الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن: فيما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ويزروهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت وحال أقاربهم في الدنيا
مدخل
…
الباب الثامن: فيما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ويزروهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت وحال أقاربهم في الدنيا
أما سماع الموتى لكلام الأحياء ففي الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة قال لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى من أطواء بدر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعد ربي حقا" فقال عمر: رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"1.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس نحوه من غير ذكر أبي طلحة وفي حديثه قال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا"2.
وفيه أيضا عن أنس عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة بمعناها3.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: "وجدتم ما وعد ربكم حقا" قيل له أتدعوا أمواتا؟ قال: "ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون"! وفي رواية قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول"4.
وقد أنكرت عائشة ذلك كما في الصحيحين5، عن عروة عن عائشة أنها
1 أخرجه البخاري "ح 3976"، ومسلم "ح 2875".
2 أخرجه مسلم "ح 2874".
3 أخرجه مسلم "ح 2873".
4 أخرجه البخاري "ح 1370" ومسلم "239".
5 أخرجه البخاري "ح 1371" ومسلم "ح 932"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح "3/227: حديث عائشة قالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول حق، وهذا مصير عائشة إلى رد رواية =
قالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم ليسمعون الآن ما أقول وقد وهم - يعني ابن عمر - إنما قال: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم إنه حق ثم قرأت قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب الجامع الكبير له واحتجوا بما احتجت به عائشة وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وهو سماع الموتى كلامه.
وفي صحيح البخاري قال قتادة: أحياهم الله تعالى يعني أهل القليب حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما1.
وذهب طوائف من أهل العلم - وهم الأكثرون - وهو اختيار الطبري وغيره وكذلك ذكره ابن قتيبة وغيره من العلماء وهؤلاء يحتجون بحديث القليب كما سبق وليس هو بوهم ممن رواه فإن ابن عمر وأبا طلحة وغيرها ممن شهد القصة حكياه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة لم تشهد ذلك وروايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنهم ليعلمون الآن، أن ما كنت أقول لهم
= ابن عمر المذكور، وقد خالفها الجمهور في ذلك وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه، وأما استدلالها بقوله تعالى "إنك لا تسمع الموتى" فقالوا: معناها لا تسمعهم سماعا ينفع، أولا تسمعهم إلا أن يشاء الله. وقال السهلي: عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له:"يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان رءوسهم كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح على رأى من يوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد. قال: أما الآية فإنها كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي أن الله هو الذي يسمع ويهدي. أنتهى.
وقوله: إنها لم تحضر صحيح، لكن لا يقدح ذلك في رواياتها لأنه مرسل صحابي، وهو محمول على أنه سمعت ممن حضره أو من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولو كان ذلك قادحاً في روايتها لقدح في رواية ابن عمر فإنه لم يحضر أيضاً، ولا مانع أن يكون النبي صلى الله علي وسلم قال اللفظين معا فإنه لا تعارض بينهما. وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية، لأن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن الله إذا أراد إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع كقوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية، وقوله:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} الآية، وسيأتي في المغازى قول قتادة: إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه وبيخا ونقمه" ا. هـ.
1 أخرجه البخاري عقب حديث "3976".
حق"، يؤيد رواية من روى: إنهم ليسمعون ولا ينافيه فإن الميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع لأن الموت ينافي العلم كما ينافي السمع والبصر فلو كان مانعا من البعض لكان مانعا من الجميع.
وروى أبو الشيخ الاصبهاني بإسناده عن عبيد بن مرزرق قال: كانت امرأة بالمدينة يقال لها أم محجن تقم المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم فمر بقبرها فقال: "ما هذا القبر"؟ فقالوا: أم محجن فقال: "التي كانت تقم المسجد"؟ قالوا: نعم فصف الناس فصلى عليها ثم قال: "أي العمل وجدت أفضل"؟ قالوا: يا رسول الله أتسمع؟ قال: "ما أنتم بأسمع منها"، فذكر أنها أجابته: قم المسجد، وهذا مرسل.
وأما أن ذلك خاص بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فليس كذلك وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" وقد سبق ذكره1 وسنذكر الأحاديث الواردة بسماع الموتى سلام من يسلم عليهم فيما بعد، إن شاء الله.
وأما قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فأن السماع يطلق ويراد به إدراك الكلام وفهمه ويراد به أيضا الانتفاع به والاستجابة له والمراد بهذه الآيات نفي الثاني دون الأول فإنها في سياق خطاب الكفار الذين لا يستجيبون للهدى ولا للإيمان إذا دعوا إليه كما قال الله تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] الآية في نفي السماع والإبصار عنهم لأن الشيء قد ينفي لانتفاء فائدته وثمرته فإذا لم ينتفع المرء بما يسمعه ويبصره فكأنه لم يسمع ولا يبصر وسماع الموتى هو بهذه المثابة وكذلك سماع الكفار لمن دعاهم إلى الإيمان والهدى. وقول قتادة في أهل القليب: أحياهم الله حتى أسمعهم يدل على أن الميت لا يسمع القول إلا بعد إعادة الروح إلى جسده كما جاء ذلك مصرحا به في حديث البراء بن عازم عن النبي صلى الله عليه وسلم الطويل وقد سبق ذكر بعضه وفيه في حق الكافر: " وتعاد روحه في جسده".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن
1 سبق تخريجه، وما سيأتي بعده..
البراء في حق المؤمن والكافر في كل منهما قال: "وتعاد روحه في جسده".
وكذلك عند ابن منده إعادتها إلى جسده عند ضرب الملك له بعد أن يضربه فيصير ترابا من رواية يونس بن خباب عن المنهال وقد سبق ذلك كله.
وخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قبض الروح والمسالة وقال في روح الكافر: "فتصير إلى القبر"، وقد سبق أيضا.
وخرج ابن منده - بإسناد ضعيف جدا - عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قبض الروح وفيه قال: "فيهبطون بها - يعني الروح - على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه"، وهذا لا يثبت.
وخرج الخلال في كتاب شرح السنة من طريق أبي هشام عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: إن للمؤمن إذا نزل به الموت جاءه ملك الموت يناديه: يا روح طيبة أخرجي من الجسد الطيب فإذا خرجت روحه لفت في خرقة حمراء فإذا غسل وكفن وحمل على السرير تحولت حتى يوضع في قبره فإذا وضع في قبره أجلس وجيء بالروح فجعلت فيه فقيل له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له: صدقت فيوسع له في قبره مد البصر ثم ترفع روحه فتجعل في أعلى عليين ثم تلا عبد الله الآية: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] .
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق سالم بن أبي الجعد قال حذيفة: الروح بيد ملك وإن الجسد ليغسل وإن الملك ليمشي معه إلى القبر فإذا سوي عليه سلك فيه وذلك حين يخاطب.
ومن طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: الروح بيد ملك يمشي مع الجنازة يقول: اسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفن معه.
ومن طريق داود العطار عن أبي نجيح قال ما من ميت يموت إلا وروحه بيد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل ويكفن ويمشى به إلى قبره ثم تعاد إليه روحه فيجلس في قبره.
وكذلك قال أبو صالح وغيره من السلف في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] ، فدل على أن
الحياة الأولى هي القبر للسؤال وإن كان الأكثرون خالفوا في ذلك.
فهؤلاء السلف كلهم صرحوا بأن الروح تعاد إلى البدن عند السؤال وصرح بمثل ذلك طوائف من الفقهاء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وغيره وأنكر ذلك طائفة منهم ابن حزم وغيره وذكر أن السؤال للروح خاصة وكذلك سماع الخطاب وأنكر ألا تعاد الروح إلى الجسد في القبر للعذاب وغيره وقالوا: لو كان ذلك حقا للزم الإنسان أن يموت ثلاث مرات ويحيى ثلاث مرات والقرآن دل على أنهما موتتان وحياتان وهذا ضعيف جدا فإن حياة الروح ليست حياة تامة مستقلة كحياة الدنيا وكالحياة الآخرة بعد البعث وإنما فيها نوع اتصال الروح في البدن بحيث يحصل بذلك شعور البدن وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرهما وليس هو حياة تامة حتى يكون انفصال الروح به موتا تاما وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه ورجوعها إليه فإن ذلك يسمى موتا وحياة.
كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" 1، وسماه الله تعالى وفاة لقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر: 42] الآية ومع هذا فلا ينافى ذلك أن يكون النائم حيا وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها عنه لا توجب أن يصير حيا حياة مطلقة.
وممن رجح هذا القول - أعني السؤال والنعيم والعذاب للروح خاصة - من أصحابنا ابن عقيل وأبو الفرج ابن الجوزي في بعض تصانيفهما واستدل ابن عقيل بأن أرواح المؤمنين تنعم في حواصل طير خضر وأرواح الكفار في حواصل طير سود وهذه الأجساد تبلى فدل ذلك على أن الأرواح تنعم وتعذب في أجساد أخر وهذا لا حجة فيه لأنه لا ينافي اتصال الروح ببدنه أحيانا مع فنائه واستحالته.
واستدل طائفة ممن ذهب إلى هذا القول بما روى منصور بن عبد الرحمن عن أمه قال: دخل ابن عمر المسجد وابن الزبير قد قتل وصلب فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر في المسجد فقال لها: اصبري فإن هذه الجثة ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني
1 أخرجه البخاري "ح 6312" من حديث حذيفة. ومسلم "2711" من حديث أبي ذر..
إسرائيل.
وروى ابن أبي الدنيا من طريق ابن عمر صاحب السفلى - قال: نزل ابن عمر إلى جانب قبور دراسة فنظر إلى قبر منها فإذا هو بجمجمة بادية فأمر رجلا فواراها قال: إن هذه الأبدان ليس يضرها الثرى شيئا وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة.
وروى محمد بن سعد عن الواقدي حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معادن قال لما انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان فجعلت الروم تقاتل عليه فتقدم هشام بن العاص فقاتلهم حتى قتل ووقع على تلك الثملة فسدها فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يوطئوه الخيل فقال عمرو بن العاص: إن الله قد استشهده ورفع روحه وإنما هو جثة فأوطئوه الخيل ثم أوطأه وتبعه الناس حتى قطعوه.
وهذه الآثار لا تدل على أن الأرواح لا تتصل بالأبدان بعد الموت إنما تدل على أن الأجساد لا تتضرر بما ينالها من عذاب الدنيا وإنما هو نوع آخر يصل إلى الميت بمشيئة الله قدرته.
وقولهم: الأرواح عند الله تعالى تعاقب وتثاب لا ينافي أن تتصل بالبدن أحيانا فيحصل بذلك إلى الجسد نعيم أو عذاب وقد تستقل الروح أحيانا بالنعيم والعذاب إما عند استحالة الجسد أو قبل ذلك.
وقد أثبتت طائفة أخرى النعيم والعذاب للجسد بمجرده من غير اتصال الروح له ومن ذكر ذلك من أصحابنا: ابن عقيل في كتاب الإرشاد وانب الزغواني وحكي عن ابن جرير الطبري - أيضا - وذكر القاضي أبو يعلى أنه ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه قال في رواية حنبل: أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء منها بعفوه.
قال القاضي: ظاهر هذا أن الأرواح تعذب وتنعم على الإنفراد وكذلك الأبدان إذا كانت باقية أدى إلى الأجزاء التي استحالت قال: ولا يمنع أن يخلق في الأبدان إدراك تحس به النعيم والعذاب كما خلق في الجبل لما تجلى له ربه ثم جعله دكا.
وقال القاضي أبو الحسين: ولأنه لما لم يستحل نطق الذراع المسموم ولم ويستحل عذاب الجسد