الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
باب في أحكام الجهاد
شرع الله الجهاد في سبيله لإعلاء كلمته ونصرة دينه ودحر أعدائه، وشرعه ابتلاءً واختبارًا لعباده، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} .
والجهاد في سبيل الله له الأهمية العظيمة في الإسلام؛ فهو ذروة سنام الإسلام، وهو من أفضل العبادات، وقد عده بعض العلماء ركنا سادسا من أركان الإسلام.
والجهاد في سبيل الله مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال} ، وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به، وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه
بالغزو؛ مات على شعبة من النفاق".
والجهاد مصدر جاهد؛ أي: بالغ في قتال عدوه، وشرعا: قتال الكفار، ويطلق الجهاد على أعم من القتال.
قال العلامة ابن القيم: "وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان وإما بالمال، وإما باليد؛ فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع" انتهى.
ويطلق الجهاد أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق:
فأما مجاهدة النفس؛ فعلى تعلم أمور الدين، ثم العمل بها، ثم تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان؛ فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار؛ فتقع باليد والمال واللسان والقلب.
وأما مجاهدة الفساق؛ فباليد، ثم باللسان، ثم بالقلب؛ حسب التمكن من درجات إنكار المنكر.
والجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي؛ سقط الوجوب عن الباقين، وبقى في حقهم سنة.
وهو أفضل متطوع به، وفضله عظيم، والنصوص في الأمر به والترغيب فيه من الكتاب والسنة كثيرة جدًا؛ قوله تعالى:
وهناك حالات يجب فيها الجهاد وجوبا عينيا، وهي:
أولاً: إذا حضر القتال؛ وجب عليه أن يقاتل، ولا يجوز له أن ينصرف.
ثانيا: إذا حصر بلده عدو.
لأنه في هاتين الحالتين يكون جهاد دفع، لا جهاد طلب، فلو انصرف عنه؛ استولى الكفار على حرمات المسلمين.
ثالثا: إذا احتاج إليه المسلمون في القتال والمدافعة.
رابعا: إذا استنفره الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم؛ فانفروا"، وقال تعالى:{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} ، وقال تعالى:{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة،
فيجب بغاية ما يمكنه، ويجب على القعدة؛ لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم" انتهى.
ويجب على الإمام أن يتفقد الجيش عند المسير للجهاد، ويمنع من لا يصلح لحرب من رجال وخيل ونحوها، فيمنع المخذل الذي يخذل الناس عن القتال، ويزهدهم فيه، ويمنع المرجف الذي يخوف الغزاة، ويمنع من يسرب الأخبار إلى الأعداء أو يوقع الفتنة بين الغزاة، ويؤمر على الغزاة أميرًا يسوس الجيش بالسياسة الشرعية.
ويجب على الجيش طاعته بالمعروف، والنصح له، والصبر معه؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} .
إن الجهاد في الإسلام شرع لأهداف سامية وغاية نبيلة:
شرع الله الجهاد لتخليص العباد من عبادة الطواغيت والأوثان لعبادة الله وحده لا شريك له، الذي خلقهم ورزقهم، قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه} .
شرع الله الجهاد لإزالة الظلم وإعادة الحقوق إلى مستحقيها،
شرع الجهاد لإذلال الكفار والانتقام منهم، وإضعاف شوكتهم، قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
والقتال إنما يكون بعد تبليغ الدعوة، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس قبل القتال إلى الإسلام، ويكاتب الملوك بذلك، ويوصي قواد الجيوش الإسلامية بدعوة الناس إلى الإسلام قتالهم، فإن استجابوا، وإلا قاتلوهم، وذلك لأن الغرض من القتال في الإسلام هو إزالة الكفر والشرك، والدخول في دين الله، فإذا حصل ذلك بدون قتال؛ لم يحتج إلى القتال، والله أعلم.
وللجهاد أحكام مفصلة موجودة في الكتب المطولة.
وإذا كان أبواه مسلمين حرين أو أحدهما؛ لم يجاهد تطوعا إلا
بإذنهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد"، صححه الترمذي، وذلك لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية.
وعلى إمام المسلمين أن يتفقد الجيش عند المسير، ويمنع من لا يصلح للحرب من رجال وخيل كالمخذل والمرجف اللذين يثبطان الناس عن القتال، ويزهدان فيه، ويخوفان المسلمين، وينشران الأخبار والإشاعات التي تخوف الجند.
وعلى الإمام أن يعين القادة للجيوش، وينفل من الغنيمة من في تنفيله مصلحة للجهاد، ويقسم بقية الغنائم في الجيش كله.
ويلزم الجيش طاعة أميرهم بالمعروف، والنصح له، والصبر معه؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} .
ولا يجوز قتل صبي ولا امرأة وراهب وشيخ فان ومريض مزمن وأعمى لا رأى لهم، ولم يقاتلوا أو يحرضون ويكونون أرقاء بالسبي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسترق النساء والصبيان إذا سباهم.
وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب. والغنيمة ما أخذ من مال حربي قهرًا بقتال، وما ألحق به مما أخذ فداء، وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال بقصد القتال، قاتل أو لم يقاتل لأنه ردأ للمقاتلين، ومستعد للقتال، فأشبه المقاتلين، ولقول عمر رضي الله عنه:"الغنيمة لمن شهد الوقعة".
وكيفية توزيع الغنيمة: أن الإمام يخرج الخمس الذي لله ولرسوله، وسهم لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم واليتامى والفقراء والمساكين وأبناء السبيل،
ثم يقسم الأخماس الأربعة الباقية على المقاتلين؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، متفق عليه.
ويقوم مقام الإمام في توزيع الغنيمة نائبة.
ويحرم الغلول، وهو كتمان شيء مما غنمه المقاتل، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، ويجب تعزير الغال بما يراه الإمام رادعا ولأمثاله.
وإذا كانت الغنيمة أرضا؛ خير الإمام بين قسمتها ين الغانمين، وبين وقفها لمصالح المسلمين، ويضرب عليها خراجا مستمرًا يؤخذ ممن هي بيده.
وما تركه الكفار فزعا من المسلمين، ومال من لا وارث له، وخمس خمس الغنيمة وهو سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين.
ويجوز لإمام المسلمين عقد الهدنة مع الكفار على ترك القتال مدة معلومة بقدر الحاجة إذا كان في عقدها مصلحة للمسلمين، وذلك إذا جاز تأخير الجهاد من أجل ضعف المسلمين، أما إن كان المسلمون أقوياء يقدرون على الجهاد؛ فلا يجوز عقد الهدنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عقد الهدنة مع الكفار في صلح الحديبية، وصالح اليهود في المدينة.
أما إن كان المسلمون أقوياء يقدرون على الجهاد فلا يجوز الهدنة
وإذا خاف الإمام مهم نقضا للهدنة؛ أعلن لهم انتهاء الهدنة قبل قتالهم؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ؛ أي: أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم سواء في العلم بذلك.
ويجوز للإمام عقد الذمة مع أهل الكتاب والمجوس، ومعناه: إقرارهم على دينهم؛ بشرط بذلهم الجزية، والتزام أحكام الإسلام؛ لقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ؛ فالجزية هي مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلاً عن قتلهم وإقامتهم بدارنا.
ولا تؤخذ الجزية من صبي ولا امرأة ومجنون وزمن وأعمى وشيخ فان، ولا من فقير يعجز عنها.
ومتى بذلوا الجزية؛ وجب قبولها منهم، وحرم قتالهم، ووجب دفع من قصدهم بأذى؛ لقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} ، فجعل إعطاء الجزية غاية لكف القتال عنهم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"فاسألهم الجزية، فإن أجابوك؛ فاقبل منهم، وكف عنهم". والله أعلم.
ويجوز إعطاء الكافر المفرد الأمان من كل مسلم إذا لم يحصل منه ضرر على المسلمين؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} .
ويجوز للإمام إعطاء الأمان لجميع المشركين ولبعضهم؛ لأن ولايته عامة، وليس لآحاد الرعية؛ إلا أن يجيزه الإمام، ويجوز للأمير في ناحية إعطاؤه لهل بلدة قريبة منه.