المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بابُ الغسلِ مُوجِبُهُ: مَوْتٌ، وَحَيْضٌ، ــ باب الغسل هو بفتح الغين وضمها، والفتح أفصح - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ١

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌بابُ الغسلِ مُوجِبُهُ: مَوْتٌ، وَحَيْضٌ، ــ باب الغسل هو بفتح الغين وضمها، والفتح أفصح

‌بابُ الغسلِ

مُوجِبُهُ: مَوْتٌ، وَحَيْضٌ،

ــ

باب الغسل

هو بفتح الغين وضمها، والفتح أفصح عند اللغويين، والضم أشهر عند الفقهاء. وبالكسر: ما يغسل به من سدر ونحوه.

ولما كان الغسل من الجنابة معلوما قبل الإسلام، بقية من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما بقي الحج والنكاح - لم يحتاجوا إلى تفسيره، بل خوطبوا بقوله تعالى:{وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .

وهي دليل الباب، ولذلك نذر أبو سفيان: أن لا يمس رأسه ماء من جنابة، حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما الحدث الأصغر .. فلم يكن معروفا عندهم قبل الإسلام، فلذلك بين أعضاءه وكيفيته والسبب الموجب له.

قال: (موجبه: موت)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر)، متفق عليه [خ 1265 - م 1206] من رواية ابن عباس.

لكن يستثنى شهيد المعركة والذمي، والسقط إذا بلغ أربعة أشهر، ولم يختلج، ولم تظهر عليه أمارة الحياة، كما سيأتي في (الجنائز).

قال: (وحيض)؛ لقوله تعالى: {فَإذَا تَطَهَّرْنَ} .

قيل: المراد اغتسلن.

وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: (إذا أقبلت الحيضة .. فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها .. فاغسلي عنك الدم وصلي)، متفق عليه [خ 206 - م 333].

وأجمعوا على ذلك.

ص: 374

وَنِفَاسٌ، وَكَذَا وِلَادَةٌ بِلَا بَلَلٍ فِي الأَصَحِّ،

ــ

وهل الموجب للغسل من الحيض خروج الدم، أو انقطاعه، أو الخروج موجب عند الانقطاع؟ فيه ثلاثة أوجه:

صحح العراقيون والروياني: الأول.

والخراسانيون و (شرح المهذب): الثاني.

والأصح في (الروضة): الثالث.

وفي وجه رابع: أنه يجب بالخروج والانقطاع والقيام إلى الصلاة.

قال إمام الحرمين: ليس لهذا الخلاف ثمرة فقهية، وليس كذلك بل تظهر فائدته: فما لو استشهدت قبل انقطاعه .. لم تغسل على الثاني والثالث، وعلى الأول .. الوجهان في الجنب الشهيد.

وفيما إذا أجنبت – وقلنا: إنها تقرأ القرآن على القديم – فلها أن تغتسل عن الجنابة لاستباحة قراءة القرآن.

وفيما إذا قال لزوجته: إن وجب عليك غسل فأنت طالق، فحاضت.

فإن قلنا: يجب بالخروج .. طلقت به، وتستحب له الرجعة كالطلاق البدعي، ولا يأثم.

وإن قلنا: يجب بالانقطاع .. طلقت به، ويكون سنيا.

قال: (ونفاس)؛ لأنه دم حيض مجتمع.

قال: (وكذا ولادة بلا بلل في الأصح)؛ لأنه مني منعقد، ولأنه يجب بخروج الماء الذي يخلق منه الولد، فبخروج الولد أولى.

والثاني – وبه قال ابن أبي هريرة -: لا يجب به شيء؛ لما روى مسلم [343] عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الماء من الماء)، والولد لا يسمى ماء.

ص: 375

وَجَنَابَةٌ.

ــ

والمصنف حكى الخلاف وجهين تبعا للرافعي، وحكاه ابن يونس في (شرح التنبيه) قولين.

والوجهان جاريات في إلقاء العلقة والمضغة، والأصح فيهما أيضا: الوجوب.

وهل يصح غسلها بمجرد وضعها، أو لا يصح حتى تمضي ساعة؟ فيه وجهان.

الصحيح: الأول.

ولو ولدت في نهار رمضان ولم تر دما .. فالمذهب بطلان صومها، وقيل: لا يبطل؛ لأنها مغلوبة كالاحتلام، وقواه في (شرح المهذب) من جهة المعنى، وضعفه من جهة التعليل.

قال: (وجنابة)؛ للآية المتقدمة والإجماع.

و (الجنابة) في اللغة: البعد. سمي بذلك ههنا؛ لأنه نهي عن قرب مواضع القرب، ويقال: رجلان جنب ورجال جنب، قال الله تبارك وتعالى:{وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .

ومن {والْجَارِ الجُنُبِ} ، وهو: الأجنبي.

{والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} ، هو: الصاحب في السفر، وقيل: الزوجة.

ص: 376

بِدُخُولِ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا.

ــ

وفي (السنن): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب).

والمراد به: الذي يترك الاغتسال من الجنابة عادة، فيكون أكثر أوقاته جنبا، وهذا يدل على قلة دينه وخبث باطنه.

والمراد بالملائكة: غير الحفظة، وغير ملائكة الموت.

قال: (بدخول حشفة أو قدرها) فرجا، لما روى مسلم [350] عن عائشة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم بحضرتها، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل: أيغتسل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وهذه نفعله ثم نغتسل).

يقال: أكسل الرجل، إذا خالط أهله ولم ينزل.

وفي (الصحيحين)[349]: (إذا التقى الختانان .. فقد وجب الغسل).

و (التقاؤهما): تحاذيهما وإن لم يتضاما؛ لأن ختانها أعلى من مدخل الذكر.

ص: 377

فَرْجاً، وَبِخُرُوجِ مَنِيٍّ.

ــ

يقال: التقى الفارسان، إذا تحاذيا.

وذلك يحصل بغيبوبة الحشفة، فلو أولج بعضها .. لم يجب على الصحيح؛ لأن التحاذي لا يحصل بذلك.

والمراد: قدرها من المقطوع؛ لأنه قائم مقامها.

وقيل: لا بد من تغيب جميع الباقي، فلو كان الباقي، دون قدرها .. لم يجب الغسل به بالاتفاق، وهكذا الحكم في سائر الأحكام المتعلقة بالجماع.

ولا فرق في الإيلاج بين الناسي والمكره وغيرهما، ولا في الذكر بين أن يكون منتشرا أو لا، ولا بين أن يكون عليه خرقة أم لا في أصح الأوجه، والثالث: إن كانت خشنة تمنع الحرارة والرطوبة .. لم يجب الغسل، والا وجب، وهذه الأوجه تجري في جميع الأحكام.

قال: (فرجا) سواء كان قبلا أو دبرا، من ذكر أو أنثى، آدميا أو غيره، حيا أو ميتا، ولا يعاد غسل الميت مكلفا أو غيره، حلالا أو حراما، ولو سمكة، خلافا لأبي حنيفة في البهيمة والميتة.

ويستثنى الخنثى، فلا غسل بإيلاج حشفته، ولا بإيلاج في قبله، لا على المولج ولا على المولج فيه.

وفي الإيلاج في البهيمة وجه ضعيف ذكره الماوردي في الحدود.

قال: (وبخروج مني) ولو قطرة في يقظة أو منام، بجماع أو غيره، من رجل أو امرأة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الماء من الماء) رواه مسلم [343] وغيره.

والمراد: مني الإنسان نفسه، فلو استدخلت منيا ثم خرج .. فلا شيء على الصحيح.

والمراد: الخروج الكلي في حق الرجل البكر.

ص: 378

مِنْ طَرِيقِهِ الْمُعْتَادِ وَغَيْرِهِ،

ــ

أما الثيب .. فيكفي خروجه إلى باطن فرجها؛ لأنه في الغسل كالظاهر.

فلو أحس الرجل بانتقال المني .. فلا غسل حتى يتحقق خروجه، خلافا لأحمد.

ولو خرج المني بعد أن اغتسل .. لزمه إعادة الغسل، خلافا لمالك.

وقال أبو حنيفة: يجب إن لم يبل قبل الغسل.

وعن أحمد ثلاث روايات كالثلاثة.

و (المني) مشدد الياء. سمي منيا؛ لأنه يمنى، أي: يصب، وسمع تخفيفه عن ابن الأعرابي.

قال: (من طريقه المعتاد) بالإجماع.

قال: (وغيره)، كما لو خرج من ثقبة في الذكر أو الخصية، كذا صححه في (الشرح) و (الروضة).

وقال المتولي: فيه التفصيل والخلاف في النقض بخارج من منفتح، وجزم بهذا في (التحقيق)، وصوبه في شرحي (المهذب) و (التنبيه)، ثم قال: قال أصحابنا: هذا في المني المستحكم، فإن لم يستحكم .. لم يجب بلا خلاف.

والصلب هنا كالمعدة هناك.

فروع:

احتلم ولم ير المني، أو شك: هل خرج منه شيء أم لا. لم يلزمه الغسل.

وإن رأى المني ولم يذكر احتلاما .. لزمه الغسل؛ لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل: يجد البلل ولم يذكر احتلاما، قال:

ص: 379

وَيُعْرَفُ بِتَدَفُّقِهِ، أَوْ لَذَّةٍ بِخُرُوجِهِ، أَوْ رِيحِ عَجِينٍ رَطْباً وَبَيَاضِ بَيْضٍ جَافّاً،

ــ

(يغتسل)، وعن الرجل يرى أنه احتلم ولم يجد البلل، فقال:(لا غسل عليه) رواه الدارمي [792] وأبو داوود [240] والترمذي [113] وغيرهم، لكنه ضعيف ويغني عنه حديث أم سلمة الآتي.

وإذا رأى في ثوبه منيا أو في فراش لا ينام فيه غيره، ولم يذكر احتلاما .. وجب عليه الغسل على الصحيح المنصوص، وتجب إعادة كل صلاة لا يحتمل حدوث المني بعدها.

وأطلق الجمهور المسألة، وقيدها الماوردي بما إذا رأى المني في باطن الثوب، فإن رآه في ظاهره .. فلا غسل لاحتمال أنه أصابه من غيره، ولأن لبن الخفاش يشبه مني الآدمي في لونه ورائحته، وفي ذلك قصة غريبة اتفقت لأبي يوسف مع أبي حنيفة.

قال: (ويعرف بتدفقه) أي: انصبابه، بأن يخرج بتزريق، ولا يسيل دفعة واحدة سيلانا متصلا، كما وصفه الله تعالى بقوله:{مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} .

أي: مدفوق، كما قالوا: سر كاتم، أي: مكتوم.

قال: (أو لذة بخروجه). (اللذة): نقيض الألم ن وهي: ما تستطيبه النفس.

يقال: لذه ولذ به يلذ لذا ولذاذة، وعلامتها: أن يعقبها فتور وانكسار الشهوة.

قال: (أو ريح عجين رطبا وبياض بيض جافا)؛ لأنه لا توجد صفة من هذه الثلاثة في خارج غيره، فأي صفة وجدت منها .. كفت.

وقوله: (رطبا وجافا) حالان من المني، لا من العجين وبياض البيض.

ص: 380

فَإِنْ فُقِدَتِ الصِّفَاتُ .. فَلَا غُسْلَ. وَالْمَرْأَةُ كَرَجُلٍ.

ــ

وقد يفقد بعض هذه الصفات فيرق أو يحمر أو يصفر لكثرة الجماع، فيصير كماء اللحم وربحا خرج دما عبيطا.

وقد يخرج بغير لذة.

وهو في هذه الأحوال كلها طاهر، موجب للغسل.

قال: (فإن فقدت الصفات) أي: جميعها (.. فلا غسل)؛ لأنه ليس بمني.

قال: (والمرأة كرجل)، فيلزمنا الغسل بإيلاج حشفة أو قدرها فيها، أو بخروج منيها؛ لما روت أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟

قال: (نعم، إذا رأت الماء) أخرجه البحاري [282].

وهذه أم أنس بلا خلاف، وقال الغزالي والإمام والصيدلاني: إنها جدته، وليس كذلك.

وفي حديث آخر قالت أم سلمة: يا رسول الله، وهل تحتلم المرأة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:(تربت يداك، فمم الشبه) متفق عليه [خ 130 – م 313].

ويطرد في منيها الخواص الثلاث، وأنكره ابن الصلاح، قال الشيخ: وهذا هو المعتمد، وليس لمنيها تدفق، ولا يوجد فيه إلا خصلتان: الرائحة والتلذذ، وكذا في (شرح مسلم).

وقيل: ليس لمنيها غير التلذذ، وبه قال الإمام والغزالي.

فرع:

خرج منه شيء، وأشكل عليه: أهو مني أو مذي؟ فالأصح: أنه يتخير بين جعله منيا فيغتسل، أو مذيا فيتوضأ ويغسل ما أصابه منه.

وقيل: يلزمه الوضوء مرتبا.

وقيل: يلزمه وضوء غير مرتب وهو غلط.

ص: 381

وَيَحْرُمُ بِهَا مَا حَرُمَ بِالْحَدَثِ، وَالْمُكْثُ بالْمَسْجِدِ.

ــ

والرابع: يلزمه مقتضى المني والمذي جميعا، وهو الذي اختاره في (شرح المهذب).

قال: (ويحرم بها) أي: بالجنابة (ما حرم بالحدث) من الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله، بل هي أولى لغلظ حكمها.

وأما ما يحرم بالحيض والنفاس .. فسيأتي في بابهما ،

قال: (والمكث في المسجد)؛ لقوله تعالى: {ولا جُنُبًا إلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} .

والأقرب في تفسيرها: أن المراد مواضع الصلاة؛ لقوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} . وذلك يدل على تحريم المكث وإباحة العبور.

وحسن الترمذي [3727] قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: (لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك) أي: يمكث فيه جنبا، وعده ابن القاص من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا يحرم التردد فيه بلا خلاف؛ لأنه لبث.

وقال المزني وابن المنذر: يجوز للجنب المكث فيه، مستدلين بأن:(المؤمن لا ينجس)، وبأن المشرك يمكث في المسجد على الأصح، فالمسلم الجنب أولى.

وخرج بالمسجد مصلى العيد ونحوه.

و (المكث): اللبث.

و (المسجد) بكسر الجيم وفتحها، ويقال له: مسيد، بفتح الميم.

ص: 382

لَا عُبُورُهُ،

ــ

فروع:

إذا كان في المسجد بئر .. لا يجوز للجنب المكث فيه.

وفي (فتاوى البغوي): إذا دلى نفسه بحبل ومكث في هواء المسجد .. لا يجوز؛ لأن هواء المسجد جزء من المسجد.

وإذا وقف جزءا شائعا من الأرض مسجدا .. فإنه يصح ويجب قسمتها، كما قاله ابن الصلاح.

فعلى هذا: يتجه إلحاقها بالمسجد هنا، بخلاف صحة الاعتكاف، وصحة الصلاة فيها للمأموم إذا تباعد عن إمامه أكثر من ثلاث مئة ذراع.

قال: (لا عبوره)؛ للآية، لكن يكره إلا لغرض، كما إذا كان طريقه أو أقرب طريقيه.

والصحيح في (شرح المهذب): أنه خلاف الأولى، وهو المعتبر.

وفي وجه: لا يجوز العبور إلا لمن لم يجد طريقا سواه.

وإذا عبره .. لا يكلف الإسراع في المشي، بل يمشي على عادته.

فلو كان فيه نهر فأراد أن يغتسل فيه .. لم يجز؛ لأنه يحتاج إلى مكث.

ولو احتلم في مسجد له بابان أحدهما أقرب فخرج من الأبعد .. لم يكره إن كان له غرض، وكذا إن لم يكن في الأصح.

ويستثنى من المكث في المسجد إذا خاف من الخروج على نفس أو مال، فإنه يمكث.

قال الرافعي: وليتيمم إن وجد غير تراب المسجد، أي: يجب التيمم؛ لأن ذلك ظاهر لام الأمر، ولذلك عبر في (الروضة) بقوله: يجب عليه التيمم، وبه صرح القفال والأستاذ أبو منصور وغيرهما.

وقول (الشرح الصغير): يحسن أن يتيمم .. فيه نظر.

ص: 383

وَالْقُرْآَنُ،

ــ

وتراب المسجد الذي يحرم التيمم به هو المنهدم من جدرانه، لا ما يجتمع من الريح ونحوه.

قال: (والقرآن) ولو بعض آية، سواء أسر أو جهر، إذا نطق بلسانه؛ لما روى الترمذي [131] وابن ماجه [596] والدارقطني [1/ 121] والبيهقي [1/ 89] عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن)، لكنه ضعيف.

وروى الأربعة وابن حبان [799] والحاكم [1/ 152] عن علي أنه قال: (لم يكن يحجز النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن شيء سوى الجنابة).

وأجاز ابن المنذر وداوود أن يقرأ الجنب القرآن.

وعلى المذهب .. يستثنى فاقد الطهورين، فإن الأصح عن المصنف: أنه تجب عليه قراءة الفاتحة، وصحح الرافعي المنع وينتقل إلى الذكر.

ولا يحرم إجراؤه على القلب، ولا نظره في المصحف، ولا قراءة منسوخ التلاوة.

وفي (فتاوى القاضي حسين): أن الأخرس الجنب يحرم عليه الإشارة بالقرآن.

ولا فرق في التحريم بين أن يقرأ آية أو بعضها كما قاله الرافعي، أو حرفا كما قاله

ص: 384

وِتِحِلُّ أَذْكَارُهُ لَا بِقَصْدِ قُرْآنٍ.

ــ

الماوردي هنا، وأطلق في (باب سنة الوضوء): أن الكافر الجنب لا يمنع من قراءة القرآن، ويمنع من مس المصحف، وفي كلامه في (الصداق) ما يوافقه.

ولو تنجس فم القارئ .. لم تحرم عليه القراءة قبل غسله على الأصح.

قال: (وتحل أذكاره لا بقصد قرآن)؛ لأن الأعمال بالنيات، وذلك كقوله في ابتداء الأكل: باسم الله، وفي خاتمة الأمر: الحمد لله، وعند الركوب: سبحان الذي سخر لنا هذا، وعند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لأنه إذا لم يقصد القرآن .. لم يكن فيه إخلال بالتعظيم.

ولو جرى على لسانه ولم يقصد هذا ولا ذاك .. لم يحرم أيضا، ومجموع ما في ذلك أربع صور:

إحداها: أن يقصد بذلك القرآن، فيحرم على الجنب.

الثانية: أن يقصد بها الذكر والقرآن معا، فيحرم أيضا؛ لأن في الصورتين يطلق عليهما قرآن.

الثالثة: أن يقصد الذكر وحده، فلا يحرم.

الرابعة: أن لا يقصد شيئا، فلا يحرم أيضا.

وهذا الحكم لا يختص بأذكار القرآن، بل يأتي أيضا في مواعظه وأحكامه وأخباره وغير ذلك، ولهذا عبر في (الشرح) و (الروضة) بما إذا قرأ شيئا منه لا على قصد القرآن .. جاز.

فائدة:

قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها بني آدم، والملائكة لم يعطوا هذه الفضيلة، وهي حريصة على استماعه من الإنس، كذا أفتى ابن الصلاح.

وقد يتوقف فيه من جهة أن جبريل عليه السلام هو النازل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى في وصف الملائكة: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} أي: تتلو القرآن.

ص: 385

وَأَقَلُّهُ: نِيَّةُ رَفْعِ جَنَابَةٍ،

ــ

فروع:

يستحب للجنب أن لا يأكل ولا يشرب، ولا ينام ولا يجامع، حتى يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة؛ ففي (الصحيحين) [خ 288 – م 305] عن عائشة:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك).

والقراءة أفضل من الذكر، وفي المصحف أفضل؛ لأنها تجمع القراءة والنظر في المصحف وهو عبادة أخرى.

ولا تكره القراءة في الحمام، ولا في الطريق إذا لم يلته، وكرهها الشعبي في بيت الرحى وهي تدور، وهو مقتضى مذهبنا.

وقال في (الإحياء): لا ينبغي أن يحلق شعره أو يقلم ظفره أو يستحد أو يخرج دما أو شيئا من نفسه وهو جنب؛ لأن سائر أجزائه ترد إليه في الآخرة فيعود جنبا، ويقال: إن كل شعرة تطالب بجنابتها.

قال: (وأقله) أي: أقل الغسل (نية رفع جنابة) سواء عينها أم لا؛ فما تقدم في الوضوء.

ومن به سلس المني ينبغي أن لا يكفيه ذلك على الصحيح، بل ينوي الاستباحة كما تقدم في الوضوء.

والحائض تنوي رفع حدث الحيض، فإن نوت رفع الجنابة أو عكست .. لم يصح على الأصح إن تعمدت، فإن غلطت .. صح جزما، وكذلك النفساء.

وقيل: يصح اغتسال النفساء بنية الحيض؛ لأنه دم حيض مجتمع.

ولو اجتمع على المرأة غسل جنابة وحيض، فاغتسلت بنية أحدهما .. أجزأها.

قال في (شرح المهذب): بلا خلاف.

وعبارة المصنف تفهم: أن الجنب لو نوى رفع الحدث وأطلق .. لا يكفي.

وفي (شرح المهذب): أنه يكفي، فإن نوى الأكبر .. كان تأكيدا.

ص: 386

أَوِ اسْتِبَاحَةِ مُفْتَقِرٍ إَلَيْهِ، أَوْ أَدَاءِ فَرْضِ الْغُسْلِ، مَقْرُونَةً بِأَوَّلِ فَرْضٍ،

ــ

قال: (أو استباحة مفتقر إليه)، كالصلاة والطواف ونحوهما؛ لما سبق في الوضوء.

ومنه أن تنوي الحائض تمكين الزوج، والأصح: الصحة وتستبيح كل شيء، وقيل: تستبيح الوطء فقط، وقيل: لا تستبيح شيئا.

أما إذا نوى ما لا يتوقف عليه كالأذان وعبور المسجد .. فإنه لا يصح، وقيل: إن ندب له .. صح.

فال: (أو أداء فرض الغسل) هذه العبارة تقتضي: أنه لا بد من التعرض لهما، وقد تقدم في الوضوء: أنه لا يجب الجمع بينهما، بل لو نوى فرض الغسل، أو الغسل المفروض، أو الواجب .. كفى، وكذا لو نوى أداء الغسل .. فإنه يكفي كما صرح به (الحاوي الصغير)، ولا يعرف له سلف في ذلك.

وإن اقتصر على نية الغسل .. لم يكف، وإن كفت فيه نية الوضوء.

ومن إيجاب النية يعلم: أن الإسلام والتمييز شرطان، فلا يصح غسل الكافر على الأصح، إلا الذمية لتحل لمسلم، ويلزمها إعادته إذا أسلمت على الأصح.

ولو نوى الجنب رفع الحدث الأصغر، فإن تعمد .. لم يصح في الأصح، وإن غلط .. لم يرتفع عن غير أعضاء الوضوء.

وفي ارتفاعه عن الرأس وجهان.

قال ابن الرفعة: ليت شعري! القائل بارتفاعه هل يقول: يرتفع عن جملة الرأس أم عن القدر المجزئ في الوضوء؟ والظاهر: الثاني، ونازعه شيخنا في ذلك.

قال: (مقرونة بأول فرض) كما في الوضوء، وأول فرض هنا هو أول مغسول، سواء كان من أعلى البدن أو أسلفه؛ لأنه لا يترتب في الغسل.

وإذا اقترنت بأول فرض .. لم يثب على السنن السابقة كما في الوضوء، ويأتي فيها ما تقدم في اقترانها بسنة قبله، وفي احتياجها إلى الإضافة إلى الله تعالى وجهان.

ص: 387

وِتَعْمِيمُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ،

ــ

قال: (وتعميم شعره وبشره)؛ لما روى أبو داوود [249] عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسله .. فعل الله به كذا وكذا من النار).

قال علي: فمن ثم عاديت رأسي [ثلاثا] – أي: استأصلته – وكان يجز شعره، ولم يضعفه أبو داوود.

وقال القرطبي في (شرح مسلم): إنه صحيح.

وفي (شرح المهذب) في صفة الوضوء: أنه حسن، وفيه هنا: أنه ضعيف.

وفي (أبي داوود)[253] – أيضا – عن ابن عمر: (كانت الصلوات خمسين، والغسل من الجنابة سبعا، وغسل البول من الثوب سبعا، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل ربه حتى جعل الصلوات خمسا، والغسل مرة).

واستدل الرافعي بحديث: (بلوا الشعر)، وأنقوا البشرة؛ فإن تحت كل شعرة جنابة) وهو في (أبي داوود)[252] و (الترمذي)[106]، لكن ضعفه البحاري وغيره.

وقال سفيان بن عيينة: المراد بقوله: (وأنقوا البشرة) غسل الفرج وتنظيفه، كنى عنه بالبشرة.

قال ابن وهب: ما رأيت أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة.

ص: 388

وِلَا تَجِبُ مَضْمَضَةٌ وَاسْتِنْشَاقٌ.

ــ

ولا فرق في الشعر بين الخفيف والكثيف، حتى لو بقيت شعرة واحدة لم يصبها الغسل .. لم يجزه، ولا يستثنى من ذلك إلا الشعر النابت في الأنف والعين، فإنه لا يجب غسله؛ لأن إدخال الماء فيهما لا يجب.

ويجب نقض الضفائر إن كان الماء لا يصل إلى باطنها إلا بالنقض، لكن يعفى عن باطن الشعر المعقود، وقيل: بجب قطع عقده.

وما روى مسلم [330] عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله؛ إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال:(لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين)، محمول على ما إذا كان الشعر خفيفا، والشد لا يمنع من وصول الماء إليه وإلى البشرة.

وظاهر الجلد يسمى: البشرة، والباطن: الأدمة المستترة.

ويجب غسل الأظفار وإن كان لا يطلق عليها بشرة.

ويجب إيصاله إلى شقوق اليد والرجل الظاهرة، وما تحت القلفة وما ظهر من أنف الأجدع على الأصح فيهما، وكذا ما يبدو من فرج الثيب لقضاء الحاجة على الأصح.

قال: (ولا تجب مضمضة واستنشاق) كما في الوضوء.

ص: 389

وَأَكْمَلُهُ: إِزَالَةُ الْقَذَرِ، ثُمَّ الْوُضُوءُ.

ــ

وروى أحمد – بإسناد صحيح – [4/ 81] عن جبير بن مطعم: أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة، فقال:(أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثا فأصب على رأسي، ثم أفيض بعده على سائر جسدي).

وأوجبهما أبو حنيفة وبعض أصحابنا، ولذلك يستحب لتاركهما أن يعيد غسله خروجا من الخلاف.

قال: (وأكمله: إزالة القذر) أي: الطاهر كالمني والمخاط، والنجس كالمذي وأثر الاستنجاء، ولكن إزالة الطاهر مندوبة، وإزالة النجس كذلك إن اكتفى بغسلة للحدث والنجس كما صححه المصنف، وإلا فشرط كما صححه الرافعي.

قال: (ثم الوضوء)، ففي (الصحيحين) [خ272 – م 316] عن عائشة:(أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة).

وعن أبي ثور: أنه شرط، ونقل ابن المنذر: الإجماع على خلافه.

والأصح: استحباب التسمية في أوله، وقيل: لا؛ لأن نظمها نظم القرآن، وقيل: الأولى أن يقول: بسم الله العظيم، الحمد لله على الإسلام.

قال ابن الصلاح: لم أجد لأحد من أصحابنا تعرضا لنيته إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوري؛ فإنه قال: ينوي سنة الغل.

قال: وأنا أقول: إن كان غير محدث .. فالأمر كما قال، وإن جان جنبا محدثا .. فينوي بوضوئه رفع الحدث الأصغر، إلا أن يكون جنبا غير محدث .. فينوي سنة الغسل.

ويتصور تجرد الجنابة عن الحدث:

في إتيان الغلام والبهيمة.

وإذا لف على ذكره خرقة وأولج في فرج امرأة.

وإذا انزل بنظر أو فكر أو احتلم قاعدا.

ص: 390

وَفِي قَوْلٍ: يُؤَخِّرُ غَسْلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ تَعَهُّدُ مَعَاطِفِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَاسِهِ وَيُخِلِّلُهُ، ثُمَّ شِقَّهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسَرِ،

ــ

قال: (وفي قول: يؤخر غسل قدميه)؛ لما روى الشيخان [خ 274 – م 317] عن ميمونة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل سائر جسده غير قدميه، ثم تنحى فغسل رجليه)، فاختلاف القولين لاختلاف الروايتين في صفة غسله صلى الله عليه وسلم.

وقال القاضي حسين: يتخير بين تقديمهما وتأخيرهما؛ لصحة الروايتين.

والخلاف في ذلك في الأفضل، ولا خلاف أنه لا يشرع وضوءان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ بعد الغسل.

قال: (ثم تعهد معاطفه)، وهو: ما فيه التواء وانعطاف كالأذنين والعكن، والسرة والإبط، فيأخذ كفا من ماء ويجعل الأذن عليه برفق ليصل الماء إلى معاطفها، ويتعهد الركبة وبين الأليتين وتحت الأظفار.

قال: (ثم يفيض الماء على رأسه ويخلله)، فإن هذا الترتيب أبعد عن الإسراف، وأقرب إلى الثقة بوصول الماء.

وفي حديث عائشة: أن التخليل قبل الإفاضة، وبه صرح الرافعي والمصنف وغيرهما. وعبارة المصنف لا يؤخذ منها ذلك.

فلو خلله حالة إفاضة الماء كما هو ظاهر عبارة الكتاب .. كفى.

وكيفية التخليل: أن يدخل أصابعه العشرة في الماء فيشرب بها أصول شعره من رأسه ولحيته؛ ليسهل إيصال الماء إليه، وليس في كلام المصنف تعرض لشعر اللحية.

والمذهب: أنه كشعر الرأس يستحب تخليله.

قال: (ثم شقه الأيمن، ثم الأيسر)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في طهوره إذا تطهر.

وقال صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته: (إبدأن بميامنها) رواهما البخاري [167].

ص: 391

وَيَدْلُكُ، وَيُثَلِّثُ، وَتُتْبعُ لِحَيْضٍ أَثَرَهُ مِسْكاً،

ــ

وكيفية التيامن ستأتي في غسل الميت.

قال: (ويدلك) أي: في كل مرة من الثلاث؛ إذ به يحصل إنقاء البشرة، ولا يجب؛ لأنه يسمى مغتسلا بدونه. يقال: غسل السيل الوادي. وقياسا على غسل الإناء من ولوغ الكلب.

وأوجب مالك والمزني ذلك ما وصلت إليه يده في الغسل، وعلى أعضاء الوضوء قياسا على التيمم.

وجوابنا: أن الواجب إمرار التراب عليها، فإن لم يحصل إلا بإمرار اليد .. وجب لأجل ذلك، والماء يصل بدونه.

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: (فإذا وجدت الماء .. فأمسه جلدك)، ولم يأمره بزيادة.

قال: (ويثلث) أي: في الرأس والبدن قياسا على الوضوء، بل أولى؛ لأن الوضوء مبني على التخفيف.

وشذ الماوردي فقال: لا يستحب التثليث إلا في الرأس فقط، وكلام الحليمي يوافقه.

فلو كان ينغمس في ماء راكد .. انغمس ثلاثا، وإن كان جاريا .. فقياس ما ذكروه في غسلات الكلب: أن تمر عليه ثلاثة أزمنة لطيفة.

قال: (وتتبع لحيض أثره مسكا)، كذلك النفاس أيضا، فتجعله في قطنة وتدخلها الفرج وهو المراد بـ (الأثر)، وهو بكسر الهمزة مع إسكان الثاء، وبفتح الهمزة والثاء معا، أي: أثر الحيض، فإن تركت ذلك .. كره؛ لما روى الشيخان [خ 314 – م 332] عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل عن الحيض فقال: (خذي فرصة من مسك فتطهري بها)، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله – واستتر بثوبه – تطهري بها)، فاجتذبتها فعرفتها: أنها تتبع بها أثر الدم.

ص: 392

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والمرأة المذكورة أسماء بنت يزيد بن السكن، ووقع في (صحيح مسلم)[332] بنت شكل بالشين المعجمة واللام، وهو تصحيف بعد النسبة إلى الجد.

و (الفرصة) مثلثة الفاء، وحكى أبو داوود [319] قرصة بالقاف، أي: شيئا يسيرا.

وعن ابن قتيبة: قرضة بالقاف والضاد المعجمة.

وعن أبي عبيد: فرصة من مسك، أي: قطعة من جلد تحك بها موضع الدم.

و (المسك) فارسي معرب: الطيب المعروف، وكانت العرب تسميه: المشموم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه:(أطيب الطيب) رواه مسلم [2252] عن أبي سعيد الخدري.

وهو مذكر، وأنثه جران العود في قوله:

. .. ومن أردانها المسك تنفح

وأول على: إرادة الرائحة.

وقال المحاملي في (المقنع): كل موضع أصابه الدم تتبعه بالطيب. وهو شاذ لا يعرف لغيره.

والصحيح أو الصواب: أن المقصود به تطييب المحل، ودفع الرائحة الكريهة، لا سرعة العلوق، فلذلك كان الأصح: أنها تستعمله بعد الغسل.

ويستحب للبكر والخلية وغيرهما.

ومن علله بسرعة العلوق .. عكس ذلك.

ص: 393

وَإِلَاّ .. فَنَحْوَهُ. وَلَا يُسَنُّ تّجْدِيدُهُ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ

ــ

ويستثنى من ذلك المحرمة والمعتدة.

قال: (وإلا .. فنحوه) أي: مما فيه حرارة كالقسط والأظفار ونحوهما.

فإن لم تجد الطيب .. استعملت الطين بالنون؛ لأنه يقطع الرائحة، فإن فقدته .. اقتصرت على الماء.

وعبارة (المحرر) تقتضي: التخيير بين المسك ونحوه.

وعبارة (الكتاب) أحسن لتقديم المسك.

وعبارة الأصحاب أولى لتصريحهم بالمسك، ثم الطيب، ثم الطين.

قال: (ولا يسن تجديده) أي: الغسل؛ لأنه لم يؤثر عن السلف الصالحين، وكذلك التيمم على الصحيح فيهما.

قال: (بخلاف الوضوء) فإنه يستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ على طهر .. كتب الله له عشر حسنات) رواه أبو داوود [63] والترمذي [512] وابن ماجه [59] وابن السكن، ولأنه كان في أول الإسلام يجب الوضوء لكل صلاة، فنسخ وجوبه وبقي أصل الطلب.

والمصنف أطلق استحباب تجديده في هذا الباب تبعا للرافعي، وهو محمول على ما قيده في (باب النذر) من (الروضة) و (شرح المهذب) و (التحقيق): أنه لا يشرع إلا إذا صلى بالأول صلاة على الأصح.

وقيل: إن صلى به فرضا.

وقيل: إن فعل به ما يقصد له.

وقيل: إذا فرق بينهما تفريقا كثيرا، فإن وصله بالأول .. كان في حكم غسله رابعة.

وقيل: إن صلى بالأول، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو قرأ القرآن في مصحف .. استحب، وإلا .. فلا.

ص: 394

وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَالْغُسْلِ عَنْ عَاعٍ

ــ

وصرحوا بكراهة التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئا.

قال: (ويسن أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، والغسل عن صاع)؛ لما روى مسلم [326] عن سفينة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع).

و (الصاع والمد) هنا: هما المذكوران في الزكاة، هذا هو المشهور.

وقيل: (المد) هنا: رطلان، و (الصاع): ثمانية أرطال؛ لما روى البخاري [250] عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، يقال له: الفرق)، وهو: إناء يسع ستة عشر رطلا.

وأما (الفرق) بتسكين الراء .. فيسع مئة وعشرين رطلا، كذا نقله ابن الصباغ عن الشافعي رضي الله عنه.

وأما ما روي: (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءا لا يبل الثرى) .. فلا يعرف.

و (المد والصاع) تقريب لا تحديد.

وقال ابن عبد السلام: هو لمن حجم بدنه كحجم بدن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا اعتبر بالنسبة زيادة ونقصا، وهو حسن ووافقه في (الإقليد).

والمحبوب: الاقتصار على ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي أقوام يستقلون هذا، فمن رغب في سنتي وتمسك بها .. بعث معي في حظيرة القدس).

والحديث غريب، لكنه في بعض الأجزاء من رواية أم سعد.

و (حظيرة القدس) بالظاء المشالة: الجنة.

ص: 395

وَلَا حَدَّ لَهُ

ــ

وقوله: (ينقص) بفتح الياء وهو متعد، قال الله تبارك وتعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} .

و (ماء الوضوء) منصوب على أنه مفعول، والفاعل ضمير يعود على الشخص.

و (المد) مذكر، وجمعه: أمداد، وقال بعضهم: مداد، وتأول عليه قوله صلى الله عليه وسلم:(سبحان الله مداد كلماته)، والمشهور: مثل عددها.

وهذا مثال يراد به التقريب؛ لأن الكلمات لا تدخل في الكيل والوزن، وإنما تدخل في العدد.

قال الخطابي: سمي المد مدا؛ لأن اليد تمد به، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:(ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)؛ لأنهم كانوا أقل ما يتصدقون به عادة.

و (الصاع) يذكر ويؤنث، ويقال أيضا: صوع وصواع.

قال: (ولا حد له)، فلو نقص عما تقدم وأسبغ .. أجزأ؛ لما روى مسلم [321] عن عائشة قالت:(كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك).

وفي (سنن أبي داوود) – بإسناد حسن – [95] عن أم عمارة الأنصارية: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد).

قال الشافعي رحمه الله: قد يرفق الفقيه بالقليل فيكفي، ويخرق الأخرق بالكثير فلا يكفي.

ص: 396

وَمَنْ بِهِ نَجَسٌ يَغْسِلُهُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ، وَلَا تَكْفِي لَهُمَا غَسْلَةٌ، وَكَذَا فِي الْوُضُوءِ.

قُلْتُ: الأَصَحُّ: تَكْفِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

ــ

و (الأخرق): القليل المعرفة بالأمور.

لكن الإسراف في الماء مكروه على الأصح.

وقال المتولي وصاحب (الإشراف): يحرم الإسراف.

ومن سنن الغسل:

استصحاب النية إلى آخره.

وأن لا يغتسل في الماء الراكد لغير عذر، قليلا كان الماء أو كثيرا، ولو كان بئرا معينا، وكذلك يكره الوضوء فيه.

ويسن أن يقول في آخره ما سبق في الوضوء.

ويستحب أن يكون اغتساله بعد البول؛ لئلا يخرج بعده مني.

وحكم الموالاة كالوضوء، ونبه عليه المصنف في (باب التيمم).

قال: (ومن به نجس يغسله ثم يغتسل)؛ لأنه أبلغ في التطهير.

و (النجس) بفتح الجيم: النجاسة.

وعلى هذا: تقديم إزالة شرط لا ركن.

قال: (ولا تكفي لهما غسلة، وكذا في الوضوء)؛ لأنهما واجبات لا تداخل فيهما، ولا خلف في زوال النجاسة.

قال: (قلت: الأصح: تكفيه والله أعلم) كما لو اغتسلت من جنابة وحيض، ولأن واجبهما غسل العضو وقد حصل.

والخلاف ينبني على أن الماء: هل له قوتان: قوة لدفع النجاسة، وقوة لرفع الحدث، أو قوة واحدة؟

إن قلنا: قوتان .. صح ما قاله المصنف.

وإن قلنا: قوة واحدة – وهو الصحيح – اتجه ما قاله الرافعي، ولذلك اختاره الشيخ.

ص: 397

وَمَنِ اغْتَسَلَ لِجَنَابَةٍ وَجُمُعَةٍ .. حَصَلَا، اَوْ لِأَحَدِهِمَا .. حَصَلَ فَقَطْ.

ــ

وصورة المسألة: أن لا تحول النجاسة بين الماء والبشرة، بل يزيلها الماء بمجرد الملاقاة، فإن انتفى أحد الأمرين .. لم يكف غسله قطعا؛ لأن الماء لا يصل إلى العضو إلا مستعملا أو نجسا.

وسيأتي في (غسل الميت) ما يخالف هذا، فإنه جزم فيه، وفي (الروضة) بأن إزالة النجاسة قبله شرط، وكذا جزم به في صفة (غسل الجنابة) من (شرح مسلم).

فرع:

لو كان على يده طين أو عجين فغسلها بنية رفع الحدث .. لم يجزه.

وإذا جرى الماء إلى موضع آخر .. لم يحسب عن الطهارة؛ لأنه مستعمل كذا نقله المصنف في (باب نية الوضوء) عن القاضي وأقره.

قال: (ومن اغتسل لجنابة وجمعة .. حصلا) أي: على الصحيح، كما لو نوى عند دخول المسجد الفرض والتحية؛ اعتبارا بما نواه.

وفي وجه غريب اختاره أبو سهل الصعلوكي: أنه لا يجزئ لواحد منهما، كمن نوى بصلاته الظهر والنفل.

وعلى هذا: يفرق بينه وبين التحية بأنها تحصل ضمنا، وهنا كل واحد منهما مقصود.

وستأتي الإشارة إلى هذا في أواخر (صلاة النفل).

وقياس الصحيح: أنه لو جمع بين مندوبات وواجب في النية .. أجزأه غسل واحد، كما أشار إليه في (البحر) في (باب غسل الجمعة).

وللمسألة نظائر تقدمت في (باب الوضوء).

قال: (أو لأحدهما .. حصل فقط)؛ اعتبارا بما نواه.

أما إذا نوى الجمعة .. فلا ترتفع الجنابة؛ لأن نيته لم تتضمنها، والجنابة أخص، والأخص لا يستلزمه الأعم، هذا هو الصحيح، وقيل: يحصلان، وقيل: لا يحصلان.

ص: 398

قُلْتُ: وَلَوْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَجْنَبَ أَوْ عَكْسُهُ .. كَفَى الْغُسْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ، واللهُ أَعْلَمُ.

ــ

وأما إذا نوى الجنابة .. فلا يحصل غسل الجمعة في الأظهر؛ لأنه قربة مقصودة، فلم تندرج كسنة الظهر مع فرضه، وهذا هو الأصح عند المصنف تبعا (للمحرر)، ومقابله: أصح في (الشرح)؛ لأن مقصود الجمعة التنظيف وقد حصل.

فعلى هذا: إذا نوى الجنابة ونفى الجمعة .. فالظاهر: عدم حصولها.

قال: (قلت: ولو أحدث ثم أجنب أو عكسه .. كفى الغسل على المذهب والله أعلم) سواء نوى الفرض معه أم لم ينو، وسواء غسل أعضاء الوضوء مرتبة أم لا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فإذا أنا قد طهرت) رواه ابن ماجه [575] وغيره عن جبير بن مطعم، ولم يفصل صلى الله عليه وسلم، مع أن الغالب أن الجنابة لا تتجرد عن الحدث، فتداخلتا كالجنابة والحيض، ولهذا عبر المصنف بقوله:(كفى).

والثاني: إن نوى الوضوء معه .. كفى، وإلا فلا.

والثالث: يكفي الغسل، لكن لا بد من مراعاة الترتيب في أعضاء الوضوء؛ لأنه لا يكون إلا مرتبا.

والرابع: إن سبق الأصغر الأكبر .. فلا بد منهما، وإن انعكس الحال .. كفى الغسل.

والخامس: عكسه.

والسادس: إن كان سبب اجتماعهما الجماع .. كفى، وإلا فلا.

وسكت المصنف عما إذا وقعا معا، كما إذا مس مع الإنزال، وحكمه كتقدم الحدث الأصغر.

فرع:

إذا أحدث في أثناء غسله .. جاز أن يتمه ولا يمنع الحدث صحته، لكن لا يصلي به حتى يتوضأ، كذا في زوائد (الروضة).

ص: 399

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وحمله في (المهمات) على صورة خاصة، وهي: ما إذا أحدث بغد فراغ أعضاء الوضوء.

تتمة:

لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة، ويجوز في الخلوة مكشوفها والستر أفضل.

وينبغي للمغتسل من الإناء كالإبريق أن يتفطن لدقيقة وهي: أنه إذا استنجى وطهر محل الاستنجاء بالماء .. أن يغسله بعد ذلك بنية غسل الجنابة؛ لأنه إذا لم يغسله الآن .. ربما غفل عنه بعد ذلك فلا يصح غسله، ولو ذكره .. احتاج إلى مس فرجه فينتقض وضوؤه، أو إلى لف خرقة على يده.

* * *

خاتمة

يباح للرجل دخول الحمام، وعيه غض بصره وصون عورته، فقد روي:(أن الرجل إذا دخل الحمام عاريا .. لعنه ملكاه).

وروى النسائي [1/ 198] والحاكم ب1/ 162] عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر، وحرام على المرأة دخول الحمام إلا نفساء أو مريضة).

ص: 400

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وينهى عن كشفها وإن ظن أنه لا يرى، وأن لا يزيد في استعمال الماء على الحاجة ولا العادة.

وأن يقدم رجله اليسرى داخلا واليمنى خارجا، ويسمي ثم يتعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم.

ويدخل وقت الخلوة، ويكره قبيل المغرب، وبينها وبين العشاء؛ لأنه وقت انتشار الشياطين.

وسيأتي في (الجزية) حكم دخول المرأة إلى الحمام.

وقال في (الإحياء): (يستحب أن يعطي الأجرة قبل دخول الحمام، ويكره دخوله بين العشائين، وقريبا من المغرب؛ فإن ذلك وقت انتشار الشياطين، ولا بأس أن يدلك، فقد نقل ذلك عن يوسف بن أسباط وأوصى [قبل وفاته] أن يغسله واحد لم يكن من أصحابه، وقال: إنه دلكني في الحمام فأردت أن أكافئه بما يفرح به، وإنه يفرح بذلك).

* * *

ص: 401