المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في الصدقة المستحبة - الملخص الفقهي - جـ ١

[صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌‌‌فضل التفقه في الدين

- ‌فضل التفقه في الدين

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب في أحكام الطهارة والمياه

- ‌باب في أحكام الآنية وثياب الكفار

- ‌باب فيما يحرم على المحدث مزاولته من الأعمال

- ‌باب في آداب قضاء الحاجة

- ‌باب في السواك وخصال الفطرة

- ‌باب في أحكام الوضوء

- ‌باب في بيان صفة الضوء

- ‌باب في أحكام المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل

- ‌باب في بيان نواقض الوضوء

- ‌باب في أحكام الغسل

- ‌باب في أحكام التيمم

- ‌باب في أحكام إزالة النجاسة

- ‌باب في أحكام الحيض والنفاس

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب في وجوب الصلوات الخمس

- ‌باب في أحكام الأذان والإقامة

- ‌باب في شروط الصلاة

- ‌باب في آداب المشي إلى الصلاة

- ‌باب في أركان الصلاة وواجباتها وسننها

- ‌باب في صفة الصلاة

- ‌باب في بيان ما يكره في الصلاة

- ‌باب في بيان ما يستحب أو يباح فعله في الصلاة

- ‌باب في السجود للسهو

- ‌باب في الذكر بعد الصلاة

- ‌باب في صلاة التطوع

- ‌باب في صلاة الوتر وأحكامها

- ‌باب في صلاة التراويح وأحكامها

- ‌باب في السنن الراتبة مع الفرائض

- ‌باب في صلاة الضحى

- ‌باب في سجود التلاوة

- ‌باب في التطوع المطلق

- ‌باب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

- ‌باب في وجوب صلاة الجماعة وفضلها

- ‌باب في الأحكام التي تتعلق بالمسبوق

- ‌باب في حكم حضور النساء إلى المسجد

- ‌باب في بيان أحكام الإمامة

- ‌باب في من لا تصح إمامته في الصلاة

- ‌باب فيما يشرع للإمام في الصلاة

- ‌باب في صلاة أهل الأعذار

- ‌باب في أحكام صلاة الجمعة

- ‌باب في أحكام صلاة العيدين

- ‌باب في أحكام صلاة الكسوف

- ‌باب في أحكام صلاة الاستسقاء

- ‌باب في أحكام الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب في مشروعية الزكاة ومكانتها

- ‌باب في زكاة بهيمة الأنعام

- ‌باب في زكاة الحبوب والثمار والعسل والمعدن والركاز

- ‌باب في زكاة النقدين

- ‌باب في زكاة عروض التجارة

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في إخراج الزكاة

- ‌باب في بيان أهل الزكاة ومن لا يجوز دفع الزكاة لهم

- ‌باب في الصدقة المستحبة

- ‌كتاب الصيام

- ‌باب في وجوب صوم رمضان ووقته

- ‌باب في بدء صيام اليوم ونهايته

- ‌باب في مفسدات الصوم

- ‌باب في بيان أحكام القضاء للصيام

- ‌باب في ما يلزم من أفطر لكبر أو مرض

- ‌كتاب الحج

- ‌باب في الحج وعلى من يجب

- ‌باب في شروط وجوب الحج على المرأة واحكام النيابة

- ‌باب في فضل الحج والاستعداد له

- ‌باب في مواقيت الحج

- ‌باب في كيفية الإحرام

- ‌باب في محظورات الإحرام

- ‌باب في أعمال يوم التروية ويوم عرفة

- ‌باب في الدفع إلى مزدلفة والمبيت فيها

- ‌باب في أحكام الحج التي تفعل في أيام التشريق وطواف الوداع

- ‌باب في أحكام الهدي والأضحية

- ‌باب في أحكام العقيقة

- ‌كتاب الجهاد

- ‌باب في أحكام الجهاد

الفصل: ‌باب في الصدقة المستحبة

الصلاة في الأضحى، وليتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر قبل صلاة الفطر.

ويسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات، وأن لا يطعم يوم النحر حتى يصلى؛ لقول بريدة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي"، رواه أحمد وغيره.

قال الشيخ تقي الدين: "لما قدم الله الصلاة على النحر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، وقدم التزكي على الصلاة في قوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ؛ كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر، وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر.

ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد؛ ليتمكن من الدنو من الإمام، وتحصل له فضيلة انتظار الصلاة، فيكثر ثوابه.

ويسن أن يتجمل المسلم لصلاة العيد بلبس أحسن الثياب؛ لحديث جابر: "كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة"، رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وعن ابن عمر أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه، رواه البيهقي بإسناد جيد.

ص: 270

ويشترط لصلاة العيد الاستيطان؛ بأن يكون الذين يقيمونها مستوطنين في مساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به؛ كما في صلاة الجمعة؛ فلا تقام صلاة العيد إلا حيث يسوغ إقامة صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجته، ولم يصلها، وكذلك خلفاؤه من بعده.

وصلاة العيد ركعتان قبل الخطبة؛ لقول ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة"، متفق عليه، وقد استفاضت السنة بذلك وعليه عامة أهل العلم، قال الترمذي:"والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ أن صلاة العيدين قبل الخطبة".

وحكمة تأخير الخطبة عن صلاة العيد وتقديمها على صلاة الجمعة: أن خطبة الجمعة شرط للصلاة، والشرط مقدم على المشروط؛ بخلاف خطبة العيد؛ فإنها سنة.

وصلاة العيدين ركعتان بإجماع المسلمين، وفي "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، وقال عمر:"صلاة الفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، وقد خاب من افترى"، رواه أحمد وغيره.

ص: 271

ولا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة؛ لما روى مسلم عن جابر: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد مرة ولا مرتين، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة؛ بغير أذان ولا إقامة".

ويكبر في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ست تكبيرات؛ فتكبيرة الإحرام ركن، لابد منها، لا تنعقد الصلاة بدونها، وغيرها من التكبيرات سنة، ثم يستفتح بعدها؛ لأن الاستفتاح في أول الصلاة، ثم يأتي بالتكبيرات الزوائد الست، ثم يتعوذ عقب التكبيرة السادسة؛ لأن التعوذ للقراءة، فيكون عندها، ثم يقرأ.

ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة الانتقال؛ لما روى أحمد عن عمروا بن شعيب عن أبيه عن جده؛: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة؛ سبعا في الأولى، وخمسا في الآخرة"، وإسناده حسن.

وروى غير ذلك في عدد التكبيرات: قال الإمام أحمد رحمه الله: "اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز".

ويرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير.

ص: 272

ويسن أن يقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرًا، لقول عقبة بن عامر: سألت ابن مسعود عما يقوله بعد تكبيرات العيد؟ قال: "يحمد الله، ويثني عليه، ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم".

ورواه البيهقي بإسناده عن ابن مسعود قولاً وفعلاً.

وقال حذيفة: "صدق أبو عبد الرحمن".

وإن أتى بذكر غير هذا فلا بأس؛ لأنه ليس فيه ذكر معين.

قال ابن القيم: "كان يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات" اهـ.

وإن شك في عدد التكبيرات؛ بنى على اليقين، وهو الأقل.

وإن نسى التكبير الزائد حتى شرع في القراءة؛ سقط؛ لأنه سنة فات محلها.

وكذا إذا أدرك المأموم الإمام بعدما شرع في القراءة؛ لم يأت بالتكبيرات الزوائد، أو أدركه راكعا، فإنه يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يركع، ولا يشتغل بقضاء التكبير.

وصلاة العيد ركعتان، يجهر الإمام فيهما بالقراءة؛ لقول ابن عمر:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء"، رواه الدارقطني،

ص: 273

وقد أجمع العلماء على ذلكن ونقله الخلف عن السلف، واستمر عمل المسلمين عليه.

ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، ويقرأ في الركعة الثانية بالغاشية؛ لقول سمرة:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} "، رواه أحمد.

أو يقرأ في الركعة الأولى ب {ق} و {اقْتَرَبَتِ}

ص: 274

أو نحو ذلك مما جاء في الأثر؛ كان حسنا، وكان قراءته في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد والأمر والنهي والمبدأ والمعاد وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم وما حل بهم من الهلاك والشقاء ومن آمن بهم وصدقهم ما لهم من النجاة والعافية" انتهى.

فإذا سلم من الصلاة؛ خطب خطبتين، يجلس بينهما؛ لما روى عبيد الله بن عبيد الله بن عتبة؛ قال:"السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس"، رواه الشافعي، ولابن ماجه عن جابر:"خطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام"، وفي الصحيح وغيره:"بدأ بالصلاة ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته" الحديث، ولمسلم:" ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم".

ص: 275

ويحثهم في خطبة عيد الفطر على إخراج صدقة الفطر، ويبين لهم أحكامها؛ من حيث مقدارها، ووقت إخراجها، ونوع المخرج فيها. ويرغبهم في خطبة عيد الأضحى في ذبح الأضحية، ويبين لهم أحكامها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيرًا من أحكامها.

وهكذا ينبغي للخطباء أن يركزوا في خطبهم على المناسبات؛ فيبينوا للناس ما يحتاجوه إلى بيانه في كل وقت بحسبه بعد الوصية بتقوى الله والوعظ والتذكير، لا سيما في المجامع العظيمة والمناسبات الكريمة؛ فإنه ينبغي أن تضمن الخطبة ما يفيد المستمع ويذكر الغافل ويعلم الجاهل.

وينبغي حضور النساء لصلاة العيد؛ كما سبق بيانه، وينبغي أن توجه إليهن موعظة خاصة ضمن خطبة العيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى أنه لم يسمع النساء؛ أتاهن، فوعظهن، وحثهن على الصدقة، وهكذا ينبغي أن يكون للنساء نصيب من موضوع خطبة العيد؛ لحاجتهن إلى ذلك وإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أحكام صلاة العيد: أنه يكره التنفل قبلها وبعدها في

ص: 276

موضعها، حتى يفارق المصلي؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد؛ فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما"، متفق عليه، ولئلا يتوهم أن لها راتبة قبلها أو بعدها.

قال الإمام أحمد: "أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها".

وقال الزهراني: "لم أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحدًا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها، وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها".

فإذا رجع إلى منزله؛ فلا بأس أن يصلي فيه؛ لما روى أحمد وغيره: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع إلى منزله؛ صلى ركعتين".

ويسن لمن فاتته صلاة العيد أو فاته بعضها قضاؤها على صفتها؛ بأن يصليها ركعتين؛ بتكبيراتها الزوائد؛ لأن القضاء يحكي الأداء، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فما أدركتم؛ فصلوا؛ وما فاتكم؛ فأتموا"، فإذا فاتته ركعة مع الإمام؛ أضاف إليها أخرى، وإن جاء والإمام يخطب؛ جلس لاستماع الخطبة، فإذا انتهت؛ صلاها قضاء، ولا بأس بقضائها متفردًا أو مع جماعة.

ويسن في العيدين التكبير المطلق، وهو الذي لا يتقيد بوقت يرفع به صوته؛ إلا الأنثى؛ فلا تجهر به، فيكبر في ليلتي العيدين، وفي كل

ص: 277

عشر ذي الحجة لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، ويجهر به في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، ويجهر به في الخروج إلى المصلى؛ لما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر:"أنه إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير، حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام"، وفي "الصحيح":"كنا يؤمر بإخراج الحيض، فيكبرن بتكبيرهم"، ولمسلم:"يكبرن مع الناس"؛ فهو مستحب لما فيه من إظهار شعائر الإسلام.

والتكبير في عيد الفطر آكد؛ لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ؛ فهو في هذا العيد آكد؛ لأن الله أمر به.

ويزيد عيد الأضحى بمشروعية التكبير المقيد فيه، وهو التكبير الذي شرع عقب كل صلاة فريضة في جماعة، فيلتفت الإمام إلى المأمومين، ثم يكبر ويكبرون، لما رواه الدارقطني وابن أبي شيبة وغيرهما من حديث جابر: "أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة؛ يقول: الله أكبر

" الحديث.

ص: 278

ويبتدأ التكبير المقيد بأدبار الصلوات في حق غير المحرم من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عسر آخر أيام التشريق، وأما المحرم؛ فيبتدئ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق؛ لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية.

روى الدارقطني عن جابر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات"، وفي لفظ:"وكان إذا صلى الصلح من غداة عرفة؛ أقبل على أصحابه فيقول: مكانكم، ويقول: الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد".

وقال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} ، وهي أيام التشريق.

وقال الإمام النووي: "هو الراجح وعليه العمل في الأمصار".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أصح الأقوال في التكبير الذي عليه الجمهور من السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة؛ لما في "السنن": "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله"،

ص: 279

وكون المحرم يبتدئ التكبير المقيد من صلاة الظهر يوم النحر؛ لأن التلبية تقطع برمي جمرة العقبة، ووقت رمي جمرة العقبة المسنون ضحى يوم النحر، فكان المحرم فيه كالمحل، فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر؛ فلا يبتدئ التكبير إلا بعد صلاة الظهر أيضا؛ عملاً على الغالب" انتهى.

وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

ولا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضا؛ بأن يقول لغيره: تقبل الله منا ومنك.

فال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قدر روى عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره" اه.

والمقصود من التهنئة التودد وإظهار السرور.

وقال الإمام أحمد: "لا أبتدئ به، فإن ابتدأني أحد؛ أجبته".

وذلك لأن وجوب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة؛ فليس سنة مأمورًا بها، ولا هو أيضا مما نهي عنه، ولا بأس بالمصافحة في التهنئة.

ص: 280

‌باب في أحكام صلاة الكسوف

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

صلاة الكسوف سنة مؤكدة باتفاق العلماء، ودليلها السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده، قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} .

ولما كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خرج إلى المسجد مسرعا فزعا، يجر رداءه فصلى بالناس، وأخبرهم أن الكسوف آية من آيات الله، يخوف الله به عباده، وأنه قد يكون سبب نزول عذاب بالناس، وأمر بما يزيله، فأمر بالصلاة عند حصوله والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك من الأعمال الصالحة، حتى ينكشف ما بالناس؛

ص: 281

ففي الكسوف تنبيه للناس وتخويف لهم ليرجعوا إلى الله ويراقبوه.

وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف إنما يحصل عند ولادة عظيم أو موت عظيم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد، وبيّن الحكمة الإلهية في حصول الكسوف:

فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود الأنصار؛ قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: انكسف الشمس لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة".

وفي حديث آخر في "الصحيحين": "فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي".

وفي "صحيح البخاري" عن أبي موسى؛ قال: "هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بها عباده، فإذا رأيتم شيئا من ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره".

فالله تعالى يجري على هاتين الآيتين العظيمتين الشمس والقمر والكسوف والخسوف ليعتبر العباد ويعلموا أنهما مخلوقان يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما من المخلوقات؛ ليدل عباده بذلك على قدرته

ص: 282

التامة واستحقاقه وحده للعبادة؛ كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

ووقت صلاة الكسوف: من ابتداء الكسوف إلى التجلي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك؛ فصلوا" متفق عليه، وفي حديث آخر:"وإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى ينجلي"، رواه مسلم.

ولا تقضي صلاة الكسوف بعد التجلي؛ لفوات محلها، فإن تجلى الكسوف قبل أن يعلموا به؛ لم يصلوا له.

وصفة صلاة الكسوف: أن يصلي ركعتين يجهر فيهما بالقراءة على الصحيح من قولي العلماء، ويقرا في الركعة الأولى الفاتحة وسورة طويلة كسورة البقرة أو قدرها، ثم يركع ركوعا طويلاً، ثم يرفع رأسه ويقول:"سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد"؛ بعد اعتداله كغيرها من الصلوات، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى بقد سورة آل عمران، ثم يركع فيطيل الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم يرفع رأسه ويقول:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه، ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعده"، ثم يسجد سجدتين طويلتين، ولا يطيل الجلوس بين السجدتين، ثم يصلي

ص: 283

الركعة الثانية كالأولى بركوعين طويلين وسجودين طويلين مثلما فعل في الركعة الأولى، ثم يتشهد ويسلم

هذه صفة صلاة الكسوف؛ كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما روى ذلك عنه من طرق، بعضها في "الصحيحين"؛ منها ماروت عائشة رضي الله عنها:"أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام وكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، فركع ركوعا طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف"، متفق عليه.

ويسن أن تصلى في جماعة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تصلى فرادى كسائر النوافل، لكن فعلها جماعة أفضل.

ويسن أن يعظ الإمام الناس بعد صلاة الكسوف، ويحذرهم من الغفلة والاغترار، ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار؛ ففي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا

ص: 284

رأيتم ذلك؛ فادعوا الله، وصلوا، وتصدقوا

" الحديث.

فإن انتهت الصلاة قبل أن ينجلي الكسوف؛ ذكر الله ودعاه حتى ينجلي، ولا يعيد الصلاة، وإن انجلى الكسوف وهو في الصلاة؛ أتمها خفيفة، ولا يقطعها؛ لقوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ؛ فالصلاة تكون وقت الكسوف؛ لقوله:"حتى ينجلي"، وقوله:"حتى ينكشف ما بكم".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى؛ بحسب ما يكسف منه؛ فقد تكسف كلها، وقد يكسف نصفها أو ثلثها، فإذا عظم الكسوف؛ طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة، وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلكن وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا، وشرع تخفيفها لزوال السبب، وكذا إذا علم أنه لا يطول، وإن خف قبل الصلاة؛ ضرع فيها وأوجز، وعليه جماهير أهل العلم؛ لأنها شرعت لعلة، وقد زالت، وإن تجلى قبلها؛ لم يصل

" انتهى.

ص: 285

‌باب في أحكام صلاة الاستسقاء

الاستسقاء هنا هو طلب السقي من الله تعالى؛ فالنفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها، وهو الله وحده، وكان ذلك معروفا في الأمم الماضية، وهو من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} ، واستسقى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته مرات متعددة وعلى كيفيات متنوعة، وأجمع المسلمون على مشروعيته.

ويشرع الاستسقاء إذا أجدبت الأرض أي: أمحلت وانحبس المطر وأضر ذلك بهم؛ فلا مناص لهم أن يتضرعوا إلى ربهم ويستسقوه ويستغيثوه بأنواع من التضرع: تارة بالصلاة جماعة أو فرادى؛ وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة؛ يدعو الخطيب والمسلمون يؤمنون على دعائه، وتارة بالدعاء عقب الصلوات وفي الخلوات بلا صلاة ولا خطبة؛ فكل ذلك وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحكم صلاة الاستسقاء أنها سنة مؤكدة؛ لقول عبد الله بن زيد: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه، ثم صلى

ص: 286

ركعتين جهر فيهما بالقراءة"، متفق عليه، ولغيره من الأحاديث.

وصفة صلاة الاستسقاء في موضعها وأحكامها كصلاة العيد؛ فيستحب فعلها في المصلى كصلاة العيد، وأحكامها كأحكام صلاة العيد في عدد الركعات والجهر بالقراءة، وفي كونها تصلى قبل الخطبة، وفي التكبيرات الزوائد في الركعة الأولى والثانية قبل القراءة؛ كما سبق بيانه في صلاة العيد.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم وغيره.

ويقرأ في الركعة الأولى بسورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بسورة الغاشية.

ويصليها أهل البلد في الصحراء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في الصحراء، ولأن ذلك أبلغ في إظهار الافتقار إلى الله تعالى.

وإذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء؛ فإنه ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله وعقابه، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم؛ بردها إلى مستحقيها؛ لأن

ص: 287

المعاصي سبب لمنع القطر وانقطاع البركات، والتوبة والاستغفار سبب لإجابة الدعاء، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، ويأمرهم بالصدقة على الفقراء والمساكين، لأن ذلك سبب للرحمة، ثم يعين لهم يوما يخرجون فيه ليتهيؤوا ويستعدوا لهذه المناسبة الكريمة بما يليق بها من الصفة المسنونة، ثم يخرجون في الموعد إلى المصلى بتواضع وتذلل وإظهار للافتقار إلى الله تعالى، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعا متخشعا متضرعا"، قال الترمذي:"حديث حسن صحيح".

وينبغي أن لا يتأخر أحد من المسلمين يستطيع الخروج، حتى الصبيان والنساء اللاتي لا تخشى الفتنة بخروجهن، فيصلي بهم الإمام ركعتين كما سبق، ثم يخطب خطبة واحدة، وبعض العلماء يرى أنه يخطب خطبتين، والأمر واسع، ولكن الاقتصار على خطبة واحدة أرجح من حيث الدليل، وكذلك كون الخطبة بعد صلاة الاستسقاء هو أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم، واستمر عمل المسلمين عليهن وورد أنه صلى الله عليه وسلم خطب قبل الصلاة وقال به

ص: 288

بعض العلماء، والأول أرجح، والله أعلم.

وينبغي أن يكثر في خطبة الاستسقاء من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به؛ لأن ذلك سبب لنزول الغيث، ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى، ويرفع يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في دعائه بالاستسقاء، حتى يرى بياض إبطيه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من أسباب الإجابة، ويدعوا بالدعاء الوارد عن النبيصلى الله عليه وسلم في هذا الموطن؛ إقتداء به، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} .

ويسن أن يستقبل القبلة في آخر الدعاء، ويحول رداءه؛ فيجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين، وكذلك ما شابه الرداء من اللباس كالعباءة ونحوها؛ لما في "الصحيحين"؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم حول الناس إلى ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه

".

والحكمة من ذلك والله أعلم: التفاؤل بتحويل الحال عما هي

ص: 289

عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث، ويحول الناس أرديتهم لما روى الإمام أحمد:"وحول الناس معه أرديتهم"، ولأن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته، ما لم يدل دليل على اختصاصه به، ثم إن سقى الله المسلمين، وإلا؛ أعادوا الاستسقاء ثانيا وثالثا؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.

وإذا نزل المطر يسن أن يقف في أوله ليصيبه منه، ويقول:"اللهم صيبا نافعا، ويقول: مطرنا بفضل الله ورحمته".

وإذا زادت المياه وخيف منها الضرر؛ سن أن يقول: "اللهم حوالينا ولا علينا، الله على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، متفق عليه، والله أعلم.

ص: 290

‌باب في أحكام الجنائز

إن شريعتنا ولله الحمد كاملة شاملة لمصالح الإنسان في حياته وبعد مماته، ومن ذلك ما شرعه الله من أحكام الجنائز؛ من حين المرض والاحتضار إلى دفن الميت في قبره؛ من عيادة المريض، وتلقينه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وما يتبع ذلك من قضاء ديونه، وتنفذ وصاياه، وتوزيع تركته، والولاية على أولاده الصغار.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي، مخالفا لهدي سائر الأمم، مشتملاً على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال، وعلى الإحسان للميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده؛ من عيادة، وتلقين، وتطهير، وتجهيز إلى الله تعالى على أحسن الأحوال وأفضلها، فيقفون صفوفا على جنازته، يحمدون لله، ويثنون عليهن ويصلون على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألون للميت المغفرة والرحمة والتجاوز، ثم يقفون على قبره؛ يسألون له التثبيت، ثم زيارة قبره،

ص: 291

والدعاء له؛ كما يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا، ثم الإحسان إلى أهل الميت وأقاربه وغير ذلك" اهـ.

ويسن الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له بالتوبة من المعاصي، ورد المظالم إلى أصحابها، والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل هجوم الموت على غرة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من ذكر هادم اللذات"، رواه الخمسة بأسانيد صحيحة، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وهادم اللذات، بالذال: هو الموت.

وروى الترمذي وغيره عن ابن مسعود مرفوعا: "استحيوا من الله حق الحياء". قالوا: إنا نستحي يانبي الله والحمد لله. قال: "ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء؛ فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة؛ ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك؛ فقد استحيا من الله حق الحياء".

أولا: أحكام المريض والمحتضر.

وإذا أصيب الإنسان بمرض؛ فعليه أن يصبر ويحتسب ولا يجزع

ص: 292

ويسخط لقضاء الله وقدره، ولا بأس أن يخبر الناس بعلته ونوع مرضه، مع الرضى بقضاء الله، والشكوى إلى الله تعالى، وطلب الشفاء منه لا ينافي الصبر، بل ذلك مطلوب شرعا ومستحب؛ فايوب عليه السلام نادى ربه وقال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .

وكذلك لا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة، بل ذهب بعض العلماء إلى تأكد ذلك، حتى قارب به الوجوب؛ فقد جاءت الأحاديث بإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالطعام والشراب.

ولا يجوز التداوي بمحرم؛ لما في "الصحيح" عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه قال: "أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، وروى أبو داود وغيره عن أبي هريرة مرفوعا:"إن الله أنزل الدواء، وأنزل الداء، وجعل لكل داء دواء، ولا تداووا بحرام"، وفي "صحيح مسلم"؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخمر:"إنه ليس بدواء ولكنه داء".

ص: 293

وكذلك يحرم التداوي بما يمس العقيدة؛ من تعليق التمائم المشتملة على الفاظ شركية أو أسماء مجهولة أو طلاسم أو خرز أو خيوط أو قلائد أو حلق تلبس على العضد أو الذراع أو غيره، يعتقد فيها الشفاء ودفع العين والبلاء؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وذلك كله من الشرك أو من وسائله الموصلة إليه.

ومن ذلك أيضا التداوي عند المشعوذين من الكهان والمنجمين والسحرة والمستخدمين للجن، فعقيدة المسلم أهم عنده من صحته، وقد جعل الله الشفاء في المباحات للبدن والعقل والدين، وعلى رأس ذلك القرآن الكريم والرقية به وبالأدعية المشروعة.

قال ابن القيم: "ومن أعظم العلاج فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة، وتأثيره أعظم من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها" انتهى.

ولا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة على أيدي الأطباء العارفين بتشخيص الأمراض وعلاجها في المستشفيات وغيرها

وتسن عيادة المريض؛ لما في "الصحيحين" وغيرهما: "خمس تجب للمسلم على أخيه"ن وذكر منها عيادة المريض، فإذا زاره؛ سأل عن حاله؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدنوا من المريض، ويسأله عن حاله،

ص: 294

وتكون الزيارة يوما بعد يوم، أو بعد يومين، ما لم يكن المريض يرغب الزيارة كل يوم، ولا يطيل الجلوس عنده؛ إلا إذا كان المريض يرغب ذلك، ويقول للمريض:"لا بأس عليك، طهور إن شاء الله"، ويدخل عليه السرور، ويدعو له بالشفاء، ويرقيه بالقرآن، لا سيما سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين.

ويسن للمريض أن يوصي بشيء من ماله في أعمال الخير، ويجب أن يوصي بماله وما عليه من الديون وما عنده من الودائع والأمانات، وهذا مطلوب، حتى من الإنسان الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"، متفق عليه، وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد؛ فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان، وإن كان قليلاً، إلا ووصيته مكتوبة عنده؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت.

ويحسن المريض ظنه بالله؛ فإن الله عز وجل يقول: "أنا عند ظن عبدي بي"، ويتأكد ذلك عند إحساسه بلقاء الله.

ص: 295

ويسن لمن يحضره تطميعه في رحمة الله، ويغلب في هذه الحالة جانب الرجاء على جانب الخوف، وأما في حالة الصحة؛ فيكون خوفه ورجاؤه متساويين؛ أن من غلب عليه الخوف؛ أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه الرجاء؛ أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله.

فإذا احتضر المريض؛ فإنه يسن لمن حضره أن يلقنه: لا إله إلا الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"، رواه مسلم، وذلك لأجل أن يموت على كلمة الإخلاص، فتكون ختام كلامه؛ فعن معاذ مرفوعا:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة"، ويكون تلقينه إياها برفق، ولا يكثر عليه؛ لئلا يضجره وهو في هذه الحال.

ويسن أن يوجه إلى القلة.

ويقرأ عنده سورة {يَاسِينَ} ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"اقرأوا على موتاكم سورة ياسين"، رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان، والمراد بقوله:"موتاكم": من حضرته الوفاة. أما من مات فأنه لا يقرأ عليه، فالقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على الذي يحتضر؛ فإنها سنة،

ص: 296

فالقراءة على الميت عند الجنازة أو على القبر أو لروح الميت، كل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، والواجب على المسلم العمل بالسنة وترك البدعة.

ثانيا: أحكام الوفاة.

ويستحب إذا مات الميت تغميض عينيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغمض أبا سلمة رضي الله عنه لما مات، وقال:"إن الروح إذا قبض؛ تبعه البصر؛ فلا تقولوا إلا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون"، رواه مسلم.

ويسن ستر الميت بعد وفاته بثوب؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توقى؛ سجى ببردة حبرة"، متفق عليه.

وينبغي الإسراع في تجهيزه إذا تحقق موته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله"، رواه أبو داود، ولأن في ذلك حفظا للميت من التغير، قال الإمام أحمد رحمه الله:"كرامة الميت تعجيله"، ولا بأس أن ينتظر به من يحضر من وليه أو غيره إن كان قريبا ولم يخش على الميت من التغير.

ص: 297

ويباح الإعلام بموت المسلم؛ للمبادرة لتهيئته، وحضور جنازته، والصلاة عليه، والدعاء له، وأما الإعلام بموت الميت على صفة الجزع وتعداد مفاخره؛ فذلك من فعل الجاهلية، ومنه حفلات التأبين وإقامة المآتم.

ويستحب الإسراع بتنفيذ وصيته؛ لما فيه مت تعجيل الأجر، وقد قدمها الله تعالى في الذكر على الدين؛ اهتماما بشأنها، وحثا على إخراجها.

ويجب الإسراع بقضاء ديونه، سواء كانت لله تعالى من زكاة وحج أو نذر طاعة أو كفارة، أو كانت الديون لآدمي كرد الأمانات والغصوب والعارية، سواء أوصى بذلك أم لم يوص به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"، رواه أحمد والترمذي وحسنه؛ أي: مطالبة بما عليه من الدين محبوسة، ففي هذا الحث على الإسراع في قضاء الدين على الميت، وهذا فيمن له مال يقضى منه دينه، ومن لا مال له ومات عازما على القضاء؛ فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله يقضي عنه.

ص: 298

ثالثا: تغسيل الميت.

ومن أحكام الجنازة وجوب تغسيل الميت على من علم به وأمكنه تغسيله، قال صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "اغسلوه بماء وسدر

" الحديث متفق عليه، وقد تواتر تغسيل الميت في الإسلام قولاً وعملاً، وغسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر المطهر؛ فكيف بمن سواه؟ فتغسيل الميت فرض كفاية على من علم بحاله من المسلمين.

والرجل يغسله الرجل، والأولى والأفضل أن يختار لتغسيل الميت ثقة عارف بأحكام التغسيل؛ لأنه حكم شرعي له صفة مخصوصة، لا يتمكن من تطبيقها إلا عالم بها على الوجه الشرعي، ويقدم في تولي تغسيل الميت وصيه، فإذا كان الميت قد أوصى أن يغسله شخص معين، وهذا المعين عدل ثقة؛ فإنه يقدم في تولي تغسيله وصية بذلك؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس؛ فالمرأة يجوز أن تغسل زوجها؛ كما أن الرجل يجوز أن

ص: 299

يغسل زوجته، وأوصى أنس رضي الله عنه أن يغسله محمد بن سيرين، ثم يلي الوصي في تغسيل الميت أبو الميت؛ فهو أولى بتغسيل ابنه؛ لاختصاصه بالحنو والشفقة على ابنه، ثم جده؛ لمشاركته للأب في المعنى المذكور، ثم الأقرب فالأقرب من عصابته، ثم الأجنبي منه، وهذا الترتيب في الأولوية إذا كانوا كلهم يحسنون التغسيل وطالبوا به، وإلا؛ فإنه يقدم العالم بأحكام التغسيل على من لا علم له.

والمرأة تغسلها النساء، والأولى بتغسيل المرأة الميتة وصيتها، فإن كانت أصت أن تغسلها امرأة معينة؛ قدمت على غيرها إذا كان فيها صلاحية لذلكن ثم بعدها تتولى تغسيلها القربى فالقربى من نسائها.

فالمرأة تتولى تغسيلها على هذا الترتيب، والرجل يتولى تغسيله الرجال على ما سبق، ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه؛ فالرجل له أن يغسل زوجته والمرأة لها أن تغسل زوجها؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته، ولأن عليّا رضي الله عنه غسل فاطمة، وورد مثل ذلك عن غيرهما من الصحابة.

ص: 300

ولكل من الرجال والنساء غسل من له دون سبع سنين ذكرًا كان أو أنثى، قال ابن المنذر:"أجمع كل من نحفظ عنه أن المرأة تغسل الصبي الصغير" اه، ولأنه لا عورة له في الحياة؛ فكذا بعد الموت، ولأن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسله النساء

وليس لامرأة غسل ابن سبع سنين فأكثرن ولا لرجل عسل ابنة سبع سنين فاكثر.

ولا يجوز لمسلم أن يغسل كافرًا أو يحمل جنازته أو يكفنه أو يصلي عليه أو يتبع جنازته؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} ؛ فالآية الكريمة تدل بعمومها على تحريم تغسيله وحمله واتباع جنازته، وقال تعالى:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} ، وقال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، ولا يدفنه، لكن إذا لم يوجد من يدفنه من الكفار؛ فإن المسلم يواريهن بأن يلقيه في حفرة؛ منعا للتضرر بجثته، ولإلقاء قتلى بدر في القليب، وكذا حكم المرتد كتارك الصلاة عمدًا وصاحب البدعة المكفرة،

ص: 301

وهكذا يجب أن يكون موقف المسلم من الكافر حياً وميتا موقف التبري والبغضاء، قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم والذين معه:{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} .

وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .

وذلك لما بين الكفر والإيمان من العداء، ولمعادة الكفار لله ولرسله ولدينه؛ فلا تجوز موالاتهم أحياء ولا أمواتا.

نسأل الله أن يثبت قلوبنا على الحق، وأن يهدينا صراطه المستقيم.

ويشترط أن يكون الماء الذي يغسل به طهورًا مباحا، والأفضل أن يكون باردًا؛ إلا عند الحاجة إزالة وسخ على الميت أو في شدة برد؛ فلا بأس بتسخينه.

ويكون التغسيل في مكان مستور عن الأنظار ومسقوف من بيت أو خيمة ونحوها إن أمكن.

ويستر مابين سرة الميت وركبته وجوبا قبل التغسيل، ثم يجرد من ثيابه، ويوضع على سرير الغسل منحدرًا نحو رجليه؛ لينصب عنه الماء وما يخرج منه.

ص: 302

ويحضر التغسيل الغاسل ومن يعينه على الغسل، ويكره لغيرهم حضوره.

ويكون التغسيل بأن يرفع الغاسل رأس الميت إلى قرب جلوسهن ثم يمر يده على بطنه ويعصره برفق؛ ليخرج منه ما هو مستعد للخروج، وكثر صب الماء حينئذ؛ ليذهب بالخارج، ثم يلف الغاسل على يده خرقة خشنة؛ فينجي الميت، وينقي المخرج بالماء، ثم ينوي التغسيل، ويسمي، ويوضئه كوضوء الصلاة إلا المضمضة والاستنشاق؛ فيكفي عنهما مسح الغاسل أسنان الميت ومنخريه بإصبعه مبلولتين أو عليهما خرقة مبلولة بالماء، ولا يدخل الماء فمه ولا أنفه، ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة سدر أو صابون، ثم يغسل ميامن جسده وهي صفحة عنقه اليمنى، ثم يده اليمنى وكتفه، ثم شق صدره الأيمن وجنبه الأيمن وفخذه الأيمن وساقه وقدمه الميامن، ثم يقلبه على جنبه اليسر، فيغسل شق ظهره الأيمن، ثم يغسل جانبه الأيسر كذلك، ثم يقلبه على جنبه الأيمن، فيغسل شق ظهره الأيسر، ويستعمل السدر مع الغسل أو الصابون، ويستحب أن يلف على يده خرقة حال التغسيل.

والواجب غسلة واحدة إن حصل الإنقاء، والمستحب ثلاث غسلات، وإن لم يحصل الإنقاء؛ زاد في الغسلات حتى ينقى إلى سبع

ص: 303

غسلات، ويستحب أن يجعل في الغسلة الأخرة كافورًا؛ لأنه يصلب بدن الميت، ويطيبه، ويبرده، فلجل ذلك؛ يجعل في الغسلة الأخيرة؛ ليبقى أثره.

ثم ينشف الميت بثوب ونحوه، ويقص شاربه، وتقلم أظافره إن طالت، ويؤخذ شعر إبطيه، ويجعل المأخوذ معه في الكفن، ويضفر شعر رأس المرأة ثلاثة قرون ويسدل من ورائها.

وأما إذا تعذر غسل الميت لعدم الماء أو خيف تقطعه بالغسل؛ كالمجذوم والمحترق، أو كان الميت امرأة مع رجال ليس فيهم زوجها، أو رجلاً مع نساء ليس فيهم زوجته؛ فإن الميت في هذه الأحوال ييمم بالتراب؛ بمسح وجهه وكفيه من رواء حائل على يد الماسح، وإن تعذر غسل بعض الميت؛ غسل ما أمكن غسله منه، ويمم عن الباقي.

ويستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل بعد تغسيله، وليس ذلك بواجب.

رابعا: أحكام التكفين.

وبعد تمام الغسل والتجفيف يشرع تكفين الميت.

ويشترط في الكفن أن يكون ساترًا، ويستحب أن يكون أبيض نظيفا، سواء كان جديدًا وهو الأفضل أو غسيلاً.

ص: 304

ومقدار الكفن الواجب ثوب يستر جميع الميت، والمستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف، وتكفين المرأة في خمسة أثواب؛ إزار وخمار وقميص ولفافتين، ويكفن الصغير في ثوب واحد، ويباح في ثلاثة أثواب، وتكفن الصغيرة في قميص ولفافتين، ويستحب تجمير الأكفان بالبخور بعد رشها بماء الورد ونحوه؛ لتعلق بها رائحة البخور.

ويتم تكفين الرجل بأن تبسط اللفائف الثلاث على بعضها فوق بعض، ثم يؤتى بالميت مستورًا وجوبا بثوب ونحوه ويوضع فوق اللفائف مستلقيان ثم يؤتى بالحنوط وهو الطيب ويجعل منه في قطن بين أليتي الميت، ويشد فوقه خرقة، ثم يجعل باقي القطن المطيب على عينيه ومنخريه وفمه وأذنيه وعلى مواضع سجوده: جبهته وأنفه، وركبتيه، وأطراف قدميه، ومغابن البدن: الإبطين وطي الركبتين وسرته، ويجعل من الطيب بين الأكفان وفي رأس الميت، ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم طرفها الأيمن على شقه الأيسر، ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك، ويكون الفاضل من طول اللفائف عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ثم يجمع الفاضل عند رأسه ويرد على وجهه، ويجمع الفاضل عند رجليه فيرد على رجليه، ثم يعقد على اللفائف أحزمة؛ لئلا تنتشر وتحل العقد في القبر.

ص: 305

وأما المرأة؛ فتكفن في خمسة أثواب: إزار تؤزر به، ثم تلبس قميصا، ثم تخمر بخمار على رأسها، ثم تلف بلفافتين.

خامسا: أحكام الصلاة على الميت.

ثم يشرع بعد ذلك الصلاة على الميت المسلم:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلي عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان"، قيل: وما القراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"، متفق عليه.

الصلاة على الميت فرض كفاية، إذا فعلها البعض؛ سقط الإثم عن الباقين، وتبقى في حق الباقين سنة، وإن تركها الكل؛ أثموا.

ويشترط في الصلاة على الميت: النية، واستقبال القبلة، وستر العورة وطهارة المصلي عليه، واجتناب النجاسة، وإسلام المصلي مكلفا.

وأما أركانها فهي: القيام فيها، والتكبيرات الأربع، وقراءة الفاتحة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، والترتيب، والتسليم.

وأما سننها فهي: رفع اليدين مع كل تكبيرة، والاستعاذة قبل القراءة، وأن يدعو لنفسه وللمسلمين، والإسراء بالقراءة، وأن يقف بعد

ص: 306

التكبيرة الرابعة وقبل التسليم قليلاً، وأن يضع يده اليسرى على صدره، والالتفات على يمينه في التسليم.

تكون الصلاة على الميت بأن يقوم الإمام والمنفرد عند صدر الرجل ووسط المرأة، ويقف المأمومون خلف الإمام، وسن جعلهم ثلاثة صفوف، ثم يكبر للإحرام، ويتعوذ بعد التكبير مباشرة فلا يستفتح، ويسمى، ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر، ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة عليه في تشهد الصلاة، ثم يكبر ويدعو للميت بما ورد، ومنه:"اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا؛ فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا، فتوفه عليهما، اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيراً من داره، وزوجا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأذعه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره، ونور له فيه".

ص: 307

وإن كان المصلى عليه أنثى؛ قال: "اللهم اغفر لها"؛ بتأنيث الضمير في الدعاء كله، وإن كان المصلى عليه صغيرًا؛ قال:"اللهم اجعله ذخرًا لوالديه، وفرطا، بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم"، ثم يكبر، ريقف بعدها قليلاً، ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه

ومن فاته بعض الصلاة على الجنازة؛ دخل مع الإمام فيما بقي، ثم إذا سلم الإمام؛ قضى فاته على صفته، وإن خشي أن ترفع الجنازة؛ تابع التكبيرات "أي: بدون فصل بينها"، ثم سلم

ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه؛ صلى على قبره.

ومن كان غائبا عن البلد الذي فيه الميت، وعلم بوفاته؛ فله أن يصلي عليه صلاة الغائب بالنية.

وحمل المرأة إذا سقط ميتا وقد تم له أربعة أشهر فأكثر، صلي عليه صلاة الجنازة، وإن كان دون أربعة أشهر؛ لم يصل عليه.

سادسا: حمل الميت ودفنه.

حمل الميت ودفنه من فروض الكفاية على من علم بحاله من

ص: 308

المسلمين، ودفنه مشروع بالكتاب والسنة، قال الله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} ، قال تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ؛ أي: جعله مقبورًا، والأحاديث في دفن الميت مستفيضة، وهو بر وطاعة وإكرام للميت واعتناء به.

وسن إتباع الجنازة وتشييعها إلى قبرها؛ ففي "الصحيحين": "من شهد جنازة حتى يصلى عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". وللبخاري بلفظ: "من شيع"، ولمسلم بلفظ:"من خرج معها، ثم تبعها حتى تدفن"، ففي الحديث برواياته الحث على تشييع الجنازة إلى قبرها.

ويسن لمن تبعها المشاركة في حملها إن أمكن، ولا بأس بحملها في سيارة أو على دابة، لا سيما إذا كانت المقبرة بعيدة.

ويسن الإسراع بالجنازة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة؛ فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك؛ فشر تضعونه عن رقابكم"، متفق عليه، لكن لا يكون الإسراع شديدًا، ويكون على دامليها ومشيعيها السكينة، ولا يرفعون أصواتهم؛ لا بقراءة ولا غيرها من

ص: 309

تهليل وذكر أو قولهم: استغفروا له، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا بدعة.

ويحرم خروج النساء مع الجنائز؛ لحديث أم عطية: "نهينا عن إتباع الجنائز"، ولم تكن النساء يخرجن مع الجنائز على عهد النبيصلى الله عليه وسلم؛ فتشييع الجنائز خاص بالرجال.

ويسن أن يعمق القبر ويوسع؛ لقولهصلى الله عليه وسلم: "احفروا وأوسعوا وعمقوا"، قال الترمذي:"حسن صحيح".

ويسن ستر قبر المرأة عند إنزالها فيه لأنها عورة.

ويسن أن يقول من ينزل الميت في القبر: "بسم الله، وعلى ملة رسول الله"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعتم موتاكم في القبور؛ فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله"، رواه الخمسة؛ وحسنه الترمذي.

ويوضع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة: "قبلتكم أحياء وأمواتا"، رواه أبو دود وغيره.

ص: 310

ويجعل تحت رأسه لبنة أو حجر أو تراب، ويدنى من حائط القبر الأمامي، ويجعل خلف ظهره ما يسنده من تراب، حتى لا ينكب على وجهه، أو ينقلب على ظهره.

ثم تسد عليه فتحة اللحد بالبن والطين حتى يلتحم، ثم يهال عليه التراب، ولا يزاد عليه من غير ترابه.

ويرفع القبر عن الأرض قدر سبر، ويكون مسنما أي: محدبا كهيئة السنام لتنزل عنه مياه السيول، ويوضع عليه حصباء، ويرش بالماء ليتماسك ترابه ولا بتطاير، والحكمة في رفعه بهذا المقدار؛ ليعلم أنه قبر فلا يداس، ولا بأس بوضع النصائب على طرفيه لبيات حدوده، وليعرف بها، من غير أن يكتب عليها.

ويستحب إذا فرغ من دفنه أن يقف المسلمون على قبره ويدعوا له: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبت؛ فإنه الآن يسأل"، رواه أبو داود، وأما قراءة شيء من القرآن عند القبر؛ فإن هذا بدعة؛ لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، وكل بدعه ضلالة.

ويحرم البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها؛ لقول جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبني

ص: 311

عليه"، رواه مسلم، وروى الترمذي وصححه من حديث جابر مرفوعا: "نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطأ"، ولأن هذا من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة؛ لأن الجهال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر؛ تعلقوا به.

ويحرم إسراج القبور، أي: إضاءتها بالأنوار الكهربائية وغيرها، ويحرم اتخاذ المساجد عليها، أي: ببناء المساجد عليها، والصلاة عندها أو إليها، وتحرم زيارة النساء للقبور؛ لقولهصلى الله عليه وسلم:"لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، رواه أهل السنن، وفي "الصحيح":"لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ولأن تعظيم القبور بالبناء عليها ونحوه هو أصل شرك العالم.

ص: 312

وتحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال والجلوس عليها وجعلها مجتمعا للقمامات أو أسال المياه عليها؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخرق ثيابه، فتخلص إلى جلده: خير من أن يجلس على قبر".

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه؛ علم أن النهي إنما احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال على رؤوسهم".

سابعا أحكام التعزية وزيارة القبور:

وتسن تعزية المصاب بالميت، وحثه على الصبر والدعاء للميت، لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات، عن عمرو بن حزم مرفوعا:"ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة؛ إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة"، ووردت بمعناه أحاديث.

ولفظ التعزية أن يقول: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك".

ولا ينبغي الجلوس للعزاء والإعلان عن ذلك كما يفعل بعض الناس اليوم، ويستحب أن يعد لأهل الميت طعاما يبعثه إليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 313

"اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ جاءهم ما يشغلهم"، رواه أحمد والترمذي وحسنه.

أما ما يفعله بعض الناس اليوم من أهل البيت يهيئون مكانا لاجتماع الناس عندهم، ويصنعون الطعام، ويستأجرون المقرئين لتلاوة القرآن، ويتحملون في ذلك تكاليف ماليه؛ فهذا من المآتم المحرمة المبتدعة؛ لما روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله؛ قال:"كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة"، وإسناده ثقاب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرؤوا ويهدوا له؛ ليس معروفا عند السلف، وقد كرهه طوائف من أهل العلم من غير وجه" انتهى.

وقال الطرطوشي: "فأما المآتم؛ فممنوعة إجماع العلماء، والمأتم هو الاجتماع على المصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل شيء، وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثلث والرابع والشهر والسنة؛ فهو طامة، وإن كان من التركة وفي الورثة محجور عليه أو من لم يأذن؛

ص: 314

حرم فعله، وحرم الأكل منه" انتهى

وتستحب زيارة القبور للرجال خاصة؛ لأجل الاعتبار والاتعاظ، ولأجل الدعاء للأموات والاستغفار لهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، رواه مسلم والترمذي، وزاد:" فإنها تذكر الآخرة"، ويكون ذلك بدون سفر

فزيارة القبور تستحب بثلاث شروط:

1 أن يكون الزائر من الرجال لا النساء؛ لأن النبيصلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله زوارات القبور".

2 أن تكون بدون سفر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".

3 أن يكون القصد منها الاعتبار والاتعاظ والدعاء للأموات، فإن كان القصد منها التبرك بالقبور والأضرحة وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات من الموتى؛ فهذه زيارة بدعية شركية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "زيارة القبور على نوعين: شرعية وبدعية،

ص: 315

فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته من غير شد رحل، والبدعة: أن تكون قصد الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، وهذا شرك أكبر، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو الدعاء به، وهذا بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها" انتهى

والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ص: 316

‌كتاب الزكاة

‌باب في مشروعية الزكاة ومكانتها

اعملوا وفقني الله وإياكم أنه لا بد من معرفة تفاصيل أحكام الزكاة وشروطها وبيان من تجب عليه ومن تجب له تجب فيه من الأموال.

فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، كما تظاهرت بذلك دلالة الكتاب والسنة، وقد قرنها الله تعالى بالصلاة في كتابه في اثنين وثمانين موضعا، مما يدل على عظم شأنها، وكمال الاتصال بينها وبين الصلاة، ووثاقة الارتباط بينهما، حتى قال صديق هذه الأمة وخليفة الرسول الأول أبو بكر الصديق:"لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".

قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .

وقال تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} .

ص: 319

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

" الحديث.

وأجمع المسلمون على فرضيتها، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام، وعلى كفر من جحد وجوبها، وقتال من منع إخراجها.

فرضت في السنة الثانية للهجرة النبوية، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السعادة لقبضها وجبايتها لإيصالها إلى مستحقتها، ومضت بذلك سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.

وفي الزكاة إحسان إلى الخلق، وهي طهرة للمال من الدنس، وحصانة له من الآفات، وعبودية للرب سبحانه، وقال الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وبالتالي؛ فهي تطهير للنفوس من الشح والبخل، وامتحان للغني حيث يتقرب إلى الله بإخراج شيء ماله المحبوب إليه.

وقد أوجبها الله في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها

ص: 320

النمو والربح: ما ينمو فيها بنفسة كالماشية والحرث، وما ينمو بالتصرف وإدارته في التجارة كالذهب والفضة وعروض التجارة، وجعل الله قدر المخرج في الزكاة على حسب التعب في المال الذي تخرج منه، فأوجب في الركاز وهو وجد مؤنة نصف الخمس، وما وجد فيه التعب من طرفين ربع الخمس، وفيما يكثر فيه التعب والتقلب كالنقود وعروض التجارة ثمن الخمس.

وقد سماها الله بالزكاة، لأنها تزكي النفس والمال؛ فهي ليست غرامة ولا ضريبة تنقص المال وتضر صاحبه، بل هي على العكس تزيد المال نموًأ من حيث لا يشعر الناس، قالصلى الله عليه وسلم:"ما نقص مال من صدقة".

والزكاة في الشرع حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص، هو تمام الحول في الماشية والنقود وعروض التجارة، وعند اشتداد الحب وبدو الصلاح في الثمار، وحصول ما تجب

ص: 321

فيه من العسل، واستخراج ما تجب فيه من المعادن، وغروب الشمس ليلة العيد في زكاة الفطر.

وتجب الزكاة على المسلم إذا توفرت فيه شروط خمسة:

أحدها: الحرية؛ فلا تجب على مملوك؛ لأنه لا مال له، وما بيده ملك لسيده، فتكون زكاته على سيده.

الشرط الثاني: أن يكون صاحب المال مسلما؛ فلا تجب على كافر، بحيث لا يطالب بأدائها؛ لأنها قربة وطاعة، والكافر ليس من أهل القربة والطاعة، ولأنها تحتاج إلى نية، ولا تتأتى من الكافر، أما وجوبها عليه بمعنى أنه مخاطب بها ويعاقب عليها في الآخرة عقابا خاصا؛ فمحل خلاف بين أهل العلم، وفي حدي معاذ رضي الله عنه:"فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"، ثم ذكر الصلاة، ثم قال:"فإن هم أطاعوك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم"، متفق عليه؛ فجعل الإسلام شرطا لوجوب الزكاة.

الشرط الثالث: امتلاك نصاب؛ فلا تجب فيما دون النصاب، وهو قدر معلوم المال يأتي تفصيله، سواء كان مالك النصاب كبيرًا أو صغيرًا، عاقلاً أو مجنونا؛ لعموم الأدلة.

الشرط الرابع: استقرار الملكية؛ بأن لا يتعلق بها حق غيره؛ فلا

ص: 322

زكاة في ما لم تستقر ملكيته؛ كدين الكتابة؛ لأن المكاتب يملك تعجيز نفسه، ويمتنع من الأداء.

الشرط الخامس: مضى الحول على المال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، رواه ابن ماجه، وروى الترمذي معناه.

وهذا في غير الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، فأما الخارج من الأرض؛ فتجب فيه الزكاة عند وجوده؛ فلا يعتبر فيه الحول، وإنما يبقى تمام الحول مشترطا في النقود والماشية وعروض التجارة رفقا بالمالك؛ ليتكامل النماء فيها.

ونتائج البهائم التي تجب فيها الزكاة وربح التجارة حولهما حول أصلهما؛ فلا يشترط أن يأتي عليهما حول مستقل إذا كان أصلهما قد بلغ النصاب، فإن لم يكن كذلك؛ ابتدئ الحول من تمامهما النصاب.

ومن له دين على معسر؛ فإنه يخرج زكاته إذا قبضه لعام واحد على الصحيح، وإن كان له دين على مليء باذل؛ فإنه زكيه كل عام.

وما أعد من الأموال للقنية والاستعمال؛ فلا زكاة فيه؛ كدور السكنى، وثياب البذلة، وأثاث المنزل، والسيارات، والدواب المعدة للركوب والاستعمال.

ص: 323

وما أعد للكراء كالسيارات والدكاكين والبيوت؛ فلا زكاة في أصله، وإنما تجب الزكاة في أجرته إذا بلغت النصاب بنفسها أوبضمها إلى غيرها وحال عليها الحول.

ومن وجبت عليه الزكاة، ثم مات قبل إخراجها؛ وجب إخراجها من تركته، فلا تسقط بالموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فدين الله أحق بالوفاء"، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فيخرجهما الوارث أو غيره من تركة الميت؛ لأنها حق واجب؛ فلا تسقط بالموت، وهي دين في ذمة الميت، يجب إبراؤه منها.

ص: 324

‌باب في زكاة بهيمة الأنعام

اعلم أن من جملة الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة: بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، بل هي في طليعة الأموال الزكوية؛ فقد دلت على وجوب الزكاة فيها الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبه في شأنها وكتب خلفاؤه معروفة مشهورة في بيان فرائضها وبعث السعاة لجبايتها من قبائل العرب حول المدينة على امتداد الساحة الإسلامية.

فتجب الزكاة في الإبل والبقر والغنم بشرطين:

الشرط الأول: أن تتخذ لدر ونسل لا للعمل؛ لأنها حينئذ تكثر منافعها ويطيب نماؤها بالكبر والنسل؛ فاحتملت المواساة.

الشرط الثاني: أن تكون سائمة أي: راعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون"، رواه أحمد وأبو داود والنسائي،

ص: 325

والسوم: الرعي؛ فلا تجب الزكاة في دواب تعلف بعلف اشتراه لها أو جمعه من الكلأ أو غيره، هذا إذا كانت تعلف الحول كله أو أكثره.

أولاً: زكاة الإبل.

وإذا توفرت الشروط؛ وجب في كل خمس من الإبل شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه؛ كما دل على ذلك السنة والإجماع.

فإذا بلغت خمسا وعشرين؛ ففيها بنت مخاض، وهي ما تم لها سنة ودخلت في السنة الثانية، سميت بذلك لأن أمها تكون في الغالب قد مخضت؛ أي: حملت، وليس كونها ماخضا شرطا، وإنما هذا تعريف لها بغالب أحوالها، فإن عدمها أجزأ عنها ابن لبون؛ لحديث أنس:"فإن لم يكن فيها بنت مخاض؛ ففيها ابن لبون ذكر"، رواه أبو داود، ويأتي بيان معنى ابن اللبون.

"وإذا بلغت الإبل ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين؛ ففيها بنت لبون" أنثى، وكما دل على ذلك الإجماع، وبنت اللبون هي ما تم لها سنتان، لهذا سميت بذلك؛ لأن أمها تكون في الغالب قد وضعت حملها، فكانت ذات لبن، وليس هذا شرطان لكنه تعريف لها بالغالب.

ص: 326

فإذا بلغت الإبل ستا وأربعين؛ وجب فيها حقه، وهي ماتم لها ثلاث سنين، سميت بذلك لأنها بهذا السن استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وتركب.

فإذا بلغت الإبل إحدى وستين؛ وجب فيها جذعة، وهي ما تم لها أربع سنين، سميت بذلك لأنها إذا بلغت هذا السن تجذع؛ أي: يسقط سنها. والدليل على وجوب الجذعة في هذا المقدار من الإبل ما في "الصحيح" من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين؛ ففيها جذعة"، وقد أجمع العلماء على ذلك.

فإذا بلغ مجموع الإبل ستا وسبعين؛ وجب فيها بنتا لبون اثنتان للحديث الصحيح، وفيه:"فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين؛ ففيها بنتا لبون".

فإذا بلغت الإبل إحدى وتسعين؛ وجب فيها حقتان؛ للحديث الصحيح الذي جاء فيه: "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة؛ ففيها حقتان طروقتا الفحل"، وللإجماع على ذلك.

فإذا زاد مجموع الإبل عن مئة وعشرين بواحدة؛ وجب فيها ثلاث بنات لبون؛ لحديث الصدقات الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"فإذا زادت على عشرين ومئة"؛ ففي كل خمس حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، ثم يجب على كل أربعين بنت لبون وعن كل خمسين حقة".

ص: 327

ثانيا: زكاة البقر.

وأما البقر؛ فتجب فيها الزكاة بالنص والإجماع؛ ففي "الصحيحين" عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها؛ إلا جاء يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها"

فيجب فيها إذا بلغت ثلاثين تبيع أو تبيعة قد تم لكل منهما سنة ودخل في السنة الثانية، سمي بذلك لأنه يتبع أمه في السرح.

ولا شيء فيما دون الثلاثين: لحديث معاذ؛ قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين".

فإذا بلغ مجموع البقر أربعين؛ وجب فيها بقرة مسنة، وهي ما تم لها سنتان؛ لحديث معاذ؛ قال: "وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل

ص: 328

ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة"، رواه الخمسة، وصححه ابن حبان والحاكم.

فإذا زاد مجموع البقر على أربعين؛ وجب في كل ثلاثين منها تبيع، وفي كل أربعين مسنة. والمسنة هي التي قد صارت ثنية، سميت مسنة لزيادة سنها، ويقال لها: ثنية.

ثالثاً: زكاة الغنم.

الأصل في وجوب الزكاة في الغنم السنة والإجماع؛ ففي الصحيح عن أنس أن أبا بكر كتب له: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله

" إلى أن قال: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة

" الحديث.

فإذا بلغ مجموع الغنم أربعين ضأنا كانت أو معزًا؛ ففيها شاة واحدة، وهي جذع ضأن أو ثني معز؛ لحديث سويد بن غفلة؛ قال:"أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز، وجذع الضأن ما تم له ستة أشهر، وثني المعز ما تم له سنة".

ص: 329

ولا زكاة في الغنم إذا نقص عددها عن أربعين؛ لحديث أبي بكر في "الصحيحين" وفيه.: "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة؛ فلا شيء فيها؛ إلا إن شاء ربها".

فإذا بلغ مجموع الغنم مئة وإحدى وعشرين؛ وجب فيها شاتان: لحديث أبي بكر الذي مر معنا قريبا، وفيه:" فإذا زادت على عشرين ومئة؛ ففيها شاتان".

فإذا بلغت مئتين وواحدة؛ وجب فيها ثلاث شياه؛ لحديث أبي بكر، وفيه:"فإذا زادت على مئتين؛ ففيها ثلاث شياه".

ثم تستقر الفريضة فيها بعد هذا المقدار، فيتقرر في كل مئة شاة؛ ففي أربع مئة أبع شياه، وفي خمس مئة خمس شياه، وفي ست مئة ست شياه

وهكذا؛ ففي كتاب الصدقات الذي عمل به أبو بكر رضي الله عنه حتى مات وعمر حتى توفى رضي الله عنه؛ فيه: "وفي الغنم من أربعين شاةً شاةُ إلى عشرين ومئة، فإذا زادت شاة؛ ففيها شاتان إلى مئتين، فإذا زادت واحدة؛ ففيها ثلاث شياه إلى ثلاث مئة، فإذا زادت بعد؛ فليس فيها شيء، حتى تبلغ أربع مئة، فإذا كثرت الغنم؛ ففي كل مئة شاة"، رواه الخمسة إلا النسائي.

ص: 330

ولا تؤخذ هرمة ولا معيبة لا تجزئ في الأضحية؛ إلا إذا كان كل الغنم كذلك، ولا تؤخذ الحامل ولا الربي التي تربي ولدها ولا طروقة الفحل؛ أي: التي طرقها الفحل؛ لأنها تحمل غالبا؛ لحديث أبي بكر في "الصحيح"؛ قال: "لا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس؛ إلا أن يشاء المصدق"، وقال تعالى:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"ولكن من أوسط أموالكم؛ فإن الله لم يسألكم خياره، ولم يأمركم بشراره"، ولا تؤخذ كريمة، وهي النفيسة التي تتعلق بها نفس صاحبها، ولا تؤخذ أكولة، وهي السمينة المعدة للأكل، أو هي كثيرة الأكل، فتكون سمينة بسبب ذلك قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن:"إياك وكرائم أموالهم"، متفق عليه.

والمأخوذ في الصدقات العدل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "ولكن من أوسط أموالكم"، وتؤخذ المريضة من نصاب كله مراض؛ لأن الزكاة وجبت للمواساة، وتكليفه الصحيحة عن المراض إجحاف به، وتؤخذ الصغيرة من نصاب كله صفار من الغنم خاصة.

وإذا شاء صاحب المال أن يخرج أفضل مما وجب عليهن فهو أفضل وأكثر أجرًا.

ص: 331

وإن كان المال مختلطا من كبار وصغار أو صحاح ومعيبات أو ذكور وإناث؛ أخذت أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين، فيقوم المال كبارًا ويعرف ما يجب فيه، ثم يقوم صغارًا كذلك، ثم يؤخذ بالقسط، وهكذا الأنواع الأخرى من صحاح ومعيبات أو ذكور وإناث، فلو كانت قيمة المخرج من الزكاة إذا كان النصاب كبارًا صحاحا عشرين، وقيمته إذا كان صغارًا مراضا عشرة؛ فيخرج النصف من هذا والنصف من هذا؛ أي: ما يساوي خمسة عشر.

ومن مباحث زكاة الماشية: معرفة حكم الخلطة فيها؛ بأن يكون مجموع الماشية المختلطة مشتركا بين شخصين فأكثر.

والخلطة نوعان:

النوع الأول: خلطة أعيان: بأن يكون المال مشتركا مشاعا بينهما، لم يتميز نصيب أحدهما عن الآخر، كأن يكون لأحدهما نصف هذه الماشية أو ربعها ونحوه.

النوع الثاني: خلطة أوصاف: بأن يكون نصيب كل منهما متميزًا معروفا، لكنهما متجاوران.

وكل واحدة من الخلطتين تؤثر في الزكاة إيجابا وإسقاطا، وتغليظا وتخفيفا.

فالخلطة بنوعيها تصير المالين المختلطين كالمال الواحد بشروط:

الأول: أن يكون المجموع نصابا، فإن نقص عن النصاب؛ لم يجب فيه شيء، والمقصود أن يبلغ المجموع النصاب، ولو كان ما لكل واحد ناقص عن النصاب.

ص: 332

الشرط الثاني: أن يكون الخلطان من أهل وجوب الزكاة، فلو كان أحدهما ليس من أهل الزكاة؛ لم تؤثر الخلطة، وصار لكل قسم حكمه.

الشرط الثالث: أن يشترك المالان المختلطان في المراح، وهو المبيت والمأوى، ويشتركا في المسرح، وهو المكان الذي تجتمع فيه لتذهب للمرعى، ويشتركا في المحلب، وهو موضع الحلب، فلو حلب أحد الشريكين ماشيته في مكان وحلب الآخر ماشيته في مكان آخر؛ لم تؤثر الخلطة، وأن يشتركا في فحل؛ بأن لا يكون لكل نصيب فحل مستقل، بل لابد أن يطرقها فحل واحد، وأن يشتركا في مرعى؛ بأن يرعى مجموع الماشية في مكان واحد، فإن اختلف المرعى، فرعى نصيب أحدهما في مكان غير المكان الذي يرعى فيه خليطه؛ لم تؤثر الخلطة.

فإذا تمت هذه الشروط؛ صار المالان المختلطان كالمال الواحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بينهما بالسوية"، رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وحسنه الترمذي

ص: 333

فلو كان لإنسان شاة ولآخر تسع وثلاثون، أو كان لأربعين رجلاً أربعون شاة، لكل واحد شاة، واشتركا حولاً تامّا، مع توفر الشروط التي ذكرنا؛ فعليهم شاة واحدة على حب ملكهم، ففي المثال الأول يكون على صاحب الشاة ربع عشر شاة، وعلى صاحب التسع والثلاثين باقيها، وفي المثال الثاني على كل واحد من الأربعين ربع عشر الشاة، ولو كان لثلاثة مئة وعشرون، لكل واحد أربعون؛ فعلى الجميع شاة واحدة أثلاثا.

وكما أن الخلطة تؤثر على النحو الذي رأيت فكذلك التفريق يؤثر عند الإمام أحمد، فإذا كانت سائمة الرجل متفرقة، كل قسم منها يبعد عن الآخر فوق مسافة القصر؛ صار لكل منهما حكمه، ولا تعلق له بالآخر، فإن كان نصابا؛ وجبت فيه الزكاة، وإن نقص عن النصاب؛ فلا شيء فيهن فلا يضم كل قسم إلى لآخر، هذا قول الإمام أحمد.

وقال جمهور العلماء بعدم تأثير الفرقة في مال الشخص الواحد، فيضم بعضه إلى بعض في الحكم، ولو كان متفرقا، وهذا هو الراجح. والله أعلم.

ص: 334

‌باب في زكاة الحبوب والثمار والعسل والمعدن والركاز

قال اله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .

والزكاة تسمى نفقة؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: لا يخرجون زكاتها.

وقد استفاضت السنة المطهرة بالأمر بإخراج زكاة الحبوب والثمار وبيان مقدارها، وأجمع المسلمون على وجوبها في البر والشعير والتمر والزبيب، فتجب الزكاة في الحبوب كلها؛ كالحنطة، والشعير، والأرز، والدخن، وسائر الحبوب، قال صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر صدقة"، وقال عليه الصلاة والسلام:

ص: 335

"فيما سقت السماء والعيون العشر"، رواه البخاري.

وتجب الزكاة في الثمار كالتمر والزبيب ونحوهما من كل ما يكال ويدخر، ولا تجب الزكاة إلا فيما يبلغ النصاب؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه:"ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة"، رواه الجماعة، والوسق ستون صاعا بالصاع النبوي، الذي مقداره أربع حفنات، بكفي الرجل المعتل الخلقة.

ويشرط في زكاة الحبوب والثمار أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة، وهو بدو الصلاح في الثمر، واشتداد الحب في الزرع.

فيشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار شرطان:

الأول: بلوغ النصاب على ما سبق بيانه.

الثاني: أن يكون مملوكا له وقت وجوب الزكاة.

فلو ملك النصاب بعد ذلك؛ لم تجب عليه فيه زكاة؛ كما لو اشتراه أو أخذه أجرة لحصاده، أو حصله باللقاط.

والقدر الواجب إخراجه في زكاة الحبوب والثمار مختلف باختلاف وسيلة السقي:

ص: 336

فإذا سقي بلا مؤنة من السيول والسيوح وما شرب بعروقه كالبعل؛ يجب فيه العشر؛ لما في "الصحيح" من حديث ابن عمر: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر"، ولمسلم عن جابر:"فيما سقت الأنهار والغيم العشر".

ويجب فيما سقي بمؤنة من الآبار وغيرها نصف العشر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "وما سقي بالنضح نصف العشر"، رواه البخاري، والنضح: السقي بالسواني، ولمسلم عن جابر:"وفيما سقي بالسانية نصف العشر".

ووقت وجوب الزكاة في الحبوب حين تشتد، وفي الثمر حينما يبدو صلاحه؛ بأن يحمر أو يصفار، فلو باعه بعد ذلك؛ وجبت زكاته عليه لا على المشتري.

ويلزم إخراج الحب مصفى؛ أي: منقى من التبن والقشر، ويعتبر إخراج الثمر يابسا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخرص العنب زبيبا، وتؤخذ زكاته زبيبا؛ كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا، ولا يسمى زبيبا وتمرًا إلا اليابس.

ص: 337

وتجب الزكاة في العسل إذا أخذ من ملكة أو من الموات؛ كرؤوس الجبال، إذا بلغ ما أخذه نصابا، ونصاب العسل ثلاثون صاعا بالصاع النبوي، ومقدار ما يجب فيه هو العشر.

وتجب الزكاة في المعدن؛ لقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .

والمعدن هو المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض؛ فهو مستفاد من الأرض، فوجبت فيه الزكاة؛ كالحبوب والثمار، فإن كان المعدن ذهبا أو فضةً؛ ففيه ربع العشر إذا بلغ نصابا فأكثر، وإن كان غيرهما كالكحل والزرنيخ والكبريت والملح والنفط؛ فيجب فيه ربع عشر قيمته إن بلغت قيمته نصابا فأكثر من الذهب والفضة.

وتجب الزكاة في الركاز، وهو ما وجد مدفونا من أموال الكفار من أهل الجاهلية، سمي ركازًا؛ لأنه غيب في الأرض، كما تقول: ركزت المرح، ويجب فيه الخمس في قليله وكثيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وفي الركاز الخمس"، متفق عليه.

ويعرف كونه من أموال الكفار بوجود علامة الكفار عليه أو على بعضه؛ بأن يوجد عليه أسماء ملوكهم، أو عليه رسم صلبانهم، فإذا أخرج خمسة؛ فباقيه لواجده.

ص: 338

وإن وجد على المال المدفون أو على بعضه علامة المسلمين، أو لم يجد عليه علامة أصلاً؛ فحكمه حكم اللقطة.

وما أخذ من زكاة الركاز يصرف في مصالح المسلمين كمصرف الفيء.

مما سبق يتبين لنا أن الخارج من الأرض أنواع هي:

1 الحبوب والثمار.

2 المعادن على اختلافها.

3 العسل.

4 الركاز.

وكل هذه الأنواع داخلة في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ، وقوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .

إن الزكاة إنما تجب فيما يكال ويدخر من الحبوب والثمار، فما لا يكال ولا يدخر منها؛ لا تجب فيه الزكاة كالجوز، والتفاح، والخوخ، والسفرجل، والرمان، ولا سائر الخضروات والبقول؛ كالفجل، والثوم، والبصل، والجزر، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والباذنجان، ونحوها؛ لحديث على رضي الله عنه مرفوعا:"ليس في الخضروات صدقة"، رواه الدارقطني، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"،

ص: 339

فاعتبر الكيل لما تجب فيه الزكاة، فدل على عدم وجوبها فيما لا يكال ويدخر، وتركه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه لها وهي تزرع بجوارهم فلا تؤدى زكاتها لهم دليل على عدم وجوب الزكاة فيها، فترك أخذ الزكاة منها هو السنة المتبعة.

قال الإمام أحمد: "ماكان مثل الخيار والقثاء والبصل والرياحين؛ فليس فيه زكاة؛ إلا أن يباع، ويحول على ثمنه الحول.

ص: 340

‌باب في زكاة النقدين

اعلم وفقنا الله وإياك أن المراد بزكاة النقدين: زكاة الذهب والفضة وما اشتق منهما من نقود وحلي وسبائك وغير ذلك.

والدليل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة: الكتاب والسنة والإجماع

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ؛ ففي الآية الكريمة الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن لم يخرج زكاة الذهب والفضة

وفي "الصحيحين": "ما من ذهب ولا فضة لا يؤدى حقها؛ إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار

" الحديث.

واتفق الأئمة على أن المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث كل ما وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاتهن وأن ما أخرجت زكاته؛ فليس

ص: 341

بكنز، والكنز: كل شيء مجموع بعضه على بعض، سواء كنزه في بطن الأرض أم على ظهرها.

فتجب الزكاة من الذهب إذا بلغ عشرين مقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مئتي درهم إسلامي، ربع العشر منهما، سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين؛ لحديث ابن عمرو عن عائشة رضي الله عنهما مرفوعا:"أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالاً"، رواه ابن ماجه، وفي حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا:"في الرقة ربع العشر"، متفق عليه.

والرقة بكسر الراء وتخفيف القاف هي الفضة الخالصة، مضروبة كانت أو غير مضروبة.

والمثقال في الأصل مقدار من الوزن. قال الفقهاء: "وزنة اثنتان وسبعون حبة شعير من الشعير الممتلىء معتدل المقدار"

ونصاب الذهب بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع جنيه، ونصاب الفضة بالريال العربي السعودي ستة وخمسون ريالاً أو ما يعادل صرفها من الورق النقدي المستعمل في هذا الزمان.

ويخرج من الذهب والفضة إذا بلغ كل منهما النصاب المحدد له فأكثر ربع العشر.

ص: 342

ما يباح للرجل لبسه من الذهب والفضة:

يباح للذكر أن يتخذ خاتما من الفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، متفق عليه.

ويحرم عليه اتخاذ الخاتم من الذهب؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن التحلي بالذهب، وشدد النكير على من فعله، وقال صلى الله عليه وسلم:"يعمد أحدكم إلى جمة من نار جهنم، فيجعلها في يده".

ويباح للذكر أيضا من الذهب ما دعت إليه حاجة؛ كأنف، ورباط أسنان لأن عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفا من فضة، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذ أنفا من ذهب. رواه أبو داود والحاكم وصححه.

ما يباح للنساء التحلي به من الذهب والفضة:

يباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه؛ لأن الشارع أباح لهن التحلي مطلقا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها"، رواه أحمد وأبو داود والترمذي

ص: 343

والنسائي، فدل على إباحة التحلي بالذهب والفضة للنساء وأجمع على ذلك.

ولا زكاة في حلي النساء من الذهب والفضة إذا كان معدًا للاستعمال أو للإعارة "1"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الحلي زكاة"، رواه الطبراني عن جابر بسند ضعيف، لكن يعضده ماجرى العمل عليه، وقال به جماعة من الصحابة؛ منهم أنس، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء أختها. قال أحمد:"فيه عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح أشبه ثياب البذلة وعبيد الخدمة ودور السكنى.

وإن أعد الحلي للكرين، أو أعد لأجل النفقة أي: اتخذ رصيدًا للحاجة، أو أعد للقنية، أو للإدخار، أو لم يقصد به شيء مما سبق؛ فهو باق على أصله، تجب فيه الزكاة؛ لأن الذهب والفضة تجب فيهما الزكاة، وإنما سقط وجوبها فيما أعد للاستعمال أو العارية، فيبقى وجوبها فيما عداه على الأصل إذا بلغ نصابا بنفسه أو بضمه إلى مال آخر،

1 عند الجمهور، وذهب بعض العلماء إلىإيجاب الزكاة فيه لأدلة رأوها.

ص: 344

فإن كان دون النصاب، ولم يمكن ضمه إلى مال آخر؛ فلا زكاة فيه؛ إلا إذا كان معدًا للتجارة؛ فإنها تجب الزكاة في قيمته.

حكم تمويه الحيطان وغيرها بالذهب والفضة واتخاذ الأواني منهما:

يحرم أن يموَّه سقف أو حائط بذهب أو فضة، أو يموه شيء من السيارة أو مفاتيحها بهما، كل ذلك حرام على المسلم، ويحرم تمويه قلم أو دواة بذهب أو فضة؛ لأن ذلك سرف وخيلاء.

ويحرم اتخاذ الأواني من الذهب والفضة، أو تمويه الأواني بذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"والذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم".

كما أنه يشتد الوعيد على من لبس خاتم الذهب من الرجال، ولكن مع الأسف ترى بعض المسلمين يلبسون خواتيم الذهب في أيديهم، غير مبالين بالوعيد، أو يجهلونه؛ فالواجب على هؤلاء التوبة إلى الله من التحلي بالذهب، والاكتفاء بما أباح الله من خاتم الفضة ففي الحلال غنية عن الحرام.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}

نسأل الله للجميع البصيرة في دينه والعمل بشرعه والإخلاص لوجهه.

ص: 345

‌باب في زكاة عروض التجارة

العروض جمع عرْض بإسكان الراء، وهو ما أعد لبيع وشراء لأجل الربح؟ سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى، أو لأنه يعرض يم يزول.

والدليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، وعروض التجارة هي أغلب الأموال؛ فكانت أولى بدخولها في عموم الآيات.

وروى أبو داود عن سمرة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع"، ولأنها أموال نامية، فوجبت فيها الزكاة كبهيمة الأنعام السائمة.

وقد حكى غير واحد إجماع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول.

ص: 346

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأئمة الأربعة وسائر الأئمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عروض التجارة، سواء كان التاجر مقيما أو مسافرًا، وسواء كان متربصا، وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مديرًا كالتجار الذين في الحوانيت، سواء كانت التجارة بَزّاً من جديد أو لييس أو طعاما من قوت أو فاكهة أو أدم أو غير ذلك، أو كانت آنية كالفخار ونحوه، أو حيوانا من رقيق أو خيل أو بغال أو حمير أو غنم مُعلفة أو غير ذلك؛ التجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة، كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة" انتهى كلام الشيخ رحمه الله.

ويشترط لوجوب الزكاة في عروض التجارة شروط:

الشرط الأول: أن يملكها بفعله؛ كالبيع، وقبول الهبة، والوصية والإجارة، وغير ذلك من وجو المكاسب.

الشرط الثاني: أن يملكها بنية التجارة؛ بأن يقصد التكسب بها؛ لأن الأعمال بالنيات؛ والتجارة عمل؛ فوجب اقتران النية به كسائر الأعمال.

الشرط الثالث: أن تبلغ قيمتها نصابا من أحد النقدين.

الشرط الرابع: تمام الحول عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، لكن لو اشترى عرضا بنصاب من النقود أو بعروض تبلغ قيمتها نصابا، بنى على حول ما اشتراها به.

وكيفية إخراج زكاة العروض: أنها تقوَّم عند تمام الحول بأحد

ص: 347

النقدين: الذهب أو الفضة "1"، ويراعى في ذلك الأحظ للفقراء، فإذا قومت وبلغت قيمتها نصابا بأحد النقدين؛ أخرج ربع العشر من قيمتها، ولا يعتبر ما اشتريت به، بل يعتبر ما تساوي عند تمام الحول؛ لأنه هو عين العدل بالنسبة للتاجر وبالنسبة لأهل الزكاة.

ويجب على المسلم الاستقصاء والتدقيق ومحاسبة نفسه في إخراج زكاة العروض؛ كمحاسبة الشريك الشحيح لشريكه؛ بأن يحصي جميع ما عنده من عروض التجارة بأنواعها، ويقومها تقويما عادلاً؛ فصاحب البقالة مثلاً يحصي جميع ما في بقالته من أنواع المعروضات للبيع من المعلبات وأصناف البضائع، وصاحب الآليات وقطع الغيار والمكائن والسيارات المعروضة للبيع يحصيها ويقومها، وصاحب الأراضي والعمارات المعروضة للبيع يقومها بما تساوي؛ أما العمارات والبيوت والسيارات المعدة للإيجار؛ فلا زكاة في ذواتها، وإنما تجب الزكاة فيما تحصل عليه صاحبها من أجارها إذا حال عليه الحول، والبيوت المعدة للسكنى والسيارات المعدة للركوب والحاجة لا زكاة فيها، وكذلك أثاث المنزل وأثاث الدكان وآلات التاجر؛ كالأذرع، والمكاييل، والموازين، وقوارير العطار، كل هذه الأشياء لا زكاة فيها؛ لأنها لا تباع للتجارة.

1 أو ما يقوم مقامهما من الورق النقدي.

ص: 348

أيها المسلم، أخرج زكاة مالك عن طيب نفس واحتساب، واعتبرها مغنما لك في الدنيا والآخرة، ولا تعتبرها مغرما، قال الله تعالى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ فكل من الصنفين يخرج الزكاة؛ ويعامل عند الله على حساب نيته وقصده؛ فهؤلاء أخرجوها ونووها مغرما يتسترون بها عن حكم الإسلام فيهم، وينتظرون أن تدور الدائرة على المسلمين؛ لينتقموا منهم، فصار جزاءهم أن عليهم دائرة السوء، وحرموا الثواب وخسروا من أموالهم، والمؤمنون يعتبرون الزكاة حين يخرجونها قربات لهم؛ فهؤلاء يوفر لهم الأجر، ويخلف عليهم ما أنفقوا بخير منه، {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} ؛ لنيتهم الحسنة ومقصدهم الأسمى.

فاتق الله أيها المسلم، واستشعر هذه المعاني، {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.}

ص: 349

‌باب في زكاة الفطر

زكاة الفطر من رمضان المبارك، تسمى بذلك لأن الفطر سببها، فإضافتها إليه من إضافة الشيء إلى سببه.

والدليل على وجوبها الكتاب والسنة والإجماع.

قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ، قال بعض السلف:"المراد بالتزكي هنا إخراج زكاة الفطر".

وتدخل في عموم قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} .

وفي "الصحيحين" وغيرهما: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من بر أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين".

وقد حكى غير واحد من العلماء إجماع المسلمين على وجوبها.

والحكمة في مشروعيتها: أنها طهر للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وشكر لله تعالى على إتمام فريضة الصيام.

ص: 350

وتجب زكاة الفطر على كل مسلم؛ ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، حرًا كان أو عبدًا؛ لحديث ابن عمر الذي ذكرنا قريبا؛ ففيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وفرض بمعنى ألزم وأوجب.

كما أن في الحديث أيضا بيان ما يخرج عن كل شخص وجنس ما يخرج؛ بمقدارها صاع، وهو أربعة أمداد، وجنس ما يخرج هو من غالب قوت البلد؛ برّاً كان، أو شعيراً أو تمرًا، أو زبيبا، أو أقطا

أو غير هذه الأصناف مما اعتاد الناس أكله في البلد، وغلب استعمالهم له؛ كالأرز والذرة، وما يقتاته الناس في كل بلد بحسبه.

كما بين صلى الله عليه وسلم وقت إخراجها، وهو أنه أمر بها أن تؤدى قبل صلاة العيد، فيبدأ وقت الإخراج الأفضل بغروب الشمس ليلة العيد، ويجوز تقديم إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ فقد روى البخاري رحمه الله: أن الصحابة كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، فكان إجماعا منهم.

وإخراجها يوم العيد قبل الصلاة أفضل، فإن فاته هذا الوقت، فأخر إخراجها عن صلاة العيد؛ وجب عليه إخراجها قضاء؛ لحديث ابن عباس: "من أداها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛

ص: 351

فهي صدقة من الصدقات"، ويكون آثما بتأخير إخراجها عن الوقت المحدد؛ لمخالفته أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويخرج المسلم زكاة الفطر عن نفسه وعمن يمونهم أي: ينفق عليهم من الزوجات والأقارب؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا الفطرة عمن تمولون".

ويستحب إخراجها عن الحمل؛ لفعل عثمان رضي الله عنه.

ومن لزم غيره إخراج الفطرة عنه، فأخرج هو عن نفسه بدون إذن من نلزمه؛ أجزأت؛ لأنها وجبت عليه ابتداء، والغير محتمل لها غير أصيل، وإن أخرج شخص عن شخص لا تلزمه نفقته بإذنه؛ أجزأت، وبدون إذنه لا تجزئ.

ولمن وجب عليه إخراج الفطرة من غيره أن يخرج فطرة ذلك الغير مع فطرته في المكان الذي هو فيه، ولو كان المخرج عنه في مكان آخر.

ونحب أن ننقل لك كلاما لابن القيم في جنس المخرج في زكاة الفطر، قال رحمه الله لما ذكر الأنواع الخمسة الواردة في الحديث:

ص: 352

"وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك؛ فإنما عليهم صاع من قوتهم، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك؛ أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصور سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتات أهل بلدهم، وعلى هذا؛ فيجزىء الدقيق، وإن لم يصح فيه الحديث، وأما إخراج الخبز أو الطعام؛ فإنه وإن كان أنفع للمساكين، لقلة المؤونة والكلفة فيه؛ فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه" انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يخرج من قوت بلدة مثل الأرز وغيره، ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث وهو رواية عن أحمد وقول أكثر العلماء، وهو أصح الأقوال؛ فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المواساة للفقراء" انتهى.

وأما إخراج القيمة عن زكاة الفطر؛ بأن يدفع بدلها دراهم؛ فهو خلاف السنة؛ فلا يجزئ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه إخراج القيمة في زكاة الفطر.

قال الإمام أحمد: "لا يعطى القيمة. قيل له: قوم يقولون: إن عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؟ قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 353

ويقولون: قال فلان، وقد قال ابن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا

" الحديث؟! ".

ولا بد أن تصل صدقة الفطر إلى مستحقها في الموعد المحدد لإخراجها، أو تصل إلى وكيله الذي عمده في قبضها نيابة عنه، فإن لم يجد الدافع من أراد دفعها إليه، ولم يجد له وكيلاً في الموعد المحدد؛ وجب دفعها إلى آخر.

وهنا يغلط بعض الناس؛ بحيث يودع زكاة الفطر عند شخص لم يوكله المستحق، وهذا لا يعتبر إخراجا صحيحا لزكاة الفطر، فيجب التنبيه عليه.

ص: 354

‌باب في إخراج الزكاة

إن من أهم أحكام الزكاة معرفة مصرفها الشرعي؛ لتكون واقعة موقعها، وواصلة إلى مستحقها، حتى تبرأ بذلك ذمة الدافع.

فاعلم أيها المسلم أنه تجب المبادرة بإخراج الزكاة فور وجوبها في المال؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، والأمر المطلق يقتضي الفورية، وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما خالطت الزكاة مالاً إلا هلكته"، ولأن حاجة الفقير تستدعي المبادرة بدفعها إليه، وفي تأخيرها إضرار به، ولأن من وجبت عليه عرضة لحلول العوائق الطارئة كالإفلاس والموت، وذلك يؤدي إلى بقائها في ذمته،

ص: 355

ولأن المبادرة بإخراج الزكاة، وعدم تأخيرها إلا لضرورة؛ كما أو أخرها ليدفعها إلى من هو أشد حاجة، أو لغيبة المال، ونحو ذلك.

وتجب الزكاة في مال صبي ومال مجنون؛ لعموم الأدلة، ويتولى إخراجها عنهما وليهما في المال؛ لأن ذلك حق وجب عليهما تدخلة النيابة.

ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".

وإخراج الزكاة عمل، والأفضل أن يتولى صاحب المال توزيع الزكاة؛ ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها، وله أن يوكل من يخرجها عنه، وإن طلبها إمام المسلمين؛ دفعها إليه، أو يدفعها إلى الساعي، وهو العامل الذي يرسله الإمام لجباة الزكوات.

ويستحب عند دفع الزكاة أن يدعوا الدافع والآخذ، فيقول الدافع:"اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما"، ويقول الآخذ:"آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا".

قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} ؛ أي: ادع لهم.

ص: 356

قال عبد الله بن أبي أوفى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم يصدقهم؛ قال: "اللهم صل عليهم"، متفق عليه.

وإذا كان الشخص محتاجا، ومن عادته أخذ الزكاة؛ دفعها إليه دون أن يقول: هذه زكاة؛ لئلا يحرجه، وغن كان محتاجا، ولم يكن من عادته أخذ الزكاة، أعلمه بأنها زكاة.

والأفضل إخراج زكاة كل مال في بلده؛ بأن يوزعها على فقراء ذلك البلد الذي فيه المال، ويجوز نقلها إلى بلد آخر لمصلحة شرعية؛ كأن يكون له قرابة محتاجون ببلد آخر، أو من هم أشد حاجة ممن هم في البلد الذي فيه المال؛ لأن الصدقات كانت تنقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فيفرقها على فقراء المهاجرين والأنصار.

ويجب على غمام المسلمين بعث السعاة قرب زمن وجوب الزكاة لقبض زكاة الأموال الظاهرة كسائمة بهيمة الأنعام والزروع والثمار؛ لفعل النبيصلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه رضي الله عنهم من بعده، وجرى عليه عمل المسلمين، ولأن من الناس من لو ترك؛ لم يخرج الزكاة، ومنهم من يجهل وجوب الزكاة؛ فإرسال السعاة فيه تدارك لهذا الخطر، وفي بعث السعاة أيضا تخفيف على الناس، وإعانة لهم على أداء الواجب.

ص: 357

والواجب على المسلم إخراج الزكاة عند وجوبها كما سبق من غير تأخير ولا تردد، ويجوز تعجيل إخراج الزكاة قبل وجوبها لحولين فأقل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين؛ كما رواه أحمد وأبو داود؛ فيجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها إذا انعقد سبب الوجوب عند جمهور العلماء، سواء كانت زكاة ماشية أو حبوب أو عروض تجارة إذا ملك النصاب، وترك التعجيل أفضل؛ خروجا من الخلاف.

ص: 358

‌باب في بيان أهل الزكاة ومن لا يجوز دفع الزكاة لهم

واعلم أنه لا يجرئ دفع الزكاة إلا للأصناف التي عينها الله في كتابه الكريم، قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، فهؤلاء المذكورون في هذه الآية الكريمة هم أهل الزكاة الذين جعلهم الله محلا لدفعها إليهم، لا يجوز صرف شيء منها إلى غيرهم إجماعا.

وأخرج أبو داود وغيره عن زياد بن الحارث مرفوعا: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجرأها ثمانية أجزاء".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل: "إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك"

ص: 359

وذلك أنه لما اعترض بعض المنافقين على النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات؛ بين الله تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى غيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجب صرفها إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين، وإلا؛ صرفت إلى الموجود منهم، ونقلها إلى حيث يوجدون".

وقال: "لا ينبغي منها إلا من يستعين بها على طاعة الله؛ فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين أو من يعاونهم، فمن لا يصلي من أهل الحاجات؛ لا يعطى منها، حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة" انتهى.

ولا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف التي عينها الله من المشاريع الخيرية الأخرى؛ كبناء المساجد والمدارس؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ

} الآية، و"إنما" تفيد الحصر، وتثبت الحكم لما بعدها، وتنفيه عما سراه، والمعنى: ليست الصدقات لغير هؤلاء، بل لهؤلاء خاصة، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية؛ إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها.

ص: 360

وهذه الأصناف تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: المحاويج من المسلمين.

القسم الثاني: من في إعطائهم معونة على الإسلام وتقوية له

وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؛ ففي هذه الآية الكريمة حصر لأصناف أهل الزكاة الذين يجوز صرف الزكاة إلا لهم، ولا يجزئ صرفها في غيرهم. وهم ثمانيه أصناف:

أحدهم: الفقراء، وهم أشد حاجة من المساكين؛ لأن الله تعالى بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، والفقراء هم الذين لا يجدون شيئا يكتفون به في معيشتهم، ولا يقدرون على التكسب، أو يجدون بعض الكفاية، فيعطون من الزكاة كفايتهم إن كانوا لا يجدون منها شيئا، أو يعطون تمام كفايتهم إن كانوا يجدون بعضها لعام كامل.

الثاني: المساكين، وهم أحسن حالاً من الفقراء؛ فالمسكين هو الذي يجد أكثر كفايته أو نصفها، فيعطى من الزكاة تمام كفايته لعام كامل.

الثالث: العاملون عليها، وهم العمال الذين يقومون بجمع الزكاة من أصحابها، ويحفظونها، ويوزعونها على مستحقتها بأمر إمام المسلمين، فيعطون من الزكاة قدر أجرة عملهم؛ إلا إن كان ولي الأمر قد رتب لهم رواتب من بيت المال على هذا العمل؛ فلا يجوز أن يعطوا شيئا من الزكاة؛ كما هو الجاري في هذا الوقت؛ فإن العمال يعطون من قبل

ص: 361

الدولة، فيأخذون انتدابات على عملهم في الزكاة؛ فهؤلاء حرام عليهم أن يأخذوا من الزكاة شيئا عن عملهم؛ لأنهم قد أعطوا أجرة عملهم من غيرها.

الرابع: المؤلفة قلوبهم: جمع مؤلف من التأليف وهو جمع القلوب، والمؤلفة قلوبهم قسمان: كفار ومسلمون؛ فالكافر يعطى من الزكاة إذا رجي إسلامه لتقوى نيته على الدخول في الإسلام وتشتد رغبته، أو إذا حصل بإعطائه كف شره عن المسلمين أو شر غيره، والمسلم المؤلف يعطى من الزكاة لتقوية إيمانه، أو رجاء لإسلام نظيره

ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة المفيدة للمسلمين والإعطاء للتأليف إنما يعمل به عند الحاجة إليه فقط؛ لأن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم تركوا الإعطاء للتأليف؛ لعدم الحاجة إليه في وقتهم.

الخامس: الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون الذين يجدون وفاء، فيعطى المكاتب ما يقدر به على وفاء دينه حتى يعتق ويخلص من الرق، ويجوز أن يشتري المسلم من زكاته عبدًا فيعتقه، ويجوز أن يفتدى من الزكاة الأسير المسلم؛ لأن في ذلك فك رقبة المسلم من الأسر.

السادس: الغارم، والمراد بالغارم المدين، وهو نوعان:

ص: 362

أحدهما: غارم لغيره، وهو الغارم لأجل إصلاح ذات البين؛ بأن يقع بين قبيلتين نزاع في دماء أو أموال، ويحدث بسبب ذلك بينهم شحناء وعداوة، فيتوسط الرجل بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالاً عوضا عما بينهم؛ ليطفئ الفتنة، فيكون قد عمل معروفا عظيما، من المشروع حمله عنه من الزكاة؛ لئلا تجحف الحمالة بماله، وليكون ذلك تشجيعا له ولغيره على مثل هذا العمل الجليل، الذي يحصل به كف الفتن والقضاء على الفساد، بل لقد أباح الشارع لهذا الغارم المسألة لتحقيق هذا الغرض؛ ففي "صحيح مسلم" عن قبيصة؛ قال: تحملت حمالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها".

الثاني: الغارم لنفسه؛ كأن يفتدي نفسه من كفار، أو يكون عليه دين لا يقدر على تسديده، فيعطى من الزكاة ما يسدد به دينه؛ لقوله تعالى:{وَالْغَارِمِينَ} .

السابع: في سبيل الله؛ بأن يعطى من الزكاة الغزاة المتطوعة الذين لا رواتب لهم من بيت المال؛ لأن المراد بسبيل الله عند الإطلاق الغزو، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} ، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع به سفره بسبب نفاذ ما معه أو ضياعه؛ أن لأن السبيل هو الطريق، فسمي من لزمه ابن السبيل، فيعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده،

ص: 363

وإن كان في طريقه إلى بلد قصده؛ أعطي ما يوصله ذلك البلد، وما يرجع به إلى بلده، ويدخل في ابن السبيل الضيف كما قال ابن عباس وغيره، وإن بقى مع ابن السبيل أو الغازي أو الغارم أو المكاتب شيء ما أخذوه من الزكاة زائدًا عن حاجتهم؛ وجب عليهم رده؛ لأنه لا يملك ما أخذه ملكا مطلقا، وإنما يملكه ملكا مراعي بقدر الحاجة، وتحقيق السبب الذي أخذه من أجله، فإذا زال السبب؛ زال الاستحقاق.

واعلم أنه يجوز صرف جميع الزكاة في صنف واحد من هذه الأصناف المذكورة، قال تعالى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} ، ولحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال:"أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، متفق عليه، فلم يذكر في الآية والحديث إلا صنفا واحدًا، فدل على جواز صرفها إليه.

ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر، رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم لقيبصة:"أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة؛ فنأمر لك بها"؛ فدل الحديثان على جواز الاقتصار على شخص واحد من الأصناف الثمانية.

ص: 364

ويستحب دفعها إلى أقاربه المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم الأقرب فالأقرب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة"، رواه الخمسة وحسنه الترمذي.

ولا يجوز دفع الزكاة إلى بني هاشم، ويدخل فيهم: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، وإنما هي أوساخ الناس"، أخرجه مسلم.

ولا يجوز دفع الزكاة إلى امرأة فقيرة إذا كانت زوج غني ينفق عليها، ولا إلى فقير إذا كان له قريب غني ينفق عليه؛ لاستغنائهم بتلك النفقة عن الأخذ من الزكاة.

ولا يجوز للإنسان أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه الذين يلزمه الإنفاق عليهم؛ لأنه يقي بها ماله حينئذ، أما من كان ينفق عليه تبرعا فإنه يجوز أن يعطيه من زكاته؛ ففي "الصحيح" أن امرأة عبد الله سألت النبيصلى الله عليه وسلم عن بني أخ لها أيتام في حجرها؛ أفتعطيهم زكاتها؟ قال:"نعم".

ص: 365

ولا يجوز دفع زكاته إلى أصول، وهم آباؤه وأجداده، ولا إلى فروعه، وهم أولاده وأولاد أولاده.

ولا يجوز له دفع زكاته إلى زوجته؛ لأنها مستغنية بإنفاقه عليها، ولأنه يقي بها ماله.

ويجب على المسلم أن يتثبت من دفع الزكاة، فلو دفعها لمن ظنه مستحقا، فتبين أنه غير مستحق؛ لم تجزئه، أما إذا لم يتبين عدم استحقاقه؛ فالدفع إليه بجزيء؛ اكتفاء بغلبة الظن، ما لم يظهر خلافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أتاه رجلان يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، ورآهما جلدين، فقال:"إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فبها لغني ولا لقوي مكتسب".

ص: 366

باب في الصدقة المستحبة

وإلى جانب الزكاة الواجبة في المال هناك صدقة مستحبة تشرع كل وقت، لإطلاق الحث عليها في الكتاب والسنة والترغيب فيها؛ فقد حث الله عليها في كتابه العزيز في آيات كثيرة:

قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَاب} .

وقال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة} .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء"، رواه الترمذي وحسنه.

وفي "الصحيحين": "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا

ص: 367

ظله

"، وذكر منهم: "ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا نعلم شماله ما تنفق يمينه". والأحاديث في هذا كثيرة. وصدقة السر أفضل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، ولأنه أبعد عن الرياء؛ إلا أن يترتب على إظهار الصدقة وإعلانها مصلحة راجحة من إقتداء الناس به.

وينبغي أن تكون طيبة بها نفسه، غير ممتن بها على المحتاج، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} .

والصدقة في حال الصحة أفضل، قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر".

والصدقة في الحرمين الشريفين أفضل؛ لأمر الله بها في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .

والصدقة في رمضان أفضل؛ لقول ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه

ص: 368

جبريل، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة".

والصدقة في أوقات الحاجة أفضل، قال تعالى:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}

كما أن الصدقة على الأقارب والجيران أفضل منها على الأبعدين؛ فقد أوصى الله بالأقارب، وجعل لهم حقا على قريبهم في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة"، رواه الخمسة وغيرهم، وفي "الصحيحين":"أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة".

ثم اعلم أن في المال حقوقا سوى الزكاة؛ نحو مواساة القرابة، وصلة الأخوان، وإعطاء سائل، وإعارة محتاج، وإنظار معسر، وإقراض، قال تعالى:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}

ويجب إطعام الجائع، وقري الضيف، وكسوة العاري، وسقي الظمآن، بل ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يجب على المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم.

ص: 369

‌باب في الصدقة المستحبة

كما أنه يشرع لمن حصل على مال وبخضرته أناس من الفقراء والمساكين أن يتصدق عليهم منه، قال تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وقال تعالى:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} .

وهذه من محاسن دين الإسلام؛ لأنه دين المواساة والرحمة، ودين التعاون والتآخي في الله؛ فما أجمله من دين!، وما أحكمه من تشريع!.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا البصيرة في دينه والتمسك بشريعته، إنه سميع مجيب.

ص: 270

‌باب في بيان أحكام القضاء للصيام

أن وقت القضاء موسع؛ إلى أن يبقى من شعبان إلا قدر الأيام التي عليه؛ فيجب عليه صيامها قبل دخول رمضان الجديد.

فإن أخر القضاء حتى أتى عليه رمضان الجديد؛ فإنه يصوم رمضان الحاضر، ويقضي ما عليه بعده، ثم إن تأخيره لعذر لم يتمكن معه من القضاء في تلك الفترة؛ فإنه عليه إلا القضاء، وإن كان لغير عذر؛ وجب عليه مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد.

وإذا مات من عليه القضاء قبل دخول رمضان الجديد؛ فلا شيء عليه؛ لأن له تأخير في تلك الفترة التي مات فيها، وإن مات بعد رمضان الجديد: فإن كان القضاء لعذر كالمرض والسفر وحتى أدركه رمضان الجديد؛ فلا شيء عليه أيضا، وإن تأخيره لغيره عذر؛ وجبت الكفارة في تركته؛ بأن يخرج عنه إطعام مسكين عن كل يوم.

وإن مات من عليه صوم كفارة كصوم كفارة الظهار والصوم الواجب عن دم المتعة في الحج؛ فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا، ولا يصام عنه، ويكون الإطعام من تركته؛ لأنه صيام لا تدخله النيابة في الحياة، فكذا بعد الموت، وهذا قول أكثر أهل العلم.

وإن مات من عليه صوم نذر؛ استحب لوليه أن يصوم عنه؛ لما ثبت في "الصحيحين"؛ أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي

ص: 288