المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الطهارة ــ كتاب الطهارة بدأ الشافعي رحمه الله وغيره بهذا الكتاب من - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ١

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌كتاب الطهارة ــ كتاب الطهارة بدأ الشافعي رحمه الله وغيره بهذا الكتاب من

‌كتاب الطهارة

ــ

كتاب الطهارة

بدأ الشافعي رحمه الله وغيره بهذا الكتاب من العبادات؛ اهتماماً بالأمور الدينية، وتقديماً لها على المصالح الدنيوية، ولما في (الصحيحين) [خ 8 - م 16] عن عبد الله ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج).

فرتبوها على هذا الترتيب المتين، وقدموا الطهارة؛ لأنها مفتاح الصلاة التي هي عماد الدين.

وهي بالماء أصل، وبالتراب فرع، فقدست أحكام المياه.

ولم يذكروا حكم الشهادتين؛ لأنها مفردة في علم سواه.

واستدل له في (الإحياء) بقوله صلى الله عليه وسلم: (بني الدين على النظافة)، وهو بهذا اللفظ لم يوجد، لكن رواه ابن حبان في (الضعفاء)[3/ 57]، والطبراني في (الأوسط)[4890] بمعناه بإسناد ضعيف.

والمراد: كتاب أحكام الطهارة.

و (الكتاب) قال الفقهاء: إنه مأخوذ من الكتب، وهو: الضم، يقال: تكتب بنو فلان إذا تجمعوا، ومنه قيل للخط بالقلم: كتابة؛ لاجتماع الحروف والكلمات.

وسميت الأوراق الجامعة للأحكام ونحوها بذلك؛ لأنها تجمع المسائل والأبواب كما في غالب كتب العراقيين، وتارة يعبر عنها بالفصول كما في غالب كتب الخراسانيين.

وهو اسم مفرد، وجمعه كتب بضم التاء وإسكانها.

وقال الشيخ أبو حيان وغيره: لا يصح أن يكون الكتاب مأخوذاً من الكتب؛ لأن المصدر لا يشتق من المصدر.

ص: 221

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}

ــ

و (الطهارة) بالفتح: طهارة جسم، وطهارة نفس.

فمن الأول تعالى: {وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .

ومن الثاني: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} ، و {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} .

وفي في اللغة: مطلق النظافة والنزاهة عن الأقذار، وفي الشرع: رفع الحدث، وإزالة النجس، وما في معناهما: كالتثليث، والمضمضة، والاستنشاق، والأغسال المسنونة، والوضوء المجدد، وطهارة دائم الحدث، والدبغ، وانقلاب الخمر خلاً، فهذه طهارات شرعية لا ترفع حدثاً ولا تزيل نجساً، لكنها من مجاز التشبيه؛ لأن الوضوء المجدد شبيه بالوضوء الرافع للحدث في صورته، وكذلك الأغسال المسنونة شبيهة بالغسل الرافع للحدث، والغسلة الثانية والثالثة تشبهان الأولى، وكذلك التيمم أطلق عليه طهارة؛ لمشابهته الوضوء في إباحته الصلاة.

واستشكل الشيخ التعبير بالرفع، وقال: هذا حد للتطهير لا الطهارة، والطهارة أثره.

قال: والصواب: التعبير بالارتفاع والزوال؛ فإن الطهارة مصدر تطهر، والرفع والإزالة فعل الشخص، والزوال يشمل انقلاب الخمر خلاً؛ لأنه لا فعل فيه.

قال: (قال الله تعالى: {وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}). بدأ بالآية تبركاً واقتداء بالشافعي رضي الله عنه، فإن من عادته إذا كان في الباب آية .. ذكرها، أو سنة .. روها، أو أثر .. حكاه، ثم رتب عليه مسائل الباب، وكذلك فعل في (المحرر).

و {مَاءً} في الآية: عامة لوقوعها في سياق الامتنان؛ إذ يستحل أن يمتن علينا بغير طاهر، فوجب حمل قوله:{طَهُورًا} على معنى زائد، وهو: التطهير.

ويؤيده أن قوماً قالوا: يا رسول الله؛ إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء،

ص: 222

يُشْتَرَطُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَالنَّجّسِ مَاءٌ مُطْلَقٌ،

ــ

إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال:(هو الطهارة ماؤه، الحل ميتته)، قال الترمذي [69]: حسن صحيح. وسئل البخاري عنه، فقال: صحيح.

وابتدأ في (المهذب) بقوله تعالى: {ويُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} ، وهذا أصرح في الدلالة.

قال: (يشترط لرفع الحدث والنجس ماء مطلق).

أما في (الحدث) .. قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . فأوجب التيمم على من فقد الماء، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره. ونقل ابن المنذر والغزالي فيه الإجماع.

وأما في (النجس) .. فلما روى أبو داوود [367]، والترمذي [138بنحوه]، وابن خزيمة [277]، وغيرهم أن أم قيس بنت محصن الأسدية سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب، فقال:((حكيه بضلع، واغسليه بماء وسدر). و (الضلع): العود.

وقال صلى الله عليه وسلم حين بال ذو الخويصرة التميمي في المسجد: (صبوا عليه ذنوباً من ماء).

و (الذنوب) بفتح الذال المعجمة: الدلو.

والمأمور لا يخرج عن الأمر إلا بالامتثال، فنص على الماء، وذلك إما تعبد لا يعقل معناه كما قاله الإمام، أو يعقل كما اختاه الغزالي، وهو: ما فيه من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره.

ص: 223

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

و (الشرط) في اللغة: العلامة، وفي الاصطلاح: ما لا بد منه.

و (الحدث) في اللغة: وجود الشيء بعد أن لم يكن. وسمى سيبويه المصدر حدثاً؛ لحدوثه وكسره على أحداث. وفي الشرع: دنس يقوم بالأعضاء. وهو: ينقسم إلى أكبر وأصغر، وإذا أطلق .. فالمراد الأصغر غالباً.

و (النجس) بفتح النون والجيم في اللغة: الشيء المبعد، قال الله تعالى:{إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي: مبعدون. وفي الشرع: العين المتصفة بالنجاسة.

ولو عبر بإزالة النجاسة .. كان أولى؛ لأن النجس لا يوصف بالرفع في الاصطلاح.

وشملت عبارته الأرض التي أصابتها نجاسة وذهب أثرها بالشمس والريح، وكذلك أسفل الخف إذا أصابته نجاسة فدلكها بالأرض.

وفي القديم: يطهران بذلك.

وخرج بقوله: (ماء) التيمم؛ فإنه مبيح لا رفع، وآلة الدبغ؛ فإنها محيلة لا مزيلة.

ولكن يرد على مفهومه: ما تقدم من طهارة دائم الحدث كالمستحاضة، والمضمضة، والاستنشاق، والتثليث، والوضوء المجدد، والأغسال المسنونة، وغسل الميت، والذمية والمجنونة للحل الزوج بها؛ فإنها طهارات لا ترفع الحدث.

ويشترط لها الماء المطلق، فلو قال: يشترط لرفع الحدث ونحوه .. لخف الإيراد.

وقال في (الدقائق): إن لفظة (الاشتراط) أولى من قول (المحرر): لا يجوز؛ لأنه لا يلزم من التحريم الاشتراط، وهو قد أجاب عن هذا في (شرح المهذب) و (نكت التنبيه) بأنهم يستعملون لفظ الجواز بمعنى الحل، وبمعنى الصحة.

ص: 224

وَهُوَ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ.

ــ

و (الماء): معروف، وحكى بعضهم: اسقني ما بالقصر، وهمزته منقلبة عن هاء؛ بدلالة ضروب تصاريفه. والنسب إليه: مائي وماوي وماهي، والجمع: أمواه ومياه.

ومن عجيب لطف الله تعالى: أن كل مأكول ومشروب يحتاج إلى تحصيل، أو معالجة حتى يصلح للأكل، إلا الماء فإن الله تعالى أكثر منه، ولم يحوج إلى معالجته؛ لعموم الحاجة إليه.

قال: (وهو: ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد). شملت عبارته النازل من السماء، وهو ثلاثة: المطر وذوب الثلج والبرد. والنابع من الأرض، وهو أربعة: ماء العيون والآبار والأنهار والبحر. والماء النابع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المياه.

فأما النازل من السماء .. فيدل له الآيتان المتقدمتان مع ما في (الصحيحين)[خ 744 – م 598] من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم؛ اغسلني بماء الثلج والبرد).

ويدل للنابع من الأرض حديث البحر المتقدم، وأنه عليه الصلاة والسلام توضأ من بئر بضاعة، فقيل له: أنتوضأ منها ويلقى فيها المحائض ولحوم الكلاب والخبث؟ فقال: (الماء لا ينجسه شيء) رواه الشافعي [شم 1/ 165] وأحمد [3/ 31] وصححه وحسنه الترمذي [66]. وفي (الرافعي): كان ماؤها كنقاعة الحناء.

ولأشرف المياه ما روى النسائي [1/ 61] وابن خزيمة [1/ 102] والبيهقي [1/ 30 و 43] عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في إناء وقال: (توضؤوا باسم الله)، فكان الماء يخرج من بين أصابعه حتى توضؤوا عن آخرهم، وكانوا نحواً من سبعين. وأكثر أهل العلم على أن الماء كان ينبع من نفس أصابعه. قال ابن العربي في (القبس): ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم خصيصة له لم تكن لأحد قبله.

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ثم إن المصنف عدل عن قول (المحرر): بلا إضافة إلى قوله: (بلا قيد)؛ ليشمل التقييد بالإضافة كماء الورد، وبالصفة كقوله تعالى:{مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} ، {مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} ، وبلام العهد كقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا رأت الماء)، و (إنما الماء من الماء)، يعني: المني، فخرج ما لا يطلق إلا مقيداً.

واختلفوا في المستعمل: هل هو مطلق منع من استعماله، أو ليس بمطلق؟ على وجهين. أصحهما: الثاني، فيحترز عنه أيضاً، لكن صحح جماعة الأول.

وإذا وقع في الماء خليط يستغني الماء عنه كورق تفتت .. فقال الإمام: إن الضرورة جوزت إطلاق اسم الماء عليه، فشملته عبارة المصنف.

والمراد بالإطلاق عند أهل اللسان والعرف: ما فهم من قولك: ماء، كما نص عليه في (البويطي).

وقال في (المختصر): كل ماء من بحر عذب أو مالح .. فالتطهير به جائز.

وعاب الفراء وغيره على الشافعي قوله: مالح، وقالوا: هذا لحن، إنما يقال: ماء ملح.

وكم من عائب قولاً صحيحاً .... وآفته من الفهم السقيم

ولكن تأخذ الآذان منه .... على قدر القريحة والفهوم

والصواب: أن فيه أربع لغات: ملح ومالح ومليح وملاح.

قال الشاعر [من الطويل]:

فلو تفلت في البجر والبحر مالح .... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

نعم؛ يرد على عبارة (البويطي) ما حوالي النجاسة العينية؛ فإن الحد صادق

ص: 226

فَالْمُتَغَيَّرُ بِمُسْتَغْنىَ عَنْهُ – كَزَعْفَرَانٍ – تَغَيُّراً يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ .. غَيْرُ طَهُورٍ،

ــ

عليه، ولا يجوز استعماله على القول الجديد الموجب للتباعد.

مهمة:

الماء المترشح من بخار ارتفع من غليان الماء في زوائد (الروضة) طهور، والأصح: أنه غير طهور.

والماء الذي ينعقد منه الملح تجوز الطهارة به على المذهب في (شرح المهذب) وزوائد (الروضة). ومحل الخلاف فيما ينعقد بنفسه، فإن كان بسبب سبوخة الأرض .. جاز قطعاً.

قال: (فالمتغير بمستغنى عنه – كزعفران – تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء .. غير طهور)، سواء كان قلتين أو أكثر؛ لزوال الإطلاق؛ فإنه لا يسمى ماء إلا مقيداً كماء الباقلاء، ولهذا لو حلف لا يشرب ماء فشرب متغيراً بزعفران أو نحوه .. لم يحنث. ولو وكل من يشتري له ماء فاشتراه .. لم يقع للموكل.

ولا فرق في التغير بين الحسي والتقديري، فلو وقع في الماء مائع يوافقه في الصفات كماء الورد المنقطع الرائحة ولم يتغير .. قدرناه مخالفاً للماء، فإن غيره .. سلبه الطهورية، وإلا .. فلا.

وقيل: لا أثر للتغير التقديري، بل العبرة بالغلبة، فإن كان الخليط اقل من الماء .. فهو طهور، وإن كان مثله أو أكثر .. فلا.

وقيل: تعتبر الكثرة بثلاثة أضعاف الماء، وقيل: بسبعة أضعافه، حكاهما المحب الطبري.

فإذا قلنا: لا يؤثر الخليط .. جاز استعمال الجميع.

وقيل: يجب أن يبقى قد الخليط.

وكل ما أشبه الزعفران من المخالطات يعطى حكمه، كالأشنان والدقيق، وكذلك

ص: 227

وَلَا يَضُرَّ تَغَيَّرٌ لَا يَمْنَعُ الاسْمَ، وَلَا مُتَغَيَّرٌ بِمُكْثٍ، وَطِينٍ، وَطُحْلُبٍ، وَمَا فِي مَقَرَّهِ وَمَمَرَّهِ،

ــ

الملح الجبلي إذا طرح في الماء على الأصح دون المائي، أما المتغير بالنجس فسيأتي.

لكن قوله: (تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء) مستغنى عنه؛ لما سيأتي أن التغير الذي لا يمنع الاسم لا يضر.

فلو كان على عضوه زعفران أو سدر، فتغير الماء بملاقاته .. ففي صحة طهارة ذلك العضو وجهان في (الذخائر)، الظاهر منهما: المنع كما في غسل الميت.

و (الزعفران) جمعه زعافر، كترجمان وتراجم.

قال: (ولا يضر تغير لا يمنع الاسم)؛ لما روى النسائي [1/ 131] وابن ماجه [378] عن أم هانئ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد من قصعة فيها أثر عجين).

وقيل: يضر التغير المذكور كالتغير اليسير بالنجاسة.

قال: (ولا متغير بمكث، وطين، وطحلب، وما في مقره وممره)، ولو تفاحش التغير؛ لمشقة الاحتراز، ولأن الماء لا يمكن صونه عن ذلك.

والمراد بـ (الطين والطحلب): ما كانا في الممر والمقر، إلا أن الطين لو طرح فيه .. لم يضر على الصحيح.

وصورة المسألة: إذا كان الطحلب ونحوه مفتتاً، فإن لم يكن .. كان مجاوراً، ولو أخرج منه ودق ناعماً وألقي فيه .. ضر على الصحيح.

والمراد بـ (التغير) هنا: التغير الكثير.

ومثل الطحلب الزرنيخ، وحجارة النورة، وليس المراد بها المحترقة بالنار، بل حجارة رخوة فيها خطوط إذا جرى عليها الماء انحلت فيه، كما نبه عليه ابن الصلاح هنا، والإمام في (النهاية) في (كتاب الحج).

ص: 228

وَكَذَا مُتَغَيَّرٌ بِمُجَاوِرِ كَعُودٍ وَدُهْنٍ، أَوْ بِتُرَابٍ طُرِحَ فِي الأَظْهَرِ.

ــ

ولو صب المتغير بالمخالط الذي لا يضر على ماء لا تغير فيه بالكلية فتغير به .. ضر، كما صرح به ابن أبي الصيف؛ لأنه تغير بما يستغنى عنه، ويقال فيه: ماءان يصح الوضوء بكل منهما منفرداً، ويمتنع إذا اختلطا.

و (المكث) مثلث الميم.

و (الطحلب) بضم الطاء مضمونة ومفتوحة، ويقال له: العرمض وثور الماء، وهو: نبت أخضر يعلو الماء بعضه على بعض.

قال: (وكذا متغير بمجاور كعود ودهن) فهو طهور؛ لأنه متغير بما لا يختلط به، فأشبه المتغير بجيفة ملقاة بقربه، وفي قول: لا، كالتغير بالنجاسة.

و (المجاور): الذي يتميز برأي العين، وقيل: ما يمكن فصله من الماء. والمخالط: غير ذلك، وقيل: المعتبر فيهما العرف.

قال: (أو بتراب طرح في الأظهر)، فيكون طهوراً؛ لأن التغير الحاصل منه مجرد الكدورة، وهي لا تسلب اسم الماء؛ للأمر بالتعفير به في ولوغ الكلب.

والثاني: يضر؛ لتغيره بما يستغنى عنه.

وأشار بقوله: (طرح) إلى أنه يشترط قصد الطرح، فلو ألقاه غير مكلف كصبي ومجنون .. لم يضر، لكن شرطه أن لا يصل إلى حد يسمى طيناً، وإلى أن الحاصل بهبوب الرياح، والذي يكون في الماء من أصله كالماء الكدر .. فإنه طهور بلا خلاف.

ومحل الخلاف: في غير النجاسة الكلبية؛ فإنه لا بد فيها من التراب في إحدى الغسلات.

وتعبيره بـ (الأظهر) تبع فيه (المحرر)، وعبر في (الروضة) بالصحيح، وهو

ص: 229

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مخالف لـ (المنهاج) من وجهين: تصحيح كونهما وجهين، وتضعيف الخلاف.

وإنما أعاد (الباء) مع التراب وعطفه بـ (أو)؛ ليفصله عن أن يكون من أمثلة المجاور، وليعلم أنه عنده مخالط، ومع ذلك لا يسلب في الأظهر، ويؤيده أنه لم يذكره مع أمثلة المجاور في (الروضة)، بل فصل بينهما بأسطر كثيرة.

و (التراب): اسم جنس لا يثنى ولا يجمع عند الظهور.

وقال المبرد: هو جمع واحدته تربة، ويدل على حديث يأتي في (الجنائز) عند قول المصنف:(ويحثو من دنا ثلاث حثيات تراب)، وله خمسة عشر اسماً مجموعة في (التحرير) وغيره.

فروع:

المتغير بالثمار الساقطة فيه .. غير طهور قطعاً.

فإذا تناثر ورق الشجر في الماء وتغير به .. لم يضر على الأظهر؛ لعسر الاحتراز.

وقيل: إن تغير بربيعي .. ضر، أو بخريفي .. فلا.

وقيل: إن كانت الأشجار بقرب الماء .. لا يضر.

وقيل: إن طرح قصداً .. ضر، وصححه في (أصل الروضة)، و (الشرح) و (الحاوي) الصغيرين.

والمتغير بالمني غير ظهور على الأصح؛ لأنه مخالط، وقيل: طهور؛ لأنه لا يكاد ينماع كالدهن والكافور.

والقطران نوعان: مخالط يضر، ومجاور يعفى عنه.

وإذا وجدنا الماء متغيراً، وجوزنا أن يكون بطول المكث، أو طارئ طرأ عليه،

ص: 230

وَيُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ

ــ

فإن لم يكن سبب ظاهر .. أحلنا التغير على طول المكث، وإن كان كما إذا رأينا ظبية تبول في ماء، ثم وجدنا متغيراً وجوزنا أن يكون التغير بطول المكث، وأن يكون بسبب بولها .. فالنص: أنا نحكم بنجاسته إحالة على السبب الظاهر، وهذا يشكل على ما إذا جرح صيداً، ثم غاب عنه ووجده بعد ذلك ميتاً كما سيأتي.

قال: (ويكره المشمس) أي: من جهة الطب؛ لأن حمي الشمس يفصل من الإناء أجزاء تعلو الماء كالهباء، وهو: ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار، فإذا لاقى البدن أورثه البرص.

وروى الدارقطني [1/ 39] والبيهقي [1/ 6] عن عمر: (أنه كان يكره الاغتسال به)، وروى الشافعي [أم 1/ 3](أن جابر بن عبد الله كان يكرهه، وقالا: إنه يورث البرص).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وأما حديث عائشة .. فضعيف جداً.

وقيل: إن المشمس لا يكره، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، واختاره المصنف وصوبه في (شرح المهذب)، وهو المنصوص؛ لأنه لم يصح دليل في كراهته.

وإذا قلنا بالكراهة .. فشرطه: أن يكون في البلاد الحارة، والأواني المضروبة كالحديد والنحاس والرصاص، فلا يكره في الخزف والجلود والزجاج ونحوها، لكن تستثنى آنية الذهب والفضة؛ لصفاء جوهرهما.

وقيل: يكره في النحاس خاصة.

وقيل: كل منطبع بشرط تغطية الرأس.

وقيل: إن شهد طبيان أنه يورث البرص .. كره، وإلا .. فلا، واختاره الشيخ.

ص: 231

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقيل: يكره للنساء دون الرجال.

وقيل: لكل شديد البياض.

وقيل: لمن لم يعمه البرص دون غيره.

وقيل: للحي دون غسل الميت.

وليس من شرطه القصد على الأصح؛ لأن ما أثر بطبعه لا فرق بين أن يقصد ذلك منه أم لا.

وخص بعضهم الكراهة بالبدن دون الثوب.

وفي كراهة أكل ما طبخ به ثلاثة أوجه:

ثالثها: يكره إن كان الطعام مائعاً، وبهذا يعلم أن تعبير المصنف أحسن من قول (المحرر): وتكره الطهارة بالمشمس.

وفي كراهة سقي الحيوان منه نظر.

فإن قيل: لم لا حرم استعماله؛ لأجل ضرره كالسموم القاتلة؟

فالجواب: أن ضرره مظنون بخلاف السموم.

ثم الكراهة فيه شرعية على المشهور، وقيل: إرشادية، واختاره الغزالي وابن الصلاح، ويبنى عليهما الثواب على الترك، فإلارشادية لا ثواب فيها.

ومحل الكراهة: إذا ما وجد ماء غيره، فإن تعين استعماله .. لم يكره ويجب شراؤه حيث يجب شراء الماء للطهارة، وسيأتي في أول (باب التيمم) عن صاحب (الإستقصاء): أن من لم يجد إلا المشمس يعدل إلى التيمم.

فروع:

الأصح في زائد (الروضة): أن كراهته تزول بتبريده. والأصح في (الشرح الصغير): بقاؤها؛ لأن العلة انفصال شيء من الإناء إلى الماء، وتلك الأجزاء هي

ص: 232

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

التي تورث البرص وهي باقية، ولا تصحيح في ذلك في (شرح المهذب).

والمسخن ولو بالنجاسة لا تكره الطهارة به، وقال مجاهد: لا تجوز الطهارة به.

استدل الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حماماً بالجحفة وهو محرم، وقال أسلع بن شريك:(أجنبت وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعت حجارة وسخنت ماء واغتسلت، ثم أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر علي).

وخلاف مجاهد لا يقدح في الإجماع.

والفرق بينه وبين المشمس: أن للنار قوة وتأثيراً في إذهاب ما ينفصل عن تلك الأجزاء الصادرة، بخلاف المشمس.

ولا تكره الطهارة بماء البحر؛ للحديث المتقدم، وكرهه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، وقيل: منعاه وقالا: إنه طبق النار، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك.

وروى الدارقطني [1/ 35] بإسناد حسن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يطهره ماء البحر .. فلا طهره الله).

وتكره الطهارة بشديد الحرارة أو البرودة، إلا أن يضيق الوقت ولم يجد غيره.

وتكره أيضاً بمياه بئار ثمود خلا بئر الناقة.

ولا تكره بماء زمزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منه.

وقول العباس: (لا أحله لمغتسل، لكن لشارب حل وبل) لم يصح عنه، بل يحكى عن أبيه عبد المطلب، ولو ثبت عن العباس .. لم يجز ترك المنصوص به.

وأجاب أصحابنا بأنه محمول على أنه قاله في وقت ضيق الماء لكثرة الشاربين.

ص: 233

وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ – قِيلَ: وَنَفْلِهَا -: غَيْرُ طَهُورٍ فِي الْجَدِيدِ،

ــ

وأما إزالة النجاسة به .. فقيل: يحرم؛ لأنه يقيت كالطعام؛ لحديث أبي ذر في ابتداء إسلامه.

وفي (صحيح مسلم)[2473]: (أنه طعام طعم). وفي (أبي داوود الطيالسي)[457]: (وشفاء سقم).

وقيل: يكره، وقال الصيمري: إنه خلاف الأولى.

قال: (والمستعمل في فرض الطهارة – قيل: ونفلها – غير طهور في الجديد). الماء الذي أزيل به حدث .. طاهر؛ لأن السلف الصالح كانوا لا يحترزون عما يتقاطر عليهم منه، وكانوا مع قلة مياههم لم يجمعوا المستعمل للاستعمال ثانياً، بل انتقلوا إلى التيمم.

وفي (الصحيحين)[خ 194 – م 1616]: عن جابر قال: (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض يعودني فتوضأ، وصب علي من وضوئه).

وفي القديم: طهور؛ لأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهراً فكان طهوراً.

وعلى الجديد اختلفوا في علته، فقيل: تأدي فرض الطهارة به وهو الأظهر، وقيل: تأدي العبادة.

فعلى الأول: يحكم بطهورية المستعمل في مسنونات الطهارة، دون المستعمل في غسل الذمية عن حيض لتحل لزوجها المسلم؛ لأنه استعمل في فرض.

وعلى الثاني: يكون الحكم بالعكس.

وقوله: (قيل: ونفلها) مراده: أن المستعمل في النفل، قيل: إنه غير طهور أيضاً؛ لأنه مستعمل في طهارة، فكان كالمستعمل في رفع الحدث، وبه قال أبو حنيفة.

ص: 234

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وليس المراد هنا بالفرض: ما يحلق الإثم بتركه، بل ما لا بد منه، ولذلك يحكم باستعمال ما توضأ به الصبي على الصحيح.

والمراد بـ (الطهارة) هنا: طهارة الحدث فقط، كما صرحا به في (الشرح) و (الروضة).

أما المستعمل في الخبث .. ففيه تفصيل يأتي في (باب النجاسة).

وسيأتي في (باب التيمم) تصحيح امتناعه بالمستعمل، وهو لا يرفع الحدث، فقياسه هنا: إلحاق الماء المستعمل في طهارة دائم الحدث به في جريان الوجهين.

فروع:

ملغزة: لنا ماء استعمل في نفل الطهارة، ومع ذلك لا يجوز استعماله، وهو الذي غسلت به نجاسة لا يجب غسلها، كالدم القليل ودم البراغيث.

والأصح: أن المستعمل في الحدث لا يستعمل في الخبث، كما لا يستعمل في الحدث الأكبر.

ولا يوصف الماء بالاستعمال ما دام متردداً على العضو، فإن فارقه .. صار مستعملاً سواء انتقل إلى الأرض، أم إلى عضو آخر، حتى لو انتقل من إحدى اليدين إلى الأخرى .. صار مستعملاً على الصحيح.

وقيل: لا يضر انتقاله من إحدى اليدين إلى الأخرى؛ لأنهما كعضو واحد.

فلو انفصل من بعض أعضاء الجنب إلى بعض .. فوجهان، أصحهما في (التحقيق): أنه يصير مستعملاً كالمحدث، والأصح في (الكفاية): عكسه.

هذا كله في الانتقال النادر، أما الذي يغلب في الاستعمال كالحاصل عند نقله من

ص: 235

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الكف إلى الساعد ورده .. فإنه لا يصير مستعملاً، كما جزم به الرافعي في الباب الثاني من (التيمم).

ولو كان على موضعين من بدنه نجاسة، وصب الماء على أعلاهما فمر ثم انحدر إلى الأسفل .. طهرا جميعاً كما أفتى به البغوي.

ولو غمس المحدث يده في الإناء بعد غسل وجهة بنية الاغتراف .. لم يصر مستعملاً، وإن نوى الاستعمال .. فمستعمل، وكذا إن أطلق على الصحيح، وكذلك الجنب أيضاً.

مهمة:

صحح في زوائد (الروضة): أنه لو غسل رأسه بدل مسحه .. كان الماء مستعملاً.

والأصح: أنه غير مستعمل.

وما توضأ به الحنفي وغيره ممن لا يعتقد وجوب النية الأصح في زوائد (الروضة) أيضاً: أنه مستعمل.

والثاني: لا.

والثالث: إن نوى .. صار، وإلا .. فلا. وهذا مشكل على اعتبار اعتقادنا لا اعتقاد الفاعل. والصحيح: التفصيل.

قلت: الفرق بين هذا وبين بطلان الصلاة خلف من مس ذكره: أن الإمام بينه وبين

ص: 236

فَإِنْ جُمِعَ قُلَّتَيْنِ .. فَطَهُورٌ فِي الأَصَحَّ. وَلَا تَنْجُسُ قُلَّتَا الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ،

ــ

المأموم ارتباط، فسرى منه البطلان إليه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنه لا ارتباط بين المستعمل وغيره.

قال: (فإن جمع قلتين .. فطهور في الأصح)؛ لأن الماء النجس لو جمع حتى بلغ قلتين .. عاد طهوراً قطعاً فالمستعمل أولى.

والثاني: لا يعود طهوراً؛ لأن قوته صارت مستوفاة بالاستعمال فالتحق بماء الورد ونحوه، وهذا اختيار ابن سريج.

قال: (ولا تنجس قلتا الماء بملاقاة نجس)؛ لقول صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين .. لم يحمل الخبث)، قال الحاكم [1/ 133]: صحيح على شرط الشيخين، ورواه الشافعي [1/ 7] وأحمد [2/ 38] وأبو داوود [64] وابن ماجه [517] وابن حبان [1449].

فلو كانت النجاسة مائعة .. فقيل: يجب أن يبقى قدرها.

والأصح: أن له استعمال الجميع كما تقدم في التغير بالطاهر.

فلو كانت النجاسة عينية .. وجب التباعد عنها بمقدار قلتين على الجديد وإن كان ذلك المقدار طاهراً على الأصح.

والقديم – وهو الذي عليه الفتوى -: لا يجب التباعد.

واحترز المصنف بـ (الماء) عن المائعات؛ فإنها تنجس بملاقاة النجاسة وإن بلغت قلالاً؛ لأن صونها بالتغطية ممكن معتاد، بخلاف المياه الكثيرة.

مهمة:

إذا وقعت في الماء القليل نجاسة وشك: هل هو قلتان أو لا؟ في زوائد (الروضة) المختار بل الصواب: الجزم بطهارته؛ لأنه الأصل وشككنا في نجاسة منجسه،

ص: 237

فَإِنْ غَيَّرَهُ .. فَنَجِسٌ، فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَاءٍ .. طَهَرَ،

ــ

ولا يلزم من النجاسة التنجيس. أهـ

والصواب: أنه إن جمع شيئاً فشيئاً وشك في وصوله قلتين .. فالأصل القلة، وإن كان كثيراً وأخذ منه ثم شك .. فالأصل بقاء الكثرة. وإن ورد شخص على ماء يحتمل الكثرة والقلة .. فهذا محل التردد. أهـ

قلت: الصواب ما قاله المصنف، كما لو شك: هل تقدم على الإمام أو تأخر؟ ووجه التفصيل هناك ضعيف، فكذلك هنا.

قال: (فإن غيره .. فنجس) بالإجماع، ولا فرق في التغير بين اليسير والكثير، ولا بين المخالط والمجاور، ولا بين الحسي والتقديري، ولا بين اللون والطعم والريح كما سيأتي.

فلو وقعت جيفة في ماء كثير وتروح .. تنجس على الصحيح خلافاً للشيخ أبي محمد.

هذا إذا تغير كله، فإن تغير بعضه .. فالأصح عند المحققين منهم المصنف: أنه ينجس المتغير فقط. وأما الباقي، فإن كان قلتين .. لم ينجس، وإلا .. فهو نجس، وصحح الرافعي: أن الجميع نجس.

قال: (فإن زال تغيره بنفسه أو بماء .. طهر)؛ لزوال علة النجاسة، ولا فرق في الماء المزيل بين الطاهر والطهور والنجس، فلذلك نكره المصنف.

وقال الإصطخري: لا يطهر إذا زال التغير بنفسه؛ لأن نجاسته ثبتت بوارد، فلا تزال إلا بوارد.

وسيأتي في (باب الأطعمة): أن الجلالة إذا زال تغير لحمها بغير أكل شيء .. لا يزول التحريم أو الكراهة، وهو يشكل على هذا، والخلاف راجع إلى أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد، وفيه صور تأتي متفرقة.

وقوله: (طهر) فتح هائه أفصح من ضمها.

ص: 238

أَوْ بِمِسْكٍ وَزَعْفَرَانٍ .. فَلَا، وَكَذا تُرَابٌ وَجِصٌّ فِي الأَظْهَرِ. وَدُونَهُمَا بَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ،

ــ

قال: (أو بمسك وزعفران .. فلا)؛ لأنا لا ندري أن أوصاف النجاسة زالت، أو غلب عليه المطروح فسترها، وهكذا لو زال طعمه بالخل.

وفي (الكافي) وجه: أنه يطهر إذا زال بالمسك، وقياس الباقي كذلك، لكن عطف المصنف المسألة على الزوال ليس بجيد؛ لأنا نشك في زواله.

وعبارة (المحرر) أحسن؛ لأنه قال: فلم يوجد التغير .. لم يطهر.

قال: (وكذا تراب وجص في الأظهر)، فلا يطهر بهما؛ لأنهما يكدران الماء، فلا ندري أن التغير زائل أو مغلوب.

والثاني: يطهر؛ لأن التراب يوافق الماء في الطهورية، فيتعاونان على رفع النجاسة، ولهذا جمع بينهما في تطهير النجاسة المغلظة.

ومحل القولين عند كدورة الماء، فإن صفي .. فلا يبقى خلاف، بل إن كان التغير موجوداً .. فنجس قطعاً، وإلا .. فطاهر قطعاً، وبهذا صرح ابن الصلاح، والمصنف في (شرح المهذب).

ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو باللون أو بالريح، كل ذلك فيه القولان.

فإن قيل: إذا زال التغير بالتراب .. ينبغي أن يجزم بنجاسة الماء؛ لكونه متغيراً بتراب متنجس.

فالجواب: أن نجاسة التراب نجاسة مجاورة للماء النجس، فإذا زالت نجاسة الماء طهر التراب والماء جميعاً؛ لأن عينه طاهرة.

و (الجص): ما يبنى به ويطلى، وكسر جيمه أفصح من فتحها، وهو عجمي معرب، وتسميه العامة الجبس وهو لحن.

قال: (ودونهما ينجس بالملاقاة)، تغير أم لا؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا بلغ الماء قلتين .. لم يحمل خبثاً) رواه الأربعة، وصححه الطحاوي، وأبناء منده وخزيمة [1/ 49] وجبان [1449]، والحاكم [1/ 134].

ص: 239

فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ .. فَطَهُورٌ، فَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا .. لَمْ يَطْهُرْ، وَقِيلَ: طَاهِرٌ، لَا طَهُورٌ. وَيُسْتَثْنَى مَيْتَةٌ لَا دَمَ لَهَا سَائِلٌ، فَلَا تُنَجَّسُ مَائِعاً عَلَى الْمَشْهُورِ،

ــ

وقال مالك: لا ينجس إلا بالتغير، واختاره ابن المنذر والروياني، والغزالي في (الإحياء).

والمراد (بالملاقاة): ورد النجاسة على الماء، أما وروده عليها .. فله حكم الغسالة، وسيأتي في (باب النجاسة) حكمها.

قال: (فإن بلغهما بماء ولا تغير .. فطهور)؛ لزوال العلة وهي القلة، حتى لو فرق بعد ذلك .. لم يضر.

والعبرة بالاتصال، كما أشعر به كلام المصنف، لا بالخلط، فيكفي رفع الحاجز بين الصافي والكدر.

قال: (فلو كوثر بإيراد طهور فلم يبلغهما .. لم يطهر)؛ لأنه قليل فيه نجاسة.

قال: (وقيل: طاهر، لا طهور)؛ لأنه نجس ورد عليه الماء فطهره، كالثوب النجس، وصححه العراقيون كما لو غمر ماء طاهر الأرض النجسة.

فإن قلنا بالثاني .. فله شروط:

أن يكون أكثر من النجس، وأن يكون وراداً عليه، وان يكون طهوراً.

وقد ذكرها المصنف على هذا الترتيب، وأهمل شرطاً آخر وهو: أن لا يكون في الماء نجاسة عينية.

وفي (الإستقصاء): أنه يشترط أن يكون الوارد سبعة أضعافه.

قال: (ويستثنى ميتة لا دم لها سائل، فلا تنجس مائعاً على المشهور)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم .. فليغمسه ثم ليطرحه؛ فإن في إحدى جناحيه داء، وفي الأخرى شفاء) رواه البخاري [3320] عن أبي هريرة.

زاد أبو داوود [3840] وابن خزيمة [105] وابن حبان [1246]: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء).

ص: 240

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ومن المعلوم: أن الذباب قد يموت فيه، فلو كان ينجسه .. لم أمرنا به.

والثاني: أنها تنجسه، كسائر الميتات النجسة.

وفي ثالث مخرج اختاره الشيخ: أن ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجس، وهو متجه.

والمراد بما (لا نفس لها سائل) عند قتلها، أو شق عضو من أعضائها، كالذباب والبعوض والزنبور والقمل والبراغيث والنحل والنمل والخنفساء والبق، ودود الفواكه والخل والجبن، وبنات وردان، والعقارب.

قال الشيخ: وفي ذكر البق المعروف في بلادنا نظر.

قال: وقد رأيت بعض الناس يذكر: أنه في كثير من البلاد اسم للبعوض، فلعل من أطلقه .. أراد به ذلك، وحصل الوهم لمن جمع بينهما.

والأصح: أن الوزغ منها، دون الحيات والضفادع.

وكلام المصنف يقتضي الجزم بنجاسة الميتة المذكورة، وبه قال الأكثرون كغيرها من الميتات.

وقال القفال: إنها طاهرة؛ لعدم دمويتها، قال: والذي فيها من الرطوبة كرطوبة النبات.

ومحل الخلاف: إذا لم يتغير المائع بها، فإن تغير .. فالأصح: أنها تنجسه.

ومحله: إذا لم تنشأ في المائع، فإن نشأت فيه كدود الخل .. لم تنجسه بلا خلاف.

ومحله: إذا وقع بنفسه، فإن طرح فيه .. ضره.

وقوله: (مائعاً) أحسن من قول (المحرر): (ماء)؛ لأن المائع أعم والحكم سواء، ولو عبر بالرطب .. كان أشمل ليتناول الثياب الرطبة وغيرها.

وقوله: (على المشهور) أشار إلى ضعف الخلاف، وهو في (الروضة) و (التحقيق) قوي.

ص: 241

وَكَذَا فِي قَوْلٍ: نَجِسٌ لَا يُدْرِكُهُ طَرْفٌ. قُلْتُ: ذَا اَلْقَوْلُ أَظْهَرُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

ــ

قال: (وكذا في قول: نجس لا يدركه طرف. قلت: ذا القول أظهر والله أعلم) أي: لا يشاهده بصر؛ لقلته ولعموم البلوى به، كما إذا وقع الذباب على نجاسة ثم سقط في الماء، وكرشاش البول الذي لا يدرك، فيعفى عنه كدم البراغيث.

والثاني: وهو المنقول في (الشرح) عن المعظم: أنه ينجسه؛ قياساً على سائر النجاسات.

ومجموع ما في المسألة سبع طرق:

أصحها: قولان في الماء والثوب.

والثانية: يؤثر فيهما قطعاً، وهو رأي ابن سريج.

والثالثة: لا قطعاً.

والرابعة: يؤثر في الماء، وفي الثوب قولان.

والخامسة: عكس ذلك.

والسادسة: يؤثر في الماء دون الثوب، بلا خلاف.

والسابعة: عكسه.

ويستثنى مع هاتين المسألتين: الهرة، إذا أكلت نجاسة وغابت وأمكن طهر فمها .. فلا نحكم بنجاسة ما ولغت فيه، والصبي إذا أكل شيئاً نجساً، ثم غاب واحتمل طهارة فيه، فهو كالهرة كما أفتى به ابن الصلاح.

واستشكل في (الشرح الصغير) مسألة الهرة؛ فإنها تشرب الماء بلسانها وتأخذ منه الشيء القليل، ولا تلغ في الماء يطهر فمها من أكل الفأرة، فلا يفيد احتمال مطلق الولوغ احتمال عود فمها إلى الطهارة، وهو إشكال صحيح.

ص: 242

وَاَلْجَارِي كَرَاكِدٍ، وَفِي اَلْقَدِيمِ: لَا يَنْجُسُ بِلَا تَغَيُّرٍ.

ــ

ويستثنى القليل من دخان النجاسة إذا حكمنا بنجاسته؛ فإنه يعفى عنه، واليسير من الشعر المحكوم بنجاسته ويعرف بالعرف، والحيوان الذي على منفذه نجاسة – إذا وقع في مائع أو ماء قليل – فلا ينجسه على الأصح، بخلاف المستجمر فإنه ينجسه.

وما تحمله الرياح من النجاسات معفو عنه، مثل الذر من غبار السرجين وغيره.

قال: (والجاري كراكد)، فينجس القليل منه بملاقاة النجاسة؛ لمفهوم حديث القلتين؛ فإنه لم يفصل بين الجاري والراكد، فإذا كانت الجرية دون قلتين .. تنجست بالملاقاة، وإن كان مجموع ما في النهر أكثر من قلتين .. فيكون محل تلك الجرية من النهر نجساً، ويطهر بالجرية التي تعقبها، وتصير في حكم غسالة النجاسة، حتى لو كانت نجاسة كلبية .. فلا بد من سبع جريات عليها.

و (الجاري): ما تدافع في استواء أو انحدار، فإن كان أمامه ارتفاع .. فحكمه حكم الراكد على المذهب.

و (الجرية): الدفعة التي بين حافتي النهر في العرض.

والجريات متفاصلة في الحكم وإن اتصلت في الحس؛ لأن كل جرية طالبة لما قلبها، هاربة مما بعدها.

قال: (وفي القديم: لا ينجس بلا تغير)؛ لأنه ماء ورد على نجاسة، فلم ينجس من غير تغير، كالماء المزال به النجاسة إذا لم يتغير، واختاره جماعة، واقتصر عليه الإمام والغزالي، بل قال في (الإحياء): لا خلاف في مذهب الشافعي: أنه إذا وقع بول في مال ماء جار ولم يتغير .. أن الوضوء منه جائز.

ومحل القديم: في الجاري على النجاسة الواقفة ثم ينفصل عنها، فلو اشتملت

ص: 243

وَ (اَلْقُلَّتَانِ): خَمْسُ مِئَةِ رِطْلٍ بَغْدَادِيًّ

ــ

الجرية على نجاسة جامدة تجري بجريها .. فهي شبيهة بالراكد.

هذا حكم الجرية التي لاقت النجاسة، أما التي قبلها فطاهرة بلا خلاف.

وموضع النجاسة الواقفة نجس، فكل جرية تمر به نجسة إلى أن تجتمع في موضع مقدار قلتين، فيقال: ماء بلغ ألف قلة من غير تغير وهو نجس، فهذه صورته.

قال: (و (القلتان): خمس مئة رطل بغدادي)؛ لما روى الشافعي رضي الله عنه [1/ 165] والبيهقي [صغرى 156] وابن عدي في حديث القلتين المتقدم: (إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر).

و (قلال هجر) كانت معروفة عندهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في سدرة المنتهى:(وإذا ثمرها كقلال هجر).

وهي قرية من قرى المدينة، نسبت إليها؛ لأنها أول ما عملت بها.

وحديث القلتين تقدم أنه صحيح، لكن العمل به متوقف على معرفة مقدارهما، فلذلك لم يخرجه في (الإلمام) مع اعتقاده صحته؛ لأنه رأى أن مقدارهما غير معلوم.

وروى الشافعي عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر، فالقلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً، فاحتاط الشافعي وجعل الشيء نصفاً؛ لأنه لو كان فوقه .. لقال ثلاث قرب إلا شيئاً، فتكون جملة القلتين خمس قرب، والقربة لا تزيد غالباً على مئة رطل بغدادي، فيكون المجموع خمس مئة رطل.

و (القلة) في اللغة: الجرة العظيمة التي يقلها الرجل العظيم بيديه، أي: يرفعها.

وهي بالدمشقي: نحو من مائة وثمانية أرطال.

ص: 244

تَقْرِيباً فِي اَلأَصَحَّ.

ــ

وبالمصري: أربع مئة وستة وأربعون رطلاً وربع رطل، وسدس درهم وخمسة أسباع.

وبالأمنان: مئتان وخمسون.

وبالمساحة: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً، بالذراع المذكور في (صلاة المسافر).

فإن جعلناهما ألف رطل .. فقال القاضي حسين: هما ذراعان ونصف طولاً وعرضاً وعمقاً، والصواب: ذراع وربع طولاً في مثله عرضاً في ذراعين ونصف عمقاً، أو ذراعان ونصف طولاً في ذراع وربع عرضاً في مثله عمقاً.

والوجه الثاني: أنهما ألف رطل؛ لأن أكثر ما تسع القربة مئتا رطل.

والثالث: ست مئة رطل، قاله القفال واختاره الغزالي تبعاً للفوراني.

و (الرطل) بكسر الراء، وجوز الكسائي فتحها.

وسيأتي في (زكاة النبات) الكلام على لفظ بغداد وضبط رطلها.

قال: (تقريباً في الأصح)؛ لما تقدم عن ابن جريج، ورجح جماعة: أنه تحديد كنصاب السرقة.

فإذا قلنا بالأول .. فما هو النقص المغتفر؟ فيه خمسة أوجه:

أصحها: قدر لا يظهر بنقصه تفاوت في التغير، بمقدار مغير من الزعفران أو نحوه.

والثاني: رطلان.

ص: 245

وَالَتَّغَيُّرُ اَلْمُؤَثِّرُ بِطَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ: طَعْمٌ، أَوْ لَوْنٌ، أَوْ رِيحٌ.

ــ

والثالث: ثلاثة.

والرابع: ثلاثة وما قاربها.

والخامس: مئة رطل؛ لشك ابن جريج وهو أبعدها.

وإذا قلنا: تحديداً .. ضر نقصان أقل شيء.

قاعدة:

المقدرات أربعة أقسام:

أحدها: ما هو تقريب بلا خلاف، كسن الرقيق المسلم فيه، أو الموكل في شرائه.

الثاني: تحديد بلا خلاف، كتقدير مسح الخف، وأحجار الاستنجاء، وغسل الولوغ، والعدد في الجمعة، ونصب الزكوات والأسنان المأخوذة فيها، وسن الأضحية، والأوسق في العرايا، والحول في الزكاة والجزية، ودية الخطأ، وتغريب الزاني، وإنظار المولي والعنين، ومدة الرضاع، ومقادير الحدود.

الثالث: تحديد على الأصح، فمنه تقدير خمسة أوسق بألف وست مئة رطل، فالأصح: أنه تحديد.

ووقع في (شرح المهذب) هنا وفي (رؤوس المسائل) تصحيح عكسه، ولعله سهو.

الرابع: تقريب على الأصح، كسن الحيض، والمسافة بين الصفين، وأميال مسافة القصر.

قال: (والتغير المؤثر بطاهر أو نجس: طعم، أو لون، أو ريح)، سواء في ذلك المؤثر حساً أو تقديراً.

أما في النجس فبالإجماع كما تقدم، والمعتبر فيه أحد الأوصاف بلا خلاف.

ص: 246

وَلَوِ اَشْتَبَهَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِنَجِسٍ .. اَجْتَهَدَ وَتَطَهَّرَ بِمَا ظَنَّ طَهَارَتَهُ،

ــ

والمتغير بطاهر كذلك على الصحيح المنصوص.

والحديث الذي رواه ابن ماجه [517] والفقهاء: (الماء طهور لا ينجسه شيء) صحيح، وهو من تمام حديث بئر بضاعة.

وأما ما فيه من استثناء طعمه أو ريحه .. فضعيف، وأضعف منه رواية ذكر اللون.

وفي قول: إنما يسلب في التغير بالطاهرات تغير الأوصاف الثلاثة.

وفي آخر: أن اللون وحده يسلب، وكذا الآخران إذا اجتمعا دون ما إذا وجد أحدهما.

وعبارة المصنف رحمه الله تعالى تقتضي: أن لنا تغيراً بنجس لا يؤثر، وهذا لا يوجد، إلا أن يكون احترز عن التغير برائحة جيفة ملقاة بقربه، فإنه لا يضر.

ثم إذا احتجنا إلى تقدير التغير بالطاهر .. فالمعتبر: أوسط الصفات وأوسط المخالفات.

قال: (ولو اشتبه ماء طاهر بنجس .. اجتهد وتطهر بما ظن طهاته)؛ لأن أصل الطهارة معارض بيقين النجاسة، ولأنه شرط من شروط الصلاة يمكن التوصل إليه بالاجتهاد فوجب كالقبلة، وليس الإنسان مكلفاً باليقين، بل تكفيه غلبة الظن؛ بدليل جواز الوضوء بالماء القليل مع القدرة على الكثير، ثم لا بد من ظهور علامة تغلب على الظن الظاهر منهما كسائر الأحكام، وذلك كتغير لون أو ريح أو حركة أو رشاش حوله.

ص: 247

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أما ذوق الماء .. فلا يجوز لاحتمال نجاسته، قال في (البيان).

وكذلك يجتهد إذا اشتبه مطلق بمستعمل في الأصح.

ووراء ما ذكره المصنف رحمة الله عليه أوجه:

أحدها: ما قاله المزني وأبو ثور: إنه لا يجتهد، بل يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه؛ لأنه تحقق النجاسة ولا تزال بغلبة الظن. والأكثرون لم يثبتوه خلافاً مذهبياً.

والثاني – عن الصيدلاني -: أنه يهجم ويتوضأ بأحد الآنية، ويصلي ولا إعادة عليه؛ لأن الأصل في كل منهما الطهارة وعدم وقوع النجاسة.

والثالث – عن الشيخ أبي محمد-: أنه إذا ظن طهارة إناء من غير أمارة .. عول عليه.

والرابع – قول أبي إسحاق الذي حكاه المصنف رضي الله عنه: إن كان معه طاهر بيقين .. لم يتحر.

وضعف الأول بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، وهذا واجد للماء.

وضعف الثاني بأن أصل الطهارة قد عارضه تحقق وقوع النجاسة فارتفع.

وضعف الثالث بأن الأحكام الشرعية لا تنبني على الإلهامات والخواطر.

وأما قول أبي إسحاق .. فسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ضعفه.

والمذهب: أنه لا فرق في جواز الاجتهاد بين الحاضر والمسافر.

وعلى المذهب لو توضأ بغير اجتهاد، ثم بان أن ما توضأ به طاهر .. لم يصح وضؤوه عند جماعة منهم المصنف رحمه الله تعالى؛ لأنه متلاعب كالقبلة.

واختار ابن الصباغ والغزالي: أنه يصح كما لو أدى دينه بمال شك فيه، ثم تبين أنه ملكه.

وحكم الثياب حكم المياه، إلا أن المزني قال: يصلي بكل مرة.

وحكى المرعشي قولاً: أنه لا يجتهد في الثياب إلا في السفر.

وقيل: لا يجتهد إن اختلف الجنس كلبن مع زيت.

ص: 248

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

واعترض ابن الفركاح على المصنف بأنه:

إن أراد وجوب الاجتهاد .. شمل ما إذا قدر على طاهر بيقين، وهو لا يجب إذ ذاك، بل قيل: لا يجوز.

أو الاستحباب .. اقتضى – فيما إذا لم يقدر على المتيقن – أنه يستحب، وهو إذ ذاك واجب.

أو الجواز .. لم يفهم منه الوجوب عند عدم المتيقن.

والجواب: أن مراده الجواز؛ بدليل حكايته الخلاف.

وصورة الوجوب إنما يتحقق عند ضيق الوقت، وليس في كلامه ما ينفيه؛ إذ من المعلوم أن من قدر على الماء بطريق مأذون فيه شرعاً .. لزمه تحصيله ما لم يمنع منه مانع.

والاجتهاد والتأخي والتحري: عبارة عن بذل الجهد – وهو الطاقة – في طلب المقصود.

قال الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} .

وما أحسن قول ابن سناء الملك [من الخفيف]:

فتحيرت أحسب الثغر عقداً .... لسليمى وأحسب العقد ثغرا

فلثمت الجميع قطعاً لشكي .... وكذا فعل كل من يتحرى

فروع:

للاجتهاد شروط:

أن يكون في متعدد، فلو انصب أحد الإناءين قبل الاجتهاد .. ففي الاجتهاد في الثاني وجهان، أصحهما عند الرافعي: الجواز، وعند المصنف: المنع، فيتيمم ويصلي ولا يعيد، وإن لم يرقه.

ص: 249

وَقِيلَ: إِنْ قَدَرَ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ .. فَلَا -

ــ

وأن يكون للعلامة فيه مجال لا كمحرم وأجنبية، وكذا إذا اختلطت زوجته بأجنبيات .. لا يجتهد احتياطاً للأبضاع.

وأن تظهر له علامة كما تقدم.

وأن يكون المتيقن الطهارة لا يخشى منه ضرراً كالمشمس، قاله صاحب (المعين) اليمني.

وأن يعجز عن المتيقن الطهارة في الوجه الآتي إن شاء الله تعالى.

ولو لم تظهر له علامة .. تيمم للعجز في الوضوء، وليكن تيممه بعد إراقة الماءين، أو صب أحدهما في الآخر، ولا إعادة عليه. فإن تيمم قبل ذلك .. وجبت إعادة الصلاة؛ لأنه تيمم ومعه ماء طاهر بيقين.

ولو اختلطت ميتة بمذكاة بلد، أو إناء بول بأواني بلد .. فله الأخذ هجماً، وإلى متى يأخذ؟

الأصح: حتى يبقى واحد.

والثاني: إلى أن يبقى قدر لو اختلط به ابتداء منع الجواز.

ولو اشتبهت شاته بشاة غيره، أو طير بطير غيره، أو ثوبه بثوب غيره .. اجتهد وأخذ ما يؤدي إليه اجتهاده؛ لأن دلالة الملك لا تكفي في حل الأخذ.

قال: (وقيل: إن قدر على طاهر بيقين .. فلا)، كما إذا كان معه إناء ثالث طاهر بيقين، أو كان على البحر؛ لأنه قادر على إسقاط الفرض بيقين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه أحمد [1/ 200] وصححه الحاكم [2/ 13] والترمذي [2518].

وفرق الجمهور بينه وبين القبلة بوجوه:

ص: 250

وَاَلأَعْمَى كَبَصِيرٍ فِي اَلأَظْهَرِ – أَوْ مَاءٌ وَبَوْلٌ .. لَمْ يَجْتَهِدْ عَلَى اَلصَّحِيحِ، بَلْ يُخْلَطَانِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ.

ــ

منها: أن القبلة في جهة واحدة، فإذا قدر عليها .. كان طلب غيرها عبثاً، والماء الطهور في جهات كثيرة.

قال: (والأعمى كبصير في الأظهر)؛ إذ يمكنه الوقوف على الأمارات كاللمس والشم والسماع واعوجاج الإناء ونحوه، فجاز له الاجتهاد كالوقت، فإنه يجتهد فيه بلا خلاف.

والثاني: لا يجوز؛ لأن النظر أثراً في حصول الظن وقد فقد، فامتنع الاجتهاد كالقبلة؛ لأنه لا يجتهد فيها بلا خلاف، فمسألة الكتاب فرع يحاذيه أصلان.

ومراد المصنف بتشبيهه بـ (البصير): [أي]: في أصل الاجتهاد وإن خالفه في بعض فروع المسألة؛ فإنه إذ تحير .. قلد على الصحيح بخلاف البصير.

والمصنف في شروط الصلاة ذكر: أنه إذا اشتبه عليه ثوب طاهر بنجس .. اجتهد، ولم يفصل بين أعمى وبصير، ولا بين أن يقدر على طاهر بيقين أو لا، ولا شك أن الخلاف هناك كما هو هنا، فاجتهاده في الثياب كاجتهاده في الأواني.

قال: (أو ماء وبول .. لم يجتهد على الصحيح)، سواء كان أعمى أو بصيراً؛ لأن الاجتهاد يقوي ما في النفس من الطهارة الأصلية، والبول لا أصل له فيها فامتنع الاجتهاد.

والثاني: يجتهد كالماء النجس، قال الإمام: وهذا هو المتجه في القياس.

وعلى هذا: لا بد من أمارة بلا خلاف.

قال: (بل يخلطان ثم يتيمم)؛ لئلا يتيمم ومعه طاهر بيقين، وإنما يتيمم لتعذر

ص: 251

أَوْ وَمَاءُ وَرْدٍ .. تَوَضَّأَ بِكُلً، وَقِيلَ: لَهُ اَلاجْتِهَادُ.

ــ

استعمال الماء. فلو تيمم قيل الإراقة أو الصب .. أعاد الصلاة؛ لأن معه ماء طاهراً بيقين.

قال المصنف: والصب كالخلط.

وصوب في (المهمات) عدم اشتراط الصب في صحة التيمم، وقال: إنما هو شرط لوجوب القضاء فقط.

وظاهر عبارة الكتاب: أنه لا بد من إتلاف الماءين، ولا حاجة إلى ذلك، بل يكفي إتلاف أحدهما فقط بأن يريقه، فإنه يحتمل أن يكون هو النجس، وأن يكون هو الطاهر، على السواء فلم يبق معه طاهر بيقين، والصواب: حذف النون من (يخلطان)؛ لأنه مجزوم بحذفها عطفاً على يجتهد.

وقوله: (ثم يتيمم) أحسن من قول (المحرر): ويتيمم؛ لإفادة الترتيب.

قال: (أو ماء ورد .. توضأ بكل مرة) أي: وجوباً إذا لم يجد غيرهما؛ لحصول المقصود بتيقن استعمال الطهور، ويعذر في تردد النية للضرورة، كمن نسي صلاة من الخمس.

واعترض على عدم الجزم بالنية بأن ذلك يمكن، بأن يضع في إحدى يديه من هذا وفي الأخرى من هذا، ويغسل خده الأيمن بيمناه والأيسر بيسراه دفعة من غير خلط مقترناً بالنية، ثم يعكس المأخوذ والمغسول، فيصح وضوؤه وجزمه بالنية.

قال: (وقيل: له الاجتهاد)، كالماء الطهور مع المتنجس، وهو جار في كل موضع لم يحصل فيه الاستناد إلى أحد من الجانبين، كخل وخمر، ومذكاة وميتة، ونحو ذلك.

والصحيح في الجميع: عدم الاجتهاد.

ثم لا بد هاهنا من ظهور علامة بلا خلاف، كما تقدم في الماء والبول.

ص: 252

وَإِذَا اَسْتَعْمَلَ مَا ظَنَّهُ .. أَرَاقَ اَلآخَرَ، فَإِنْ تَرَكَهُ وَتَغَيَّرَ ظَنُّهُ .. لَمْ يَعْمَلْ بِاَلثَّانِي عَلَى اَلنَّصَّ، بَلْ يَتَيَمَّمُ بِلَا إعَادَةٍ فِي اَلأَصَحَّ.

ــ

قال: (وإذا استعمل ما ظنه .. أراق الآخر)؛ لئلا يغلط فيستعمله، أو يتغير اجتهاده فيتهوس بذلك.

قال الشيخ: وهذه الإراقة مستحبة بلا خلاف، وبقية الخلاف فيه نظر، فقد حكى الماوردي وجوبه إذا لم يخف العش، فإن خافه .. فله إمساكه ليشربه إذا اضطر.

قال: (فإن تركه وتغير ظنه .. لم يعمل بالثاني على النص)؛ لأنه إذا استعمل الثاني ولم يغسل ما أصابه من الأول .. صلى وعليه نجاسة بيقين، وإن غسله .. كان نقضاً للاجتهاد بالاجتهاد وهو لا يجوز.

وخرج ابن سريج: أنه يتوضأ بالثاني كما لو تغير اجتهاده في القبلة، وضعفه الأصحاب.

قال: (بل يتيمم)؛ لأنه لا يمكنه استعمال ما معه.

قال: (بلا إعادة في الأصح) أي: للصلاة الثانية؛ لأنه يتمم لها وليس معه طاهر بيقين.

والثاني: يعيد؛ لأن معه طاهراً بحكم الاجتهاد.

وأما الصلاة الأولى .. فلا تعاد جزماً، هذا إذا لم يبق معه من الأول شيء، فإن بقيت بقية .. وجبت الإعادة على الأصح؛ لأن معه ماء طاهراً بيقين، سواء كانت كافية لطهارته أم لا.

هذا إذا أحدث، فإن كان على طهارة .. لم تجب الإعادة.

ص: 253

وَلَوْ أَخْبَرَ بِتَنَجُّسِهِ مَقْبُولُ اَلرَّوَايَةِ وَبَيَّنَ اَلسَّبَبَ، أَوْ كَانَ فَقِيهاً مُوَافِقاً .. اَعْتَمَدَهُ.

ــ

ثم محل الخلاف في الإعادة: للمسافر، أما الحاضر .. فيعيد جزماً.

قال: (ولو أخبر بتنجسه) أي: بتنجس أحدهما بعينه، أو على الإبهام.

قال: (مقبول الرواية)، المراد به: العدل، فشمل العبد والمرأة والأعمى على الأصح.

وما وقع في زوائد (الروضة) و (شرح المهذب) من قوله: بلا خلاف، معترض.

وخرج الكافر والفاسق، والمجهول والمجنون، والصبي الذي لا يميز وكذا المميز على الأصح.

ووقع في (شرح المهذب) في (باب الأذان): قبول إخبار المميز فيما طريقه المشاهدة، بخلاف ما طريقه النقل كالإفتاء، والمعتمد عدم قبوله مطلقاً.

قال: (وبين السبب) أي: وكان منجساً عندنا؛ بأن قال: ولغ الكلب في أحدهما أم بال فيه، سواء كان فقيهاً أم عامياً، موافقاً أم مخالفاً.

فلو شهد واحد أنه رأى الكلب ولغ في هذا الإناء، وآخر أنه ولغ في غيره .. حكمنا بنجاستهما، نص عليه. ولو شهد اثنان أنه وقت الزوال ولغ في هذا ولم يلغ في غيره .. عمل بقول أوثقهما. فإن استويا .. فالأصح: يسقط خبرهما فيتوضأ بما شاء وقيل: يجتهد.

قال: (أو كان فقيهاً موافقاً .. اعتمده)، سواء أخبره بذلك قبل الاجتهاد أم بعده، حتى يجب عليه الاجتناب عند التعيين، والاجتهاد عند عدمه؛ لأنه خبر يغلب على الظن التنجس.

وإنما اعتبرنا (الموافق)؛ لأن المذاهب مختلفة في أسباب النجاسة، وقد يظن بما ليس نجساً.

ص: 254

وَيَحِلُّ اَسْتِعْمَالُ كُلَّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ،

ــ

والمراد بـ (الفقيه): العارف بما ينجس الماء، فلو أخبره بنجاسة ما صلى به .. أعادها وغسل كل ما أصابه منه، فإن أطلق ولم يكن موافقاً .. لم يرجع إليه.

وسيأتي في (باب الردة) ما يشكل على هذا.

قال: (ويحل استعمال كل إناء طاهر) بالإجماع، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من شن من جلد، ومن قدح من خشب، ومن مخضب من حجر.

وقوله: (طاهر) أي: من حيث كونه إناء، فلا يرد المغضوب ونحوه.

وما يورد على طرده: من إناء من جلد آدمي أو شعره .. تكلف، أو على عكسه: مما اتخذ من جلد نجس – العين إذا وسع فوق قلتين – غير صحيح، فإنا نمنع حل استعماله وإن كان الماء الذي فيه ظاهراً.

نعم؛ المتخذ من عظام الميتة وجلدها قبل الدباغ يكره استعماله فقط، كما في زوائد (الروضة).

وفي (الصحيح)[خ 197]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من إناء من صفر)، وكره في (الإحياء) الوضوء منه، ورواه عن ابن عمر وأبي هريرة، وهو محجوج بالحديث الصحيح، أما الأكل والشرب فيه .. فيكره.

قال القزويني: اعتياد ذلك تتولد منه أمراض لا دواء لها.

ص: 255

إلَاّ ذَهَباً وَفِضَّةً فيَحْرُمُ،

ــ

و (الإناء) جمعه: آنية كسقاء وأسقية، ورداء وأردية، وجمع الآنية: أواني، ووقع في (الوسيط) وغيره: إطلاق الآنية على المفرد، وليس بصحيح.

وروى الطبراني عن أبي عنبة الخولاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله آنية في أرضه، وآنيته في أرضه قلوب عباده الصالحين، فأحبها إليه ألينها وأرحمها وأصفاها وأرقها).

قال: (إلا ذهباً وفضة فيحرم) أي: استعمالهما بالإجماع على الرجل والمرأة، والصغير والكبير، حتى يحرم على الولي أن يسقي الصبي بإناء منها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) رواه الشيخان [خ 5426 م 2067] من حديث حذيفة.

وفي (مسلم)[2065] عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه ناراً) أي: يلقيها في جوفه لها صوت.

وسمي المأكول والمشروب ناراً؛ لأنه يؤول إليها كما في قوله تعالى: {إنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} ، فهذا نص في تحريم والأكل والشرب، وقيس عليه الباقي.

وعن القديم: يكره كراهة تنزيه؛ لأن ما فيه من الخيلاء لا ينهض حجة في التحريم، لكنهم اتفقوا على ضعفه، ووهم السنجي في نقله الكراهة عن حرملة.

وحكى المرعشي قولاً: أن الأكل والشرب يحرمان دون غيرهما.

وعلى المذهب: إذا تطهر منه .. صحت الطهارة وعصى بالفعل، ولو أكل أو شرب فيهما .. عصى وكان الطعام والشراب حلالاً.

ومن الاستعمال المحرم: الأكل بملعقة منهما، والتطيب من قارورتهما، والاحتواء على مجمرتهما، بخلاف إتيان الرائحة إليه من بعد، بحيث إنه لا ينسب إلى أنه متطيب بهما، فإن قصد تطييب البيت .. عد مستعملاً، صرح به المحب الطبري. ويحرم تخليل الأسنان بخلالهما، والاكتحال بميلهما، واستعمال الإبرة والمرآة منهما.

ص: 256

وَكَذَا اَتَّخَاذُهُ فِي اَلأَصَحَّ. وَيَحِلُّ الْمُمَوَّهُ فِي اَلأَصَحَّ،

ــ

والحيلة في الاستعمال: أن يخرج الطعام من الإناء على شيء بين يديه، ثم يأكل، وأن يضع الطيب في يسراه، ثم يستعمله منها بيمينه.

قال: (وكذا اتخاذه في الأصح)؛ لأن ما لا يجوز استعماله يحرم اتخاذه، كآلات الملاهي.

والثاني: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعماله، والنهي الوارد إنما هو في الاستعمال، وليس كآلات الملاهي؛ لأن اتخاذها يدعو إلى استعمالها، بخلاف هذه.

والصواب: أن الخلاف قولان منصوصان، كما صرح بهما الشيخ أبو حامد، والمحاملي، والبندنيجي، ونصر المقدسي، وصاحب (العدة)، وابن الرفعة.

وفي جواز تزيين الحوانيت والبيوت بآنية النقدين وجهان، لم يصحح الرافعي منهما شيئاً.

والأصح في (الروضة) و (شرح المهذب): التحريم.

قال: (ويحل المموه في الأصح)، سواء موه بذهب أو بفضة؛ لاستهلاكه؛ وهذا بناء على أن التحريم للعين.

والثاني: لا يحل بناء على أنه للخيلاء، واختاره الشيخ في (تنزيل السكينة).

ثم الحل محله: إذا لم يحصل منه شيء بالعرض على النار، فإن حصل .. حرم قطعاً.

و (التمويه): الطلي، ومنه تمول القول، وهو: تلبيسه.

فروع:

يحرم تمويه السقف والجدار بهما بلا خلاف، فإن حصل منه شيء بالعرض على النار .. حرمت استدامته، وإلا .. فلا.

ص: 257

وَاَلنَّفِيسُ – كَيَاقُوتٍ – فِي اَلأَظْهَرِ.

ــ

والأصح في (شرح المهذب) في بابي (اللباس) و (الزكاة): أنه لا يجوز تمويه الخاتم والسيف وغيرهما من آلة الحرب بالذهب، وهو مقتضى كلام الرافعي في (الزكاة)، وهو مخالف للمذكور هنا، إلا أن يحمل التحريم هناك على ما يلبس؛ لما فيه من كثرة الخيلاء، والمذكور هنا على غيره، أو يحمل المذكور هناك على نفس الفعل، وهنا على الاستعمال، ولهذا عبروا هناك بالتمويه وهنا بالمموه.

ولو اتخذ إناء من أحد النقدين وموهه بنحاس ونحوه .. فالأصح عند المصنف: أنه لا يحرم استعماله، واعترض عليه بأن المعنى الصحيح الذي نص عليه الشافعي في الجديد: أن التحريم لعينها.

ومعنى الخيلاء حكي عن القديم لا غير، وحينئذ فالأصح: التحريم، وهو مقتضى كلام الرافعي.

والأصح عن الشيخين: حرمة تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذهب والفضة، وخالفهما الشيخ فصحح الحل – وفاقاً للقاضي حسين – وقال: المنع لاسيما في الكعبة بعيد شاذ غريب في المذاهب كلها، قل من ذكره، ولا وجه له، ولا دليل يعضده، هذا في التحلية بصفائح النقدين، أما التمويه .. فلا أمنع من جريان خلاف فيه؛ لأن فيه إفساد ماليته. فالتمويه عنده أضعف من التحلية.

قال: (والنفيس – كياقوت – في الأظهر)؛ لأنه لا يعرفه إلا الخواص، ولم يرد فيه نهي، ولا يظهر فيه معنى السرف والخيلاء، لكنه مكروه.

قال الشافعي رضي الله عنه: إنما أكره لبس الياقوت والزبد جد من جهة السرف، فلو اتخذ لخاتمه فصاً منها .. جاز قطعاً.

والقول الثاني نص عليه في (حرملة): يحرم؛ لأنه أعظم من السرف في النقدين.

قال في (شرح المهذب): ومن النفيس المرجان والعقيق والبلور، لكن في (الحاوي): أن البلور ليس من النفيس، وأن المتخذ من الطيب والعنبر والمسك والكافور منه.

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقيد في (المحرر) النفيس بكونه من الجواهر، وهو أولى من تعبير المصنف؛ لإخراج ما نفاسته من صنعته، كالزجاج والبلور والخشب المحكم الخرط، فإنه حلال بلا خلاف، وتعبير المصنف أولى لإدخال المتخذ من الطيب، فالأحسن حذف الجواهر وتقييد النفيس بالذات.

فائدة:

(الياقوت): فارسي معرب، الواحدة ياقوتة، وجمعه: يواقيت.

روى ابن عدي [1/ 172] – في ترجمة أحمد ابن أبي أحمد – عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اتخذ خاتماً، فصه ياقوت .. نفي عنه الفقر)، قال ابن الأثير: يريد أنه إذا ذهب ماله .. باع خاتمه فوجد به غنى.

قال: والأشبه إن صح الحديث .. أن يكون لخاصة فيه، كما أن النار لا تؤثر فيه ولا تغيره، وأن من تختم به .. أمن من الطاعون، وتيسرت له أمور المعاش، ويقوى قلبه وتهابه الناس، ويسهل عليه قضاء الحوائج.

وفي (كامل ابن عدي)[3/ 387]: عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحجر الأسود من ياقوت الجنة، فمسحه المشركون فاسود من مسحهم).

وفي (كتاب الخصائص) لأبي الربيع سليمان بن سبع السبتي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى علياً فصاً من ياقوت، وأمره أن ينقش عليه: لا إله إلا الله، ففعل وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(ألم آمرك أن تنقش عليه: لا إله إلا الله؟ فلم زدت: محمد رسول الله؟) فقال: والذي بعثك بالحق ما فعلت إلا ما أمرتني به! فهبط جبريل عليه – صلى الله عليه وسلم – وقال: يا محمد؛ إن الله يقول لك: (أحببتنا فكتبت اسمنا، ونحن أحببناك فكتبنا اسمك)).

والفيروزج: حجر أخضر تشوبه زرقة، يصفو لونه مع صفاء الجو، ويتكدر

ص: 259

وَمَا ضُبَّبَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ضَبَةً كَبِيرَةً لِزِينَةٍ .. حَرُمَ، أَوْ صَغِيرَةً بِقَدْرِ اَلْحَاجَةِ .. فَلَا، أَوْ صَغِيرَةً لِزِينَةٍ، أَوْ كَبِيرَةً لَحِاجَةٍ .. جَازَ فِي الأَصَحَّ.

ــ

بتكدره، ومن خواصه: أنه لم ير في يد قتيل خاتم منه أبداً.

والمرجان إذا علق على طفل .. امتنعت عنه أعين السوء من الجن والإنس. والبلور من علق عليه .. لم ير منام سوء.

قال: (وما ضبب بذهب أو فضة ضبة كبيرة لزينة .. حرم)؛ للسرف والخيلاء، وتحرم الضبة الكبيرة إذا كان بعضها للزينة وبعضها للحاجة.

و (المضبب): الذي فيه ضبة، وهي: صفيحة يسمر بها موضع الشق من الإناء ونحوه، وجمعها: ضباب.

قال: (أو صغيرة بقدر الحاجة .. فلا)؛ لما روى البخاري [5638] رضي الله عنه عن عاصم الأحوال قال: (رأيت قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك رضي الله عنه وكان قد انصدع، فسلسله بفضة. قال أنس رضي الله عنه: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا القدح أكثر من كذا وكذا).

و (الصدع): الشق، والفاعل له أنس رضي الله عنه، كما قاله ابن الصلاح.

قال: (أو صغيرة لزينة، أو كبيرة لحاجة .. جاز في الأصح).

أما الأولى .. فلقدرة معظم الناس على مثلها.

وأما الثانية .. فلظهور قدر الحاجة فيها.

والثاني: لا؛ لظهور معنى الخيلاء.

وروى البيهقي [1/ 29] – بإسناد جيد – عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة، ولا ضبة فضة).

وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها نهت عن تضبيب الأقداح بالفضة)، فلذلك قيل: يحرم استعمال المضبب مطلقاً. وقيل: لا مطلقاً، بل يكره.

وضابط القلة والكثرة: العرف. ومتى شككنا في الكبيرة .. فالأصل: الإباحة.

ص: 260

وَضَبَّةُ مَوْضِع اَلاِسْتِعْمَالِ كَغَيْرِهِ فِي الأَصَحَّ. قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: تَحْرِيمُ ضَبَّةِ الذَّهَبِ مُطْلَقاً، وَاللهُ أَعْلَمُ.

ــ

وقيل: الكبيرة ما تستوعب جانباً من الإناء، كدور رأسه أو أعلاه أو أسفله أو شفته، وقيل: ما يلوح من بعد.

و (الحاجة): المأربة، والجمع: حاج وحاجات وحوج، وحوائج على غير قياس، وكان الأصمعي ينكره ويقول: إنه مولد، وإنما أنكره؛ لخروجه عن القياس، وإلا فهو كثير في كلام العرب، وينشد [من الوافر]:

نهار المرء أمثل حين يقضي .... حوائجه من الليل الطويل

قال: (وضبة موضع الاستعمال كغيره في الأصح)؛ لأن الاستعمال منسوب إلى الإناء كله.

والثاني: إن كنت في موضع الاستعمال .. حرم؛ لأنه يقع به الاستعمال.

قال: (قلت: المذهب: تحريم ضبة الذهب مطلقاً والله أعلم)؛ لأن الحديثين السابقين إنما هما في الفضة، ولا يلزم من جوازه جواز الذهب، لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير:(هذا حرامان على ذكور أمتي).

ونقل الرافعي رحمه الله خلافه عن المعظم، فلو اضطر إليها .. جازت بلا خلاف.

وفي المراد بـ (الحاجة) احتمالان للإمام:

أحدهما: أن تكون الضبة على قدر موضع الكسر، لا تتجاوزه إلا بمقدار ما يستمسك، سواء وجد غيرها أم لا، والمراد بـ (الزينة): ما وراء ذلك.

والثاني: أن يعدم ما يضبب به من غير النقدين.

فروع:

شرب بكفه وفي أصبعه خاتم فضة، أو في الإناء الذي شرب منه دراهم .. جاز ولو أثبتت الدراهم في الإناء بالمسامير، فهو كالضبة، وقطع القاضي حسين بجوازه.

ص: 261

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولو اتخذ للإناء رأساً أو حلقة أو سلسلة من فضة .. صرح جماعة بالجواز، وعللوا الرأس بأنه منفصل عن الإناء لا يستعمل معه.

قال (في المهمات): وكذلك الحرير أيضاً إنما يحرم منه ما تعلق بالبدن كالجلوس عليه، وحينئذ فيكون غطاء العمامة، وكيس الدراهم، ونحو ذلك من الحرير أولى بالجواز من غطاء الكوز وما يوضع فيه.

ويستحب تغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وهو: شد رأسه بخيط أو نحوه.

تتمة:

أواني المشركين وثيابهم – إن كانوا لا يتعبدون باستعمال النجاسة كأهل الكتاب – فهي كآنية المسلمين وثيابهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر رضي الله عنه من جر نصرانية.

والجر والجرار جمع جرة.

وكره استعمالها لعدم تحرزهم، قال الشافعي رضي الله عنه: وأنا لما يلي أسافلهم من الثياب أشد كراهة.

وخص البندنيجي الكراهة بما عدا آنية الماء، واستدل بفعله صلى الله عليه وسلم.

وإن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة، كطائفة من المجوس يغتسلون ببول البقر تقرباً .. ففي جواز استعمالها وجهان أخذاً من القولين في تعارض الأصل والغالب، ويجري الوجهان في أواني مدمني الخمر وثيابهم، وثياب القصابين الذين لا يحترزون من النجاسة، والأصح: الجواز.

* * *

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خاتمة

سئل فقيه العرب عن الوضوء من الإناء المعوج، فقال: إن أصاب الماء تعويجه .. لم يجز، وإلا .. جاز.

والمراد بـ (المعوج): المضب بالعاج، وهو: ناب الفيلة، ولا يسمى غير نابها عاجاً، والصورة فيما دون القلتين.

وليس مراد ابن خالويه والفقهاء والحريري بفقيه العرب شخصاً معيناً، إنما يذكرون ألغازاً وملحاً ينسبونها إليه، وهو مجهول لا يعرف، ونكرة لا يتعرف.

* * *

ص: 263