الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: في مناهج الحفاظ الثلاثة ابن حجر وابن الصلاح والعراقي
أ- منهج الحافظ ابن حجر:
1-
لقد سلك الحافظ ابن حجر في نكته على كل من الإمام ابن الصلاح والحافظ العراقي وغيرهما مسلك الناقد البصير الشجاع الصريح في آرائه وتعقباته مع الأدب والإجلال والتقدير، غير أن الحق أكبر في نظره من الأشخاص، فهو يقول ما يعتقده أنه الحق حينما ينتقد ويقيم الأدلة على صواب رأيه، وحينما يدافع يقول ما يرى أنه الحق مع إقامة حججه على ما يرى.
2-
ويمتاز الحافظ على كثير من الباحثين والناقدين بتقصي الأقوال في المسائل المختلف فيها والتوسع في ذلك وإطالة النفس فيه وعرض الأدلة لكل جانب بأسلوب علمي رصين يروي ظمأ المتعطش للاطلاع.
فمثلا إذا ذكر ابن الصلاح أو العراقي أو غيرهما رأيا أو مثالا لأي نوع من أنواع الحديث كالمرسل أو الشاذ أو المعل أو المعضل أو المضطرب أو غيرها من أنواع علوم الحديث، وكان هناك مجال للأخذ والرد والتصحيح والتعليل فإن الحافظ يورد كل الطرق لذلك الحديث الممثل به ويناقش أسانيده ناقلا أقوال العلماء ومبديا رأيه في كل طريق وينفذ في الأخير إما إلى الجمع بين تلك الطرق التي استعصى فيها الجمع على غيره
وإما إلى الترجيح وأحيانا يصل إلى دفع الاضطراب أو نفي الشذوذ والنكارة أو الضعف إذا حكم غيره على حديث من الأحاديث بشيء من ذلك. ويسوق ما يرى أنه يصلح للتمثيل.
3-
ويمتاز بالإنصاف في ملاحظاته وتعقباته سواء كان ناقدا أو مدافعا، فهناك علماء تعقبوا ابن الصلاح، وآخرون دافعوا عنه، فينقل الحافظ أقوال المدافعين أو المتعقبين ويناقشها ثم لا يتردد في إعلان رأيه بالصواب سواء في هذا الجانب أو ذاك.
4-
يمتاز الحافظ بالاستقراء التام والتتبع الوافر للمسائل والقضايا التي يريد أن يعطي فيها أحكاما، فيصل فيها بتوفيق الله إلى نتائج حاسمة، ربما خاض غيره في تلك القضايا ولم يحالفه التوفيق، فمن تلكم القضايا الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري وشرط مسلم في صحيحه، وهل استوفى روايات الطبقات الثلاث التي ذكرها في مقدمته. وشرط أبي داود في سننه، وما يسكت عنه في سننه، هل يصلح للاحتجاج أو الاستشهاد، وأقسام هذا النوع الذي يسكت عنه. وما يحسنه الترمذي فقط أو يقول فيه حسن صحيح، وشرط النسائي، وهل هو متشدد أو متساهل؟ ومتى يترك وكيف يترك الرواية عن الرجل؟ وشرط ابن ماجة ومكانته، وشرط الحاكم في المستدرك، وهل فيه أحاديث على شرط الشيخين؟ وتقييم أحاديثه وتقسيمها والمستخرجات وأحكامها وفوائدها، والمسانيد ودرجاتها، كل هذه الأمور خاض فيها العلماء وأبدوا فيها آراءهم، فمنهم من يبعد النجعة، ومنهم منن يقارب الحقيقة ويحوم حولها ولا يبديها واضحة، فيأتي الحافظ ويكشف عن الحقيقة كشفا كاملا، ويعطي كل موضوع حقه من التوضيح والتفصيل القائمين على الدراسة المستوعبة والاستقراء الكامل، مما يجعل القارئ يرى الصواب أمام عينيه ويلمس الحقيقة بيديه.
5-
ومن منهجه الرجوع إلى المصادر الأصلية والأخذ منها مباشرة والعزو إليها غالبا والتنصيص على الأبواب أحيانا، في تلك الكتب التي ينقل عنها، ولا ينقل النص من كتاب تأخر زمانه إذا كان في كتاب متقدم. ويحاسب غيره إذا خرج عن هذا السنن، حاسب على ذلك الحافظ ابن الصلاح حينما نقل عن أبي عمرو الداني إجماع أئمة النقل على قبول الإسناد المعنعن فقال الحافظ ناقدا له:"إنما أخذه الداني من كلام الحاكم، ولا شك أن نقله عن الحاكم أولى، لأنه من أئمة الحديث، وقد صنف في علومه، وابن الصلاح كثير النقل من كتابه"، فكيف نزل عنه إلى النقل عن الداني. وأعجب من ذلك أن الخطيب قاله في الكفاية التي هي معول المصنف في هذا المختصر. وحاسب على ذلك شيخه العراقي حيث عزا إحدى الروايات المتعلقة بالبسملة إلى ابن عبد البر فتعقبه الحافظ قائلا:
"رواها أبو عوانة في صحيحه وأبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار، وأبو بكر الجوزقي في المتفق، فعزوها إلى رواية أحدهم أولى من عزوها إلى ابن عبد البر لتأخر زمانه".
والحق يقال: "إن هذا المنهج وهو منهج عزو الأقوال إلى قائليها والنصوص إلى مصادرها خصوصا الأصلية منها وتقديم أهل الاختصاص على غيرهم هو منهج علماء الأمة الإسلامية، وهم أساتذة الدنيا في هذا الميدان، خصوصا علماء الحديث وعليهم تتلمذ وتتطفل أهل الغرب والشرق من الكتاب والمؤلفين من غير المسلمين، فإذا اعتقد أحد أن هذا ما أسدته إلينا الحضارة الغربية، وأن المستشرقين المبشرين هم الذين علمونا هذا الأسلوب في دقة النقل فإنما أتي من جهله بالتراث الإسلامي وتأريخ أسلافه العظماء. ولو وجدت المطابع في عهدهم لكانوا أسبق الناس إلى الإشارة إلى الأجزاء والصفحات من الكتب التي ينقلون منها النصوص".
والحاصل أن الحافظ لم ينتقد هذين الشيخين في هذا التصرف إلا لأنهما خرجا عن المألوف وعن منهج معروف أخذه اللاحق من علماء المسلمين عن السابق، وهذه مؤلفاتهم أكبر شاهد على ذلك وإن كانوا يتفاوتون في دقة الالتزام في ذلك، والحافظ من أكثرهم التزاما به، وقد يكون في علماء المسلمين من يفوق الحافظ في ذلك كأبي الحجاج المزي في أطرافه.
6-
يمتاز الحافظ بضبطه للتعاريف وتحريرها تحريرا دقيقا بحيث يطمئن إلى سلامتها من الإيرادات والانتقادات التي اعتاد العلماء توجيهها إلى التعاريف والحدود.
7-
الدقة في التعبير عن المعاني؛ فإذا كان في عبارة غير غموض أو قصور قال الحافظ: إذا كان يريد كذا فحق التعبير أن يكون كذا وكذا.
8-
ومن عادة الحافظ الاستفادة من مصنفاته، فينقل من مصنف إلى مصنف عند المناسبة ما يرى أن المقام يتطلبه وما يرى أنه يفيد القارئ، فنقل في كتابه هذا كثيرا من مؤلفاته كفتح الباري وتغليق التعليق وتهذيب التهذيب. وإذا كان البحث طويلا لخصه، وإذا كان الكتاب صغيرا ذكر خلاصته ككتاب ترتيب المدرج. كما نقل من كتابه هذا وأحال عليه في فتح الباري في عدد من المواضع، وذكره وأحال عليه في كتابه نزهة النظر.
وأخيرا فابن حجر باحث عظيم وجولاته الواسعة في هذا الكتاب وفي مؤلفاته الكثيرة الخصبة تشهد له وتدل على سعة أفقه وسعة اطلاعه وعبقريته.
ب- منهج ابن الصلاح:
أترك المجال هنا للأستاذ نور الدين العتر ليتحدث عن منهج ابن الصلاح حيث يقول: "وامتاز في منهجه - يعني ابن الصلاح - على ما سبقه من التصانيف بمزايا جعلته عمدة هذا الفن نذكر منها:
1-
الاستنباط الدقيق لمذاهب العلماء وقواعدهم من النصوص والروايات المنقولة عن أئمة الحديث في مسائل علوم الحديث، والاكتفاء بذكر حاصلها، ولم يذكر من تلك الأخبار غلا القدر المناسب للمقام.
2-
ضبط التعاريف التي سبق بها، ووضع تعاريف لم يصرح بها من قبله.
3-
تهذيب عبارات السابقين والتنبيه على مواضع الاعتراض فيها.
4-
التعقب على أقوال العلماء بتحقيقاته واجتهاده، ويصدر ذلك عادة بـ (قلت) ويشعر القارئ الكتاب أن مصنفه قد رصد مسائل العلم بدقة تحقيقا جعل شخصيته تطغى على كل ما سبق؛ إذ لا يكاد يمر بصفحة إلا ويجد للمؤلف كلاما واجتهادا يبدؤه بعبارة قلت.
ويلاحظ أن التواضع والاحتياط غلب عليه رحمه الله، فختم كل فقرة من كتابه بقوله - والله أعلم –"1.
ج- أما العراقي فنتركه ليحدثنا عن عمله في نكته على ابن الصلاح:
قال رحمه الله: "وبعد فإن أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب علوم الحديث لابن الصلاح، جمع فيه غرر الفوائد فأوعى، ودعا له زمر الشوارد فأجابت طوعا، إلا أن فيه غير موضع قد خولف فيه، وأماكن أخر تحتاج على تقييد وتنبيه، فأردت أن أجمع عليه نكتا تقيد مطلقه، وتفتح مغلقه، وقد أورد عليه غير واحد من المتأخرين إيرادات ليست بصحيحة، فأردت أن أذكرها وأبين تصويب كلام الشيخ وترجيحه لئلا يتعلق بها من لا يعرف مصطلحات القوم، وينفق من مزجى البضاعات ما لا يصلح للسوم" فعمله يتمثل في امرين:
1 ص29- 30 من المدخل إلى علوم الحديث للعتر.
1-
في شرحه لكثير من كلام ابن الصلاح.
2-
في الدفاع عنه وترجيح كلامه، وهذا هو غالب عمله.
وغلى جانب هذا له انتقادات وتعقبات على ابن الصلاح وإضافات تكميلية لبعض البحوث التي رأى العراقي أن المقام يقتضيها.
رحم الله الجميع وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرا.