تباع إلى قريش بعد وفاته، وكانت قريش تشتري الأرض والأموال بالطائف، فخشي أن يبيع ورثته ملكه لقريش5.
و"أبو محجن الثقفي" واسمه مالك، وقيل عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، وقيل اسمه كنيته، هو من الشعراء المطبوعين، وكان كريما منهمكا في الشراب لا يكاد يقلع عنه، أسلم مع ثقيف. جلده "عمر" مرات ثم نفاه إلى جزيرة، وبعث معه رجلا فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص، يوم القادسية فكتب عمر إلى "سعد" أن يحبسه فحبسه. فأرسل إلى امرأة سعد من يقول لها: أطلقيني ولك علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني. فأطلقته، فوثب على فرس لسعد، ثم أخذ رمحا ثم خرج يهاجم الفرس، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون هذا ملك، لما يرونه يصنع، فلما هزم الفرس، رجع فوضع رجله في القيد، وترك الخمر قائلا: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما الآن
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 114".
2 المرزباني، معجم "125".
3 المرزباني، معجم "246".
4 المرزباني، معجم "246".
5 المرزباني، معجم "283".
لا والله لا أشربها أبدا1
ومن شعره:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
…
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أباكرها عند الشروق وتارة
…
يعاجلني عند المساء غبوقها
وللكأس والصهباء حق معظم
…
فمن حقها أن لا تضاع حقوقها
وحدث من رأى قبر "أبي محجن" أنه نبتت عليه ثلاثة أصول كرم وقد طالت وأثمرت وهي معرشة على قبره. ولكنهم عندما تحدثوا عن موضع قبره، اختلفوا فيه، فقال بعض منهم إنه في نواحي أذربيجان، وقال قوم بجرجان2.
ويظهر أنهم اختلقوا قصة ظهور الكرم على قبره من الشعر المتقدم.
ذكر بعض الرواة أن "أبا محجن" هوي امرأة من الأنصار، يقال لها "شموس" فحاول النظر إليها، فلم يقدر، فآجر نفسه من بناء يبني بيتا بجانب منزلها فأشرف عليها من كوة فأنشد:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها
…
حرج من الرحمن غير قليل
فاستعدى زوجها عمر فنفاه، وبعث معه رجلا يقال له أبو جهراء، فلما رأى "أبو جهراء" من أبي محجن سيفا هرب منه إلى عمر، فكتب "عمر" إلى "سعد" يأمره بسجنه فسجنه3.
وذكر "بروكلمان" أن "أبا محجن" لم يزل يشرب الخمر حتى نفاه "عمر" إلى "باصع"، وهي مدينة "مصوع" على ساحل الحبشة. وتوفي بها بعد مدة.
1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 101 وما بعدها"، الأغاني "21/ 137"، الخزانة "3/ 550" ابن سلام، طبقات "225"، المؤتلف "95"، الإصابة "4/ 173""رقم 1017"، الشعر والشعراء "1/ 336 وما بعدها"، طبقات ابن سلام "68 وما بعدها".
2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 103"، "إلى أصل كرمة"، ديوانه "ص14"، "ليدن 1887"، "تحقيق ABEL"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "1/ 38"، "القاهرة 1324"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "109"، الاستيعاب "4/ 181 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 الإصابة "4/ 174"، "رقم 1017".
وجيزة1. وهو خبر غريب، يخالفه كل من تعرض لأمر هذا الشاعر. فقد ذكروا جميعا أنه ترك الخمر منذ يوم "القادسية" ولم يعد إليها، ولم يذكر أحد أنه عاد إليها، حتى نفترض أنه عاد بعد ذلك إلى المدينة وعاد إليها فنفاه، وقصة نفيه إلى جزيرة في البحر، ترد قبل ذهابه إلى العراق، بعد أن فر منه حارسه، وكان قد أحس أنه يريد قتله، فأمر "عمر" سعدا عندئذ بحبسه فحبس، ثم خرج فقاتل، فلما انتصر المسلمون، رجع إلى محبسه، ففك "سعد" قيوده وأطلقه.
وقد جمع شعر "أبي محجن" في ديوان طُبع، كما نجد له قطعا من أشعاره في مختلف كتب الأدب ومن تعرض لسيرته من رجال الأخبار2.
وكان "غيلان بن سلمة" من الأشراف، ذكر "الجمحي"، أنه كان قسم ماله كله بين ولده وطلق نساءه، فنهاه "عمر" عن ذلك، ففعل بما أمر به3.
1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 167".
2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 167 وما بعدها".
3 ابن سلام، طبقات "69".