المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حكم مودة المؤمن للكافر - الولاء والبراء والعداء في الإسلام

[أبو فيصل البدراني]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد:

- ‌شروط لا إله إلا الله:

- ‌الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله:

- ‌حقيقة الإسلام والكفر:

- ‌نواقض الإسلام:

- ‌ خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في فقه الإيمان والكفر وضوابط تكفير المعين

- ‌فقه تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله:

- ‌فقه التفسيق:

- ‌تعريف الكبيرة

- ‌تعداد جملة من كبائر الذنوب:

- ‌الموقف من الذنوب المختلف في تصنيفها بين الكبائر والصغائر:

- ‌تعريف الصغيرة

- ‌تعداد جملة من صغائر الذنوب

- ‌تعريف الإصرار

- ‌ضابط الإصرار على الصغيرة المفسق:

- ‌حقيقة القول بأنه لا صغيرة مع الإصرار:

- ‌أقسام المكلفين وتصنيفهم من حيث الشرع:

- ‌المفهوم اللغوي للموالاة والتولي:

- ‌المفهوم اللغوي للمعاداة:

- ‌المفهوم اللغوي للبراءة:

- ‌المفهوم الشرعي للموالاة والبراءة والمعاداة:

- ‌الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي ومناط التكفير فيهما:

- ‌حقيقة قول من يقول أن تحقيق الولاء والبراء قد يؤدي إلى نفور الكفار من الإسلام:

- ‌اختلاف موقف الشرع من مجموع الكفار وآحادهم:

- ‌محل مشروعية البراءة من المعصية دون العاصي:

- ‌فقه المحبة إجمالاً:

- ‌حكم المحبة الطبيعية لغير المكلفين:

- ‌فقه الحب والبغض:

- ‌حقيقة الحب في الله والبغض في الله:

- ‌الناس في ميزان الحب والبغض في الله:

- ‌حكم العدل في المحبة الشرعية:

- ‌حق المسلم على المسلم:

- ‌من مظاهر الولاء للمؤمنين:

- ‌عدم تعارض البغض في الله مع سلامة الصدر المحمودة:

- ‌حكم مودة أطفال المشركين وكل من هو غير مكلف منهم:

- ‌حكم مودة الكافر للمؤمن:

- ‌حكم طلب مودة الكفار غير المحاربين:

- ‌من مظاهر الولاء المحرم للكفار:

- ‌من مظاهر البراء من الكفار:

- ‌منهج التعامل مع أهل البدع المسلمين:

- ‌حكم مضاحكة وممازحة الفاسق المسلم:

- ‌حكم صحبة الفاسق ومصادقته:

- ‌حكم إظهار البغض للفساق

- ‌مختصر منهج التعامل مع الكفار عموماً:

- ‌ضابط اللطف المشروع بلا خلاف مع الكفار غير المحاربين:

- ‌بعض المسائل التي لا تنافي العداوة من المشركين المحاربين:

- ‌حكم حسن التعامل وصلة القريب المشرك المحارب للدين وأهله:

- ‌حكم البر والإحسان لآحاد الكفار المقيمين بدار الحرب:

- ‌حكم مُطلق البر والإحسان للكافر المعين المحارب للدين وأهله:

- ‌كيفية تعامل المجاهد المسلم مع أرحامه إذا كانوا في صف الكفار المحاربين للإسلام وأهله:

- ‌هل للمسلم أن يعمد لقتل أبيه الباغي أم لا

- ‌حكم قتل المسلم بالكافر:

- ‌حكم مساكنة الكفار والفجار على وجه العموم:

- ‌حكم تقبيل رأس الكافر المحارب وتقبيل غير المحارب:

- ‌حكم بر الأقارب المشركين المسالمين للدين وأهله:

- ‌حكم السفر لبلاد الكفر والشرك:

- ‌حكم إعطاء الزكاة للكافر:

- ‌حكم خيانة العهد مع الكفار:

- ‌حكم العمل عند المشركين:

- ‌حكم إطلاق كلمة أخ على الكافر:

- ‌حكم مؤاكلة ومشاربة الكافر:

- ‌حكم تغسيل الكافر ودفنه:

- ‌شروط تشييع جنازة الكافر القريب:

- ‌حكم الالتزام بقوانين بلاد غير المسلمين:

- ‌أحكام غير المسلمين في القصاص والحدود والتعزيرات:

- ‌حكم الاستعانة بالمشركين في الحرب والاستعانة بسلاحهم:

- ‌حكم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم الدينية أو الدنيوية:

- ‌ما بين التشبه والولاء من علاقة:

- ‌حكم تزويج المرأة المسلمة بالرجل الكافر:

- ‌حكم الدعاء وقول جزاك الله خير للكافر:

- ‌حكم السلام على الكافر:

- ‌حكم الثناء على الكفار ومدحهم:

- ‌حكم مشاركة الكافر في التجارة:

- ‌محل مشروعية إظهار العداوة والبغضاء والهجر للكفار المسالمين:

- ‌الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم:

- ‌أنواع القتال في الإسلام والحكمة منه:

- ‌تعريف الجزية وحكمها:

- ‌المقاطعة الاقتصادية:

- ‌الإعانة على الإثم والعدوان حدوده وضوابطه:

- ‌حكم إعانة الكافر على المعصية:

- ‌كيفية معاشرة الكافر الذي له حق واجب في المعاشرة:

- ‌خلاصة حكم مودة المؤمن للكافر:

- ‌ حكم مودة المؤمن للكافر

- ‌شبهات وإشكالات:

- ‌الإشكال الثالث:

- ‌الإشكال الرابع:

- ‌الإشكال السابع:

- ‌الإشكال الثامن:

- ‌الخاتمة:

الفصل: ‌ حكم مودة المؤمن للكافر

ملاحظة: لمزيد من الفائدة والاطلاع حول هذا الموضوع يُرجى الرجوع إلى كتيب من جمع وإعداد المؤلف نفسه باسم " بسط القول والإسهاب في بيان‌

‌ حكم مودة المؤمن للكافر

".

حكم مودة المؤمن للكافر:"هذا التفصيل مُستفاد من د. لطف الله خوجة ولكن بتصرف".

إن في التعميم والإجمال خطأ وجنوح، وفي التفصيل إصابة واستقامة.

واتباعاً لهذه القاعدة: لا بد من التفصيل في المراد بالحب، والمراد بالكافر؛ فإن الحب أنواع، والكفار أصناف.

أنواع الحب، وأصناف الكفار:

الحب يكون لأحد الأسباب التالية: الدين، والخلق، والقرابة، والجمال، والجنس .. ونحو هذا ، فإن كان للدين، فهذه محبة دينية، يترتب عليها أحكام دينية، وإن كان لغيره فليست بمحبة دينية، بل دنيوية.

والكفار على أصناف فمنهم المحارب، الذي قد يُحارب: إما بسلاحه، أو بلسانه، أو بقلمه ، ومنهم غير المحارب، الذي قد يكون: مُعاهداً، أو مستأمناً، أو ذمياً.

واختلافهم هذا يترتب عليه اختلاف أحكامهم، وطرق التعامل معهم، كما دلت عليه نصوص الشريعة.

حكم محبة المسلم للكافر:

وبالنظر إلى هذا التفصيل يُقال: إذا أحب المسلم الكافر:

- فإما أن يكون مُحارباً، أو غير محارب.

- وفي كلتا الحالتين: إما أن يكون للدين، أو للدنيا.

فهذه أربعة أحوال، وكل حال له حكم يستند إلى نصوص الشريعة.

الحال الأول والثانية: محبة الكافر المحارب والمُسالم لأجل دينه.

لا شك أن محبة الكافر المحارب والمُسالم لأجل دينه محرمة بالإجماع إلا أن الحُبَّ القلبي للكفار المحاربين والمُسالمين لأجل دينهم ليس شيئًا واحداً، فمنه ما ينقض الولاء والبراء من أساسه، ويَكْفُرُ صاحبُه بمجرّده ومنه ما يَنقصُ من الولاء والبراء ولا يَنقضُهُ، فيكون معصيةً تَنقصُ الإيمانَ ولا تنفيه.

أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنقضُ الولاء والبراء وينفي أساسَ الإيمان فهو حُبُّ الكافر لكُفره ، وذلك أن هذه المحبة تعني وتفيد محبة الكفر إذ ليس لها سوى هذا المعنى؛ فإنه لا معنى لأن يحب المسلم الكافر لكفره، إلا أنه يحب الكفر نفسه ، وفي محبة الكفر معنى الرضا به؛ لارتباط الحب بالرضا، ومن أحب الكفر ورضي به، انتفى أصل إيمانه؛ لاستحالة الجمع بين محبة الله تعالى والرضا به، الذي هو الإيمان به تعالى، وبين الرضا بالكفر ومحبته؛ فهما نقيضان، لا يجتمعان، ولا يرتفعان. ودليل أنهما نقيضان: أن الله تعالى يرضى عن محبته وعبادته، ولا يرضى عن الكفر، قال تعالى" إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ". وقد دلت النصوص على كفر من أحب الكافر لأجل كفره، كما في قوله تعالى "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

ص: 95

وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ "فمن أحب الكافر لكونه مُحاداً لله ورسوله فهذا يستحيل أن يكون مؤمناً كما يفيده ترتيب النهي على فعلها وقال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ".

وأمّا الحبُّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقض، لكنه يُنقصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في معتقد الولاء والبراء، فهو محبّة الكافر محارباً أو مُسالماً لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها فهذا إثمٌ ولاشك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوباً لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها.

ملاحظة مهمة: نحن نتكلم هنا عن مجرد إضمار المحبة للكافر والفاسق لا إظهار مقتضيات هذه المحبة وآثارها.

الحال الثالثة: محبة الكافر المُحارب لأجل الدنيا:

أي يحبه لأجل نوع أو أنواع من المحبة الدنيوية: الخلُق، والجمال، والقرابة .. إلخ.

فهذا لا يحب دينه، وإنما يحب فيه شيئاً تميز به، وظاهر النصوص تدل على تحريم هذا النوع ، والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصر وأشهر من أن تُذكر، قال تعالى" قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ". ففي هذا النص بيان قطع المودة بين المؤمنين والكافرين قطعاً كاملاً، لما تبينت عداوتهم لله تعالى ورسوله، وحلول العداوة والبغضاء بينهم، فلا تزول إلا بشرط الإيمان بالله وحده ، ولا ينسجم مع هذا الحال محبتهم لشيء من المحاب الدنيوية؛ ففي هذه المحبة الدنيوية رجوع لشيء من المودة، نعم ليست كالمحبة للدين، لكنها في كل حال هي محبة، ولو بالقدر القليل، وهذا يُعارض النص فتحقيق الآية إذن يوجب قطع جميع أنواع المحاب الدينية، والدنيوية مع هذا الصنف المحارب ثم إنه لا حجة لمن يقول أن هذه الآية السابقة منسوخة ، نعم قد نسلم ونقول أنها منسوخة جزئياً وإن شئت فقل مخصوصة بقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وهذا في حق الكفار المسالمين والأظهر أنها رخصة ولكن في حق الكفار المحاربين فلا وهي مُحكمة. ومن الأدلة كذلك قوله تعالى "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ " ففي هذا النص بيان الأمر ذاته، فإنه ينفي الإيمان بالله واليوم الآخر عمن يودّ المحادين لله ورسوله، وهم المحاربون على مذهب بعض أهل العلم والذي يدلك على أن الآية المراد بها المحاربين هو سبب نزولها ، ولا شك أن المحاربين يدخلون دخولاً أولياً في معنى المحادة لله ورسوله، قال العلماء عن آية المجادلة إنها نزلت فى أبى بكر، وأبى عبيدة بن الجراح، ومصعب بن عمير، وغيرهم من الصحابة - رضوان الله عليهم -أجمعين، ففي موقعة بدر كان عبد الرحمن بن أبى بكر لم يسلم بعد، وكان من فريق الكفار، ورأى

ص: 96

أباه فى المعركة ، ولكنه لم يقتله، وبعد أن أسلم والتقى بأبيه، قال له: لقد رأيتك يوم بدر ولكنى لم أقتلك، فرد عليه أبو بكر، وقال له: لو أنى رأيتك لقتلتك، وفى المعركة نفسها قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه ، ووجد مصعب بن عمير أخاه قد أسَرَه أحد المسلمين ، فلما رآه أخوه استغاث به أن يتوسط له لدى المسلم ليفك أسره، فكانت النتيجة غير متوقعة ، وذلك أن مصعباً قال للمسلم: اشدد وثاقه فإن أمه غنية تفديه بمال كثير، فقال له أخوه: أهذه وصيتك بأخيك؟ فرد عليه بقوله: هو أخي دونك، أى أن المسلم أخو مصعب، وليس هو، لأنه مشرك.

قال الرازي في تفسيره: واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد فتح مكة، وتلك القصة معروفة.

وعلى هذا فمحبة الكافر المحارب للدين وأهله منهي عنها ولو كانوا قرابة، وقد نصت الآية الكريمة على القرابة هنا؛ لأن سبب الحب موجود فيهم، وهو الصلة والقرابة، والآية تأمر بقطع هذه المودة كلياً، لا جزئياً؛ أي في القليل والكثير، حتى لأجل الدنيا ، ويدل على هذا أنهم لو أحبوهم لأجل الدنيا، لحصلت بينهم مودة، ولكانوا بذلك مُخالفين لهذا النص صراحة وهذا الاستدلال على مذهب من يرى أن الموادة الواردة في الآية السابقة هي مرادفة لمعنى المحبة ، ثم إن الشارع قد أمر بقطع الصلة بين المؤمن وأرحامه الكفار المحاربين للدين وأهله وأمره بقطع أسباب المحبة الطبيعية كالهدية والزيارة ونحوها وبالتالي فقطع الصلة وأسباب المحبة الطبيعية يستلزم عدم مودتهم على الأقل.

وأما الدليل الثالث والرابع هو قوله تعالى" وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ". وقوله "إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". ووجه الدلالة في الآية الأولى أن طعن هؤلاء المحاربين في الدين، وأذاهم للمؤمنين موجب لقتالهم، وإذا حل القتال، فالصلات والمعاملات منقطعة، فلا زواج بحربية، ولا إحسان ببر أو قسط بحربي، حتى لو كانوا آباءً، أو أبناءً، أو إخواناً، أو عشيرة، بحسب مفهوم الآية، ويستثنى من ذلك مطلق الإحسان؛ إذ يجوز في حق الجريح والأسير ، إذن فلا مكان للمحبة الدنيوية.

وأما وجه الدلالة في الآية الثانية هو أن الله عز وجل حرَم موالاة الكفار المحاربين ، ومن المعلوم أن من جملة الموالاة المحبة بغض النظر عن الباعث عليها.

وأما الدليل الخامس هو قوله تعالى في حق كفار مكة المحاربين للدين وأهله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ". وفي هذا النص دليل على عدم

ص: 97

جواز إلقاء شيء من المودة إلى من كان سبباً في أذى المسلمين بإخراج ونحوه، ولو كانت المودة للدنيا، وقد نزلت في حاطب لما خابر المشركين بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم، واعتذر بأنه أراد أن يصطنع عندهم يداً يحفظ به ماله، فكانت مودته لهم للدنيا، فنُهي عن ذلك، وحرم عليه.

وأما الدليل من السنة فهو الرجل الذي قتل امرأته، لما كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر دمها. وفي هذا النص إشارة إلى قطع حبال المودة، حتى بين الزوجين، إذا صار أحدهما محارباً للدين ، فلا شيء أدل على البغضاء، وانتفاء جميع أنواع المحبة الدينية، والدنيوية من القتل وسفك الدم ، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم فعله هذا، فدل على قطع جميع أنواع المودة والمحبة عن الصنف المحارب ومن الأدلة كذلك ما روى أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله).وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر المروزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) ولا شك أن الكافر المحارب للدين وأهله يدخل دخولاً أولياً في المقصود من البغض في الله.

وعلى كل حال فالمحبة المجردة بالقلب للمحارب، لأجل الدنيا، تُنبئ عموماً بضعف ولاء المسلم لدينه؛ إذ كيف يحبه حتى لو للدنيا، وهو يراه يسعى في إذلاله والمسلمين، والطعن والسخرية من دينه؟!.

إذن فحكم محبة الكافر المحارب لأجل الدنيا محرمة وإن كانت لا تصل إلى حد الكفر.

الحال الرابعة: محبة الكافر غير المحارب لأجل الدنيا.

أي محبته لأجل: خلُق، أو قرابة، أو جمال .. ونحو هذا ، وحكم هذه المحبة تختلف باختلاف المحبوب وكون المسلم قادراً شرعاً أو قدراً على قطع أسباب محبته أو غير قادر.

فعلى هذا يمكن أن نجعل هذا القسم على قسمين:

القسم الأول: محبة عموم ومجموع الكفار غير المحاربين لأجل الدنيا.

فهذا القسم يجوز محبتهم محبة مجردة بمقتضى الجبلة البشرية والطبع ابتداءً إلا أنه يجب أن يصاحب محبتهم المحبة الطبيعية المُجردة البغض لهم في الدين أو على الأقل عدم مودتهم ، وفي حال وقوع المسلم في هذه المحبة فإن عليه مدافعة هذه المحبة وعليه ألا يركن إليها وألا تحمله هذه المحبة إلى معاشرتهم معاشرة الأحباب ولا ينبغي الانبساط إليهم إلا بموجب شرعي كالمداراة لهم أو لتأليف قلوبهم على الإسلام وأما الانبساط إليهم إلى حد يحملهم على إظهار ما هم فيه من المنكرات فهو محرم بلا خلاف ، وأما اتخاذهم أولياء أو أخلاء أو بطانة فهو محرم ، ثم إن المسلم

ص: 98

إذا رأى من نفسه ميلاً ومحبة طبيعية للكافر بسبب هديته أو إحسانه أو صلته فإنه ينبغي عليه ورعاً في هذه الحال واستحباباً قطع أسباب هذه المودة ولو أدى ذلك إلى رد الهدية وعدم قبولها والامتناع من الزيارة وهجرهم هجراً جميلاً ، والأدلة على ما ذهبنا إليه أكثر من أن تُحصر وأشهر من أن تُذكر ، بل هذا هو ظاهر ما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب.

القسم الثاني: المحبة الطبيعية للكافر المُعيَن غير المحارب الذي يعسر التحرز من مودته لأي سبب شرعي.

هذه المحبة الظاهر أن حكمها جائز وهي من قبيل الرخصة ولكن هذه المحبة جائزة بشرط ألا تُقدم على محبة الله ورسوله وألا تحمل على ترك واجب أو فعل محرم علماً بأن المسلم لو أبغض هذا الكافر في الله فلا تثريب عليه بشرط ألا يحمل هذا البغض على ظلم هذا الكافر أو تضييع حقوقه ويجب أن يُلاحظ أن هذه المحبة يجب أن تبقى في حدودها الدنيوية، فلا يُبالغ بها، وهكذا كثير من المباحات لها حدود وضوابط، من لم يضبطها تعرض للوقوع في المحرم وفشل بعض الناس عن الضبط لا يحول الشيء المراد ضبطه محرماً ، والدليل على جواز هذه المحبة

ما يلي:

الدليل الأول: مودة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، دل عليه حرصه وإلحاحه عليه بالإسلام ، كما دل عليه شفاعته له في تخفيف العذاب عنه ، فلولا المحبة والمودة لقرابته، ونصرته، لما كان هذا منه، فإنه لم يفعل ذلك مع غيره. وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأن عمه أبي طالب الكافر (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) أي من أحببته لقرابته على أحد التفسيرين للآية وهو الأظهر، وقال الإمام سليمان بن عبد الله رحمه الله في كتابه تيسير العزيز الحميد، وقد ثبت في الصحيحين أنها أنزلت في أبي طالب، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في حقه، ويحبه حباً طبعياً لا حباً شرعياً ا. هـ وبنحوه قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه القول المفيد: ويجوز أن يحبه محبة قرابة، ولا ينافي هذه المحبة الشرعية ا. هـ. بل قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تعليقه على تفسير الجلالين ما يلي: (وقوله "إنك لا تهدي من أحببت" المؤلف قدره بقوله: "هدايته". من أحببت هدايته ، والصواب من أحببته ، إنك لا تهدي من أحببته.

لماذا عدل المؤلف إلى: أحببت هدايته؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يُحب أبا طالب وهو كافر. .كيف؟ فإن المؤمن لا يحب الكافرين ولكننا نقول الحب الطبيعي هذا لا يُنافي الإيمان ، الإنسان يحب مثلاً قريبه ولو كان كافراً لكنها محبة طبيعية كما تُحب الأم ولدها؛ نعم المحبة الدينية هذه لا تجوز بين المؤمن والكافر (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أيضاً المؤلف يقول: من أحببت هدايته. في الحقيقة لو أننا حملناها على ما قال المؤلف لكانت هذه تعم كل الناس لأن الرسول يحب أن يهدي كل الناس وليس فقط عمه أبا طالب، لكان من

ص: 99

أحببته هذا يختص بأبي طالب أو غيره من أقارب ، أيضاً لو أننا قلنا كما قال المؤلف لكان في الآية إضمار.

ما هو الإضمار على تقدير المؤلف؟ إضمار الهداية؛ لأن الأصل في ضمير الصلة أن يعود إلى نفس الصلة، (وإنك لا تهدي من)"مَن" هذا اسم موصول يعود على من؟ على أبي طالب، وعائد الصلة يعود على نفس الصلة.

وبهذا تبين أن الراجح "من أحببته" من وجوه ثلاثة: وجه معنوي ووجهان لفظيان.

الوجه المعنوي أن الآية نزلت في أبي طالب، ولو أن "من أحببت هدايته" لكانت عامة.

الوجهان اللفظيان أننا إذا قدرنا "هدايته" لزم أن يكون في الآية شيئاً محذوفاً، والأصل عدم الحذف.

الوجه الثاني من الوجهين اللفظيين أن عائد الصلة يعود إلى موصول، فإذا عاد إلى "مَن" في قوله:(من أحببت) صار المراد من أحببته هو.

وأما ما لاحظ المؤلف فيما يظهر لي: أن المؤلف لاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يحب أبا طالب فالجواب عليه أن المحبة نوعان: محبة طبيعة، ومحبة شرعية.

فالمحبة الطبيعية لا تنافي المحبة الشرعية، فالشرعية قد تجتمع معها وقد تنفرد؛ فإذا كان المؤمن قريباً لك اجتمع فيه المحبتان، وإذا كان بعيداً منك وجد فيه محبة واحدة وهي الشرعية، فإذا كان قريب وهو غير مؤمن ففيه محبة واحدة وهي المحبة الطبيعية. اهـ).

الدليل الثاني: إباحة الشرع زواج العفائف الحرائر من نساء أهل الكتاب فإذا أجاز الشارع نكاح الكتابية وهي كافرة، فذلك يفيد جواز مودتها؛ إذ الزواج متضمن للمودة فما كان للشارع أن يأذن بالزواج منها، ثم يمنع من مودتها وإلا لأصبح هنالك تناقض وكيف يكون في الأمر تناقضٌ أو حرج وقد جاء من عند الله وفي كتابه، وهو القائل) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (أي أن كتابه لا تناقض فيه بحال وقال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)، فالشارع لم يُحرَج في محبة الزوجة الكتابية لجمالها وحب الاستمتاع بها بل لا بد أن توجد المودة والرحمة التي أشار الله إليها -جل وعلا- في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). والشاهد قوله تعالى:"وجعل بينكم مودة ورحمة" أي بين الزوجين، وهذا عام في كل الأزواج سواءً كانت مسلمة، أم كتابية ، ويدل على هذا أيضاً ما قاله الكاساني في بدائع الصنائع " فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين " قلتُ ومفهومه أن للزوجة الكتابية حظ من الموالاة الجزئية المقيدة بدليل المقابلة وجواز الزواج منها.

الدليل الثالث: قول الله تعالى في حق الوالدين المشركين اللذين يُجاهدا ابنهما على الشرك (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ، ومن المعلوم أن مقتضى البغض في الله أن يبعد المسلم عمن يبغضه ويهجره ولا يُصاحبه ولا يُداخله ولا يُباسطه ، والله عز

ص: 100

وجل أمر بمصاحبتهم في الدنيا معروفاً بل أذن بالزواج من الكتابية ، وبقاء المسلم مع من يجب بغضه ، فيه حرج كما هو معلوم ، وهو القائل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) ، وإذا تقرر جواز مودة الزوجة الكتابية بناءً على إذن الشارع بالزواج منها والتي أشار الله إليها -جل وعلا- في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإذا تقرر هذا فإن عدم مؤاخذة المسلم في محبة والديه الغير مسلمين من باب أولى لأن المتزوج من الكتابية قد تزوج من تلقاء نفسه ولم يُكرهه أحد على ذلك ، أما من ابتُلي بوالدين كافرين أو إخوة كفار فهو مُكره على ذلك ولم يختر والديه وأقاربه وهو أولى بالإعذار من المتزوج للكتابية ويدلك على هذا التقرير هذا الحديث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي) ومن المعلوم أن البكاء والشفقة لا يكونان إلا من ميل قلبي جبلي لا يُؤاخذ عليه الإنسان.

الدليل الرابع: قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهو استدلال ضمني بأنَّ الله نهى عن الإحسان إلى المحاربين وأَذِنَ بالصلة والإحسان لمن لم يحارب من الكفار فقال {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ .... الآية} ، وقوله هنا {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في وصف المحاربين يدل على أنَّ غير المحاربين له نوع موالاة جائزة بالإحسان والمودة الجزئية ونحو ذلك، وهذا واضح بالمقابلة ثم إن عموم البر والإحسان فيه قدر من المودة لا ينفك عنه ، ويدلك على هذا حديث رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إنّ أمي قَدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال "نعم، صلي أمك". والصلة المراد بها في هذا الحديث أنها تكرمها إكرام الولد لوالده إذا قدم عليه، وهذا الإكرام لا يخلو؛ بل لابد فيه من مودة وارتياح وانبساط ومؤانسة ولا يُقال هنا أن صلة الأرحام لا تستلزم المودة وذلك أننا قد نسلم بأن المعاملة الظاهرة للكفار بالبيع والشراء لا تستلزم المودة أما الصلة فهي قدر زائد على المعاملة الظاهرة.

الدليل الخامس: حكمة الشارع وأن الشرع يُصدق بعضه بعضاً ولا يتناقض وذلك أن الشارع لم يقطع أسباب المودة الطبيعية كلياً للكافر المسالم للدين وأهله بل شرع صلة الأرحام ولو كانوا كفاراً وقيل رخص فيها ولا يُمكن أن يُرخص في صلة الأرحام ثم يُحرَج الشارع من محبتهم المحبة الطبيعية الجبلية إذ من المعلوم أنََ إعطاء الوسيلة حكم التوسل إليه دليل على حكمة الباري وعلمه بخصائص النفس البشرية لأنه لو حرم الشيء وأباح الوسائل الموصلة إليه غالباً لوقع الناس في حرج عظيم فما بالك لو كان تعاطي هذه الوسائل واجب كوجوب بر الوالدين المشركين وصحبتهما في الدنيا معروفاً ، قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

ص: 101

وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

مسألة: قد تبين لنا من هذا التقرير وهو جواز المحبة الطبيعية للكافر المعين المسالم الذي لا يجوز هجره هجراً جميلاً ولا يجوز قطع أسباب مودته لأي سبب شرعي فماذا عن الذين يُكره هجرهم كالأرحام الكفار؟

الجواب أن أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة فمنهم من يُغلَب جانب بغض الأرحام الكفار في الله أو على الأقل عدم مودتهم فيرى وجوب هجر الأرحام الكفار إذا آنس المسلم من نفسه ميلاً لهم ومحبة ويرى وجوب قطع أسباب هذه المودة ولو أدى إلى عدم قبول هداياهم وعدم زيارتهم ومقاطعتهم وهجرهم هجراً جميلاً ونحو ذلك.

وهناك من أهل العلم من يُغلب جانب صلة الأرحام ولو أدى إلى محبتهم بمقتضى الطبع ، إلا أن أهل العلم اتفقوا جميعاً على أن كل بر وصلة بالمعروف ظاهرها الرحمة والإحسان ولا تستلزم مودتهم فهي مشروعة ، وليفعل المسلم ما هو أصلح لقلبه.

وهنا أمر مهم: ليس في هذا التقرير دعوة لمحبة الكافر المعين غير المحارب ، كلا، بل تقرير أن من وقع في هذه المحبة لمن يعسر هجره وقطع أسباب مودته لأي سبب شرعي من الأسباب:(زوجة، أبوين، أبناء، إخوة، جار في العمل، مصلحة خاصة). فما وقع في أمر مكفر؛ ما دامت محبة ليست لكفره ، ولا في محرم دون الكفر؛ ما دام أنه لا يساوي فيها الكافر بالمسلم التقي الصالح ولا يعظمه على الوجه المنهي عنه.

بل كفر في حالة واحدة: إذا كانت لأجل كفره.

ومحرم في حالتين:

الأولى: إذا كانت لأجل معصية دون الكفر.

الثانية: إذا كانت لأجل الدنيا مطلقاً أي بمعنى أن المسلم له قدرة من حيث الشرع والقدر بقطع أسباب المودة وهجره ثم لا يهجره هجراً جميلاً.

ومباح في حالة واحدة: إذا كانت لأجل الدنيا، في حق غير المحارب المعين الذي يعسر هجره أو يُكره لأي سبب شرعي.

وهنا مسألة: ما ضابط هذه الرخصة المذكورة؟

ضابط هذه الرخصة هو ما دل الدليل على استثنائه كالزوجة الكتابية والوالدين

ومن أحسن إليك ، علماً بأن الأدلة وإن كانت خاصة حق هؤلاء إلا أنها تتناول كل من كان في معناهم.

وهنا تنبيه مهم وهو إذا مات هذا الكافر المعين يجب علينا أن نتبرأ منه تبرؤاً مطلقاً كما تبرأ إبراهيم من أبيه، قال تعالى:{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم} [التوبة:114] أي: لما مات على الكفر وتبين عداوته لله عز وجل تبرأ منه، ولذا لم يأذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لأمه، ولم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن يستمر في الاستغفار لعمه، بل قد استغفر له فلم يقبل استغفاره، مع أنه كان يحوطه ويحميه، ولكن كما قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ

ص: 102

أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] ، والذي يدلك على أن هذه الرخصة لا تستمر مطلقاً قوله تعالى عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه كما تقدم ، ثم إن هذه الرخصة مربوطة بسبب من الأسباب وهو التخفيف الذي يتبع التشريع وكما تقرر في القواعد الفقهية أن ما لا يتحرز عنه فهو عفو، ولا ينافي هذا زوال الرخصة بزوال سببها.

الردود:

الإشكال الأول: بالنسبة لمن قال: أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالىِ}:إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {على جواز الموالاة ، أن ثمّة منطوق يُعارض هذا المفهوم في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وكذلك قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ففي هذه الآية نهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وهذا عام في كل يهودي ونصراني ليس له مخصص، وغير اليهود والنصارى أولى بذلك، سواء قاتلنا أولم يقاتلنا فلا تجوز موالاتهم، ومما يدل على هذا العموم أنه لمّا عين أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتباً نصرانياً أنكر عليه عمر رضي الله عنه، وتلا هذه الآية السابقة. فالجواب على ذلك:

أن قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هو دليل على قطع الولاية الشاملة لجميع مفردات الولاية من تعظيم وإرث وخُلَة ومتابعة بين المؤمنين والكافرين ولو كانوا أقرباء ، وقيل إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكن البلاد والكفر ويدل على ذلك سبب النزول وهو الأظهر ومما يدل أيضاً على أن المراد ليس مُطلق الولاية هو قوله تعالى بعد الآية السابقة} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {فعدم ذكر الأبناء والأزواج في آية النهي عن الولاية ; لأن من شأن الإنسان أن يتابع في السكن ويتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه كابنه وزوجه.

ومما يُستدل به أيضاً لصالح هذا المذهب هو قوله تعالى في الوالدين المشركين: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثم قال أيضاً في موضع آخر عن الوالدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فكأن الموالاة في الآية السابقة هي المتابعة والموافقة والمناصرة على الباطل وليست مجرد المحبة بدليل قوله تعالى في الآية

ص: 103

التي قبلها: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) فكأن عدم اتباع سبيل من أناب إلى الله واتباع سبيل من أعرض عن الله ، هو معنى الولاية الواردة في قوله (لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ).

وعلى هذا يكون المراد بالولاية في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ .... الآية). المراد بها والله أعلم هي المتابعة في سكن بلاد الكفر مع وجوب الهجرة المتعينة أو الولاية الشاملة لجميع مفرداتها من نصرة على الباطل ونحوها ، وهذا يكون من إطلاق الكل وإرادة البعض ومثل هذا ما قاله الشوكاني في نيل الأوطار " وقال الخطابي أيضًا إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال " وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا "

انتهى). قلتُ المراد هنا بنفي الولاية هي نفي ولاية الميراث والنصرة فقط وليس نفي الموالاة بينهم مُطلقاً كما قرر ذلك أهل العلم ، وبدليل قوله سبحانه بعدها "وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".

ثم إن الموالاة وإن كانت فرع عن المحبة وهي من لوازمها ، إلا أن المولاة أشمل من الحب فليس كل من تحبه يعني أنك تواليه بل الموالاة هي قدر زائد على المحبة فالولاء والموالاة يعني المحبة المفضية إلى الموافقة والنصرة والمتابعة على الدين ،

ولا شك أن الموالاة تختلف معانيها حسب السياق ، إذ أن السياق أحياناً يبين المعنى ويعينه، وأنت ترى أحياناً كلمة واحدة لها معنيان متضادان يتعين المراد منهما بواسطة السياق كما هو معروف في كلمات الأضداد في اللغة ، وعليه فالمُراد بالولاء في الآية الني يحتج بها المُخالف هو الولاء التام المطلق، لا مُطلق الولاء.

وأما بالنسبة لقوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {المراد بالولاية هنا ولاية الحرب والنصرة ويدل على ذلك سبب نزول الآية.

ثم إنه على فرض أن الآية المراد بها النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ومحبوبين وهذا قد نُسلم به على وجه العموم إلا أن هذه الآية لا يُمكن أن تكون على إطلاقها وأن تكون عامة بلا استثناءات بل أغلب النصوص العامة في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لا تسلم من تخصيص واستثناء حتى قال بعض علماء أصول الفقه إنه لم يكن هناك من نص عام في الكتاب والسنة إلا وقد خُصص إلا قوله تعالى "والله بكل شيء عليم" وهذا على سبيل المبالغة منهم ، ثم إن مما يدل على أن هذه الآية ليست على إطلاقها هو أن الله تعالى الذي نهى المسلمين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، هو الذي أحل نساء أهل الكتاب للمسلمين، وهو يعلم تعالى ما يترتب على ذلك من مودة زوجية وقد أشار إليها في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وهذا الكتاب العزيز ما أُنزل ليُضرب بعضه بعضاً، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضاً.

ص: 104

ثم اعلم أخي أن الأصل حملُ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة على الولاء المطلق، وهو الولاءُ التام الكامل، لا على مُطلق الولاء ما لم يقترن به ما يدلّ على خلاف ذلك.

الإشكال الثاني: بالنسبة لمن قال: أن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {فيه حصر الموالاة في الله ورسوله والمؤمنين، وغير المؤمنين خارجون عن هذا الحصر قطعاً، فلا تجوز موالاتهم بأي حال. فالجواب على ذلك:

أن المراد بالولاية هنا هي الولاية المطلقة وهي واجبة لمن تجب موالاته مطلقاً وهو المؤمن المقيم للصلاة المؤتي للزكاة وأما ما قررناه فهو موالاة جزئية وليست مطلقة.

الإشكال الثالث: بالنسبة لمن قال: أنّ قولكم مخالف لظاهر الآيات التي فيها البراءة من الكافرين، ومنها قوله تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. ولو كان مذهبكم صحيح لقال تعالى "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تكفوا عن حربنا" بدل قوله " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " فانظر جعل الإيمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء ، فالجواب على ذلك:

أن الآية الثانية (لا ينهاكم .. ) بينت الآية الأولى المُجملة (قد كانت لكم أسوة) وهي أنها في الكافر الحربي.

بمعنى أن الآية الأولى (قد كانت لكم أسوة .. ) وردت في صنف الكفار المحاربين للرسل الذين جاهروا بالعداوة وهو حال قوم إبراهيم بل انظر إلى حال أبيه معه كيف طرده فكيف بحال الآخرين معه؟ واقرأ بداية السورة يتضح لك أن الآية وردت في هذا السياق.

فهؤلاء محاربون أظهروا العداوة والبغضاء .. فجاءت الآية في هذا السياق وبالتالي فإن الكفار المسالمين لم يكونوا داخلين في معنى الآية (قد كانت لكم أسوة حسنة) أصلاً ، بمعنى أن الآية الكريمة (قد كانت لكم أسوة

) ليست عامة في جميع أصناف الكفار بإطلاق .. والسياق يدل على ذلك وواقع قوم إبراهيم يدل على ذلك .. ولو سلمنا جدلاً أن الآية مُطلقة والمقصود بها جميع الكفار المحارب منهم والمسالم فإن الآية التي بعدها وهي (لا ينهاكم .. ) وغيرها من الأدلة الدالة على بر الكفار المسالمين تكون مخصصة لآية (قد كانت لكم أسوة

) أو ناسخة لها جزئياً.

وبهذا التقرير نرد على من يقول أن هذه الآية مطلقة في حق جميع الكفار بلا استثناء ، يُضاف إلى ما تقدم: ما ذكره البغوي رحمه الله (قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم) أي من كفار مكة (مودة) ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم (والله قدير والله غفور رحيم) ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: (لا

ص: 105

ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) .... انتهى) قلتُ بهذه الرخصة تجتمع الآيتين اللتين فيهما إشكال آية الأسوة وآية الإذن ببر لكفار المسالمين ، وبغض النظر عن كون الرخصة واجبة أم مستحبة أم مباحة وقد تختلف من حال إلى حال فالأخذ بها مع الوالدين واجب ومع من يُرجى إسلامه كذلك واجبة باعتبار الواجب لغيره ومع الأقارب مستحب.

وبهذا يتبين أيضاً خطأ من قال أن الجمع بين إظهار العداوة واجب مع كل كافر وأنه لا ينافي صحبة الوالدين بالمعروف بل وحتى الزواج من الكتابية.

الإشكال الرابع: بالنسبة لمن قال: أن تقرير مذهبكم يتنافى مع صريح قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية).

فالجواب على ذلك:

أولاً لا بد لنا من بيان معنى المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:

والذي يظهر أن العلماء اختلفوا في معنى المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين:

القسم الأول: يرى أن المحادة تكون بمجرد المخالفة بأن يكون في حدٍّ والطرف الآخر في حدٍّ آخر، والحد هو الطرف وعلى هذا فكل الكفار داخلون فيمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واستدل أصحاب هذا المذهب بأن الله تعالى نعت المنافقين الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يُحادون الله ورسوله فلا يلزم من المحادة أن يكون الكافر محارباً للدين وأهله فقط بل يشمل جميع الكفار عموماً حيث قال تعالى ذكره عنهم:} وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}.

القسم الثاني: يرى أن المحادة ليست على معنى واحد، بل هي مراتب متفاوتة، تتراوح بين مجرد المخالفة في الدين وبين المحاربة للدين وأهله ، وهذه المحادة يتعين المراد منها من خلال السياق وسبب النزول ونحو ذلك ، وسياق آية المجادلة يدل على أن المحادة هنا هي أمر زائد على مجرد الكفر بدليل سبب النزول والذي وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن أهل التفسير المحققين تلقوه بالقبول ناهيك عن أن السياق أيضاً يدل على أنها في المحاربين، وعليه فالمحادون لله ولرسوله في آية المجادلة بالتحديد هم الكفار المحاربون لله ولرسوله، الصادون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء بخلاف المسالمين لنا من أهل الذمة وغيرهم وقد صرح القاسمي في تفسيره محاسن التأويل بهذا في تفسيره لآية المجادلة.

وبناءً على ما تقدم سيكون الجواب على افتراض كلا الوجهين:

وعليه فنقول لو كان المراد بالمُحاد في آية المجادلة هو المحارب فهنا لا إشكال أما لو سلمنا بأن المراد من المحادة في آية المجادلة هي مجرد الكفر فالجواب على هذا الإشكال من وجوه:

ص: 106

الوجه الأول: أن يُقال أن المراد من آية المجادلة هو العموم ، والعام لا يمنع من التخصيص بالنصوص الأخرى مثل إباحة الزوجة الكتابية ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب.

الوجه الثاني: أن يُقال أن المراد بالمودة الواردة في آية المجادلة ليست هي مرادفة للمحبة بل هي قدر زائد على مجرد المحبة ، فهنالك فرق بين المحبة والمودة كما ذكره بعض اللغويين فالمودة أخص من المحبة حيث أن المودة هي الحب الكثير ، والحب المجرد عن المودة يكون أقل من المودة بدرجات متفاوتة وممن ذهب هذا المذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وإن كان له رأي آخر في ذات المسألة فقال الشيخ رحمه الله في شرحه لكتاب الجنائز في بلوغ المرام تعليقاً على حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أعطني قميصك أكفنه فيه" فأعطاه إياه، متفق عليه. قال ما نصه (} أن المودة للقرابة لا تُعد من المودة في الدين فإن قال قائل هذا يُعارض قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) ، فالجواب أن الموادة شيء والمحبة الطبيعية التي مقتضاها القرابة شيء آخر فالمواد هو الذي يسعى في طلب المودة أكثر مما تقتضيه الفطرة ويسعى إلى رضاهم بكل وسيلة ويدلك على هذا قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) والأبناء والآباء في هذه الآية عام يتناول المسلمين والكفار فلذلك تقديم محبة غير الله على الله ورسوله هو المحرم وعلى هذا فضابط المودة المحرمة للكفار هو تقديم محبتهم على محبة الله ورسوله

انتهى {المصدر شرحه لكتاب بلوغ المرام كتاب الجنائز بداية الشريط الثالث.

ومما يستدل به لمن قال عن قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ

الآية) عام يتناول المسلمين والكفار على حد سواء ، هو أن هذه الآية جاءت عقب قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فكأنها جاءت آية (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ .. الآية) مفسرة لمعنى الولاية المنهي عنها في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ

الآية).

الوجه الثالث: أن يُقال أن المراد بالمودة الواردة في آية المجادلة هي المودة الدينية

كما هو المراد قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» أي المرء مع من أحب ديناً ، وفي ذلك قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في" إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ". (وأنزل الله في أبي طالب (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)، (إِنَّكَ) أيها الرسول، (لَا تَهْدِي) لا تملك هداية (مَنْ أَحْبَبْتَ) من أقاربك وعمِّك، والمراد بالمحبة هنا: المحبة الطبيعية، ليست المحبة الدينية، فالمحبة الدينية لا تجوز للمشرك ولو كان أقرب الناس (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)

ص: 107

فالمودة الدينية لا تجوز، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينية

انتهى).

وقال محمد رشيد رضا رحمه الله (الله عز وجل لم ينه المسلمين، بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله، وجهاد ما في سبيله ; لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة، كما يفيده ترتيب النهي على فعلها، فإن المودة هي المعاملة الحبية، والمحادة شدة العداوة والبغضاء، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها

انتهى). ومراده رحمه الله بكلامه أن المودة المنهي عنها إنها هي المودة لأجل ما هم عليه من المحادة لله ورسوله، فمثل هذه المودة لا تجتمع مع الإيمان، فلا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد محبة الله ورسوله، مع محبة من يحاد الله ورسوله، بحيث يكون الباعث على هذه المحبة هو هذه المحادة، فهذان ضدان لا يجتمعان، بخلاف الجمع بين محبة الله ورسوله والمؤمنين محبة دينية شرعية، وبين محبة أعداء الله ورسوله والمؤمنين محبة جبلية بشرية.

وعلى هذا يكون مراد الآية كالتالي "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لمحادتهم لله ورسوله كما يفيده ترتيب النهي على فعلها ، والحكم المُعلل إذا قُرن بوصف يصلح للتعليل فهو العلة مثل قوله تعالى " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ " أي إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ لبرهم وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لفجورهم.

الإشكال الخامس: بالنسبة لمن قال: أن ما قررناه ينافي ويُعارض ما روى أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). ومارواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله) ومحبة الكافر المعين تُعارض ما ورد عن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة)[البخاري، 4230] فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء".

ولما بعث نبي الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم)[أحمد: 14966] فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم.

الجواب على ذلك:

أن ما قررناه لا يعني خلو قلب المؤمن من البغض في الله فهو لا يزال يبغض جميع الأعمال المخالفة للشرع ثم إن هذه الأحاديث دليل على وجوب بغض عموم الكفار

ص: 108

وهذا خارج محل النزاع ، أو يُقال أن هذه النص عامة ولا يمنع من تخصيصها بنصوص أخرى.

وأما الرد على من استدل على وجوب بغض أعيان الكفار مطلقاً بلا استثناء بحديث أسماء بنت عميس ((كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة)[البخاري، 4230] وبحادثة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مع اليهود حين أراد خرص الثمار، فالجواب عليه أن في هذا دليل على وجوب بغض عموم الكفار في الله كما تقدم وهذه متفق عليها ، أو يُقال أن ما تقدم فيه دليل على جواز بغض الكافر المسالم في الله ومشروعيته لا وجوبه.

الإشكال السادس: بالنسبة لمن حاول التوفيق بين محبة الكافر محبة طبيعية وبغضه لدينه في ذات الوقت فالجواب على ذلك:

أن هذا مجرد جمع نظري والواقع يكذبه ، وأن المشكلة ليست في مجرد الجمع النظري بين المحبة الطبيعية والبغض الديني وإنما المشكلة هي في الجمع بين موجب الأمرين فمن موجبات البغض الديني عدم البدء بالسلام مثلاً وعدم المخالطة إلا إذا طمع في إسلام الكافر وإظهار البغض له ومقتضى البغض في الله أن يبعدوا عنهم ويهجروهم ، وموجبات المحبة الطبيعية هي المخالطة والانجذاب والتبسط وهي موجبات تتعارض مع موجبات البغض في الله وإن قلنا أن البغض للدين والمحبة لغير الدين.

ثم اعلم أن البغض والمحبة قد يجتمعان حينما يكون محل البغض يختلف عن محل المحبة فقد تحب أعمال الإنسان الموافقة للشرع وفي ذات الوقت تُبغض أعماله المخالفة للشرع وذلك لانفكاك الجهة لكن محبة ذات الشخص المعينة وبغضها في ذات الوقت يستحيل عقلاً وهو ممتنع بل يجب أن يكون الغالب عليه المحبة أو البغض ، وعليه فمن قال إنه يحب الزوجة الكتابية حباً طبعياً ويبغضها لأجل كفرها فمحصل قوله: أن الله يكلف عباده بما لا يطاق، بل يكلف عبادة بالمستحيل؛ لأن الحب يترتب عليه القرب والتلذذ، والبغض يترتب عليه البعد والنفرة، ويستحيل الجمع بين هذين العملين المتناقضين؟! ، وقد ورد في "حاشية العدوي" (1/ 273):

"قَوْلُهُ: (وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك) أَيْ: نَطْرَحُ مَوَدَّةَ الْعَابِدِ لِغَيْرِك، وَلا نُحِبُّ دِينَهُ وَلا نَمِيلُ إلَيْهِ. وَلا يُعْتَرَضُ هَذَا بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ لأَنَّ فِي تَزَوُّجِهَا مَيْلًا لَهَا لأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُرَادُ هُوَ بُغْضُ الدِّينِ اهـ.

والخطأ الذي يقع فيه من قال بمثل هذا أنه لم يتصور أن الكفر وصف قائم بالذات، مثله مثل كل وصف مكروه كوصف البخل، أو الكذب، أو الفسق أو غيره، فالكره متوجه لذلك الوصف وليس للذات نفسها، فأنت تحب أباك حباً فطرياً لكن تكره فيه صفة البخل، أو صفة الفسق، أو صفة الكفر، وتحب زوجتك المسلمة لكن تكره فيها صفة سلاطة اللسان مثلاً، ويُقال مثل هذا في الزوجة الكافرة فأنت تحب زوجتك النصرانية وتكره فيها صفة الكفر لكن يستحيل أن يتوجه الحب والبغض للذات نفسها كما تقدم؛ فيستحيل أن تحب أباك وتبغضه في الوقت نفسه، ومثله أن تحب زوجتك وتبغضها وتنفر منها ، وهنا سؤال للمعترض: هل يمكن الجمع بين الإرادتين المتناقضتين في شخص واحد؟

ص: 109

الجواب: بالطبع لا يُمكن وهو مستحيل لأن المتناقضين يرفع أحدهما الآخر فتحقق أحدهما ينافي تحقق الآخر، ومثله حب ذات المرأة، وكرهها يستحيل الجمع بينهما ، لأنه إذا تحققت إحدى الإرادتين ارتفعت الأخرى بدليل أن القلب إذا أبغض أمر ما من وجه وأحبه من وجه آخر فلا بد من غلبة أحدهما على الآخر فلا يمكن أن يجتمعا إلا بحالة من الصراع النفسي والحرج فلذلك إذا تعاطى المريض الدواء دل ذلك على أنه ترجح لديه محبته وإذا جاهد المسلم دل ذلك على ترجيحه لمحبة الجهاد ومرضاة ربه ولكن المسلم المتزوج للكتابية كيف يرجح؟ إن رجح بغضها فلا يمكن أن يُبقيها في عصمته وسيطلقها لا محالة وإن أحبها سيعني أنه لن يبغض ذاتها ولو دينياً بل يبغض أعمالها المخالفة للشرع.

وأما من استدل على إمكان الجمع بين بغض الزوجة الكافرة وحبها بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)[البقرة:216] وقال ((ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من الثواب العظيم، كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)[البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)[التوبة:92].

فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً، ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاًَ وديانة!)) انتهى.

فالجواب أن هذه الآية فيها الرد على مذهبهم، فهي على عكس مراد من استشهد بها تماماً؛ وذلك أن هذه الآية تقرر أن أصل الجهاد محبوب لنفس المؤمن لكن صفة المشقة فيه مكروهة، تماماً كما أن الزوجة الكافرة قد تكون محبوبة لزوجها المؤمن لكن صفة الكفر فيها مكروهة، فالكره الوارد في آية الجهاد متوجه لصفة المشقة لا للجهاد نفسه، ولهذا لو قيل للمؤمن: إنك ستجاهد من دون مشقة لكان محبوباً له من كل وجه.

وهذه الآية من أقوى الأدلة القاطعة على استحالة الجمع بين الحب والبغض لذات الشيء بل الحب متوجه للذات، والبغض متوجه لصفة من صفات الذات، كما قررنا أن من قال إن المسلم يحب زوجته الكافرة من وجه ويكرهها من وجه أنه تكليف بما لا يطاق.

وقول المعترض ((إن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض، فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم كثيراً للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد.))

قلنا: لا يسلم له هذا، بل ذات الدواء مكروه للمريض أصلاً، ومحبته إنما لصفة من صفات الدواء وهي ما فيه من شفاء.

ومثله قول المعترض ((وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف عليه السلام صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)[يوسف:33]))،

ص: 110

وهذا أيضا دليل عليهم فذات السجن مكروه ليوسف، ومحبته ليست للسجن بل لأمر خارج السجن وهو البعد عن المرأة المغوية، فذات السجن مكروهة ليوسف من كل وجه، ولولا ما تعلق به من مصلحة ليست من السجن أصلاً لم يحبه.

ومن الأدلة أيضاً على استحالة جمع بغض الزوجة الكافرة ومحبتها في القلب وأن من قرر ذلك فقد قرر أن الله يكلف بالمستحيل:

الدليل الأول: من الواجب على الزوج العدل بين زوجاته، ومن لم يعدل فهو آثم وظالم ومرتكب لكبيرة من الكبائر، ولهذا قال تعالى ((فإن لم تستطيعوا أن تعدلوا فواحدة))، ومع هذا فقد جاء في الحديث ((عَنْ عَائِشَة " أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِم بَيْن نِسَائِهِ فَيَعْدِل وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِك، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك " قَالَ التِّرْمِذِيّ يَعْنِي بِهِ الْحُبّ وَالْمَوَدَّة، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَهْل الْعِلْم.

فالحديث بجموع طرقه حسن لغيره، وعليه فالرجل المسلم قد يحب إحدى زوجتيه أكثر من الأخرى، والشاهد من ذلك كله هو أننا نقرر أن أمر الحب والبغض أمر بيد الله لا طاقة للعبد في التحكم به، ولا يكلف الله عباده ما لا يطيقون، ولهذا لا يعاقب العبد على ميله القلبي لبعض زوجاته مع أنه مأمور شرعاً بالعدل بينهن، ومثله المرأة الكافرة لا يكلف الله زوجها ببغضها وهو أمر لا طاقة له به، بل البغض متوجه لصفة الكفر فيها لا لها، ولو كان يستطيع التحكم بذلك البغض لوجب أن يعدل بين زوجاته في الحب لأن ترك العدل في المعاملة والجور كبيرة من الكبائر.

الدليل الثاني: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)) رواه مسلم

قوله ((لايفرك)) أي: لا يبغض، والشاهد من الحديث أنه لا يمكن الجمع بين الحب والبغض، ولهذا نص على بغض خلق منها، وأرشده إلى الاكتفاء بكره هذا الخلق، والانتباه إلى الأخلاق الحسنة الأخرى فيها، كل ذلك خوفاً من أن يتعدى الأمر إلى بغض المرأة لأنه لا يمكن أن يبغضها ويحبها في وقت واحد.

الإشكال السابع: بالنسبة لمن قال: أن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح والبر والإحسان من أفعال الجوارح لا من أفعال القلوب ، فالجواب على ذلك:

أن هذا الكلام يستقيم لو لم يكن هناك علاقة تلازم بين ما يقع في القلب وبين ما يقع في الجوارح بل إن بينهما تلازماً في كثير من الأحيان يصعب انفكاكه.

إشكال أخير: قد يقول قائل إنك قد استندت في كثير من استدلالاتك السابقة إلى الإحالة على سبب النزول ومن المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالجواب على ذلك:

أن مقولة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مسألة خلافية وليست من مسائل الإجماع أما إجماع العلماء المحققين هو ما قاله ابن تيمية رحمه الله

(والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا، فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا

ص: 111

يكون العموم فيها بحسب اللفظ

انتهى) ، ولبيان مزيد من الفائدة أنقل ما قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعليقاً على ما قاله ابن تيمية رحمه الله:(وهذا القول هو الصحيح: أنها تعم ذلك الشخص؛ لأنها تختص بنوع ذلك الشخص أو تعم نوع ذلك الشخص فقط. مثال ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصيام في السفر).فهذا اللفظ عام، لكن سببه خاص بالنوع وخاص بالشخص، فهل نخصصه بذلك الشخص؟

يقول شيخ الإسلام: ما أحد قاله من المسلمين، وهل نخصصه بذلك النوع؟ يمكن ذلك إذا علمنا أن العلة والسبب في ذلك النوع لا يتعداه لغيره فإننا نخصصه بذلك النوع، وإذا أخذنا بالعموم في حديث:(ليس من البر الصيام في السفر)، قلنا: إن الصيام في السفر ليس من البر؛ سواء شق على الإنسان أم لم يشق. وإذا خصصناه بالشخص قلنا ليس من البر باعتبار ذلك الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام عليه زحام ظللاً عليه، كأنه قال ليس صومه من البر وهذا أيضاً خطأ لا أحد يقوله من المسلمين مثل ما قال الشيخ، وإذا قلنا: إنه خاص بالنوع، قلنا: ليس من البر الصيام في السفر فيمن حاله كحال ذلك الشخص يشق عليه، فإنه ليس من البر أن يصوم في السفر بخلاف من لا يشق، وهذا القول الوسط هو الصواب، وأنه يجب أن يعدى الحكم الوارد على سبب معين إلي نوع ذلك المعين فقط لا إلى العموم، ولا أن يختص بنفس ذلك الشخص.

وهنا نشير إلي أن ربطه بعلته أولى من التعميم؛ لأننا لو عممناه لاحتجنا إلي دليل على التخصيص، لكن كأنه من العام الذي أريد به الخصوص.

وفرق بين قوله: (ليس من البر) وبين قول: (البر ألا يصوم)، لأنه قول قال:(ليس من البر) فهو من الإثم.

والرخصة لا نؤثم من لم يفعلها، اللهم إلا إذا اعتقد في نفسه الاستغناء عن رخصة الله له فهذا شئ آخر، فيكون آثماً من هذا الوجه، وأما من قال: الحمد لله الذي رخص لي لكن أنا قوى ونشيط، فهذا غير.

فورود الحديث ونزول الآية هذا هو المسبب. فالآية أو الحديث قد يكون معناها خفياً إلا إذا عرفت سبب النزول .... انتهى).

وعلى هذا فتحقيق القول في هذه القاعدة أن نقول "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا إن وجد الدليل الذي يدل على تخصيص العموم بمثل حالة السبب".

وعلى هذا يتيبن لنا أن البراء من المشركين ليس على مرتبة واحدة، بل هو مراتب متفاوتة، يتراوح بين قتالهم وهو أعلاها وبين بغض عملهم وهو أدناها، وبينهما مراتب كثيرة ، وهذه المراتب تختلف بحسب اختلاف أصناف المشركين وحالهم فمودة الزوجة الكتابية أو الوالدين المشركين أو من كان في معناهم لا يتنافى مع بغض الكفر الذي هم فيه وقد قال ربُّنا عز وجل حكاية عن بعض أنبيائه:{إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ القَالِين} وقال " فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ " فأمره بالبراءة من عملهم القبيح لا منهم وإن كان هذا ليس على إطلاقه.

أما محبَّة دين الزوجة الكتابية المحرَّف والميل إليه والإعجاب به فحرام شرعاً ، كما علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن نقول: (ونخلع

ص: 112