الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ التَّيَمُّمِ
ــ
باب التيمم
وهو أحسن من ترجمته في (الروضة) و (المحرر) بـ (كتاب التيمم)؛ لأنه من جملة (كتاب الطهارة).
وهو في اللغة: القصد. ومنه قوله تعالى: {ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} .
وقال الشاعر [المثقب العبدي، من الوافر]:
فما أدري إذا يممت أرضا .. .. أريد الخير أيهما يليني
ألخير الذي أنا أبتغيه .. .. أم الشر الذي هو يبتغيني
قال عمرو بن العاصي مخاطبا عمارة بن الوليد [من الطويل]:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه .. .. ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه وغادر سبة .. .. إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
ثم نقله إلى مسح الوجه واليدين بالتراب، بدلا عن الوضوء أو الغسل، أو عوضا منهما مع النية بشرائط مخصوصة.
والأصل فيه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُم مِّنْهُ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، متفق عليه [خ 335 - م 521].
وانعقد الإجماع على مشروعيته، وعلى أنه خصيصة لهذه الأمة.
والأكثرون على أنه فرض سنة ست من الهجرة النبوية.
والمعروف أنه رخصة.
يَتَيَمَّمُ الْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لِأَسْبَابٍ:
ــ
وفي (الكفاية) وجه: أنه عزيمة، وفي (المستصفى): أنه لعدم الماء عزيمة، ومع وجوده لمانع – كمرض ونحوه – رخصة.
وفائدة الخلاف تظهر في وجوب القضاء على من سافر سفر معصية، وفي جواز التيمم بالتراب المغصوب كما سيأتي.
قال: (يتيمم المحدث والجنب)؛ لقوله تعالى: {وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .
وفي (الصحيحين)[خ 347 – م 368] عن عمار بن ياسر قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت ولم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:(إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)، ثم ضرت بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه.
والإجماع منعقد على أن المحدث والجنب يتيممان، وكذلك ذات الحيض والنفاس أو الولادة، والمأمور بغسل مسنون، وكذلك الميت ييمم.
فلو حذف المصنف لفظة (الجنب) .. لشمل الجميع، لكنه إنما خصهما بالذكر؛ لأنهما محل النص في القرآن.
واحترز بهما عن المتنجس؛ فإنه لا يتيمم عند العجز لعدم وروده.
وعن القديم: أنه يمسح محل النجاسة بالتراب.
قال (لأسباب)، هي: جمع سبب، وهو: ما يتوصل به إلى غيره.
أَحَدُهَا: فَقْدُ الْمَاءِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ فَقْدَهُ .. تَيَمَّمَ بِلَا طَلَبٍ، وَإِنْ تَوَهَّمَهُ .. طَلَبَهُ
ــ
والمبيح للتيمم في الحقيقة شيء واحد، وهو العجز عن استعمال الماء.
وللعجز أسباب فلو قال: (لواحد من أسباب) .. كان أحسن.
قال: (أحدها: فقد الماء)؛ للآية الكريمة والسنة.
ويكفي في ذلك الظن، والحاضر كالمسافر على المشهور.
وفي معنى فقده بعده، وخوف طريقه، والاحتياج إليه، أو إلى ثمنه، أو زيادة ثمنه كما سيأتي.
وقال ابن درباس شارح (المهذب) – واسمه عثمان بن عيسى، ووفاته سنة اثنين وست مئة -: إذا لم يجد إلا الماء المشمس .. يعدل إلى التيمم.
والفقد الشرعي كالحسي، فلا يتوضأ بماء سبل للشرب، كما لا يكتحل منه بقطرة؛ لأنه لم يبح لذلك.
وشملت عبارته من نام في المسجد، فأجنب ولم يمكنه الخروج .. فإنه يجوز له المكث فيه، ويجب أن يتيمم إن وجد غير تراب المسجد كما تقدم.
لكن أطلقوا: أنه لا يجوز التيمم بتراب الغير وهو مشكلة؛ لأنه يؤدي إلى أنه إذا مر بأراضي القرى الموقوفة أو المملوكة .. لا يجوز التيمم بترابها، وفيه بعد والمسامحة بذلك مجزوم بها عرفا، فلا ينبغي أن يشك في جوازه بها.
قال: (فإن تيقن المسافر فقده .. تيمم بلا طلب)؛ لأن طلب ما علم عدمه عبث، كما إذا كان في بعض رمال البوادي ونحوها.
وقيل: لا بد من الطلب؛ لأنه لا يقال لمن لم يطلب: لم يجد، وهو بعيد وإن كان هو الأوفق لإطلاق العراقيين.
قال: (وإن توهمه) أي: توهم وجود الماء، أو كان يظن عدمه ظنا قويا.
و (الوهم): من خطرات القلب، والجمع أوهام.
قال: (.. طلبه) أي: وجوبا؛ لأن التيمم طهارة ضرورة، ولا ضرورة مع الإمكان.
مِنْ رَحْلِهِ وَرُفْقَتِهِ،
ــ
وله طلبه بوكيله الموثوق به، وخالف طلب القبلة حيث لا يجوز أن يفوضه إلى غيره؛ لأن أمرها خفي ومبناها على الاجتهاد، فلا يقوم اجتهاد غيره مقام اجتهاده، والماء معاين مشاهد.
فلو أخبره فاسق: أن الماء في مكان معين .. لم يعتمده.
وإن أخبره: أنه ليس فيه ماء .. اعتمده؛ لأن العدم هو الأصل بخلاف الوجدان، قاله الماوردي والروياني.
وقيل: يتعين أن يطلبه بنفسه إذا قدر، فلو طلب غيره بغير إذنه .. لم يكف بلا خلاف.
ولا يصح التيمم قبل الطلب؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} .
ولا يقال: لم يجد إلا إذا طلب.
وفيه وجه ضعيف أو غلط: أن ظن العدم كاليقين، أما الشاك .. فلا بد من طلبه قطعا.
وشرط الطلب وقوعه في الوقت؛ لأنه لا ضرورة قبله، فلو طالب مع الشك في الوقت .. لم يصح ولو صادف الوقت.
ولو طلب أول الوقت وأخر التيمم إلى آخره .. جاز إذا لم يحدث سبب يحتمل معه وجود الماء.
قال: (من رحله) أي: إن لم يتحقق العدم فيه.
و (الرحل): منزل الرجل وما يستصحبه من الأثاث، ويجمع في الكثرة على رحال، وفي القلة على أرحل.
قال: (ورفقته)، فيستوعبهم إذا كثروا، إلا أن يضيق الوقت عن تلك الصلاة، وقيل: عن ركعة، وقيل: يستوعبهم وإن خرج الوقت.
ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه وإن قلوا، بل ينادي: من معه ماء، حتى يبلغ جميعهم.
وَنَظَرَ حَوَالَيْهِ إِنْ كَانَ بِمُسْتَوٍ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى تَرَدُّدٍ .. تَرَدِّدَ قَدْرَ نَظَرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ .. تَيَمَّمِ،
ــ
و (الرفقة) مثلث الراء. سموا بذلك؛ لارتفاق بعضهم ببعض.
وسيأتي تحقيق ذلك في قول المصنف (ولو مآلا).
قال: (ونظر حواليه إن كان بمستو)، فينظر يمينا وشمالا، وخلفا وأماما، ويخص مواضع الخضرة والطير بمزيد احتياط، ولا يلزمه المشي.
وقيل: يمشي قدر غلوة سهم من كل جانب، وهو ضعيف.
قال: (فإن احتاج إلى تردد .. تردد قدر نظره)، بأن يكون على ربوة أو في منخفض، فيجب التردد لتحصل له الثقة، وذلك بأن ينتهي إلى ما يصل إليه نظره لو لم يتردد.
وقد ضبطه الإمام بحد الغوث، وهو: الموضع الذي لو انتهى إليه واستغاث بالرفقة .. لم يبعد غوثهم عنه مع تشاغلهم بأحوالهم، وتبع الغزالي وغيره الإمام في ذلك.
وقال الرافعي: ليس في كلام الأصحاب ما يخالفه.
وادعى المصنف: أن كلام الأصحاب يخالفه.
واختار الشيخ مقالة الإمام، وحمل إطلاق الأصحاب على ما إذا كان الموضع مستويا، أو كانت تلحقه مشقة بالتردد. ثم قال: فقول الكتاب: (قدر نظره):
إن أراد به: سواء لحقه الغوث أم لا .. فهو مخالف لكلام الإمام، بل لكلام الأصحاب كلهم.
وإن أراد به: ضبط محل الغوث الذي أراده الإمام .. فهو كذلك في الغالب؛ لأن الموضع الذي ينتهي النظر إليه يدركه الغوث .. فيه غالبا.
فلو فرضنا أن نظره يقصر عن حد الغوث .. فالذي ينبغي إيجاب الوصول إليه.
فلو بعث النازلون واحدا يطلب لهم .. أجزأ عن الجميع.
قال: (فإن لم يجد .. تيمم)؛ لحصول العجز، وهذا لا خلاف فيه؛ لأن عدم الوجدان يتحقق بذلك.
فَلَوْ مَكَثَ مَوْضِعَهُ .. فَالأَصَحُّ: وُجُوبُ الطَّلَبِ لِمَا يَطْرَأُ. فَلَوْ عَلِمَ مَاءً يَصِلُهُ الْمُسَافِرُ لِحَاجَتِهِ .. وَجَبَ قَصْدُهُ إِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرَ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ،
ــ
قال: (فلو مكث موضعه .. فالأصح: وجوب الطلب لما يطرأ)؛ لعموم الأمر به؛ لكن يكون الطلب الثاني أخف من الأول.
والثاني: لا؛ لأنه لو كان هناك ماء .. لظفر به بالطلب الأول.
ومحل ذكره: ما إذا لم يحدث ما يوهم ماء ولو على بعد، فلو انتقل أو طلع ركب أو أطبق غيم .. وجب الطلب جزما.
قال: (فلو علم ماء يصله المسافر لحاجته)، وهو: ما ينتشر النازلون إليه لاحتطاب ورعي ونحوهما.
وهذه الحالة هي المسماة بحد القرب، وهي أزيد من حد الغوث المتقدم.
وقال محمد بن يحيى: إنه يقرب من نصف فرسخ.
قال: (.. وجب قصده)؛ لأن السعي لحاجة العبادة أهم من السعي لحاجة الدنيا، وهذا الموضع يختلف بحسب الصيف والشتاء، وبالوعورة والسهولة ونحو ذلك، فيعتبر الوسط المعتدل.
قال: (إن لم يخف ضرر نفس أو مال)، فإذا خاف على نفسه أو عضوه من سبع أو عدو، أو على ماله الذي معه أو المخلف في رحله من غاصب أو سارق، أو كان في سفينة وخاف لو استقى من البحر الغرق .. فله التيمم؛ لقوله تبارك وتعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
والمصنف هنا وفي (صلاة الجماعة) نكر النفس والمال؛ ليشمل مال الطالب ومال غيره من أهله ورفقائه وغيرهم، وهو حسن.
لكن يرد عليه: ما إذا كان المال الذي يخاف عليه مقدارا يجب بذله في تحصيل الماء أو أجرته؛ فإن الطلب لا يسقط عنه، كما صرح به في (شرح المهذب) في موضع، وخالفه في آخر منه.
ويشترط أيضا أن لا يخاف انقطاعه عن رفقة يضره التخلف عنهم، وكذا إن لم
فَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ .. تَيَمَّمَ.
ــ
يضره في الأصح؛ لما يلحقه من الوحشة، غير أنهم لم يبيحوا ترك الجمعة بسبب الوحشة، بل شرطوا خوف الضرر، ولعل الفرق: تكرر الطهارة في كل يوم.
فائدة:
(المال): ما تملكته من جميع الأشياء، وأكثر ما يطلق عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم.
قال سيبويه: من شاذ الإمالة إمالة المال، والجمع أموال، وتصغيره مويل.
وفي (حلية الأولياء): عن سفيان الثورة أنه قال: سمي المال مالا؛ لأنه يميل القلوب.
قال المصنف: وهذا مناسب في المعنى؛ لكنه ليس مشتقا من ذلك فإن عين المال واو، و (الإمالة): من الميل بالياء، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية.
و (نهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال) قيل: أراد به الحيران.
وقيل: إضاعته: إنفاقه في الحرام والمعاصي، وما لا يحبه الله عز وجل.
وقيل: (أراد به التبذير والإسراف.
قال: (فإن كان فوق ذلك .. تيمم)؛ لأن ابن عمر أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد .. تيمم وصلى العصر، فقيل له: أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك؟ فقال: أو أحيى حتى أدخلها؟ ثم دخل المدينة والشمس حية مرتفعة ولم يعد الصلاة، رواه الشافعي [شم 1/ 20] بإسناد صحيح.
وإذا جاز التيمم في حق من يعلم الانتهاء إلى الماء في صوب سفره .. فأولى أن يجوز للنازل في بعض المراحل إذا كان الماء عن يمينه أو يساره؛ لزيادة مشقة السير لو سعى إليه، وإذا جاز التيمم للنازل .. فهو للسائر أجوز.
وَلَوْ تَيَقَّنَهُ آخِرَ الْوَقْتِ .. فَانْتِظَارُهُ أَفْضَلُ، أَوْ ظَنَّهُ .. فَتَعْجِيلُ التَّيَمُّمِ أَفْضَلُ فِي الأَظْهَرِ.
ــ
هذا في المسافر، أما المقيم .. فيجب عليه أن يشتغل بتحصيل الماء إذا تيقنه مطلقا، ولو خرج الوقت؛ لأن صلاة المقيم لا يسقط قضاؤها بالتيمم، وفي (التهذيب) وجه: أن المقيم يتيمم ويصلي لحرمة الوقت.
قال: (ولو تيقنه آخر الوقت). ينبغي أن يقرأ بـ (الفاء)؛ لأنه تفريع على جواز التيمم إذا أمكن الوصول إليه في آخر الوقت.
قال: (.. فانتظاره أفضل)؛ لأن الصلاة في أول وقتها فضيلة، والطهارة بالماء فريضة، فكان انتظار الفريضة أولى، ولأن التقديم مستحب، والوضوء من حيث الجملة فرض فثوابه أكبر.
والمصنف أطلق الحكم كما أطلقه الجهور، وقيده الماوردي بما إذا تيقن وجوده في غير منزله، فإن تيقنه آخر الوقت في منزله الذي هو فيه في أول الوقت .. وجب التأخير.
وفي (التتمة) وجه: أن تقديمها بالتيمم أفضل؛ خوفا من الموت، وبه جزم في (الإحياء) و (الخلاصة)، وبه قطع الجويني في (مختصره)، فليس هو شاذا كما قاله المصنف.
قال: (أو ظنه .. فتعجيل التيمم أفضل في الأظهر)؛ لأن فضيلة التقديم محققة، وفضيلة الوضوء موهومة.
والثاني – وهو مذهب الأئمة الثلاثة -: أن التأخير أفضل؛ لأن تأخير الظهر عند شدة الحر مأمور به؛ محافظة على الخشوع المستحب، فالتأخير لإدراك الوضوء المفروض أولى، ويجريان في راجي القيام وراجي السترة والشفاء من حدث دائم آخر الوقت.
وسيأتي في (الجمعة): أن من أمكن زوال عذره .. يندب له التأخير، وهو يشكل بما صححوه هنا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وموضع القولين، إذا أراد الاقتصار على صلاة واحدة، فإن صلى بالتيمم أول الوقت وبالوضوء مرة أخرى .. فهو النهاية في إحراز الفضيلة.
ولو شك فلم يترجح عنده وجود الماء ولا عدمه .. فطريقان:
أصحهما: على القولين كالظن.
والثاني: الجزم بأن التقديم أفضل.
ولو توهمه على ندور .. كان التقديم أفضل جزما.
ولو تعارض أول الوقت والجماعة .. فسيأتي حكمه في مسألة الإبراد بالظهر.
ونظير المسألة: إذا أراد المصلي التأخير لحيازة فضيلة الجماعة، فإن تيقنها .. فالتأخير أفضل، وإن ظنها .. فوجهان.
والتحقيق: أن التقديم أفضل إن فحش التأخير، وإلا .. فالتأخير أفضل.
وإذا علم أنه إن قصد الصف الأول تفوته الركعة .. قال المصنف: الذي أراه تحصيل الصف الأول، إلا في الركعة الأخيرة فتحصيلها أولى.
وإذ ضاق الوقت عن سنن الصلاة، وكان بحيث لو أتى بها لم يدرك الركعة، ولو اقتصر على الواجب لأوقع الجميع في الوقت .. ففي (فتاوى البغوي): أن السنن التي تجبر بالسجود يأتي بها، وما عداها فيها احتمالان.
ومنها: إذا كان المسافر بحيث لو غسل كل عضو ثلاثا لم يكفه الماء .. غسل مرة مرة.
وإذا كان الإتيان بآداب الوضوء يفوت الجماعة .. فلحاق الجماعة أولى.
فرع:
ازدحم مسافرون على بئر لا يمكن أن يستقي منها إلا واحد بعد واحد، أو عراة على ثوب واحد، أو جماعة على مكان واحد لا يصلي فيه قائما إلا واحد، وعلم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت .. صلى في الوقت بالتيمم وعاريا وقاعدا على المذهب.
وَلَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ .. فَالأَظْهَرُ: وُجُوبُ اسْتِعْمَالِهِ، وَيَكُونُ قَبْلَ التَّيَمُّمِ، وَيَجِبُ شِرَاؤُهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ،
ــ
قال: (ولو وجد ماء لا يكفيه .. فالأظهر: وجوب استعماله)؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، وهذا واجد.
وفي (الصحيحين)[خ 7288 – م 1337]: (إذا أمرتكم بأمر .. فأتوا منه ما استطعتم).
والثاني: يقتصر على التيمم؛ لأن في الجمع بينهما جمعا بين بدل ومبدل، فكان كمن وجد بعض الرقبة في الكفارة، وهذا قول أكثر العلماء.
والخلاف جار فيما إذا وجد ثمن بعض ما يكفيه.
قيل: ويجريان في بعض ما يكفيه من التراب، والأصح: القطع بوجوب استعماله.
ولفظة (ماء) في كلام المصنف ممدودة لا موصولة؛ لأن المحدث إذا وجد ما يصلح للمسح كثلج .. لا يجب عليه استعماله على المذهب.
قال: (ويكون قبل التيمم)؛ لئلا يكون متيمما ومعه ماء، فإن كان في الوضوء .. استعمله في وجهه ثم يديه على الترتيب بلا خلاف، وإن كان في الغسل .. تخير؛ لأنه لا ترتيب فيه، لكن يندب أن يبدأ بالرأس؛ لأن البداءة بها أفضل.
قال: (ويجب شراءه بثمن ماله)، ويلزمه صرف ذلك من أي نوع كان من أمواله، كما يلزمه شراء: الرقبة للكفارة، والطعام للمجاعة.
والأصح: أن المعتبر في ثمن المثل تلك الحالة التي هو فيها زمانا ومكانا، من غير انتهاء الأمر إلى حالة الاضطرار؛ فإن الشربة تشترى وقتئذ بدنانير، ويبعد في الرخص إيجاب ذلك على المسافر.
وقيل: يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات.
وقيل: أجره نقله إلى موضع الشراء، أخذا من أن: الماء لا يملك.
فإن زاد على ثمن المثل .. ندب شراؤه.
وآلات الاستقاء: كالدلو والرشاء إذا بيعت أو أجرت .. يجب تحصيلها إذا لم تزد
إَلَاّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ لِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مُؤْنَةِ سَفَرٍ، أَوْ نَفَقَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ.
ــ
على ثمن مثلها، قال الرافعي: كذا قالوه.
ولو قيل: يجب التحصيل ما لم تجاوز الزيادة ثمن الماء .. كان حسنا.
ويجب شراء التراب إذا وجده يباع بثمن المثل.
و (الشراء) يمد فيكتب بالألف، ويقصر فيكتب بالياء، وجمعه أشرية.
و (المؤنة): مهموزة وغير مهموزة.
مهمة:
في زوائد (الروضة): أن الجنب أو المحدث إذا كان على بدنه نجاسة ووجد ماء يكفي أحدهما .. تعين أن يغسل به النجاسة ثم يتيمم، فلو تيمم ثم غسل النجاسة .. جاز، والصواب: ما قاله في (باب الاستنجاء): أنه لا يصح التيمم قبل غسل النجاسة.
قال: (إلا أن يحتاج إليه) أي: إلى ثمن الماء (لدين مستغرق، أو مؤنة سفر، أو نفقة حيوان محترم)؛ لأن هذه الأمور لا بدل لها، بخلاف الماء.
وأطلق الدين ليعلم: أنه لا فرق بين الحال والمؤجل.
ومؤنة السفر بينها في (كتاب الحج)، وفي نفقة الإياب للغريب وجه كما هناك.
ونكر السفر ليعم سفر الطاعة والمباح، ولا فرق بين أن يريده في الحال أو بعد ذلك، ولا بين نفسه وغيره من مملوكه وزوجته ورقيقه ونحوهم ممن يخاف انقطاعهم وهو ظاهر، بخلاف الدين فإنه لا بد أن يكون عليه؛ فإنه لا يجب عليه أداء دين الغير.
ودخل في نفقة الحيوان نفسه ورقيقه ودوابه، سواء فيه الكفار والمسلمون.
وخرج بـ (المحترم): الحربي والمرتد والزاني المحصن وتارك الصلاة والكلب العقور، وأما غير العقور مما لا ينتفع به .. فنص الشافعي على جواز قتله.
وفرض المسألة في (شرح المهذب) فيمن تلزمه نفقته.
وطاهر عبارته هنا: أنه لا فرق بين أن يكون له أو لغيره – كما سيأتي في العطش –
وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءٌ أَوْ أُعِيرَ دَلْواً .. وَجَبَ الْقَبُولُ فِي الأَصَحِّ،
ــ
لكن فيده في (الروضة) و (أصلها) بكونه معه، وعبارة الكتاب تشير إليه؛ لأن ما ليس معه لا يحتاج إليه.
وسكت المصنف وغيره ههنا عن اعتبار المسكن والخادم، والظاهر: اعتبارهما.
فروع:
وجد الماء بثمن مؤجل، وزيد بسبب الأجل ما يليق به .. وجب شراؤه في الأصح.
وإذا كان له مال غائب، وكان الأجل ممتدا إلى أن يصل إلى بلد ماله .. يلزمه شراؤه؛ لأنه ثمن مثله، وكذلك لو وجد ثوبا قدر على بله وعصره، أو على شده في الدلو، أو على شقه وإيصال بعضه ببعض ليصل .. فإنه يجب بشرط أن لا يزيد نقصانه على أكثر الأمرين.
وإذا لم يكن له مال غائب .. لا يلزمه الشراء بالنسيئة بلا خلاف، بخلاف ما إذا وجد حرة ترضى بمؤجل لا يجوز له نكاح الأمة على وجه؛ لما فيه من إرقاق الولد.
ولا يلزمه أن يشتري لمملوكه الماء في السفر، ويجب أن يشتري له ساتر العورة.
قال: (ولو وهب له ماء أو أعير دلوا .. وجب القبول في الأصح)؛ لأنه يعد واجدا والمنة فيه لا تعظم للمسامحة به غالبا، لكن لو عبر بـ (بذل) كان أعم ليشمل ما لو أقرض الماء؛ فإن الأصح: لزوم قبوله، كل هذا إذا بذل له في الوقت، فإن كان قبله .. لم يجب قبوله.
والثاني: لا يجب عليه قبول هبة الماء مطلقا؛ لأنه نوع اكتساب ولا يجب كاكتساب ثمن الماء.
وعلى هذا .. لا يجب قبول العارية إذا زادت قيمة المستعار على ثمن مثل الماء؛ لأنها قد تتلف فيضمنها.
وموضع الخلاف: إذا لم يمكن تحصيل ذلك بشراء ونحوه.
وعلى الأصح .. يجب طلب اتهابه واستعارته واستقراضه، فلو خالف عند وجوب القبول وتيمم .. لم يصح.
وَلَوْ وُهِبَ ثَمَنَهُ .. فَلَا. وَلَوْ نَسِيَهُ فَي رَحْلِهِ أَوْ أَضَلَّهُ فِيهِ فَلَمْ يَجِدْهُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَتَيَمَّمَ .. قَضَى فِي الأَظْهَرِ،
ــ
وقوله: (وهب له)، هي لغة القرآن، ويقال أيضا: وهبت منه وجاءت بها أحاديث كثيرة، ومثله: بعت له ومنه.
فروع:
معه ماء يصلح للطهارة فأتلفه قبل الوقت أو بعده لغرض – كشرب أو غسل ثوب أو تبرد – فلا إعادة عليه قطعا، وكذا إذا أتلفه بلا غرض على الأصح.
ولو وهب الماء – في الوقت – أو باعه من غير حاجة .. فالأصح: بطلانهما؛ لعدم القدرة على التسليم شرعا، وهذا يشكل على ما لو وجبت عليه كفارة وهو يملك عبدا فباعه أو وهبه، أو طولب بديون فباع أو وهب ما يملكه .. فإن ذلك يصح كما جزم به في (شرح المهذب)، مع أن التيمم له بدل.
قال الأصحاب: وإذا قلنا: لا تصح هبته هذا الماء، فتلف في يد الموهوب له .. فلا ضمان عليه على المذهب؛ لأن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه، والهبة الصحيحة لا ضمان فيها.
قال: (ولو وهب ثمنه) أي: ثمن الماء أو الدلو (.. فلا) بالاتفاق لعظم المنة، هذا إذا كان الواهب أجنبيا، وكذا إن كان أبا أو ابنا على الصحيح.
وقيل: لا؛ إذ لا منة فيه.
قال: (ولو نسيه في رحله)، وكذا إن نسي ثمنه في الأصح، وينبغي جريانه في نسيان آلة الاستقاء عند الحاجة إليها.
قال: (أو أضله فيه)، بأن كان يعلم أنه فيه، ولكن جهل مكانه.
قال: (فلم يجده بعد الطلب فتيمم .. قضى في الأظهر)؛ لتقصيره في صورة النسيان، ولندور الضلال في مثل ذلك.
والثاني: لا قضاء؛ لأنه في النسيان معذور، وفي الضلال بعد الإمعان غير مفرط.
وَلَوْ أَضَلَّ رَحْلَهُ فَي رِحَالٍ .. فَلَا. الثَّانِي: أَنْ يَحْتَاجَ إَلَيْهِ لِعَطَشِ مُحْتَرَمٍ وَلَوْ مَآلاً.
ــ
والخلاف في مسألة النسيان قول قديم معلل بأن: النسيان عذر حال بينه وبين الماء، فيسقط الفرض بالتيمم، كما لو حال بينهما سبع.
ومدار هذا القول على أي ثور فإنه قال: سألت أبا عبد الله، فقال: لا قضاء.
فقطع بعضهم بالجديد وحمل أبا عبد الله على مالك أو أحمد، ورد بأن: أبا ثور لم يلق مالكا، ولم تعرف له رواية عن أحمد، وإنما هو معروف بصحبة الشافعي.
ولو نسي ثمن الماء .. قال ابن كج: يحتمل أن يكون كنسيان الماء، ويحتمل خلافه.
قال الرافعي: والأول أظهر.
واحترز المصنف عما إذا لم يتقدم له علم بماء في رحله، فلم يفتشه اعتمادا على علمه، والأصح في هذه الحالة: لا قضاء.
وكذلك إذا حدثت بئر لم يكن يعهدها، فإن علم بها ونسي .. فهو كنسيان الماء في رحله.
قال: (ولو أضل رحله في رحال .. فلا)؛ لأنه صلى ولا ماء معه.
وصورته: أن يكون في ظلمة ونحوها، ويصلي بالتيمم بعد أن أمعن في الطلب، فإن لم يمعن فيه .. فلا خلاف في وجوب القضاء.
والفرق بينه وبين الإضلال في الرحل: أن مخيم الرفقة أوسع، وأنه لا يصدق عليه أن معه ماء بخلاف ما إذا كان في رحله.
وقيل: فيه القولان المتقدمان وصححهما في (شرح المهذب).
وقال الحليمي: إن وجده قريبا .. أعاد، أو بعيدا .. فلا.
قال: (الثاني) أي: من الأسباب (أن يحتاج إليه).
لفظ (يحتاج) مبني للمفعول، والضمير في (إليه) للماء.
قال: (لعطش محترم ولو مآلا)؛ دفعا للضرر اللاحق بسببه، فإذا احتاج إليه رفيقه أو حيوان آخر للعطش .. دفعه إليه مجانا أو بعوض وتيمم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وللعطشان أن يأخذه منه قهرا إذا لم يبذله له، وفي هذه الحالة يحرم الوضوء به.
وضابط العطش المبيح: أن يتضرر بترك الشرب، نحو المرض المبيح للتيمم.
أما غير المحترم .. فلا يجوز صرف الماء إليه بالاتفاق.
وأطلق الأصحاب الرفيق هنا، ولعل المراد من تلزمه نفقته أو الخصيص به، ويبعد إرادة جمع الركب.
وقد تكلموا في حديث: (لا تأكل منه أنت، ولا أحد من رفقتك)، هل المراد المختص به، أو جميع الركب وإن اختلف المأخذ، لكن التزود لمن لا تعلق له به بعيد.
فروع:
مات وله ماء، ورفته عطاش .. شربوه ويمموه، وعليهم قيمته بموضع الإتلاف، وقيل: مثله.
ولو أوصى بماء لأولى الناس به .. قدم الميت على من به نجاسة في الأصح.
فإن كانت على الميت نجاسة .. قدم قطعا، ثم تقدم الحائض، ثم الجنب في الأصح.
ومن معه ماء نجس يمكنه إزالة العطش به، هل يلزمه الوضوء بالطاهر ويشرب النجس؟ ينظر إن لحقه العطش قبل دخول الوقت .. شرب الطاهر بلا خلاف وتيمم.
وإن لحقه بعد دخول الوقت .. فالأصح عند المصنف: أن الحكم كذلك، وعند الرافعي: يشرب النجس ويتوضأ بالطاهر؛ لأنه بدخول الوقت صار مستحقا للطهارة، وهذا هو المفتى به المنصوص في (حرملة).
الثَّالِثُ: مَرَضٌ يَخَافُ مَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَنْفَعَةِ عُضْوٍ،
ــ
ولا يكلف أن يتوضأ به، ثم يجمعه ليشربه؛ لأنه يستقذر عادة، لكن يتعين هذا في الحيوان إذا أمكن جمعه ولم ينقص عن حاجته.
قال: (الثالث: مرض يخاف معه من استعماله على منفعة عضو) كالعمى والصمم والخرس والشلل ونحوها؛ لقوله تعالى: {وإن كُنتُم مَّرْضَى} الآية.
قال ابن عباس: (نزلت في المريض يتأذى بالوضوء، وفي الرجل إذا كانت به جراحة في سبيل الله تعالى، أو القروح أو الجدري، فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت .. فيتيمم)، إسناده حسن، لكن الأصح وقفه عليه.
وروى الحاكم [1/ 178] عنه: أن رجلا أصابه جرح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابه احتلام فأمر بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(قتلوه قاتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟).
ولو لم يكن المرض المخوف حاصلا عنده، ولكن خاف من استعمال الماء أن يؤدي إليه .. أبيح له التيمم أيضا.
ونبه بـ (منفعة العضو) على أنه إذا خاف فواته أو فوات الروح .. كان ذلك من باب أولى، وسواء في ذلك السفر والحضر.
ويكفي في الخوف ظن المتيمم إن كان عارفا بالطب، وإلا .. رجع إلى طبيب حاذق بالغ مسلم عدل.
وفي وجه: يقبل فيه قول الفاسق، وفي وجه: يقبل فيه قول الكافر.
وقيل: يشترط طبيبان عدلان كما في الوصية.
والفرق على الصحيح: تعلق حق الآدمي هناك.
وفي العبد والمرأة وجهان: أصحهما: يقبلان.
فعلى هذا .. في المراهق وجهان: أصحهما: لا يقبل.
وَكَذَا بُطْءُ الْبُرْءِ، أَوِ الشَّيْنُ الْفَاحِشُ فِي عُضْوٍ ظِاهِرٍ فِي الأَظْهَرِ،
ــ
فلو جهل ولم يجد طبيبا .. فعند أبي علي السنجي: لا يتيمم.
وأفتى البغوي بأنه: يصلي بالتيمم ويعيد، واختاره في (المهمات).
و (العضو) بضم العين وكسرها: واحد الأعضاء.
قال في (المحكم): وهو كل عظم وافر بلحمه.
وفي (الترمذي)[2407] عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان – أي: تذل وتخضع له – تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا).
قال: (وكذا بطء البرء) أي: امتداد زمن العلة، وإن لم يزد ألم المرض.
وكذلك زيادة العلة وهي: إفراط الألم وشدة الضنا، وهو المرض الثقيل، أو حصول نوع آخر من المرض .. ففي هذه قولان – أشار إليهما بعد -:
أحدهما: لا يتيمم، بل يستعمل الماء؛ لأنه وجد ما لا يخاف من التلف، فأشبه خوف وجع الضرس، والأظهر: أنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه؛ لعموم الآية، ولأن هذا الضرر أشق من طلب الماء في مرسخ، وقطع قوم بالأول، وقوم بالثاني.
والأصح: طريقة القولين.
قال: (أو الشين الفاحش)، وهو: الأثر المستكره من تغير لون، ونحول واستحشاف، وثغرة تبقى، ولحمة تزيد.
قال: (في عضو ظاهر في الأظهر)، وجه الجواز: ما فيه من الضرر، ووجه المنع: أنه فوت جمال فقط.
والمراد من (الظاهر): ما يبدو غالبا عند المهنة كالوجه واليدين، كذا جزم به الرافعي هنا، وقال في (الجنايات): ما لا يكون كشفه هتكا للمروءة.
وقيل: ما عدا العورة.
واحترز بـ (الفاحش): عن الشين اليسير كأثر الجدري، أو السواد القليل، أو القبيح في الأعضاء الباطنة، أو خوف المرض اليسير الذي لا يخاف معه محذور في العاقبة، فلا يرخص في التيمم جزما.
وَشِدَّةُ اَلْبَرْدِ كمَرَضٍ.
ــ
واستشكله الشيخ عز الدين بما إذا كان ذلك في عبد أو أمة؛ فإنه ينقص القيمة نقصاناً فاحشاً، مع قولهم: إن الماء إذا زاد على ثمن المثل ولو يسيراً .. عدل إلى التيمم.
ولو برئ المريض في صلاته .. فهو كما لو وجد المسافر الماء فيها.
قال: (وشدة البرد كمرض)، فمتى خاف من شدة برد الماء تلف نفسه أو عضوه أو منفعة عضوه أو شيئاً مما تقدم، ولم يقدر على تسخين الماء، ولا على غسل عضو وتدثيره .. جاز أن يتيمم. فإن قدر على التسخين أو التدثير .. امتنع عليه التيمم. وإن أمكن التسخين .. وجب.
واستدل للمسألة بما روى أبو داوود [338] والحاكم [1/ 177] عن عمرو بن العاصي قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلك أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟!) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُم مِّنْهُ} ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.
و (ذات السلاسل) بسينين مهملتين، الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة واللام مخففة، موضع معروف بناحية الشام في ارض بني عذرة، كذا قاله البكري في (معجمه)، والمصنف في (تهذيبه).
هذا هو المعروف، وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان، وكان عمرو أميرها،
وَإِذَا اَمْتَنَعَ اَسْتِعْمَالُهُ فِي عُضْوٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَاتِرٌ .. وَجَبَ اَلتَّيَمُّمُ، وَكَذَا غَسْلُ اَلصَّحِيحِ عَلَى اَلْمَذْهَبِ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا لَلْجُنُبِ،
ــ
ووقع في (نهاية ابن الأثير): أنها بضم السين الأولى وكسر الثانية، وأنها بأرض جذام، وفي (الصحاح) قريب منه.
قال: (وإذا امتنع استعماله) أي: امتنع وجوب استعماله لجرح أو خلع أو كسر أو مرض ونحو ذلك.
ولم يرد بـ (امتناعه) تحريمه، ويحتمل أن يحرم استعماله عند الخوف، فالامتناع على بابه.
قال: (في عضو) أي: في بعض محل الطهارة، عضواً كان أو أكثر، وفي (المحرر): بعض أعضائه دون بعض.
واحترز به عن امتناعه في جميعها؛ فإنه يكفيه التيمم.
قال: (إن لم يكن عليه ساتر .. وجب التيمم) هذا لا خلاف فيه؛ لئلا يخلو العضو عن طهارة، وحكاية الخلاف فيه في (المحرر) وهم، كما نبه عليه في (الدقائق).
قال: (وكذا غسل الصحيح على المذهب)؛ للرواية الثانية.
والطريق الثاني: أنه على القولين فيما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه، وتقدم تعليلهما.
ووجه الشبه: أنه متمكن في الصورتين من غسل بعض الأعضاء دون بعض.
وعلى المذهب .. يجب الغسل بحسب الإمكان، فإذا خاف من سيلان الماء إلى موضع المرض .. فليتلطف بوضع خرقة مبلولة بالقرب منه، وليتحامل عليها ليغسل بالتقاطر ما حواليه، ويلزمه ذلك بنفسه أو بغيره بأجرة.
ولا يجب مسح موضع المرض بالماء، ولو أمكن وسهل على قول الأكثرين.
ولو كان المرض على محل التيمم .. أمر التراب على موضعه؛ إذ لا ضرر فيه. وكذا الجراحة المنفتحة الأفواه إذا أمكن إمرار التراب عليها.
قال: (ولا ترتيب بينهما) أي: بين التيمم والغسل (للجنب)؛ إذ لا ترتيب في طهارته، فإن شاء تيمم قبل غسل الصحيح، وإن شاء عكس، وليس كمن وجد بعض
فَإِنْ كَانَ مُحْدِثاً .. فَالأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ اَلتَّيَمُّمِ وَقْتَ غَسْلِ اَلْعَلِيلِ، فَإِنْ جُرِحَ عُضْوَاهُ .. فَتَيَمُّمَانِ.
ــ
ما يكفيه حيث يجب استعماله أولاً ثم يتيمم؛ لأن هناك أبيح له التيمم لعدم الماء فلا يجوز مع وجوده، وهنا أبيح للمرض أو الجرح وهو موجود.
وفي وجه: يتعين تقديم الغسل؛ لأنه الأصل.
ونقل في (الكفاية) عن النص: أنه يندب بالتيمم؛ ليغسله الماء.
قال: (فإن كان محدثاً .. فالأصح: اشتراط التيمم وقت غسل العليل)؛ لأن التيمم بدل عن غسل موضع العذر، فلا ينتقل عنه حتى يكمله رعاية للترتيب، فيكمل طهارة العضو غسلاً وتيمماً ثم ينتقل عنه.
فلو كان الجرح في الوجه .. جاز تقديم التيمم وتأخيره عن غسل الصحيح من الوجه، ولا يجوز تأخيره عن غسل اليدين.
وإن كان في اليد .. وجب تأخيره عن الوجه وتقديمه على الرأس، ويتخير في تقديمه على صحيح اليد وتأخيره، وهكذا في بقية الأعضاء.
والثاني: يجب تأخير التيمم عن جميع المغسول.
والثالث: يتخير إن شاء قدم التيمم على المغسول، وإن شاء أخره.
وقوله: (العليل) أصوب من قول (المحرر): المعلول، فتلك لغة ضعيفة منكرة.
قال: (فإن جرح عضواه .. فتيممان). هذا تفريغ على الصحيح؛ لأن التيمم عن الثاني لا بد أن يكون بعد التيمم عن الأول.
وعلى الوجه الثاني .. يكفيه تيمم واحد.
فعلى الصحيح، لو جرح وجهه ويداه ورجلاه .. فثلاث تيممات، فإن عمت الأعضاء الأربعة .. فتيمم واحد.
فلو كانت الجراحة في يديه .. استحب أن يجعل كل يد كعضو فيغسل وجهه، ثم صحيح اليمين ويتيمم عن جريحها، ثم يطهر اليسرى كذلك اليسرى كذلك غسلاً وتيمماً، وهكذا
وَإِنْ كَانَ كَجَبِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُهَا .. غَسَلَ اَلصَّحِيحَ وَتَيَمَّمَ كَمَا سَبَقَ، وَيَجبُ مَعَ ذَلِكَ مَسْحُ كُلَّ جَبِيرَتِهِ بِمَاءٍ،
…
ــ
الرجلان؛ لأن تقديم اليمنى سنة.
قال: (وإن كان) أي: على جرسه ساتر.
قال: (كجبيرة لا يمكن نزعها)، وكذلك اللصوق والشقوق التي في الرجل إذا احتاج إلى تقطير شيء فيها يمنع من وصول الماء.
و (الجبيرة) بفتح الجيم – والجبارة بكسرها – خشب أو قصب يسوى ويشد على موضع الكسر أو الخلع لينجبر.
وقال الماوردي: الجبيرة: ما كان على كسر، واللصوق: ما كان على جرح، ومنه عصابة الفصد ونحوها؛ فلهذا عبر المصنف بالساتر لعمومه ومثل بالجبيرة.
قال: (.. غسل الصحيح)؛ لأنها طهارة ضرورة، فاعتبر الإتيان فيها بأقصى الممكن.
قال: (وتيمم)؛ لما روى أبو داوود [340] والدارقطني [1/ 189] – بإسناد كل رجاله ثقات – عن جابر في المشجوج الذي احتلم واغتسل، فدخل الماء شجته فمات، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده).
قال: (كما سبق) أي: من اشتراط الترتيب في أعضاء المحدث دون الجنب.
قال: (ويجب مع ذلك مسح كل جبيرته بماء)؛ لحديث المشجوج المذكور.
ولأن علياً رضي الله عنه انكسرت إحدى زنديه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر، رواه ابن ماجه [657] لكنه ضعيف.
وصح عن ابن عمر: (أنه توضأ وكفه معصوبة، فمسح عليها وعلى العصائب، وغسل ما سوى ذلك).
وَقِيلَ: بَعْضِهَا. فَإِذَا تَيَمَّمَ لِفَرْضٍ ثَانٍ وَلَمْ يُحْدِثْ .. لَمْ يُعِدِ اَلْجُنُبُ غُسْلاً،
ــ
وقال بالمسح على الجبائر الفقهاء السبعة فمن بعدهم.
ووقت مسح الجبيرة وقت غسل العضو.
وأشار المصنف بقوله: (بماء) إلى أن الجبيرة إذا كانت في أعضاء التيمم .. لا يجب مسحها بالتراب وهو الأصح؛ لأن التراب ضعيف لا يؤثر من وراء حائل، لكن يستحب خروجاً من الخلاف.
قال: (وقيل: بعضها) كمسح الرأس والخف.
وفي قول: لا يجب التيمم؛ إلحاقاً للجبيرة ونحوها بالخف.
والجواب: أن مسح الخف رخصة لا يليق بها التشديد.
وفي قول: يكفي التيمم وحده، كما لو عدم الساتر.
وقيل: يتيمم مع غسل الصحيح، ولا مسح.
ثم إذا قدر على نزع الجبيرة ونحوها عند الطهارة من غير ضرر .. وجب.
ولا يجوز أن يضع الجبيرة على شيء من الصحيح، إلا على القدر الذي لا يتمكن من ستر الكسير إلا به.
ويجب أن يضعها على طهر على الصحيح.
واختلفوا في تنزيل الجبيرة منزلة الخف في التأقيت.
والأصح الذي قطع به المتولي وغيره: أنها لا تتأقت، بل له الاستدامة إلى الاندمال.
وقيل: تتأقت كالخف حضراً وسفراً.
وقال ابن الصلاح: يوماً وليلة للمسافر والمقيم، وضعفه في (شرح المهذب).
قال: (فإذا تيمم) أي: الذي غسل الصحيح وتيمم عن الباقي (لفرض ثان) وكذا لثالث (ولم يحدث) أي: بعد طهارته الأولى (.. لم يعد الجنب غسلاً)؛ لأن التيمم طهارة مستقلة، فلا يلزم بارتفاع حكمها انتفاض حكمها انتفاض طهارة أخرى، ولا ترتيب في طهارة الجنب.
وَيُعِيدُ اَلْمُحْدِثُ مَا بَعْدَ عَلِيِلهِ، وَقيلَ: يَسْتَانِفَانِ، وَقِيلَ: اَلْمُحْدَثُ كَجُنُبٍ. قُلْتُ: هَذَا اَلثَّالِثُ أَصَحُّ، وَاللهُ أَعْلَمُ. .....
ــ
أما إذا أحدث .. فإنه يستأنف الطهارة كلها، ولا يلزم نزع الجبيرة إذا كان حدثه اكبر بخلاف الخف؛ لأن في إيجاب النزع هنا مشقة.
قال: (ويعيد المحدث ما بعد عليله)؛ مراعاة للترتيب.
فإذا كانت الجراحة في اليد .. تيمم وأعاد مسح الرأس، ثم غسل الرجلين؛ لأن حكم الحدث عاد إلى العضو في حق الفريضة دون النوافل، فيحتاج إلى إعادة ما بعده.
وهذا اختيار ابن الصباغ والقاضي حسين والمتولي والبغوي وتبعهم الرافعي عليه، وقال الشيخ: إنه الأصح.
قال: (وقيل: يستأنفان)، فيعيد المحدث الوضوء، والجنب الغسل بناء على الاستئناف فيما إذا نزع الخف، أو انقضت مدة المسح.
قال: (وقيل: المحدث كجنب)، فلا يعيد شيئاً على الصحيح.
قال: (قلت: هذا الثالث أصح والله أعلم) وهو قول الأكثرين.
ونقل الإمام الاتفاق عليه؛ لأنه إنما يحتاج إلى إعادة ما بعد عليله أن لو بطلت طهارة العليل، وطهارة العليل باقية بدليل جواز التنفل.
تتمة:
رفع الجبيرة عن موضع الكسر، فوجده مندملاً .. أعاد كل صلاة صلاها بعد الاندمال بالمسح عليها بلا خلاف.
ولو سقطت جبيرته في الصلاة .. بطلت صلاته سواء كان برأ أم لا، كانقلاع الخف.
وإذا تحقق البرء وهو على طهارة .. كان كوجدان المتيمم الماء على التفصيل الآتي.
ولو توهمه فرفع الساتر، فوجده لم يندمل .. لم يبطل تيممه في الأصح.