المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: "محل أرواح المؤمنين سوى الشهداء - أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في ذكر حال الميت عند نزوله قبره وسؤال الملائكة له وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه وما يرى من منزله في الجنة أو النار

- ‌الباب الثاني: في كلام القبر عند نزوله إليه

- ‌الباب الثالث: في اجتماع الموتى إلى الميت وسؤالهم إياه

- ‌الباب الرابع: في اجتماع أعمال الميت عليه من خير وشر ومدافعتها عنه وكلامها له وما ورد من تحسر الموتى على انقطاع أعمالهم ومن أكرم منهم تبقى إعماله عليه

- ‌فصل: النهي عن تمني الموت والإجتهاد في الطاعة قبل مجيئة

- ‌الباب الخامس: في عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا

- ‌الباب السادس: في ذكر عذاب القبر ونعيمه

- ‌مدخل

- ‌دلالة القرآن على عذاب القبر

- ‌بعض ما جاء في سبب عذاب القبر

- ‌فصل: أنواع عذاب القبر

- ‌فصل: نعيم القبر

- ‌فصل: ما جاء في الكشف عن بعض عذاب أهل القبور ونعيمهم

- ‌فصل: الميت يجد ألم الموت ما دام في قبره

- ‌فصل: ما شوهد من نعيم أهل القبر

- ‌فصل: انتفاع أهل القبور بمجاورة الصالحين وتأذيهم من مجاورة الفاسقين

- ‌الباب السابع فيما ورد من تلاقي الموتى في البرزخ وتزاورهم

- ‌الباب الثامن: فيما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ويزروهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت وحال أقاربهم في الدنيا

- ‌مدخل

- ‌فصل: معرفة الموتى بمن يزورهم ويسلم عليهم

- ‌فصل: معرفة الموتى بحالهم في الدنيا قبل الدفن

- ‌فصل: معرفة الموتى في قبورهم بحال أهليهم وأقاربهم في الدنيا

- ‌فصل: كلام الموتى ورد السلام

- ‌الباب التاسع: في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ

- ‌أرواح الأنبياء

- ‌محل أرواح الشهداء

- ‌فصل: "محل أرواح المؤمنين سوى الشهداء

- ‌فصل: ما يمنع من دخول أرواح المؤمنين والشهداء الجنة

- ‌الباب العاشر: في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء وما ورد من حاجة الموتى إلى دعاء الأحياء وانتظارهم لذلك

- ‌الباب الحادي عشر: في ذكر زيارة الموتى والإتعاظ بهم

- ‌الباب الثاني عشر: في استحباب تذكر القبور والتفكر في أحوالهم وذكر أحوال السلف في ذلك

- ‌الباب الثالث عشر: في ذكر كلمات منتخبه من كلام السلف الصالح في الإتعاظ بالقبور وما ورد عنهم من ذلك من منظور ومنثور

الفصل: ‌فصل: "محل أرواح المؤمنين سوى الشهداء

قال: ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية يقول: يشهدون على أنفسهم بالأيمان بالله.

وروى سفيان عن رجل عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .

وخرج ابن أبي حاتم من رواية رشدين بن سعد عن ابن عقيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: إقرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .

وخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن يحيى التميمي عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مؤمنوا أمتي شهداء"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وإسماعيل هذا ضعيف جدا.

ويعضد هذا ما ورد في تفسير قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] من شهادة هذه الأمة للأنبياء بتبليغ رسالاتهم.

وبكل حال فالأحاديث المتقدمة كلها في الشهيد المقتول في سبيل الله لا يحتمل غير ذلك وإنما النظر في حديث ابن إسحاق هذا والله أعلم.

ص: 102

‌فصل: "محل أرواح المؤمنين سوى الشهداء

"

وأما بقية المؤمنين سوى الشهداء فيقسمون إلى: أهل تكليف وغير أهل تكليف فهذان قسمان.

أحدهما: غير أهل التلكيف: كأطفال المؤمنين.

فالجمهور على أنهم في الجنة وقد حكى الإمام أحمد على ذلك الإجماع.

وقال في رواية جعفر بن محمد ليس فيهم اختلاف، يعني أنهم في الجنة.

وقال في رواية الميموني: لا أحد يشك أنهم في الجنة.

ص: 102

وذكر الخلال من طريق حنبل عن أحمد قال: نحن نقر بأن الجنة قد خلقت ونؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان قال عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46]، لآل فرعون وقال: أرواح ذراري المسلمين في أجواف طير خضر تسرح في الجنة يكلفهم أبوهم إبراهيم فيدل هذا أنهما خلقنا.

وكذلك نص الشافعي عن السلف على أن أطفال المسليمن في الجنة.

وجاء صريحا عن السلف على أن أرواحهم في الجنة كما روى الليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاؤوا وإن أرواح أولاد المسلمين في أجواف عصافير تسرح بهم في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش.

خرجه ابن أبي حاتم.

ورواه الثوري والأعمش عن أبي قيس عن هذيل من قوله لم يذكر ابن مسعود.

خرج البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس عن كعب نحوه.

وخرج الخلال من طريق ليث عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال: إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر يغذى به ولدان أهل الجنة حتى إنهم ليسنون استنان البكارة.

وخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال: إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم الساعة فيبعث ابن أربعين سنة.

ويدل على صحة ذلك ما في صحيح مسلم قال: لما توفي إبراهيم، قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لضئرين يكملان وضاعه في الجنة"1.

وخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس.

1 أخرجه مسلم "ح 2316" قوله صلى الله عليه وسلم: "مات في الثدي" أي في سن الرضاعة، وقوله "لظئرين" هي المرضعة ولد غيرها.

ص: 103

وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث البراء بن عازب.

وروى سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مكحول، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن ذرارى المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر، الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام"1.

كذا رواه على بن عثمان الأحنفي، عن حماد بن سلمة، عن ابن خثيم عن مكحول إلا أنه قال: عصافير خضر في الجنة، وهذا مرسل، ولفظه يشبه لفظ الحديث الذي احتج به الإمام على خلق الجنة، كم تقدم.

وقد روى متصلا من وجه آخر من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذراري المؤمنين يكلفهم إبراهيم في الجنة" 2، خرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وخرج الإمام أحمد عن موسى بن داود عن ابن ثوبان إلا أنه شك أن موسى شك في رفعه ولكن رواه عن واحد عن ثوبان ولم يشك في رفعه.

وروى من وجه آخر من رواية مؤمل عن سفيان عن ابن الأصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولاد المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة عليهما السلام فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى آبائهم".

وكذا رواه محمد بن عبد الله بن نمير عن وكيع عن سفيان مرفوعا.

ورواه ابن مهدي وأبو نعيم عن سفيان موقوفا قال الدراقطني: والموقوف أشبه ومما يستدل لهذا - أيضا - ما خرجه البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبرائيل وميكائيل أتيا به فانطلقا به وذكر حديثا طويلا وفيه: "فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني دارا لم أر

1 الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير لسعيد بن منصور من حديث مكحول مرسلا، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.

2 صحيح أخرجه ابن حبان "ح 1862 / زوائد" وصححه الألباني في صحيح الجامع.

ص: 104

قط أحسن منها فيها رجال وشيوخ وشباب ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب" وذكر الحديث وفيه: قالا: "والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله فأولاد الناس" وفي رواية: "فكل مولود مات على الفطرة" وفي رواية: "ولد على الفطرة والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدار فدار الشهداء" 1.

وروى أبو خالد عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة وفي حديثه: قلت فالروضة؟ قال: أولئك الأطفال وكل بهم إبراهيم: يربيهم إلى يوم القيامة.

وخرج الطبراني والحاكم من حديث سليم بن عامر عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أنا نائم انطلق بي إلى جبل وعر" فذكر الحديث وفيه: "ثم انطلق بي حتى أشرفت على الغلمان يلعبون بين نهرين قلت: من هؤلاء؟ قال: ذراري المؤمنين يحضنهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفر قلت: من هؤلاء؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك".

وذهبت طائفة إلى أنه يشهد لأطفال المؤمنين عموما أنهم في الجنة ولا يشهد لآحادهم وهو قول ابن راهويه نقله عنه إسحق بن منصور وحرب في مسائلهما ولعل هذا يرجع إلى الطفل المعين لا يشهد لأبيه بالإيمان فلا يشهد له حينئذ أنه من أطفال المؤمنين فيكون الوقف في آحادهم كالوقف في إيمان آبائهم.

وحكى ابن عبد البر عن طائفة من السلف القول بالوقف في أطفال المؤمنين منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحق وهو بعيد جدا ولعله أخذ ذلك من عمومات كلام لهم وإن أرادوا بها أطفال المشتركين.

وكذلك اختار القول بالوقف طائفة منهم: الأثرم والبيهقي وذكر أن ابن عباس رجع إليه والإمام أحمد ذكر أن ابن عباس إنما قال ذلك في أطفال المشركين وإنما أخذه البيهقي من عموم لفظ روي عنه كما أنه روى في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين" 2 ولكن الحفاظ

1 أخرجه البخاري "ح1386".

2 أخرجه البخاري "6600" ومسلم في القدر "ح 24، "23".

ص: 105

الثقات ذكروا أنه سئل عن أطفال المشركين1.

واستدل القائل بالوقف بما أخرجه مسلم من حديث فضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا"2.

وخرجه مسلم أيضا، من طريق طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال: " أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"3. وقد ضعف أحمد هذا الحديث من أجل طلحة بن يحيى وقال: قد روى مناكير وذكر له الحديث وقال ابن معين فيه: ليس بالقوي. وأما رواية فضيل بن عمير له عن عائشة فقال أحمد: ما أراه سمعه إلا من طلحة بن يحيى يعني أنه أخذه عنه ودلسه حيث رواه عن عائشة بنت طلحة وذكر العقيلي أنه لا يحفظ إلا من حديث طلحة. ويعارض هذا ما خرجه مسلم من حديث أبي السليل، عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان فما أنت بمحدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب به أنفسنا عن موتانا قال: نعم صغارهم دعاميص أهل الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده - كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا - فلا يتناهى أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة"4. وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" 5. ولهذا قال الإمام أحمد: هو يرجى لأبويه دخول الجنة

1 أخرجه البخاري "ح 1384" ومسلم "ح 2659".

2 أخرجه مسلم "ح 2662".

3 أخرجه مسلم "ح 31/ 2662".

4 أخرجه مسلم "ح 2635".

5 أخرجه البخاري "ح 1381"، ولم أجد عند مسلم، وغنما أخرجه النسائي "ح 1872" وابن ماجة "ح 1065"..

ص: 106

بسببه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولا عن الشهادة لأطفال المسلمين بالجنة قبل أن يطلع على ذلك لأن الشهادة على ذلك تحتاج إلى علم به ثم اطلع على ذلك فأخبر به والله أعلم.

القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء

وقد اختلف فيهم العلماء قديما وحديثا والمنصوص عن الإمام أحمد: أن أرواح المؤمنين في الجنة ذكره الخلال في كتاب السنة عن غير واحد عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أرواح المؤمنين في الجنة وقال حنبل في موضع آخر: هي أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء.

قال أبو عبد الله: ولا نقول هما يفنيان بل هما على علم الله باقيتان يبلغ الله فيهما عمله نسأل الله التثبيت وأن يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.

وقوله: ولا نقول: هما يفنيان يعني الجنة والنار فإن في أول الكلام عن حنبل أن إبا عبد الله حكى قصة ضرار وحكايته اختلاف العلماء في خلق الجنة والنار وأن القاضي أهدر دم ضرار ولذلك استخفى إلى أن مات وأن أبا عبد الله قال: هذا كفر يعني القول بأنهما يخلقان بعد.

قال حنبل: وسألت أبا عبد الله عمن قال: إن كانتا خقلتا فإنهما إلى فناء ثم ذكر هذا الجواب من أحمد.

ولا يصح أن يقال: إن أحمد إنما نفى الفناء عنهما معا فيصدق ذلك أن تكون الجنة وحدها لا تفنى لأن ما بعد هذا يبطل هذا التأويل وهو قوله: عما على علم الله باقيتان فإن هذا ينفي ذلك الاحتمال والتوهم ويثبت البقاء لهما معا وهذا كقولك: لا يعلم زيد وعمرو فهذا قد يحتمل أن يراد نفي العلم عنهما جميعا دون أحدهما فإذا قلت بعد ذلك بل هما جاهلان زال ذلك الاحتمال وأثبت الجهل لهما جميعا وأيضا فلا يقع استعمال نفي عن شيئين والمراد نفي اجتماعهما خاصة إلا مع ما يبين ذلك في سياق الكلام وعن لفظ يدل عليه فأما مع الإطلاق فلا يقع ذلك به لا يجوز استعماله مع الإبهام كما لا يعال: الآلة والنار لا يبقيان وكما لا يقال: الخالق الله،

ص: 107

المخلوق وحده يفنى ولا يقال: الدنيا والآخرة لا تفنيان ويراد بها أن الدنيا وحدها تفنى ولا: محمد ومسيلمة لا يصدقان ولا يكذبان والمراد به صدق محمد وحده وكذب مسيلمة وحده فإن هذا كله استعمال قبيح ممنوع ولا يعهد مثله في كلام أحد يعتد به.

وقول أحمد بعد هذا: نسأل الله التثبيت أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا يدل على أن القول بخلاف ذلك عنده من الضلال والزيغ وقد خرج بهذا فيما نقله عنه حرب قال حرب في مسائل: هذا المذهب أئمة أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم ممن أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام فمن خالف شيئا من هذا المذهب فيها أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحق وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم: الإيمان قول وعمل وذكر العقيدة ومن جملها قال: لقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله ثم خلق الخلق لهما لا يفنيان لا يفنى ما فيهما أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ونحوا هذا فقل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقنا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة.

فقوله في آخر كلامه: خلقنا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك يبطل من أول الكلام على أن المراد به لا يفنى مجموعهما.

وقد نقل هذا الكلام الذي نقله حرب كله عن أحمد صريحا.

نقله عنه أبو العباس أحمد بن جعفر الأصطخري أنه قال: مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء الحجاز وأهل الشام وغيرهم فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق فذكر العقيدة كلها وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله وخلق الخلق لهما فلا يفنيان ولا يفنى ما فيها أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى:

ص: 108

{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ونحو هذا من متشابه القرآن فقل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة.

وقد رويت هذا العقيدة عن الإمام أحمد من وجه آخر من طريق أحمد بن وهب القرشي عنه المقصود هنا قول أحمد: أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.

وقد حكى القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد ومن اتبعه من الأصحاب هذا الكلام عن عبد الله بن أحمد عن أبيه ولم ينقله عبد الله إنما نقله حنبل.

وأما ما نقله عبد الله عن أبيه فقال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورهم أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد؟ قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نسمة المؤمن إذا مات طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده فيبعثه الله"1.

وقد روى عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر كازرازير ثم تعود يتعارفون فيها ويرزقون من ثمارها.

وقال بعض: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش. انتهى.

وهذا الكلام أيضا يدل على أن أرواح المؤمنين عند الله في الجنة إلا أنه ذكر في جوابه الأحاديث الدالة على ذلك المرفوعة والموقوفة ولم يذكر سوى ذلك ففي رواية حنبل جزم بأن أرواح المؤمنين في الجنة وفي رواية عبد الله ذكر الأدلة على ذلك.

فأما الحديث المرفوع الذي ذكره فهو من رواية مالك عن ابن شهاب أن عبد الرحمن بن كعب أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده" 2، كذ رواه مالك في الموطأ ورواه عن مالك جماعة منهم الشافعي ورواه الإمام أحمد في مسنده عن الشافعي وخرجه النسائي من طريق مالك

1 صحيح أخرجه الترمذي "ح 1641"، والنسائي "ح 2072" وابن ماجة "ح 4271" وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.

2 صحيح: سبق تخريجه.

ص: 109

أيضا.

وخرجه مالك من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري، بهذا الإسناد.

وكذا رواه عن الزهري: يونس والزبيدي والأوراعي وإسحاق ورواه شعيب وابن أخي الزهري وصالح بن كيسان عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب وقال صالح في حديثه: أنه بلغه أن كعبا كان يحدث وقال شعيب في حديثه: إن كعبا كان يحدث فهو على رواية صالح ومن وافقه منقطع وذكر محمد بن يحيى الذهلي أن ذلك هو المحفوظ وخالفه ابن عبد البر في ذلك ورجح رواية مالك ومن وافقه، وقد روي - يعني حديث كعب - من وجوه متعددة.

فروى حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث القبر بطوله في حق المؤمن قال: "ويعاد الجسد إلى ما بدئ منه وتجعل روحه في نسيم طير يعلق في شجر الجنة"، خرجه الطبراني وغيره.

وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق معتمر عن محمد بن عمرو به ولفظه: وتجعل نسمته في النسيم الطيب وهو طير يعلق في الجنة وقد سبق أن غيرهما رواه عن محمد بن عمرو فوفقه على أبي هريرة.

وقد تقدم حديث أم هانئ الأنصارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" تكون النسم طائر تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها".

وخرج ابن منده من رواية موسى بن عبيدة الربذي عن عبد الله بن يزيد عن أم كبشة بنت المعرور قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فيقولون: ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر من النار يقولون: ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا".

وموسى بن عبيدة شيخ صالح شغلته العبادة عن حفظ الحديث فكثرت المناكير في حديثه.

وخرج ابن منده أيضا، من رواية معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين، فقال: "في طير خضر تسرح في الجنة حيث

ص: 110

شاءت"، قالوا: يا رسول الله! وأرواح الكفار؟ قال: "محبوسة في سجين"، وهذ مرسل.

وخرج أيضا من رواية عيسى بن موسى عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرواح المؤمنين كالزرازير تأكل من ثمر الجنة"، ثم قال ابن مندة: رواه جماعة عن الثوري موقوفا يعني على عبد الله بن عمرو والصواب وقفه.

وقد سبق أن الإمام ذكره في رواية ابنة عبد الله موقوفا وكذا رواه وكيع عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزارزير يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها أخرجه الخلال.

وخرج - أيضا - من حديث أبي هشام عن أبي إسحاق عن الأحوص، عن عبد الله بن مسعود فذكر احتضار المؤمن وأن روحه تعاد إلى جسده عند سؤاله في القبر ثم ترفع روحه فتجعل في أعلى عليين ثم تلا عبد الله الآية:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} ، قال: السماء السابعة وأما الكفار فذكر الكلام وتلا: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} قال: الأرض.

وروى مثل هذا المعنى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وذكره ابن عبد البر.

وروى سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عبد الله بن عمر وكان يقول: سجين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفار.

وروى ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور حدثه قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أرواح المسلمين حين يموتون قال: ما تقولون يا أهل العراق؟ قلت: لا أدري قال: فإنها صور طير بيض في ظل العرش وأرواح الكفار في الأرض السابعة.

وروى أيضا عن كعب، من رواية الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: كنا جلوسا إلى كعب فجاء ابن عباس فقال: يا كعب كل ما في القرآن عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن فسأله عن سجين وعليين فقال كعب: أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين وأما سجين فالأرض السابعة فيها أرواح الكفار

ص: 111

تحت خد إبليس.

وقد ثبت في الأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة وقد ذكرنا ذلك في كتاب صفة النار مستوفى.

وروى أبو نعيم من طريق الحكم بن أبا قال: نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن لله في السماء السابعة دارا يقال لها: بيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته لأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.

وخرج ابن منده من طريق سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام لقي أحدهما صاحبه فقال: إن مت قبلي فحدثني بما لقيت وإن مت قبلك حدثتك بما لقيت قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت وخرجه ابن أبي الدنيا من طريق جرير بن يحيى.

وخرج أيضا من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن منصور بن أبي منصور أنه سأل عبد الله بن عمرو عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي؟ قال: هي صور طير بيض في ظل العرش.

وروى ابن أبي ليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود: أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قال: هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة.

خرجهما ابن أبي الدنيا.

وخرج اللالكائي من رواية عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري، قال: تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك فتعرج به الملائكة حتى تأتي ربه وله برهان مثل الشمس وروح الكافر أنتن من الجيفة وهو بوادي حضرموت في أسفل الثرى من سبع أرضين.

وقد يستدل للقول بأن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار من القرآن بأدلة منها قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة]

ص: 112

إلى قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة] ، هو دخول النار مع إحرافها وإنضاجها فجعل هذا كله متعقبا للاحتضار والموت.

وكذلك قوله تعالى في قصة المؤمنين في سورة يس: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس] ، وإنما قال هذا بعد ما قتلوه ورأى ما أعد الله له {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر] على تأويل من تأول ذلك عند الاحتضار.

وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 37، 38] .

ونظير هذه الآية قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] .

ومما يستدل به أيضا لذلك، ما رواه مجالد، عن الشعبي، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خديجة، قال:"أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب" 1 خرجه البزار.

وخرج الطبراني بإسناد منقطع عن فاطمة، قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أمنا خديجة؟ قال: "في بيت قصب بين مريم وآسية امرأة فرعون" قالت: ممن هذا القصب؟ قال: "من القصب المنظوم بالدرر واللؤلؤ والياقوت"2.

وخرج أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم الأسلمي

1 بنحوه عند البخاري "ح 3820"، ومسلم "ح 2432".

2 لكن الحديث ضعيف لانقطاعه كما قال المؤلف.

ص: 113