الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ريب أنه لا يكره بالقلب لأنه لا بد لقلبه من ذكر، ولا يمكنه صرف قلبه عن ذكر من هو أحب إليه، فلو كلف القلب نسيانه لكان تكليفه بالمحال كما قال القائل:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فأما الذكر باللسان على هذه الحالة فليس مما شرع لنا ولا ندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال عبد الله بن أبي الهذيل: إن الله تعالى ليحب أن يذكر في السوق، ويحب أن يذكر على كل حال، إلا على الخلاء.
ويكفي في هذه الحال استشعار الحياء والمراقبة والنعمة عليه في هذه الحالة وهي من أجل الذكر، فذكر كل حال بحسب ما يليق بها، واللائق بهذه الحال التقنع بثوب الحياء من الله تعالى وإجلاله وذكر نعمته عليه وإحسانه إليه في إخراج هذا العدو المؤذي له لو بقي فيه لقتله.
فالنعمة في تيسير خروجه كالنعمة في التغذي به.
وكان علي بن أبي طالب إذا خرج من الخلاء مسح بطنه وقال: يالها نعمة، لو يعلم الناس قدرها.
وكان بعض السلف يقول: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته وأذهب عني مضرته.
وكذلك ذكره حال الجماع ذكر هذه النعمة التي من بها عليه، وهي أجل نعم الدنيا.
فإذا ذكر نعمة الله تعالى عليه بها هاج من قلبه هائج الشكر، فالذكر رأس الشكر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ «والله يا معاذ إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» فجمع بين الذكر والشكر كما جمع سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى: {فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون} فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.
(الخامسة والأربعون)
أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطباً
بذكره، فإنه اتقاه في أمره ونهيه وجعل ذكره شعاره.
فالتقوى أوجبت له دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا هو الثواب والأجر.
والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه، وهذه هي المنزلة.
وعمال الآخرة على قسمين: منهم من يعمل على الأجر والثواب، ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة، فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى ويسابق إلى القرب منه.
وقد ذكر الله تعالى النوعين في سورة الحديد في قول الله تعالى: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم} فهؤلاء أصحاب الأجور والثواب، ثم قال:{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} فهؤلاء أصحاب المنزلة والقرب ثم قال: {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} فقيل هذا عطف على الخبر من {الذين آمنوا بالله ورسله} أخبر عنهم بأنهم هم الصديقون وأنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم، ثم أخبر عنهم أن لهم أجراً وهو قوله تعالى {لهم أجرهم ونورهم} فيكون قد أخبر عنهم بأربعة أمور: أنهم صديقون، وشهداء.
فهذه هي المرتبة والمنزلة.
قيل: تم الكلام عند قوله تعالى: {الصديقون} ثم ذكر بعد ذلك حال الشهداء فقال: {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} فيكون قد ذكر المتصدقين أهل البر والإحسان ثم المؤمنين الذين قد رسخ الإيمان في قلوبهم وامتلأوا منه، فهم الصديقون وهم أهل العلم والعمل، والأولون أهل البر والإحسان، ولكن هؤلاء أكمل صديقية منهم: ثم ذكر الشهداء وأنه تعالى يجري عليهم رزقهم ونورهم لأنهم لما بذلوا أنفسهم لله تعالى أثابهم الله تعالى عليها أن جعلهم أحياء عنده يرزقون فيجري عليهم رزقهم ونورهم فهؤلاء السعداء.
ثم ذكر الاشقياء فقال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} والمقصود أنه سبحانه وتعالى ذكر أصحاب الأجور والمراتب، وهذان الأمران هما اللذان وعدهما فرعون السحرة إن غلبوا موسى عليه الصلاة والسلام فقالوا:{إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين} أي أجمع لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني.
فالعمال عملوا على الأجور،
والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله.
وأعمال هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك، وأعمال أولئك البدنية قد تكون أكثر من أعمال هؤلاء.
وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، أي خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطباً بذكري.
قال: يا رب، فأي خلقك أعلم؟ الذي يلتمس إلى عمله علم غيره.
قال: يا رب، أي خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس.
قال يا رب، أي خلقك أعظم ذنباً؟ قال الذي يتهمني.
قال: يا رب، وهل يتهمك أحد؟ قال: الذي يستخبرني ولا يرضى بقضائي.
وذكر أيضاً عن أبن عباس قال: لما وقد موسى عليه السلام إلى طور سيناء قال: يا رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني.
وقال كعب: قال موسى عليه السلام: يا رب، أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فقال تعالى: يا موسى، أنا جليس من ذكرني.
قال: أني أكون على حال أجلك عنها.
قال: ما هي يا موسى؟ قال: عند الغائط والجنابة.
قال: أذكرني على كل حال.
وقال عبيد بن عمير: تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن خير له من جبال الدنيا تجري معه ذهباً.
وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، أين الذين كانت {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} قال فيقومون فيتخطون رقاب الناس.
قال: ثم ينادي مناد: سيعلم أهل الجع من أولى بالكرم، أين الذي كانت {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} قال فيقومون فيتخطون من رقاب الناس.
قال ثم ينادي مناد: وسيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، أين الحمادون لله على كل حال؟ قال فيقومون وهم كثير.
ثم يكون التنعيم والحساب فيمن بقي.
وأتى رجل مسلم الخولاني فقال له: أوصني يا أبا مسلم.
قال: أذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومدرة.
فقال له زدني.
فقال: أذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله تعالى مجنوناً.
قال: وكان أبو مسلم يكثر ذكر الله تعالى، فرآه رجل وهو يذكر الله تعالى