المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(دلائل تعظيم الأمر والنهي) - الوابل الصيب - ط دار الحديث

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌السعادة بثلاث: شكر النعمة، والصبر على البلاء، والتوبة من الذنب

- ‌استقامة القلب

- ‌(دلائل تعظيم الأمر والنهي)

- ‌الالتفات في الصلاة

- ‌والمقبول من العمل قسمان

- ‌والناس في الصلاة على مراتب خمسة:

- ‌(أنواع القلوب)

- ‌(خلوف فم الصائم)

- ‌(الصدقة وآثارها)

- ‌ذكر الله وفوائده

- ‌وفي الذكر أكثر من مائة فائدة:

- ‌(إحداها)

- ‌(الثانية)

- ‌(الثالثة)

- ‌(الرابعة)

- ‌(الخامسة)

- ‌(السادسة)

- ‌(السابعة)

- ‌(الثامنة)

- ‌(التاسعة)

- ‌(العاشرة)

- ‌(الحادية عشرة)

- ‌(الثانية عشرة)

- ‌(الثالثة عشرة)

- ‌(الرابعة عشرة)

- ‌(الخامسة عشرة)

- ‌(السادسة عشرة)

- ‌(السابعة عشرة)

- ‌(الثامنة عشرة)

- ‌(التاسعة عشرة)

- ‌(العشرون)

- ‌(الحادية والعشرون)

- ‌(الثانية والعشرون)

- ‌(الثالثة والعشرون)

- ‌(الرابعة والعشرون)

- ‌(الخامسة والعشرون)

- ‌(السادسة والعشرون)

- ‌(السابعة والعشرون)

- ‌(الثامنة والعشرون)

- ‌(التاسعة والعشرون)

- ‌(الثلاثون)

- ‌(الحادية والثلاثون)

- ‌(الثانية والثلاثون)

- ‌(الثالثة والثلاثون)

- ‌(الرابعة والثلاثون)

- ‌(الخامسة والثلاثون)

- ‌الذكر وحقيقة النور الإلهي

- ‌(السادسة والثلاثون)

- ‌(السابعة والثلاثون)

- ‌(الثامنة والثلاثون)

- ‌(التاسعة والثلاثون)

- ‌(الأربعون)

- ‌(الحادية والأربعون)

- ‌(الثانية والأربعون)

- ‌(الثالثة والأربعون)

- ‌(الرابعة والأربعون)

- ‌(الخامسة والأربعون)

- ‌(السادسة والأربعون)

- ‌(السابعة والأربعون)

- ‌(الثامنة والأربعون)

- ‌(التاسعة والأربعون)

- ‌(الخمسون)

- ‌(الحادية والخمسون)

- ‌(الثانية والخمسون)

- ‌(الثالثة والخمسون)

- ‌(الرابعة والخمسون)

- ‌(الخامسة والخمسون)

- ‌(السادسة والخمسون)

- ‌(السابعة والخمسون)

- ‌(الثامنة والخمسون)

- ‌(التاسعة والخمسون)

- ‌(الستون)

- ‌(الحادية والستون)

- ‌(الثانية والستون)

- ‌(الثالثة والستون)

- ‌(الرابعة والستون)

- ‌(الخامسة والستون)

- ‌(السادسة والستون)

- ‌(السابعة والستون)

- ‌(الثامنة والستون)

- ‌(التاسعة والستون)

- ‌(السبعون)

- ‌(الحادية والسبعون)

- ‌(الثانية والسبعون)

- ‌(الثالثة والسبعون)

- ‌ولنذكر فصولاً نافعة تتعلق بالذكر تكميلاً للفائدة:

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني الذكر أفضل من الدعاء

- ‌الفصل الثالث في قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء

- ‌الفصل الأول في ذكر طرفي النهار

- ‌الفصل الثاني في أذكار النوم

- ‌الفصل الثالث في أذكار الانتباه من النوم

- ‌الفصل الرابع في أذكار الفزع في النوم والفكر

- ‌الفصل الخامس في أذكار من رأى رؤيا يكرهها أو يحبها

- ‌الفصل السادس في أذكار الخروج من المنزل

- ‌الفصل السابع في أذكار دخول المنزل

- ‌الفصل الثامن في أذكار دخول المسجد والخروج منه

- ‌الفصل التاسع في أذكار الأذان

- ‌الفصل العاشر في أذكار الاستفتاح

- ‌الفصل الحادي عشر في ذكر الركوع والسجود والفصل بين السجدتين

- ‌الفصل الثاني عشر في أدعية الصلاة بعد التشهد

- ‌الفصل الثالث عشر في الأذكار المشروعة بعد السلام وهو أدبار السجود

- ‌الفصل الرابع عشر في ذكر التشهد

- ‌الفصل الخامس عشر في ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السادس عشر في الاستخارة

- ‌الفصل السابع عشر في أذكار الكرب والغم والحزن والهم

- ‌الفصل الثامن عشر في الأذكار الجالبة للرزق الدافع للضيق والأذى

- ‌الفصل التاسع عشر في الذكر عند لقاء العدو ومن يخاف سلطاناً وغيره

- ‌الفصل العشرون في الأذكار التي تطرد الشيطان

- ‌الفصل الحادي والعشرون في الذكر الذي تحفظ به النعم وما يقال عند تجردها

- ‌الفصل الثاني والعشرون في الذكر عند المصيبة

- ‌الفصل الثالث والعشرون في الذكر الذي يدفع به الدين ويرجى قضاؤه

- ‌الفصل الرابع والعشرون في الذكر الذي يرقى به من اللسعة واللدغة وغيرهما

- ‌الفصل الخامس والعشرون في ذكر دخول المقابر

- ‌الفصل السادس والعشرون في ذكر الاستسقاء

- ‌الفصل السابع والعشرون في أذكار الرياح إذا هاجت

- ‌الفصل الثامن والعشرون في الذكر عند الرعد

- ‌الفصل التاسع والعشرون في الذكر عند نزول الغيث

- ‌الفصل الثلاثون في الذكر والدعاء عند زيادة المطر وكثرة المياه والخوف منها

- ‌الفصل الحادي والثلاثون في الذكر عند رؤية الهلال

- ‌الفصل الثاني والثلاثون في الذكر للصائم وعند فطره

- ‌الفصل الثالث والثلاثون في أذكار السفر

- ‌الفصل الرابع والثلاثون في ركوب الدابة والذكر عنده

- ‌الفصل الخامس والثلاثون في ذكر الرجوع من السفر

- ‌الفصل السادس والثلاثون في الذكر على الدابة إذا استصعبت

- ‌الفصل السابع والثلاثون في الدابة إذا انفلتت وما يذكر عند ذلك

- ‌الفصل الثامن والثلاثون في الذكر عند القرية أو البلدة إذا أراد دخولها

- ‌الفصل التاسع والثلاثون في ذكر المنزل يريد نزوله

- ‌الفصل الأربعون في ذكر الطعام والشراب

- ‌الفصل الحادي والأربعون في ذكر الضيف إذا نزل بقوم

- ‌الفصل الثاني والأربعون في السلام

- ‌الفصل الثالث والأربعون في الذكر عند العطاس

- ‌الفصل الرابع والأربعون في ذكر النكاح والتهنئة به وذكر الدخول بالزوجة

- ‌الفصل الخامس والأربعون في الذكر عند الولادة والذكر المتعلق بالولد

- ‌الفصل السادس والأربعون في صياح الديكة والنهيق والنباح

- ‌الفصل السابع والأربعون في الذكر يُطفأ به الحريق

- ‌الفصل الثامن والأربعون في كفارة المجلس

- ‌الفصل التاسع والأربعون فيما يقال ويفعل عند الغضب

- ‌الفصل الخمسون فيما يقال عند رؤية أهل البلاء

- ‌الفصل الحادي والخمسون في الذكر عند دخول السوق

- ‌الفصل الثاني والخمسون في الرجل إذا خدرت رجله

- ‌الفصل الثالث والخمسون في الدابة إذا عثرت

- ‌الفصل الرابع والخمسون في من أهدى هدية أو تصدق بصدقة فدعا له، ماذا يقول

- ‌الفصل الخامس والخمسون فيمن أميط عنه أذى

- ‌الفصل السادس والخمسون في رؤية باكورة الثمرة

- ‌الفصل السابع والخمسون في الشيء يراه ويعجبه ويخاف عليه العين

- ‌الفصل الثامن والخمسون في الفأل والطيرة

- ‌الفصل التاسع والخمسون في الحمام

- ‌الفصل الستون في الذكر عند دخول الخلاء والخروج منه

- ‌الفصل الحادي والستون في الذكر عند إرادة الوضوء

- ‌الفصل الثاني والستون في الذكر بعد الفراغ من الوضوء

- ‌الفصل الثالث والستون في ذكر صلاة الجنازة

- ‌الفصل الرابع والستون في الذاكر إذا قال هجراً أو جرى على لسانه ما يسخط ربه عز وجل

- ‌الفصل الخامس والستون فيما يقول من اغتاب أخاه المسلم

- ‌الفصل السادس والستون فيما يقال ويفعل عند كسوف الشمس وخسوف القمر

- ‌الفصل السابع والستون فيما يقول من ضاع له شيء ويدعو به

- ‌الفصل الثامن والستون في عقد التسبيح بالأصابع وأنه أفضل من السبحة

- ‌الفصل التاسع والستون في أحب الكلام إلى الله عز وجل بعد القرآن

- ‌الفصل السبعون في الذكر المضاعف

- ‌الفصل الحادي والسبعون فيما يقال لمن حصل له وحشة

- ‌الفصل الثاني والسبعون في الذكر الذي يقوله أو يقال له إذا لبس ثوباً جديداً

- ‌الفصل الثالث والسبعون فيما يقال عند رؤية الفجر

- ‌الفصل الرابع والسبعون في التسليم للقضاء والقدر، بعد بذل الجهد في تعاطي ما أمر به من الأسباب

- ‌الفصل الخامس والسبعون في جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذاته لا غنى للمرء عنها

الفصل: ‌(دلائل تعظيم الأمر والنهي)

فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة، وكما أن المريض من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لاسباب الضعف والمرض حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته كما قال الشاعر:

لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل

فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.

والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.

(دلائل تعظيم الأمر والنهي)

(فصل) وأما علامات تعظيم المناهي، فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.

وأن يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحثات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو اليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.

ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب الله عز وجل إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً وكسرة إذا عصى الله تعالى في أرضه، ولم يضلع باقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.

ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط، مثال ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصاً جافياً، وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والاقبال على الله تعالى.

ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط، لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه

ص: 13

مقصود الصلاة ولا يحصل المراد منها، فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.

والمقصود أن لا يترخص ترخصاً جافياً.

ومن ذلك أنه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه، فإذا قام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون وهذا لون.

ومن هذا أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء فيتطلب ما يصرف به الطعام فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.

وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغالياً فيه حتى يفوت الوقت، أو يردد تكبيرة الأحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.

ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئاً من بلاد الاسلام وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان.

فحقيقة التعظيم للامر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال.

فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه، وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما افراط وغلو.

فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه، فإن وجد فيه فتوراً وتوانياً وترخيصاً

ص: 14

أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.

وإن وجد عنده حذراص وجداً وتشميراً ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه، ومقصود من الرجلين إخراجهما عن الصراط المسقيم: هذا بأن لا يقربه ولا يدلو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.

وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط.

والله المستعان.

ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ممتثلاً ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه كما حمل ذلك كثيراً من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف، فإن الله عز وجل شرع الصلوات الخمس إقامة لذكره واستعمالاً للقلب والجوارح واللسان في العبودية، وإعطاء كل منها قسطه من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد، فوضعت الصلاة على أكمل مراتب العبودية.

فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد والاخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته، وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه فتميل نفسه معه، لأنه يدخل عليها بما تحب، فينفق هو ونفسه وهواه على العبد: ثلاثة مسلطون آمرون، فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة فلا يمكنها إلا الانبعاث، فهذا شأن هذه الثلاثة وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا.

هذا مقتضى حال العبد، فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر وأمده بمدد آخر يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر أمره الملك بأمر ربه وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به

ص: 17

مرة وهذا مرة، والمنصور من نصره الله عز وجل، والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وجعل له مقابل نفسه الأمارة نفساً مطمئنة إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء نهته عنه النفس المطمئنة، وإذا نهته الأمارة عن الخير أمرته به النفس المطمئنة.

فهو يطيع هذه مرة وهذه مرة، وهو الغالب منهما، وربما انقهرت إحداهما بالكلية قهراً لا تقوم معه أبداً.

وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى، فكلما أراد أن يذهب مع الهوى ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذر الحذر، فإن المهالك والمتالف بين يديك وأنت صيد الحرامية وقطاع الطريق إن سرت خلف هذا الدليل.

فهو يطيع الناصح مرة فيبن له رشده ونصحه، ويمشي خلف دليل الهوى مرة فيقطع عليه الطريق ويؤخذ ماله ويسلب ثيابه فيقول: ترى من أين أتيت؟

والعجب أنه يعلم من أين أتي، ويعرف الطريق التي قطعت عليه وأخذ فيها ويأبى إلا سلوكها، لأن دليلها قد يمكن منه وتحكم فيه وقوي عليه، ولو أضعفه بالمخالفة له وزجره إذا دعاه ومحاربته إذا أراد أخذه لم يتمكن منه، ولكن هو مكنه من نفسه وهو أعطاه يده، فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه فيباشر ثم يساومه سوء العذاب، فهو يستغيث فلا يغاث، فهكذا يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة ثم يطلب الخلاص فيعجز عنه، فلما أن بلي العبد بما بلي به أعين بالعساكر والعدد والحصون، وقيل: قاتل عدوك وجاهده، فهذه الجنود خذ منها ما شئت، وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت منها ورابط إلى الموت، فالأمر قريب ومدة المرابطة يسيرة جداً، فكأنك بالملك الأعظم وقد أرسل إليك رسله فنقلوك إلى داره واسترحت من هذا الجهاد وفرق بينك وبين عدوك وأطلقت في داره الكرامة تتقلب فيها كيف شئت وسجن عدوك في أصعب الحبوس وأنت تراه.

فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أدخله وأغلقت عليه أبوابه وأيس من الروح والفرج، وأنت فيما اشتهت نفسك، وقرت عينك، جزاء على صبرك في تالك المدة اليسيرة ولزومك الثغر للرباط، وما كانت إلا ساعة ثم انقضت وكأن الشدة لم تكن.

فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه فليتدبر قوله عز وجل: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة} وقوله عز وجل: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} وقوله عز وجل: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون} وقوله عز وجل: {

ص: 18

يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما} وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً، فلما كانت الشمس على روؤس الجبال وذلك عند الغروب قال:«إنه لم يبقى من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه» فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي في الدنيا بأسرها، ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئاً، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ موفوراً وأكمل منه، كما في بعض الآثار: ابن آدم بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعاً، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعاً.

وقال بعض السلف: ابن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من أحوج.

فإن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظاماً.

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى.

وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السموات والأرض.

وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى واتقى، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة.

ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفه بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غادياً رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟

والمقصود أن الله عز وجل قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود والعدد والأمداد، وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه، وبماذا يفتك نفسه إذا أسر.

ص: 15

وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه والترمذي من حديث الحارث الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله سبحانه وتعالى أمر يحي بن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعلموا بها، وأنه كاد أن يبطيء بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحي: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب.

فجمع يحي الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعد على الشرف، فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأد إلي.

فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده.

فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يكن يلتفت.

وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك كلهم يعجب أو يعجبه ريحه، وأن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.

وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم.

وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى.

قال النبي صلي الله عليه وسلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة.

فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع.

ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم فقال رجل: يارسول الله، وإن صلى وصام؟ قال وإن صلى وصام فادعوا بدعوا الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم الشأن ـ الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله ـ ما ينجي من الشيطان وما يحصل

ص: 16

للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه، فذكر مثل الموحد والمشرك: فالموحد كمن عمل لسيده في داره وأدى لسيده ما استعمله فيه، والمشرك كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل ويؤدي خراجه وعمله إلى غير سيده، فهكذا المشرك يعمل لغير الله تعالى في دار الله تعالى ويتقرب إلى عدو الله بنعم الله تعالى.

ومعلوم أن العبد من بني آدم لو كان مملوكه كذلك لكان أمقت المماليك عنده وكان أشد شيئاً غضباً عليه وطرداً له وإبعاداً، وهو مخلوق مثله كلاهما في نعمة غيرهما، فكيف برب العالمين الذي ما بالعبد من نعمة فمنه وحده لا شريك له، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، وهو وحده المنفرد بخلق عبده ورحمته وتدبيره ورزقه ومعافاته وقضاء حوائجه، فكيف يليق به مع هذا أن يعدل به غيره في الحب والخوف والرجاء والحلف والنذر والمعاملة، فيحب غيره كما يحبه أو أكثر، ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه أو أكثر، وشواهد أحوالهم ـ بل وأقوالهم وأعمالهم ـ ناطقة بأنهم يحبون أنداده من الاحياء والأموات ويخافونهم ويرجونهم ويطلبون رضاءهم ويهربون من سخطهم أعظم مما يحبون الله تعالى ويخافون ويرجون ويهربون من سخطه، وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .

والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به.

وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله.

وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل، فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يمحي بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها.

ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرم الجنة على أهله، فلا تدخل الجنة نفس مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد فإن التوحيد هو مفتاح بابها، فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به.

والنهي عن

ص: 19