المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: ما يمنع من دخول أرواح المؤمنين والشهداء الجنة - أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في ذكر حال الميت عند نزوله قبره وسؤال الملائكة له وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه وما يرى من منزله في الجنة أو النار

- ‌الباب الثاني: في كلام القبر عند نزوله إليه

- ‌الباب الثالث: في اجتماع الموتى إلى الميت وسؤالهم إياه

- ‌الباب الرابع: في اجتماع أعمال الميت عليه من خير وشر ومدافعتها عنه وكلامها له وما ورد من تحسر الموتى على انقطاع أعمالهم ومن أكرم منهم تبقى إعماله عليه

- ‌فصل: النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة

- ‌الباب الخامس: في عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا

- ‌الباب السادس: في ذكر عذاب القبر ونعيمه

- ‌مدخل

- ‌دلالة القرآن على عذاب القبر

- ‌بعض ما جاء في سبب عذاب القبر

- ‌فصل: أنواع عذاب القبر

- ‌فصل: نعيم القبر

- ‌فصل: ما جاء في الكشف عن بعض عذاب أهل القبور ونعيمهم

- ‌فصل: الميت يجد ألم الموت ما دام في قبره

- ‌فصل: ما شوهد من نعيم أهل القبر

- ‌فصل: انتفاع أهل القبور بمجاورة الصالحين وتأذيهم من مجاورة الفاسقين

- ‌الباب السابع فيما ورد من تلاقي الموتى في البرزخ وتزاورهم

- ‌الباب الثامن: فيما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ويزروهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت وحال أقاربهم في الدنيا

- ‌مدخل

- ‌فصل: معرفة الموتى بمن يزورهم ويسلم عليهم

- ‌فصل: معرفة الموتى بحالهم في الدنيا قبل الدفن

- ‌فصل: معرفة الموتى في قبورهم بحال أهليهم وأقاربهم في الدنيا

- ‌فصل: كلام الموتى ورد السلام

- ‌الباب التاسع: في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ

- ‌أرواح الأنبياء

- ‌محل أرواح الشهداء

- ‌فصل: "محل أرواح المؤمنين سوى الشهداء

- ‌فصل: ما يمنع من دخول أرواح المؤمنين والشهداء الجنة

- ‌الباب العاشر: في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء وما ورد من حاجة الموتى إلى دعاء الأحياء وانتظارهم لذلك

- ‌الباب الحادي عشر: في ذكر زيارة الموتى والإتعاظ بهم

- ‌الباب الثاني عشر: في استحباب تذكر القبور والتفكر في أحوالهم وذكر أحوال السلف في ذلك

- ‌الباب الثالث عشر: في ذكر كلمات منتخبه من كلام السلف الصالح في الإتعاظ بالقبور وما ورد عنهم من ذلك من منظور ومنثور

الفصل: ‌فصل: ما يمنع من دخول أرواح المؤمنين والشهداء الجنة

الذي اعترف عنده بالزنا قال: " والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها"1.

1 ضعيف: أخرجه أبو داود "ح 4428"، وابن حبان "ح 1513/ زوائد".

ص: 114

‌فصل: ما يمنع من دخول أرواح المؤمنين والشهداء الجنة

وإنما تدخل أرواح المؤمنين والشهداء الجنة إذا لم يمنع من ذلك مانع من كبائر تستوجب العقوبة أو حقوق آدميين حتى يبرأ منها.

ففي الصحيحين، عن أبي هريرة أن مدعما قتل يوم خيبر قال الناس: هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلى، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا"2.

وعن سمرة بن جندب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ها هنا أحد من بني فلان؟ " ثلاثا فلم يجبه أحد ثم أجابه رجل فقال: "إن فلانا الذي توفي احتبس عن الجنة من أجل الدين الذي عليه فافتكوه أو فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله"3.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة.

وخرج البزار، من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي حديثه قال:"إن صاحبكم محبوس على باب الجنة"، أحسبه قال:"بدين".

وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث، دخل الجنة: من الكبر والغلول والدين"4.

وخرج الطبراني، من حديث أنس قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل يصلي عليه فقال:

2 أخرجه البخاري "ح 4234"، ومسلم "ح 115".

3 حسن أخرجه أحمد "5/ 11، 20"، وأبو داود "ح 3341"، والنسائي "ح 4699".

4 صحيح: أخرجه احمد "5/ 281"، الترمذي "ح 1573"، وابن ماجه "ح 2412" وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.

ص: 114

"على صاحبكم دين"؟ فقالوا: نعم قال: "فما ينفعكم أن أصلي على رجل مرتهن في قبره لا تصعد روحه إلى السماء ولو ضمن رجل دينة قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه". وفي المعنى أحاديث متعددة.

وخرج ابن أبي الدنيا "من عاش بعد الموت"، من طريق سيار بن حسن قال: خرج أبي وعبد الواحد بن زيد يريدان الغزو فهجموا على ركية عميقة واسعة فأدلوا حبالهم بقدر فإذا القدر قد وقعت في الركية قال: فقرنوا حبال الرفقة بعضها ببعض ثم دخل أحدهما إلى الركي فلما صار ببعضها إذا هو بهمهمة في الركي فرجع فصعد فقال: أتسمع ما أسمع؟ قال: نعم فناولني العمود فأخذ العمود فدخل في الركية فإذا هو برجل جالس على ألواح وتحته الماء فقال: أجني؟ قال: بل إنسي قال: ما أنت؟ قال: أنا رجل من أهل أنطاكية وإني مت فحبسني ربي هنا بدين علي وإن ولدي بإنطاكية لا يذكروني ولا يقضون عني فخرج الذي كان في الركية فقال لصاحبه غزوة بعد غزوة فدع أصحابنا يذهبون فساروا إلى أنطاكية فسألوا عن الرجل وعن بنيه فقالوا: نعم إنه لأبونا وقد بعنا ضيعة لنا فامشوا معنا حتى نقضي عنه دينه قال: فذهبوا معهم حتى قضوا ذلك الدين ثم رجعوا من أنطاكية حتى أتوا موضع الركية ولا يشكون أنها ثم فلم يكن ركية ولا شيء فأمسوا فباتوا هناك فإذا الرجل قد أتاهم في منامهم وقال: جزاكم الله خيرا فإن الله حولني إلى مكان كذا وكذا من الجنة حيث قضي ديني.

وروى في كتاب "المنامات" حدثني زكريا بن الحارث النضري قال: رئي محمد بن عباد في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: لولا ديني دخلت الجنة.

وقال طائفة: الأرواح في الأرض ثم اختلفوا.

فقالت فرقة منهم: الأرواح تستقر على أفنية القبور وهذا القول هو الذي ذكره عبد الله ابن الإمام أحمد في سؤاله المتقدم وحكى ابن حزم هذا القول عن عامة أصحاب الحديث. وقال ابن عبد البر: كان ابن وضاح يذهب إليه ويحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين"1 فهذا يدل على أن الأرواح بأفنية القبور.

1 سبق تخريجه.

ص: 115

ورجح ابن عبد البر أن أرواح الشهداء في الجنة وأرواح غيرهم على أفنية القبور تسرح حيث شاءت.

وذكر عن مالك أنه قال: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت.

وعن مجاهد قال: الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا يفارقه ذلك.

واستدل هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار يقال: هذا مقعدك إلى يوم القيامة"1. وهذا يدل على أن الأرواح ليست في الجنة وإنما تعرض عليها بكرة وعشيا وكذا ذكره ابن عطية وغيره.

ولا حجة لهم فيه لوجهين:

أحدهما: أنه يحتمل أن يكون العرض بكرة وعشيا على الروح المتصل بالبدن والروح وحدها في الجنة فتكون البشارة والتخويف للجسد في هذين الوقتين باتصال الروح به وأما الروح أبدا في تنعم أو عذاب.

والثاني: أن الذي يعرض بالغدواة والعشي هو مسكن ابن آدم الذي يستقر فيه في الجنة أو النار وليست الأرواح مستقرة فيه مدة البرزخ وإن كانت في الجنة أو النار.

ولهذا جاء في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا فتح له في قبره باب إلى الجنة وقيل له: هذا منزلك قال: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي"2.

وأما السلام على أهل القبور فلا يدل على استقرار أرواحهم على أفنية قبورهم فإنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين ولكن مع ذلك لها اتصال سريع في الجسد ولا يعلم كنه ذلك وكيفيته على الحقيقة إلا الله عز وجل.

ويشهد لذلك الأحاديث المرفوعة والموقوفة، على أصحابه، ومنهم عبد الله بن عمرو

1 سبق تخريجه

2 سبق تخريجه

ص: 116

ابن العاص، في أن النائم يعرج بروحه إلى العرش مع تعليها ببدنه وسرعة عودها إليه عنه استيقاظه فأرواح الموتى المجردة عن أبدانهم أولى بعروجها إلى السماء وعودها إلى القبر مثل تلك السرعة والله أعلم.

وخرج ابن منده من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن سليمان قال لعبد الله بن سلام: إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وإن أرواح الكفار في سجين وعلي بن زيد ليس بالحافظ خالفه يحيى بن سعيد الأنصاري مع عظمته وجلالته وحفظه.

فروى عن سعيد بن المسيب قال فيه: إن أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت كما سبق ذكره.

وقد تقدم عن مالك: أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت وخرجه ابن أبي الدنيا عن خالد بن خداش قال: سمعت مالكا يقول ذلك.

وخرج أيضا، عن حسين بن علي العجلي حدثنا أبو نعيم حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو قال روحه مثل رجل كان في سجن فإخرج منه فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها.

ومما استدل به على أن الأرواح في الأرض حديث البراء بن عازب الذي تقدم سياق بعضه وفيه صفة قبض روح المؤمن: "فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب سبحانه وتعالى: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد إلى القبر" وذكر الحديث، وقال في روح الكافر:"فيصعد بها إلى السماء فتغلق دونه فيقول الرب سبحانه وتعالى: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى" وفي رواية: " ويقول الله ردوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] وهذا يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها ونزولها إلى الأرض وهناك أرواح تبقى في الجنة لا سيما

ص: 117

الشهداء.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في صفة قبض روح المؤمن قال: ثم يصعد به إلى ربه عز وجل فيقول: ردوه إلى آخر الأجلين وقال مثله في الكافر وقال فيه: رد النبي صلى الله عليه وسلم ربطة على أنفه يعني لما ذكر نتن ريحه وهذا يشهد برفع الحديث كله.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث قسامة بن زهير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين وتقول: أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية مرضيا عنك إلى رضوان الله وكرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال: أيتها النفس الخبيثه اخرجي ساخطة ومسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة فإن لها نشيشا يطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين".

وخرجه النسائي وغيره من حديث قتادة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه مخالف لما قبله وذكر في روح المؤمن: حين ينتهون بها إلى السماء العليا، وقال في روح الكافر: حين ينتهون بها إلى الأرض السفلى.

وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن مسعود: أن الروح بعد السؤال في القبر ترفع إلى عليين وتلا قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] .

وقالت فرقة: تجتمع في موضع من الأرض كما روى همام بن يحيى المسعودي عن قتادة قال: حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة بحضرموت يقال له: برهوت خرجه ابن منده.

ورواه هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب من قوله لم يذكر عبد الله بن عمرو خرجه من طريق ابن أبي الدنيا وقد تبين أن قتادة لم يسمعه من سعيد إنما بلغه عنه ولم يدر عمن أخذه.

ص: 118

وخرج ابن منده من طريق فرات الفزاري عن أبي الطفيل عن علي قال: شر واد بئر في الأحقاف: برهوت بحضرموت ترده أرواح الكفار.

قال: رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف عن ابن مهران عن ابن عباس عن علي قال: أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له: برهوت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماؤه في النار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام.

وروى بإسناده عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد الله بن عمرو وقد تكالب الناس عليه يسألونه فقال رجل لرجل: سله أين أرواح المؤمنين؟ قال: بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت.

وبإسناده عن سفيان عن أبان بن تغلب قال: قال رجل: بت فيه - يعني وادي برهوت - كأنما حشدت فيه أرواح الكفار وهم يقولون: يا دومة فحدثنا رجل من أهل الكتاب: هو الملك الذي على أرواح الكفار.

قال سفيان: وسألنا الحضرميين فقالوا: لا يستطيع أن يبيت فيه أحد بالليل.

وقال ابن قتيبة في كتابه غريب الحديث: ذكر الأصمعي عن رجل من أهل برهوت - يعني البلد الذي فيه هذا البئر - قال: تجد الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ثم نمكث فيأتينا الخبر بأن عظيما من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه.

قال: وقال ابن عيينة: أخبرني رجل أنه أمسى ببرهوت فكأن فيه أصوات الحاج قال: وسألت أهل حضرموت فقالوا: لا يستطيع أحدنا أن يمسي فيه.

وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عمرو بن سليمان قال: مات رجل من اليهود وعنده وديعة لمسلم وكان لليهودي ابن مسلم فلم يعرف موضع الوديعة فأخبر شعيبا الجبائي فقال: أئت برهوت فإن دونه عين بتسقيب فإذا جئت في يوم السبت فامش عليها حتى تأتي عينا هناك فادع أباك فإنه يجيبك فاسأله عما تريد ففعل ذلك الرجل ومضى حتى أتى العين فدعا أباه مرتين أو ثلاثا فأجابه فقال: أين وديعة فلان؟ فقالت: تحت إسكفة الباب فادفعها إليه.

وفي كتاب حكايات لأبي عمرو أحمد بن محمد النيسابوري حدثنا بكر بن

ص: 119

محمد بن عيسى الطرطوسي حدثنا حامد بن يحيى بن سليم قال: كان عندنا رجل بمكة من أهل خراسان يودع الودائع فيؤديها فأودعه رجل عشرة آلاف دينار وغاب وحضر الخراساني الوفاة فما ائتمن أحدا من أولاده فدفنها في بعض بيوته ومات فقدم الرجل وسأل بنيه فقالوا: ما لنا بها علم فاسأل العلماء الذين بمكة وهم يومئذ متوافرون فقالوا: ما نراه إلا من أهل الجنة وقد بلغنا أن أرواح أهل الجنة في زمزم فإذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه فائت زمزم فقف على شفيرها ثم ناده فإنا نرجو أن يجيبك فإن أجابك فاسأله عن مالك فذهب كما قالوا فنادى أول ليلة وثانية وثالثة فلم يجب فرجع إليهم فقال: ناديت ثلاثا فلم أجب؟ فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون ما نرى صاحبك إلا من أهل النار فاخرج إلى اليمن فإن بها واديا يقال له: برهوت فيه أرواح أهل النار فقف على شفيرها فناده في الوقت الذي ناديت في زمزم فذهب كما قيل له في الليل فنادى يا فلان بن فلان فأجابه من أول صوت فقال له: ويحك ما أنزلك ها هنا وقد كنت صاحب خير؟ قال: كان لي أهل بخراسان فقطعتهم حتى مت فأخذني الله فأنزلني هذا المنزل وأما مالك فإني لم آمن عليه ولدي وقد دفنته في موضع كذا فرجع صاحب المال إلى مكة فوجد المال في المكان الذي أخبره.

ورجحت طائفة من العلماء أن أرواح الكفار في بئر برهوت منهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه المعتمد وهو مخالف لنص أحمد: أن أرواح الكفار في النار.

ولعل لبئر برهوت اتصالا في جهنم في قعرها كما روي في البحر أن تحته جهنم والله أعلم ويشهد لذلك ما سبق من قول أبي موسى الأشعري: روح الكافر بوادي حضرموت في أسفل الثرى من سبع أرضين.

وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله اليماني هل لأنفس المؤمنين مجمع؟ فقال: يقال: إن الأرض التي يقول الله: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قال: هي الأرض التي تجتمع أرواح المؤمنين فيها حتى يكون البعث خرجه ابن منده وهذا غريب جدا وتفسير الآية بذلك ضعيف.

وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت" من طريق عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن أيوت اليماني عن رجل من قومه يقال له:

ص: 120

عبد الله إنه ونفرا من قومه ركبوا البحرن وإن البحر أظلم عليهم أياما ثم انجلت عنهم الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله: فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب المدينة مغلقة تجأجأ فيها الريح فهتفت بها فلم يجبني أحد فبينا أنا كذلك إذا طلع علي فارسان تحت كل واحد منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وإني خرجت أطلب الماء فقالا لي: يا عبد الله! أسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاسق منها ولا يهولنك ما ترى فيها ن قال: فسألتهما عن تلك البيوت المغلقة التي تجأجأ فيها الريح فقالا: هذه بيوت فيها أرواح الموتى.

قال: فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا فيه رجل معلق مصلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله فلما رآني هتف بي وقال: يا عبد الله اسقني وقال: فغرقت بالقدح لأناوله فقبض بيدي فقال: بل العمامة ثم ارم بالقدح لأونالك فقبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي فأخبرني من أنت؟ فقال: أنا ابن آدم أنا أول من سفك دما في الأرض.

وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد نب أسلم قال: بينما رجل في مركب في البحر إذا انكسر بهم مركبهم فتعلق بخشبه فطرحته في جزيرة فخرج يمشي فإذا هو بماء فتبعه فدخل في شعب فإذا برجل في رجليه سلسلة منوط فيها بينه وبين الماء شبر فقال: اسقني رحمك الله قال: فإخذت ملء كفى ماء فرفع بالسلسلة فذهب بالماء فلما ذهب الماء حط الرجل قال: ففعلت ذلك ثلاث مرات أو أربعا قال: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ما لك ويحك؟ قال: أنا ابن آدم الذي قتل أخاه والله ما قتلت نفس ظلما منذ قتلت أخي إلا يعذبني الله بها لأني أول من سن القتل.

وروى عاصم بن محمد الرازي في كتاب الرهبان حدثنا عصمه العباداني قال: كنت أجول في بعض الفلوات إذ نظرت ديرا وفيه صومعة وفيها راهب فناديته فأشرف علي فقلت له: من أين تأتيك الميرة؟ قال: من مسيرة شهر قلت: حدثني بأعجب ما رأيت في هذه المواضع قال: بينا أنا ذات يوم أدير بصري في هذه البرية

ص: 121

القفر وأتفكر في عظمة الله وقدرته إذ رأيت طائرا أبيض مثل النعامة كبيرا وقد وقع على تلك الصخرة - وأومى بيده إلى صخرة بيضاء - فتقيأ رأسا ثم رجلا ثم ساقا وإذا هو كلما تقيأ عضوا التمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق فإذا هم بالنهوض نقره الطائر فقطع أعضاءه ثم يرجع فيبتله فلم يزل على ذلك أياما فكثر تعجبي منه وازددت يقينا بعظمه الله وعلمت أن لهذه الأجساد حياتا بعد الموت وذكر أنه سأل عن ذلك الرجل يوما عن أمره فقال: أنا عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب أمر الله هذا الملك أن يعذبني إلى يوم القيامة قال: قال لي الملك: قد أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج بهذا الجسد إلى جزيرة من البحر الأسود التي تخرج منها هوام أهل النار فأعذبه إلى يوم القيامة.

وقد رويت هذه الحكاية من وجه آخر خرجها ابن النجار في تاريخه من طريق السلفي بإسناد له إلى الحسن بن محمد بن عبيد اليشكري حدثنا إسماعيل بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن النجم، سنة عشر وثلاثمائة أنه حضر مع يوسف بن أبي التياح ببلاد سنباط حضر مجلسه وحدثنا عن راهب سماه فأحض يوسف الراهب فحدثه الراهب بعد الإمتناع أن ملكا نفاه إلى جزيرة على البحر منفردة قال: لرأيت يوما طائرا فذكر شبيها بالحكاية.

ورويت من وجه آخر من طريق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي صاحب السداميات المشهورة عن علي بن هارون عن محمود الوارق حدثنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن عمر البزار سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ قال: قدم علينا شيخ غريب فذكر أنه كان نصرانيا سنين وأنه تعبد في صومعة قال: فبينما هو ذات يوم جالسا إذ جاءه طائر كالنسر أو كالكركي فذكر شبيها بالحكاية مختصرا.

وكل ما ورد من هذه الآثار فإنه محمول على أن الأرواح تنتقل من مكان إلى مكان ولا يدل على أنها تستقر في موضع من الأرض والله أعلم.

ويشهد لهذا ما روي عن شهر بن حوشب قال: كتب عبد الله بن عمرو إلى أبي بن كعب يسأله أين تلتقي أرواح أهل الجنة وأهل النار فقال: أما أرواح أهل الجنة فبالبادية وأما أرواح الكفار فبحضرموت ذكره ابن منده تعليقا.

ص: 122

وقالت: طائفة من الصحابة: الأرواح عند الله عز وجل وقد صح ذلك عن عمرو وقد سبق قوله.

وكذلك روي عن حذيفة خرجه ابن منده من طريق داود الأودي عن الشعبي عن حذيقة قال: إن الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعدها حتى ينفخ فيها وهذا إسناد ضعيف وهذا لا ينافي ما وردت به الإخبار من محل الأرواح على ما سبق.

وقال طائفة: أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عن يمينه وشماله وهذا يستدل له بما في الصحيحين عن أنس عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة"، فذكر الحديث وفيه:"فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والإبن الصالح قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسود الذي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى"1. وذكر بقية الحديث.

وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء وهذا مخالف لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] .

وكذلك حديث البراء وأبي هريرة وغيرهما أن السماء لا تفتح لروح الكافر وأنها تطرح طرحا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

ولذا حمله بعضهم على أن هذه الأرواح التي عن يمين آدم وشماله هي أرواح بنيه التي لم تخلق أجسادهم بعد وهذا في غاية البعد مع منازعة بعضهم في خلق الأرواح قبل أجسادها.

وقد ورد من حديث أبي هريرة ما يزيل هذا الإشكال كله من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية وغيره عن أبي هريرة فذكر حديث الإسراء بطوله إلى أن قال: ثم صعد به إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: قال:

1 أخرجه البخاري "ح 349"، مسلم "ح 163".

ص: 123

نعم: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال: فدخل فإذا هو برجل تام الخلقة لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من الناس عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثه إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله بكى وحزن والباب الذي عن يمينه باب الجنة فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله جهنم فإذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وذكر الحديث وقد خرجه بتمامه البزار في مسنده وأبو بكر الخلال وغير واحد وفيه التصريح بأن أرواح ذريته في الجنة والنار وأنه ينظر إلى أهل الجنة من باب عن يمينه وإلى أهل النار من باب عن شماله وهذا لا يقتضي أن تكون الجنة والنار في السماء الدنيا وإنما معناه أن آدم في السماء الدنيا يفتح له بابان في الجنة والنار ينظر منهما إلى أرواح ولده فيها وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسوف1، وهو في الأرض، وليست الجنة في الأرض وروي أنه رآهما ليلة الإسراء في السماء وليست النار في السماء2.

ويشهد لذلك أيضا ما في حديث أبي هارون العبدي - مع ضعفه - عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الطويل إلى أن ذكر السماء الدنيا: "وإذا أنا برجل كهيئته يوم خلقه الله عز وجل لم يتغير منه شيء وإذا تعرض عليه أرواح ذريته فإذا كان روح طيبة وريح طيبة إجعلوا كتابه في عليين وأن كانت روح كافر قال: روح خبيثة وريح خبيثة إجعلوا كتابه في سجين قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أبوك آدم"، وذكر الحديث ففي هذا أنه تعرض عليه أرواح ذريته في السماء الدنيا وأنه يأمر بجعل الأرواح في مسقرها من عليين وسجين فدل على أن الأرواح ليس محل مستقرها في السماء الدنيا.

وزعم ابن حزم أن الله خلق الأرواح جملة قبل الأجساد وأنه جعلها في برزخ وذلك البرزخ عند منقطع العناصر يعني حين لا ماء ولا هواء ولا نار وأنه إذا خلق الأجساد أدخل فيها تلك الأرواح ثم يعيدها عند قبضها إلى ذلك البرزخ وهو الذي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم.

1 متفق عليه.

2 متفق عليه.

ص: 124

وأهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر وتجعل أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة.

قال: وذكر محمد بن نصر المروزي عن أسحاق بن راهوية أنه ذكر هذا الذي قلناه بعينه قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام غيره.

فكيف يكون قول جميع أهل الإسلام وكلامه يقتضي أن الأرواح رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء تحت السماء الدنيا والحديث يدل على أنه إنما رآها فوق السماء الدنيا وما حكاه عن محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه فلا يدل على ما قاله بوجه فإن محمد بن نصر حكى عن إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه قبل خلق أجسادهم فاستنطقهم واستشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ولم يذكر أكثر من هذا وهذا لا يدل على شيء مما قاله ابن حزم في مستقر الأرواح البتة بل ولا على أن الأرواح بقيت على حالها بل في بعض الأحاديث أه ردها إلى صلب آدم ولم يقل إسحاق ولا غيره من المسلمين: أن مستقر الأرواح حيث منقطع العناصر بل وليس هذا من جنس كلام المسلمين بل من جنس كلام المتفلسفة.

وقد خرج ابن جرير الطبري في كتاب الأدب له من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب عن المغيرة بن عبد الرحمن قال: قال سلمان لعبد الله بن سلام: إن مت قبلي فأخبرني عمن تلقى وإن مت قبلك أخبرتك بما ألقى فقال له الناس: يا عبد الله كيف تخبرنا وقد مت؟ قال: ما من روح تقبض من جسد إلا كانت بين السماء والأرض حتى يرده في جسده الذي أخذ منه هذا لا يثبت وهو منقطع وأبو معشر: ضعيف وقد سبق رواية سعيد بن المسيب لهذه القصة بغير هذا اللفظ وهو الصحيح.

وقد تقدم في سؤال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه عن الأرواح هل تموت بموت الأجساد؟ وهذا يدل على أن هذا قد قيل أيضا وهو كذلك.

وقد حكى عن طائفة من المتكلمين وذهب إليه جماعة من فقهاء الأندلس قديما منهم عبد الأعلى بن وهب بن محمد بن عمر بن لبابة ومن متأخريهم كالسهيلي وأبي بكر بن العربي وغيرهما قال أبو الوليد بن الفرضي في "تاريخ الأندلس": أخبرني

ص: 125

سليمان بن أيوب قال: سألت محمد بن عبد الملك بن أيمن عن الأرواح؟ فقال لي: كان محمد بن عمر بن لبابة يذهب إلى أنها تموت وسألته عن ذلك؟ فقال: كان يذهب عبد الأعلى بن وهب فيما قال ابن أيمن فقلت له: إن عبد الأعلى كان قد طالع كتب المعتزلة ونظر في كلام المتكليمن فقال: إنما قلدت عبد الأعلى ليس من هذا شيء انتهى.

وقد استدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] .

وقد حق كما أخبر الله به لا مرية فيه لكن الشأن في فهم معناه فإن النفس يراد بها مجموع الروح والبدن.

كما في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس] .

وقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] .

وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .

وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .

وقوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس منفوسة إلا الله خالقها"1.

وقوله عليه السلام: "ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ"2.

وفي رواية: "لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم"3. والمراد موت الأحياء الموجودين في يومه ذلك ومفارقة أرواحهم لأبدانهم قبل المائة سنة ليس المراد عدم أرواحهم واضمحلالها فكذلك قوله سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، إنما ارماد كل مخلوق فيه حياة فإنه يذوق الموت وتفارق روحه بدنه فإن أراد أنها تعدم وتتلاشى فليس بحق وقد اشتد نكير العلماء لهذه المقالة حتى قال سحنون بن سعيد

1 أخرجه البخاري "ح 7409"، "ح 1438".

2 أخرجه مسلم "ح 2538".

3 أخرجه مسلم "ح 2539".

ص: 126

وغيره: هذا قول أهل البدع والنصوص الكثيرة الدالة على بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان ترد ذلك وتبطله ولكن تخيل بعض المتأخرين موت الأرواح عند النفخة الأولى مستدلا بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، ورد عليه آخرون وقالوا: إنما المراد به يموت من لم يكن مات قبل ذلك ولكن ورد عن طائفة من السلف في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أن المستثنى هم الشهداء روي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الطور الطويل ومن وجه آخر بإسناد أجود من إسناد حديث الطور وهذا يدل على أن للشهداء حياة يشاركون فيها الأحياء وقد قيل في الأنبياء مثل ذلك أيضا.

وعلى هذا حمل طائفة من العلماء منهم البيهقي وأبو العباس القرطبي قول النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} ، " فأكون أنا أول من يبعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أجوزي بصعقة الطور أم بعث قبلي" وفي رواية:"أو كان ممن استثنى الله"1. ولأن حياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء بلا ريب فشملهم حكم الأحياء أيضا ويصعقون مع الأحياء حينئذ لكن صعقة غشي لا صعقة موت إلا موسى تردد فيه أصعق أم كان ممن استثنى الله، صلى الله عليه وسلم لا محال، فكيف يتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله؟!.

والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين:

أحدهما: أن أرواح الشهداء يخلق لها أجساد أو هي الطير التي تكون في حواصلها ليكمل بذلك نعيمها ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ.

والثاني: أنهم يرزقون من الجنة وغيرهم لم يثبت له في حقه مثل ذلك فإنه جاء أنهم يعلقون في شجر الجنة وروي يعلقون بفتح اللام وضمها فقيل: إنهما بمعنى وأن المراد الأكل من الشجر قال ابن عبد البر وقيل: رواية الضم معناها الأكل ورواية

1 أخرجه بنحوه البخاري "ح 34ز8"، ومسلم "ح 2373"، ورواه بهذا اللفظ ابن ماجه "ح 4274".

ص: 127

الفتح معنا التعلق ذكره ابن الجوزي وبكل حال فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تنعمهم في الأكل والله أعلم.

وقد ذهب طائفة من المتكلمين إلى أن الروح عرض لا تبقى بعد الموت وحملوا ما وردد من عذاب الأرواح ونعميها بعد الموت على أحد أمرين:

1-

إما أن العرض الذي هو الحياة يعاد إلى جزء من البدن.

2-

أو على أن يخلق في بدن آخر.

وهذا الثاني باطل قطعا لأنه يلزم منه أن يعذب بدن غير بدن الميت مع روح غير روحه فلا يعذب حينئذ بدن الميت ولا روحه ولا ينعمان أيضا وهذا باطل قطعا والأول باطل أيضا بالنصوص الدالة على بقاء الروح منفردة عن البدن بعد مفارقتها له وهي كثيرة جدا وقد سبق ذكر بعضها.

وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المقابر قال: "السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بالله مؤمنة اللهم أدخل عليهم روحا منك وسلاما منا" وهذا الحديث خرجه ابن السني من حديث عبد الوهاب بن جابر التيمي حدثنا حبان بن علي عن الأعمش عن أبي رزين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يثبت رفعه وعبد الوهاب لا يعرف وحبان ضعيف ولو صح، حمل على أنه أراد بفناء الأرواح ذهابها من الأجساد المشاهدة كما في قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وبعض الأبدان باقية كأجساد الأنبياء وغيرهم وإنما تفارق أرواحها أجسادها.

وذكر عن ابن عباس أنه سئل أين تكون الأرواح إذا فارقت الأجساد؟ فقال: أين يكون السراج إذا طفي والبصر إذا عمي ولحم المريض إذا مرض؟ فقالوا: إلى أين؟ قال: فكذا الأرواح وهذا لا يصح عن ابن عباس والله أعلم.

ص: 128