المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع والستون بعد المائة: آراء الشعراء الجاهليين - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٨

[جواد علي]

الفصل: ‌الفصل السابع والستون بعد المائة: آراء الشعراء الجاهليين

‌الفصل السابع والستون بعد المائة: آراء الشعراء الجاهليين

والشعر الجاهلي مادة مهمة تعيننا في الوقوف على آراء الجاهليين، على الرغم من كون أكثره قد ورد في أمور لا صلة مباشرة لها بالرأي، أعني بالتفكير في خلق الكون وفي الإنسان نفسه، لم جاء ولم يموت، وما هي الغاية من ظهوره على هذه الأرض، وعن الخلق والخالق، من إثبات أو عدم، وعن النظم وأصول الحكم والمجتمع والمعرفة والثقافة وما شاكل ذلك من أمور لها صلة بالتأمل والتفلسف. ومع ذلك فإن في هذا الشعر المذكور، ما يكفي لاستنباط شيء منه عن الرأي عند الجاهليين.

لقد حمل خلو الشعر الجاهلي من العاطفة الدينية، بعض المستشرقين على الحكم بأن الجاهليين لم يكونوا يملكون حسًّا دينيا، وأن دينهم سنتهم، وسنتهم ما ألفوه عن آبائهم وأجدادهم وأعراف قبيلتهم، وهي أعراف ورثوها وحافظوا عليها، محافظتهم على حياتهم، وقاوموا كل من كان يخرج عليها أو يتطاول عليها. ونجد الشعراء يمجدونها ويذكرونها على حين لا نشعر بوجود حس ديني في شعرهم، اللهم إلا في شعر عدد قليل من الشعراء1.

والشعر الجاهلي خلو من الشعر الديني الذي يجب أن ينظم في المناسبات الدينية، مثل الحج. ولما كان الحج من المناسبات المؤثرة المثيرة، التي تجمع الناس،

1 Goldziher، History of Classical Arabic Literature، p. 25

ص: 385

فتثير في الشاعر شعورا بروعة المناسبة وبروعة الاجتماع، فلا بد وأن ينظم الشعراء شعرا فيه، لإنشاده على المتجمعين حول الصنم، غير أننا لا نملك أي شعر قيل فيه ولا في المناسبات الدينية المماثلة التي تدفع الإنسان إلى إظهار شعوره فيها. وهو أمر يلفت إليه النظر حقا، ويجعلنا نفكر في الأسباب التي أدت إلى عدم ظهور الروح الدينية في هذاالشعر، هل هي طبيعة العربي في عدم اهتمامه بأمور الدين أم هي بسبب كره الإسلام رواية وحفظ ذلك الشعر الوثني!

لقد نسب بعض المستشرقين خلو الشعر الجاهلي من الوثنية، إلى ترك المسلمين تعمدا رواية ذلك الشعر، بسبب دخولهم في الإسلام واجتثاث دين الله لمعالم الشرك فلم يجد المسلم أن من الهين عليه، حفظ شعر فيه تنويه بما أبطله وحرمه كتاب الله، فرموا منه ما كان ثقيل الوثنية، وهذبوا منه ما كان خفيف الوزن، بأن رفعوا أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله إن ناسب الاسم المعنى، أو شذبوا فيه وأضافوا شيئا عليه لإزالة معالم الوثنية منه. لأن من الصعب تصور إعراض الشاعر الجاهلي عن ذكر أصنامه في شعره، بينما هو يتوسل ويتقرب إليها، وينذر لها. فالوثني مهما كان رقيق الدين، بعيدا عن التفكير فيه، فإنه لا بد وأن يلجأ إليه ساعة الشدة وأيام المحن، حيث يبحث عمن يساعده للخروج من محنته، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، حين تتنزل به النوازل، فيلجأ حينئذ إلى إلهه أو آلهته وأصنامه وإلى القوى الطبيعية يستمد منها المساعدة والعون1.

وأنا لا أستبعد احتمال موت هذا النوع من الشعر الوثني بسبب الإسلام، فليس من المعقول إبقاء الإسلام له، وفيه ما فيه من أمر الأصنام والوثنية المناهضة لدين الله. وعندي أن الجاهلي، مهما قيل عنه من إعراضه عن الدين ومن عدم احتفاله به، ومن بعده عنه، إلا أنه كان مع ذلك شديد التمسك به في الأمور التي تمس حياته، مثل التوسل إلى الآلهة بأن تبارك في إبله، وأن تمنحه الغيث، وأن تشفيه من مرضه، إلى غير ذلك من أمور، ذات صلة بالمصالح الشخصية للإنسان.

ودليل ذلك، هو أن معظم ما نجده في نصوص المسند من كتابات، خلدت أسماء الأصنام، إنما دونت فيها الأسماء لمثل هذه الأمور فإذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع استثناء الشعر الجاهلي من ذكر الأصنام في أمثال هذه المناسبات

1 Goldziher، History of Classical Arabic Poerty، p. 25

ص: 386

على الأقل، فالشاعر مثل أي إنسان آخر، لا بد وأن يشعر في يوم ما بعجزه وبحاجته إلى مخاطبة أربابه وأن يتوسل إليها لتنفعه أو لتمن عليه بالصحة والعافية وبالمال، يتوسل إليها شعرا، فيمدحها ويشيد بذكرها، ويسترضيها، اقتداء بفعله مع الملوك وسادات القبائل، حيث يكيل المدح لهم شعرا لأنهم أحسنوا إليه.

وقد ورد اسم "الله" في الشعر وفي النثر الجاهليين، على نحو ما ذكرت في الجزء السادس من هذا الكتاب. لقد ذكرت هناك أن غالبية المستشرقين شكت في صحة ورود اسم الله في هذا الشعر، ورأت أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك أنهم حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم الله وهكذا1.

وذلك لاعتقادهم أن الوثنيين لم يكونوا يؤمنون بالله، فلا يعقل ورود اسمه في شعرهم. وهو رأي لا أقرهم عليه، لأن الجاهليين كانوا يؤمنون بالله، ولم يكونوا ينكرون وجوده أبدا، بدليل ما نجده في القرآن من تأكيد بأنهم كانوا يؤمنون به، وأنهم كانوا إذا سألهم سائل من خلق الكون ليقولون الله. وقد ذكرت في حينه كل الآيات الواردة في القرآن الكريم عن هذا الموضوع2. وبينت أن أهل مكة وغيرهم من العرب الشماليين، كانوا يؤمنون بإله واحد هو الله، ولم يكن بينهم وبين الإسلام خلاف فيه، وخلافهم معه هو في تقربهم إلى الأصنام والأوثان، لتشفع لهم، بزعمهم، إلى الله زلفى. مع أنها أجسام جامدة وأحجار لا حياة فيها، فمن هنا حمل الإسلام عليها، وأعتبرها شركا بالله، لأنهم بتقربهم إليها يكونون قد أشركوها مع الله في ألوهيته، وهذا هو الكفر والضلال في نظر الإسلام، ولذلك أمر بالابتعاد عنها وبنبذها وبنبذ كل ما يتصل بها من عبادة، كما أمر بطمس الصور، ومحوها لأنها من دلائل هذه الوثنية ومن معالمها.

وقريش نفسها لم تنكر على الرسول تعبده لله، ولم تمنعه من الصلاة في بيت الله، ومن ذكره وحمده له، لأنها لا تختلف معه في عبادته، وإنما اختلفت معه، فيما هو دون الله من أصنام وأوثان، وذلك حين عابها وسفَّه أحلامهم بتقربهم إليها وهي جامدة مخلوقة ومصنوعة، عندئذ هاجت وماجت واشتكت إلى أعمام رسول

1 "ص 102 وما بعدها".

2 "ص 103 وما بعدها".

ص: 387

الله وإلى ذوي رحمه، ومن هنا كان عناد قريش وكفرها وعدواتها للرسول. كما نص على ذلك صراحة في القرآن وفي كتب السير1. وأخذت تؤذيه وتؤذي المسلمين كلما ازداد هجوم الإسلام على الأصنام والأوثان.

ويشبه هذا النزاع ما وقع في النصرانية من هجوم على تقديس التماثيل والصور التي تمثل "الثالوث"، و "المسيح"، حيث اعتبرها البعض شركا، مما سبب وقوع شقاق في الكنيسة. فقد اعتبر بعض رجال الدين الـ "أيقونات" شركا، ولذلك حاربوا التماثيل والتصاوير. وقد كانت هذه المشكلة قد بدأت في الكنيسة نتيجة الصراع الذي وقع بين رجال الدين حول طبيعة المسيح.

ولو أخذنا بصدق ما نسب إلى الجاهليين من شعر ورد فيه اسم الله، وجب إدخال عدد من شعراء الجاهلية في المتألهين، القائلين بوجود إله، هو "الله". ففي شعر ينسب إلى "عروة بن الورد"، نجد اسم الله مذكورا فيه، إذ يقول:

فسر في بلاد الله والتمس الغنى

تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا2

ويجب عد "امرئ القيس" من المتألهين أيضا، فقد زعموا أن العرب كانت لا تعد الشاعر فحلا، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلما قال:

والله أنجح ما طلبت به

والبر خير حقيبة الرجل

عدوه فحلا3. وهكذا أدخلوه بهذه الحكمة في جملة الفحول.

وقد ورد اسم الله في معلقته، في البيت:

فقالت يمين الله مالك حيلة

وما إن أرى عنك الغواية تنجلي4

ونجده يحلف بالله، فيقول:"يمين الله"، و "حلفت لها بالله"، وتقول

1 ابن هشام، سيرة "1/ 170"، "حاشية على الروض".

2 ديوان عروة "191".

3 الشنقيطي، شرح المعلقات "61".

4 الشنقيطي، شرح المعلقات "82".

ص: 388

له صاحبته: "سباك الله"1، مما يدل على أنه كان مؤمنا معتقدا به. ونجده يذكر الله في أشعاره الأخرى2.

وزعم أهل الأخبار أن "الأفوه بن مالك" الأودي، كان من المتألهين كذلك، وأنه لما شعر بدنو أجله، أوصى قومه: مذحج، بتقوى الله، وصلة الأرحام، وحسن التعزي عن الدنيا بالصبر3.

وورد في معلقة "عبيد بن الأبرص" قوله:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب4

ويجب إدخال زهير في جملة المتألهين أيضا، فقد ذكر أنه كان يتأله ويتعفف في شعره ويؤمن بالبعث، ونسبوا له قوله:

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم5

وهو يقسم في معلقته بالبيت، فيقول:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم6

فهو مؤمن بالله العلام بما في نفوس الناس، فلا تخفى عليه خافية، ومهما حاول الإنسان كتمان سره في قرارة نفسه، فإن الله لايخفى عليه سره، ولا يفوته أبدا7.

وتنسب لزهير قصيدة مطلعها:

ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى

من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا

بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم

وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا

1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 341".

2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 375".

3 المزهر "1/ 164".

4 رسالة الغفران "186".

5 الشنقيطي، شرح المعلقات "28 وما بعدها، 116".

6 الشنقيطي، شرح المعلقات "114".

7 الخزانة "1/ 436 وما بعدها".

ص: 389

وهي قصيدة ذكر فيها أنه عاش أكثر من مائة سنة، ثم ذكر الله، وأنه حق، وأنه كان مؤمنا به، وأن أيامنا معدودات، ولا يدوم ويبقى إلا الله الذي أهلك تبعا ولقمان بن عاد وعاديا، وأهلك ذا القرنين، وفرعون، ثم ذكر النعمان، وكيف حكم، ثم جاء يوم غير كل شيء. وقد قال الأصمعي، إنها ليست لزهير، ويقال هي لصرمة الأنصاري، ولا تشبه كلام زهير1. وربما كانت من المصنوعات، صنعها من صنع من أمثالها من شعر الوعظ والإرشاد، فنسبه إلى الجاهليين.

ونجد "أبا طالب" يقسم بالله في شعره، فيقول في قصيدة له، يخاطب بهاالرسول، إنك جئت بدين سمح، هو من خير أديان البرية دينا، ولولا الملامة، أو حذار سبة، لوجدتني سمحا بذاك مبينا2.

وروي أن "لبيد بن ربيعة" الشاعر المخضرم، كان من المتألهين في الجاهلية وأنه نظم قوله:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

قبل الإسلام، أو عند ظهوره. وأن الرسول قال:"أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"3.

وروي أن له أبياتا تشير إلى التوحيد والصلاح، والخير، هي:

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

وقوله:

أحمد الله فلا ند له

بيديه الخير ما شاء فعل

وقوله:

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل4

1 الخزانة "3/ 588 وما بعدها"، "بولاق".

لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

السيوطي، شرح شواهد "2/ 686 وما بعدها".

3 الشنقيطي، شرح المعلقات "35، 38".

4 رسالة الغفران "267".

ص: 390

و "النابغة" الذبياني من المتألهين كذلك، فقد نسبوا له شعرا، ذكر أنه اعترف فيه بوجود الله، إذ قال:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب1

ونجده في معلقته يقول:

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند2

ونراه يذكر مكه في شعره:

والمؤمن العائذات الطير تمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسعد3

وورد اسم الله في قوله:

أبى الله إلا عدله ووفاءه

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

أي ما يريد الله إلا عدل النعمان بن المنذر، وإلا وفاءه، فلا يدعه أن يجور ولا أن يغدر، فلا النكر يعرفه النعمان، ولا الجميل يضيع عنده4. ومعنى هذا أن النابغة كان يرى أن الله هو الذي يقدر الأمور للناس، وأن الإنسان مسير بأمر الله.

و"الحارث بن حلزة" اليشكرى من هذا الفريق كذلك، لقوله:

فهداهم بالأسودين وأمر الله

بلغ تشقى به الأشقياء5

ولقوله:

وفعلنا بهم كما علم الله

وما إن للحائنين دماء6

1 الشنقيطي، شرح المعلقات "64".

2 الشنقيطي، شرح المعلقات "208".

3 كذلك "ص213".

4 الخزانة "2/ 486"، "هارون".

5 الشنقيطي، شرح المعلقات "177".

6 الشنقيطي، شرح المعلقات "179".

ص: 391

وإذا صدقنا بمعلقة "عبيد بن الأبرص"، وأخذنا بصدق الأبيات:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

بالله يدرك كل خير

والقول في بعضه تلغيب

والله ليس له شريك

علام ما أخفت القلوب1

بل يجب عده من الأحناف الموحدين، الذين آمنوا بإله واحد لا شريك له.

وهو في نظري شعر إسلامي، ويبعد أن يكون من نظم ومن نفس شاعر جاهلي. وقد ذهب "ابن الأعرابي"، إلى أن البيت الأول هو لشاعر آخر، هو: يزيد بن ضبة الثقفي2.

و"عمرو بن الإطنابة" سيد الخزرج في أيامه من هذا الرعيل الذي ذكر اسم الله في شعره، إذ ذكره بقوله:

إني من القوم الذين إذا انتدوا

بدأوا بحق الله ثم النائل

وانتدوا: جلسوا في النادي. فهو يبدأ بذكر الله، وبحقه، إذا ما جلس في النادي3.

وورد اسم "الله" في شعر لخداش بن زهير:

تقوه أيها الفتيان إني

رأيت الله قد غلب الجدودا4

ونجد ذكر الله في شعر "صريم بن معشر بن ذهل" التغلبي، وكان قد لقي كاهنا، فسأله عن موته، فقال له: إنك تموت في موضع يقال له "الإهة"، فمكث زمانا ثم سار إلى الشام في تجارة ثم رجع في ركب من "بني تغلب"، فضلوا الطريق، ثم أتوا موضعا اسمه "الإهة" قارة بالسماوة، فلدغته حية، ثم تذكر قول الكاهن، فقال:

1 شرح القصائد العشر، للتبريزي "541 وما بعدها"، البيت"18 وما بعده" من المعلقة، الحيوان "3/ 89"، الشنقيطي، شرح المعلقات "221"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 266".

2 الشنقيطي "221"، الخطيب التبريزي، شرح القصائد العشر "541".

3 المرزباني، معجم "8"، "فرج".

4 العمدة "2/ 271".

ص: 392

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي

إذا هو لم يجعل له الله واقيا

كفى حزنا أن يرحل الحي غدوة

وأصبح في أعلى الإلاهة ثاويا1

وهو شعر إن صح أنه له، دل على أن صاحبه كان يؤمن بأن لكل إنسان أجل، وأنه إذا جاء الأجل، فلا مرد له، وأنه لا مرد لقضاء الله وقدره.

وفي شعر "قيس بن الحدادية"، إيمان بالله، وأن الله هو الذي يقدر الأمور، إذ يقول:

فقلت لها والله يدري مسافر

إذا أضمرته الأرض ما الله صانع

ويروى:

فقلت لها والله ما من مسافر

يحيط بعلم الله ما الله صانع2

وفي شعر "النمر بن تولب"، وهو من المخضرمين قوله:

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر

والعرب تقول: "سبحان الله وريحانة، أي: واسترزاقه"3.

ونجد في شعر الأعشى أنه كان يؤمن بالرحمن، إذ يقول:

وما جعل الرحمن بيتك في العلى

بأجياد غربي الصفا والمحرم4

ويقول:

وإن تقى الرحمن لا شيء مثله

فصبرا إذا تلقى السحاق الغراثيا

ثم يبين بعده إيمانه بإله واحد لا شريك له، إذ يقول:

وربك لا تشرك به إن شركه

يحط من الخيرات تلك البواقيا

1 الخزانة "4/ 460"، "بولاق".

2 المرزباني، معجم "202".

3 الجمان في تشبيهات القرآن "383".

4 القصيدة رقم 15، البيت 36، ديوانه "123".

ص: 393

بل الله فاعبد لا شريك لوجهه

يكن لك فيما تكدح اليوم راعيا

وإياك والميتات لا تقربنها

كفى بكلام الله عن ذاك ناهيا1

ونجده في القصيدة رقم "15" التي فيها البيت الأول، يحلف، برب الراقصات إلى منى، ثم يذكر "ماء زمزم"، أي مكة، بينما نجده في القصيدة الثانية مؤمن بالرحمن، مؤله له، موحد، لا يشرك بربه أحدا. وهو شعر روي عن "أبي عمرو الشيباني"، ركيك ضعيف، موضوع عليه2.

وروي أن "الشنفرى" كان ممن آمن بالرحمن، وذكره في شعره، إذ قال:

لقد لطمت تلك الفتاة هجينها

ألا بتر الرحمن ربي يمينها

ولكنه بيت يشك في صحته، ولم ينقله الثقات3.

وقد سبق لي أن تحدثت في الجزء السادس من هذا الكتاب عن عبادة الرحمن، وقلت إن قريشا قالت للرسول لما نزل الوحي بـ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} :"أتدرون ما الرحمن الذي يذكره محمد، هو كاهن باليمامة"4، وأنها قالت:"دق فوك" إنما تذكر مسيلمة رحمن اليمامة"، وكان قد تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله والد الرسول.

وقد زعم أهل الأخبار أن الأعشى كان قدريا، وأنه أخذ رأيه هذا من أهل الحيرة. واستشهدوا على رأيه بالقدر بقوله:

استأثر الله بالوفاء وبالعدل

وولى الملامة الرجلا6

1 القصيدة رقم 66، البيت رقم 8 وما بعده، ديوانه "ص329".

2 ديوانه "328".

3 الاشتقاق "37".

4 الاشتقاق "37".

5 الحيوان "4/ 89"، تفسير الطبري "1/ 57"، مغازي، الواقدي "1/ 82"، ابن كثير، البداية "6/ 326"، تاج العروس "8/ 307"، "رحم"، الروض الأنف "2/ 340"، ابن سعد، طبقات "جـ1، ق1، ص109".

6 راجع ديوان الأعشى "155"، أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي"، شرح ديوان الأعشى "233"، "القصيدة رقم 35"، وورد "وبالحمد" بدلا من "وبالعدل"، الأغاني "8/ 76".

ص: 394

وأبي الشريف "المرتضى" إلا أن يجعله على مذاهب أهل العدل، أي على مثل ما ذهب إليه "المعتزلة" والشيعة الإمامية الاثنى عشرية في الإسلام. وعلل بعض أهل الأخبار سبب تحول الأعشى إلى القدرية، أنه كان يأتي أهل الحيرة في الجاهلية، وكانوا نصارى، يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك2. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانيا عباديا، وكان معمرا، قال: كان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا. قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى:

استأثر الله بالوفاء وبالعدل

وولى الملامة الرجلا

قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، وكان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك"3.

والبيت المذكور هو من قصيدة مدح فيها "سلامة ذا فائش" مطلعها:

إن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر ما مضى مهلا

استأثر الله بالوفاء وبالـ

ـعدل وولى الملامة الرجلا4

شك في صحتها "ابن قتيبة"، فقال:"وهذا الشعر منحول"5، والصنعة في الواقع بينة على القصيدة، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون القدري صاحبها، ذلك الرجل الذي نحلها الأعشى، لا الشاعر الأعشى.

ويذكر أهل الأخبار أن الأعشى كان ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، إذ يقول:

1 أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي".

2 الأغاني "8/ 76".

3 الأغاني "8/ 79".

4 "وبالحمد"، ديوان الأعشى، القصيدة رقم "35"، "ص223"، ابن قتيبة، الشعر "1/ 15".

5 ابن قتيبة، الشعر "1/ 15".

ص: 395

فلا تحسبني كافرا لك نعمة

على شاهدي يا شاهد الله فاشهد

وشاهدي، يعني لساني، ويا شاهد الله، يريد الملك الموكل به. وكان هذا من إيمان العرب بالملكين. وقد نسبواهذه العقيدة إلى بقية من دين إسماعيل1، وزعموا أن العرب ممن أقام على دين إسماعيل، إذا حلفت تقول: وحق الملكين، فكان الأعشى ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء. "والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية"2.

ونسب إلى "لبيد" العكس، أي القول بالجبر، واستدل من نسبه إلى الجبر، بقوله:

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثي والعجل

أحمد الله فلا ند له

بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل3

وقد قال بعض العلماء: إن هذه الأبيات لا تشير حتما إلى مذهب لبيد في الجبر، وأنها لا تكون سببا في نسبة الجبر إليه، وقد تأولها، وأوجد لها مخارج في إبعاد القول بالجبر عنه. ثم قال:"اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات، فلا يتأول له هذا التأويل، بل يحمل على مراده على موافقة المعروف من مذهبه"4.

وينسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم5

1 الشعر والشعراء "1/ 186"، الشنقيطي، شرح المعلقات "61".

2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 241".

3 أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي"، ديوان لبيد "174"، "رقم 26"، وورد:

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

الأغاني "8/ 76"، ديوان لبيد "13"، "رقم 39"، رسالة الغفران "267".

4 الخزانة "2/ 30"، "بولاق"، الأمالي للمرتضي "1/ 21".

5 ديوان زهير "18".

ص: 396

وذكر أنه كان يتأله ويتعفف في شعره ويدل شعره المذكور على إيمانه بالبعث وبالحساب وبالثواب وبالعقاب1.

ومن رأي الجاهليين أن الموت مكتوب على جبين الإنسان، ولا بد له من أن يواجهه في يوم محتوم مكتوب عليه. ومن لم يمت عبطة، مات هرما. وفي ذلك يقول أمية:

من لم يمت عبطة يمت هرما

وللموت كأس والمرء ذائقها2

ويقول الأعشى:

ولو كنت في جب ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلم3

ونجد رأي الجاهليين في الروح واضحا في أشعارهم وفي أقوالهم عن الموت، فالموت -كماسبق أن تحدثت عنه- في نظرهم مفارقة الروح للجسد، فإذا فارقته صارت "هامة" ترفرف فوق قبر صاحبها. هذا "عروة بن الورد"، يذكر الموت، ثم يذكر ما سيقوله الناس عنه، بقوله:

أحاديث تبقى والفتى غير خالد

إذا هو أمسى هامة فوق صير4

وقد أشير إلى "العتائر" التي تقدم في "رجب"، في شعر "طرفة":

عنتا باطلا وظلما كما تعـ

ـتر عن حجرة الربيض الظباء5

وكان الرجل من العرب ينذر نذراعلى شائه إذا بلغت مائة أن يذبح عن كل عشرة منها شاة في رجب، وكانت تسمى تلك الذبائح الرجبية، وهي العتائر.

1 الشعر والشعراء "1/ 78"، الخزانة "1/ 376"، "بولاق".

2 أمالي المرتضى "1/ 533".

3 رسالة الغفران "571".

4 ديوانه "64"، "قال أبو عمرو: بالهزر ألف صير، يعني قبورا من قبور أهل الجاهلية"، اللسان "4/ 477"، "صير"، تاج العروس "3/ 346"، "صير".

5 مجالس العلماء "18 وما بعدها"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "463 وما بعدها".

ص: 397

وكان الرجل منهم ربما بخل بشائه فيصيد ظباء فيذبحهاعن غنمه في رجب ليوفي نذره1.

ومن الشعراء من غلبت عليه نزعة التبرم من هذه الدنيا، وذكر الموت والاتعاظ به، وعلى رأس هؤلاء "عدي بن زيد" العبادي، النصراني، وهو خير من يمثل هذه النزعة التصوفية، التي ترى أن اللذة لا تدوم، وأن السعادة مؤقتة زائلة، وأن على الإنسان أن يتعظ بمن عاش قبله من الملوك العظام، والأمم القوية، وممن نزع هذا المنزع وإن كان دون "عدي" بكثير "الأسود ين يعفر"، في قوله:

ماذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسدير وبارق

والقصر ذي الشرفات من سنداد

إلى أن قال:

أين الذين بنوا فطال بناؤهم

وتمتعوا بالأهل والأولاد

فإذا النعيم وكل ما يلهى به

يوما يصير إلى بلى ونفاد

وآخرها:

فإذا وذلك لا نفاد لذكره

والدهر يعقب صالحا بفساد2

غير أن هذه النزعة، لم تكن ناتجة عن رأي وعن فلسفة ودراسة تأمل لهذه الحياة، وإنما هي نزعة نجدها عند من أصيب بنكبة وعند من حلت به مصيبة، وعند المسنين الذين غلب العمر عليهم، فجعلهم حطاما وكومة عظام، لا يستطيعون الوقوف على أرجلهم، فهم متعبون لا يجدون من يصغي إليهم أو من يعطف عليهم، أو من يساعدهم في الخروج من المأزق التي وقعوا فيها، فتبرموا لذلك من الحياة، وأخذوا يذمونها، وإنما هم يذمونها لأنهم صاروا في حال لا يتمكنون

1 مجالس العلماء "20".

2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 138"، "2/ 552 وما بعدها" المفضليات "216" الأغاني "11/ 129"، ابن سلام "119"، الشعر والشعراء "1/ 176 وما بعدها" الجمان في تشبيهات القرآن "308".

ص: 398

فيها من التلذذ بها ومن التمتع بنعم الحياة التي هي هي لا تتغير وإنما الذي يتغير هو الشخص، الذي كبر وعجز فصار يذم الدنيا، لأنه لم يعد قادراعلى فعل ما كان يفعله أيام كان شابا قويا يحب الدنيا، فتقبل الدنيا عليه.

ونجد في شعر ينسب للأعشى إشارة إلى التطير، إذ يقول:

ما تعيف اليوم في الطير الروح

من غراب البين أو تيس برح1

وكان "النابغة" الذبياني من المتطيرين. خرج مرة مع "زبان بن منظور" الفزازي غازيا، فسقطت عليه جرادة، فتطير منها، فجرع من الغزو، ومضى زبان فظفر وغنم، فقال:

تعلم أنه لا طير إلا

على متطير وهي الثبور

بلى شيء يوافق بعض شيء

أحايينا وباطله كثير

وقال خرز بن لوذان، ويقال مرقش السدوسي:

لا يمنعنك من بغا

ء الخير تعقاد التمائم

لا والتشاؤم بالعطا

س ولا التيامن بالمقاسم

ولقد غدوت وكنت لا

أغدو على واق وحاتم

وإذا الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم

قد خط ذلك في الزبو

ر الأوليات القدائم2

وفي شعر "عبيد بن الأبرص" القائل:

نبئت أن بني جديلة أوعبوا

نفراء من سلمي لنا وتكتبوا

ولقد جرى لهم فلم يتعيفوا

تيس قعيد كالهرواة أعضب

وأبو الفراخ على خشاش هشيمة

متنكب إبط الشمائل ينعب

طعنوا بمران الوشيج فما ترى

خلف الأسنة غير عرق يشجب

وتبدلوا اليعبوب بعد إلههم

صنما ففروا يا جديل وأعذبوا3

1 العمدة "260".

2 العمدة "261 وما بعدها".

3 الحيوان "3/ 100"، العمدة "2/ 202"، الخزانة "3/ 256".

ص: 399

كلام عن العيافة، فأشار إلى تيس قعيد من الظباء، والقعيد الذي يأتي من الخلف، والأعضب المكسور القرن، وهو مما يتشاءم به العرب. وأبو الفراخ عنى به الغراب، واليعبوب صنم لجديلة، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، رهط "عبيد بن الأبرص"، فتبدلوا اليعبوب بدله.

وقد أشير إلى التشاؤم بالغراب في شعر ينسب لعلقمة الفحل:

ومن تعرض للغربان يزجرها

على سلامته لا بد مشئوم1

ونجد في شعر "أبي ذؤيب" الهذلي، وهو من الشعراء المخضرمين، إشارة إلى تشاؤم العرب بطير الشمال، إذ يقول:

زجرتُ لها طير الشمال فإن تكن

هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها2

والعرب تتشائم من "طير الشمال"، على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب.

وكان "خزز بن لوذان" السدوسي على مذهب من ينكر الطيرة ولا يعتقد بها، وينسب إليه قوله:

لا يمنعنك من بغا

ء الخير تعقاد التمائم

ولقد غدوت وكنت لا

أغدو على واق وحاتم

فإذا الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم

وكذاك لا خير ولا

شر على أحد بدائم

قد خط ذلك في الزبو

ر والأوليات القدائم3

وفي شعر "عبيد بن الأبرص" إشارة إلى رأي العرب في الحمامة، فالعرب تقول:"أخرق من حمامة"، وعبيد يقول في ذلك:

عيوا بأمرهم كما

عيت ببيضتها الحمامة

جعلت لها عودين من

نشم وآخر من ثمامة

1 رسالة الغفران "478".

2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 27".

3 المؤتلف والمختلف "102"، تاج العروس "4/ 34"، "خزز"، الخزانة "3/ 11".

ص: 400

قال ذلك تعبيرا عن حمقها، فالنشم شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسي، والثمامة نبت قصير يضرب به المثل في الضعف، وذلك حمقها: أن تجمع بين ضعيف وقوي، فيتكسر عشها ويقع البيض فينكسر1.

وقد تطرق "العباس بن مرداس" إلى ذكر "الغول"، فقال:

أصابت العام رعلا غول قومهم

وسط البيوت ولون الغول ألوان

وهو يشير بذلك إلى تلون الغول2.

وفي شعر "زيد الخيل" إشارات إلى عادة تعليق الحلي، وخشخشة الخلاخيل على السليم، ليبرأ ويشفى، إذ يقول:

أيم يكون النعل منه ضجيعه

كما علقت فوق السليم الخلاخل

ونجد مثل ذلك في أشعار شعراء آخرين3.

ومن مذاهب أهل الجاهلية المذكورة في الشعر، أنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزهر والرياض، قال النابغة:

فلا زال قبر بين تبنى وجاسم

عليه من الوسمي طل ووابل

فينبت حوذانا وعوفا منورا

سأتبعه من خير ما قال قائل

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام4.

وفي شعر بعض الشعراء أن الحياة لا تدوم، وأن المال وإن كان أساس هذه الحياة، لكنه متاع أيام وكل ذاهب. فبينما هو يجمعه ويحرص عليه، إذا به يعيث همج هامج، وما المال إلا عارة فاخلف وأتلف، فكله مع الدهر ذاهب، هذا "الحارث بن حلزة" اليشكري، يقول:

1 الحيوان "3/ 189"، "حاشية رقم 4"، أدب الكاتب "55"، ثمار القلوب "369"، الميداني، أمثال "1/ 234"، عيون الأخبار "1/ 72".

2 الحيوان "6/ 161"، المعارف "36".

3 الحيوان "4/ 247 وما بعدها".

4 أمالي المرتضى "1/ 54".

ص: 401

بينا الفتى يَسعى ويُسعى له

تاج له من أمره خالج

يترك ما رقح من عيشه

يعيث فيه همج هامج

لا تكسع الشول بأغبارها

إنك لا تدري من الناتج

وهذا تميم بن مقبل يقول:

فاخلف وأتلف إنما المال عارة

وكله مع الدهر الذي هو آكله1

ونجد في شعر الشعراء الجاهليين، ذما للأغنياء الذين يملكون ولا يعطون شيئا منه للفقير والبائس والمحتاج، وللذين يكبرون من شأن الكبير بماله، ويبتعدون عن الفقير لفقره، ويعظمون الغني على كثرة عيوبه ونواقصه، ولا لشيء إلا لماله وغناه، فنرى "عروة بن الورد"، يقول:

ذريني للغنى أسعي فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وخير

يباعده النديّ وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

وتلقى ذا الغنى وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل عيبه والعيب جم

ولكن الغني رب غفور2

وللشعراء الجاهليين رأي في النساء. رأي أغلبهم أن المرأة متعة للرجل، يلهو بها، ويقضي حاجته منها، خلقت للبيت وللولادة، وهي دون الرجل. وهي تحب الشاب القوي، والغني الكثير المال. ونجد هذا الرأي عند أكثر الشعراء اتصالا بالمرأة، وعند أكثرهم لهوا بها مثل "امرئ القيس" حيث يقول:

فيا رب يوم قد أروح مرجلا

حبيبا إلى البيض الأوانس أملسا

أراهن لا يحببن من قل ماله

ولا من رأين الشيب فيه وقوسا3

1 البخلاء "164 وما بعدها".

2 أمالي المرتضى "1/ 50"، ديوان عروة "198"، العقد "1/ 212"، "ولكن للغنى"، وتجد اختلافا في الألفاظ وفي ترتيب الأبيات حسب المراجع، البيان "1/ 234"، "عبد السلام محمد هارون".

3 ديوانه "106 وما بعدها"، رسائل الجاحظ "1/ 98، 114""مفاخرة الجواري والغلمان".

ص: 402

ونجد الأعشى يقول:

وأرى الغواني لا يواصلن امرأ

فقد الشباب وقد يصلن الأمردا1

وفي شعر علقمة بن عبدة ترديد لرأي امرئ القيس وزيادة:

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله

فليس له في ودهن نصيب

يردن ثراء المال حيث علمنه

وشرخ الشباب عندهن عجيب2

1 ديوانه "151"، رسائل الجاحظ "1/ 98"، "مفاخرة الجواري والغلمان".

2 ديوانه "131 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 239"، المفضليات "131 وما بعدها"، رسائل الجاحظ "1/ 99، 114"، "مفاخرة الجواري والغلمان".

ص: 403