المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌فائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها

وهذا كجنب الشيء إذا قالوا: "هذا في جنب الله"، لا يريدون إلا فيما يُنسَب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته، لا يريدون غير هذا ألبتَّةَ.

فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظنَّ من ظن أنَّ هذا هو المراد من قوله:"ثَلاثُ كَذَباتٍ في ذاتِ اللِه". وقوله:

*وذلك في ذات الإله *

فغلط واستحقَّ التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى:{يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ألا ترى أنه لا يحْسُن أن يقال هاهنا: "فرطت في نفسِ اللهِ وحقيقته"، ويحسن أن يقال:"فرط في ذات الله"، كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله

(1)

، وصبر في ذات الله. فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة

(2)

، التي يُثنى على مثلها الخناصر، والله الموفق المعين

(3)

.

فائدة

(4)

ما ال‌

‌فائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها

، فإن كانت الفائدةُ في النكرة فَلِمَ ذُكِرَت المعرفة، وإن كانت في المعرفة فما بال ذكر النكرة؟.

(1)

من قوله: "ويحسن أن يقال

" إلى هنا تكرر في (ظ ود).

(2)

ليست في (ظ ود).

(3)

وانظر: "مجموع الفتاوي": (3/ 334 - 335، 6/ 341 - 342)، و "درء التعارض":(4/ 141 - 142، 5/ 54).

(4)

"نتائج الفكر": (ص/ 298).

ص: 403

قيل: هذا فيه نكتة بديعة، وهي: أن الحكم قد يعلق بالنكرة السابقة فتُذْكر، ويكون الكلام في معرض أمر

(1)

معين من الجنس مدحًا أو ذمًا، فلو اقتصر على ذكر المعرفة لاختصَّ الحكم به، ولو ذُكِرَت النكرة وحدها لخرج الكلام عن التعرض لذلك المعين، فلما أُرِيد الجنس أتى بالنكرة ووُصِفَت إشعارًا بتعليق الحكم بالوصف، ولما أتي بالمعرفة كان تنبيهًا على دخول ذلك المعيَّن قطعًا. ومثال ذلك قوله تعالى:{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15 - 16] فإن الآية كما قيل: نزلت في أبي جَهْل، ثم تعلق حكمها بكلِّ من اتصفَ به فقال:{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}

(2)

تعيينًا، {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} تعدية وتعميمًا، ولذلك اشترط في النكرة في هذا الباب أن تكون منعوتة؛ لتحصل الفائدة المذكورة والتبيينُ المراد.

وأما قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً} [النحل: 73] ففيها قولان:

أحدهما: أن "شيئًا" بدل من "رزقًا" و"رزقًا" أبين من "شيئًا"؛ لأنه أخص منه، والأخص أبين من الأعم، وجاز هذا من أجل تقدُّم النفي؛ لأن النكرةَ إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي، فلما اقتضى النفي العام ذكرَ الاسم العام الذي هو أنكر النكرات، ووقعت الفائدة به من أجل النفي، صَلُحَ أن يكون بدلًا من "رزق". ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكن إخلالًا بالكلام.

(1)

(ق): "ذكر"، (د):"ليكن في".

(2)

من قوله: "ناصية كاذبة

" إلى هنا ساقط من (ق ود).

ص: 404

والقول الثاني: أن "شيئًا" هنا مفعول المصدر الذي هو "الرزق" وتقديره: لا يملكون أن يرزقوا شيئًا، وهذا قول الأكثرين؛ إلا أنه يرد عليهم أن الرزق هنا اسم لا مصدر؛ لأنه بوزن الذَّبح والطَّحن للمذبوح والمطحون، ولو أُرِيْد المصدر لجاء بالفتح، نحو قول الشاعر

(1)

يخاطب عمر بن عبد العزيز:

واْقْصِدْ إلى الخيرِ ولا تَوَقَّهْ

وارْزُقْ عِيالَ المسلمينَ رَزْقَهْ

وقد يجاب عن هذا بأن الرزق من المصادر التي جاءت على "فِعْل" بكسر أوائلها، كالفِسْق ويُطلق على المصدر والاسم بلفظ واحد، كالنِّسخ للمصدر والمنسوخ وبابه وهذا أحسن. والبيت لا نسلِّم أن راءه مفتوحة وإنما هي مكسورة، وهذا اللائق بحال عُمَر بن عبد العزيز والشاعر، فإنه طلبَ منه أن يرزق عيالَ المسلمين رِزْقَ الله الذي هو المال المرزوق، لا أنه يرزقهم كرزق الله الذي هو المصدر، هذا مما لا يخاطب به أحد ولا يقصده عاقل، والله أعلم.

* * *

(1)

هو: عويف القوافي. والبيت من قصيدة يذكر بها عمر بن عبد العزيز رحمه الله انظر: "الكامل": (2/ 659) للمبرد، و"الأغاني":(19/ 224).

ص: 405

فائدة بديعة

(1)

قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] فيها عشرون مسألة:

أحدها: ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدلُ يُقْصَد به بيان الاسم الأول؟

الثانية: ما فائدةُ تعريف: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} باللام، وهلَّا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها، كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

الثالثة: ما معنى {الصِّرَاطَ} ؟ ومن أي شيءٍ

(2)

اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فِعَالٍ؟ ولم ذُكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ، وفي

(3)

سورة الأحقاف ذُكِر بلفظ الطريق فقال: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} ؟ [الأحقاف: 30].

الرابعة: ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] بهذا اللفظ، ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول:"صراط النبيين والصديقين" فَلِمَ عَدَل إلى لفظِ المبهم دون المفسر؟.

(1)

المسائل رقم (1 - 5) و (12، 13، 15، 16) من: "نتائج الفكر": (ص/ 300 - 306) مع إضافات وتعقُّبات مهمة لا يُستغنى عنها.

(2)

(ق): "أين".

(3)

(ق): "إلا".

ص: 406

الخامسة: ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ "الذين"

(1)

مع صلتها دون أن يقال: المنعم عليهم وهو أخصر

(2)

، كما قال:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وما الفرق؟.

السادسة: لم فرَّقَ بين المُنعَم عليهم والمغضوب عليهم، فقال تعالى في أهل النعمة:{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وفي أهل الغضب:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، بحذف الفاعل؟

السابعة: لِمَ قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} فعدّى الفعلَ بنفسه ولم يُعَدِّه بـ "إلى" كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى:{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87].

الثامنة: أن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] يقتضي

(3)

أن نعمته مختصَّة بالأولين دون المغضوب عليهم والضالين، وهذا حُجَّة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر، فهل هذا استدلال صحيح أم لا؟.

التاسعة: أن يقال: لِمَ وصفهم بلفظ "غير" وهلا قال تعالى: "لا المغضوب عليهم" كما قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} ، وهذا كما تقول: مررتُ بزيد لا عَمْرو، وبالعاقل لا الأحمق.

العاشرة: كيف جرت [غير]

(4)

صفة على الموصوف وهي لا تتعرَّف

(1)

(ظ ود): "والذي".

(2)

"وهو أخصر" في " (ق) في نهاية الفقرة.

(3)

سقطت من (ق).

(4)

من "المنيرية".

ص: 407

بالإضافة، وليس المحل محل عطف بيان؛ إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك، إذ المقصود في باب البدل هو الثاني، والأوَّلُ توطئة، وفي باب الصفات المقصود الأول، والثاني بيان، وهذا شأن هذا الموضع، فإن المقصود ذكر المُنْعَم عليهم ووصفهم بمغايرتهم نوعَي

(1)

الغضب والضلال.

الحادية عشرة: إذا ثبت ذلك في البدل، فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطَّرح، فكيف جاء {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدلًا منه، وما فائدة البدل هاهنا؟

الثانية عشرة: أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذيُّ والإمامُ أحمد وأبو حاتم، تفسير المغضوب عليهم بأنهم: اليهود، والنصارى بأنهم: الضالون

(2)

، فما وجه هذا التقسيم والاختصاص، وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه؟.

الثالثة عشرة: لم قدَّم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين؟.

الرابعة عشرة: لِمَ أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة

(1)

(ظ ود): "معنى".

(2)

أخرجه الترمذي رقم (2954)، وأحمد:(4/ 378 - 379)، وابن حبان "الإحسان":(16/ 183 - 184) وغيرهم من طرقٍ عن سِماك بن حرب عن عبَّاد بن حُبَيْش عن عدي بن حاتم في حديث طويل.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حَرْب" وصححه ابن حبان.

وسماك متكلم فيه، إلا أن الراوي عن شعبة بن الحجاج وهو لا يروي إلا صحيح حديث شيوخه.

وفيه عبَّاد بن حُبيش، مجهول، ذكره ابن حبان في "الثقات":(5/ 142)، ولا يروي عنه غير سِماك.

ص: 408

من "فَعِل" ولم يأت في أهل الضلال بذلك، فيقال:"المُضلِّين" بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من "فَعَل"؟.

الخامسة عشرة: ما فائدة العطف بـ "لا" هنا، ولو قيل:"المغضوب عليهم والضالين" لم يختل الكلام وكان أوجز؟.

السادسة عشرة: إذ قد عُطِف بها فبابُ العطف بها مع الواو النفيُ، نحو: ما قام زيد ولا عَمْرو، وكقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 91 - 92] وأما بدون الواو؛ فبابها الإيجاب، نحو: مررت بزيد لا عَمْرو، فهذه ستّ عشرة مسألة في ذلك.

السابعة عشرة: هل الهدايةُ هنا هدايةُ التعريف والبيان، أو هداية التوفيق والإلهام؟.

الثامنة عشرة: كلُّ مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرًا لازمًا لا يقوم غيره مقامه ولابدَّ منه، وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته، فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يُطْلب تحصيل الحاصل؟.

التاسعة عشرة: ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في "اهدنا"، والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها، ولا يليق به ضمير الجمع، ولهذا يقول:"ربِّ اغفر لي وارحمني وتُب عَلَيَّ"؟.

العشرون: ما حقيقةُ الصراط المستقيم الذي يتصورها العبد وقت

(1)

سؤاله؟

(1)

(ق): "عند".

ص: 409

فهذه أربع مسائل حقُّها أن تُقَدَّم أولًا؛ ولكن جرَّ الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الستة عشر.

فالجواب بعون الله وتعليمه، أنه لا علم لأحدٍ من عباده إلا ما علمه، ولا قوة له إلا بإعانته.

أما المسألة الأولى: وهي فائدة البدل في

(1)

الدعاء: أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد والدعاء، وحَقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به؛ إذ "الدعاء مُخُّ العبادة" والمخُّ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا في لحم ودم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، ووجبَ أن يكون الطلب ممزوجًا بالثناء، فمن ثَمَّ جاء لفظ الطلب للهداية، والرغبة فيها مَشُوبًا بالخير تصريحًا من الداعي بمعتقده، وتوسُّلًا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه، فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده: أن صراطه الحق هو الصراط المستقيم، وأنه صراط الذين اختصَّهم بنعمته وحَبَاهم بكرامته. فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}

(2)

، والمخالفون للحقِّ يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضًا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبيَّن لهم ليمرِّن اللسان على ما اعتقده الجنان.

ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبارُ بفائدتين جليلتين؛ إحداهما: فائدة الخبر، والثانية: فائدة لازم الخبر.

فأما فائدة الخبر فهي: الإخبار عنه بالاستقامة وأنه الصراط

(1)

(ظ ود): "من".

(2)

من قوله: "وأنه صراط

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 410

المستقيم

(1)

الذي نَصَبه لأهل نعمته وكرامته. وأما فائدة لازم الخبر: فإقرارُ الداعي بذلك وتصديقُه وتوسُّلُه بهذا الإقرار إلى ربه، فهذه أربع فوائد

(2)

: الدعاء بالهداية إليه، والخبرُ عنه بذلك، والإقرارُ والتصديق بشأنه، والتوسلُ إلى المدعو إليه بهذا التصديق؛ وفيه فائدة خامسة وهي: أن الداعي إنما أُمِر بذلك لحاجته إليه، وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبُّر ما يَطلبه وتصور معناه، فذكرَ له من أوصافِهِ ما إذا تصور في خَلَدِه وقام بقلبه كان أشدَّ طلبًا له وأعظمَ رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له، فتأمل هذه النكت البديعة!!

فصلٌ

(3)

وأما المسألة الثانية: وهي تعريف "الصراط" باللام هنا، فاعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوفٍ اقتضت أنه أحقُّ بتلك الصفة من غيره، ألا ترى أن قولك:"جالس فقيهًا أو عالمًا"، ليس كقولك:"جالس الفقيه أو العالم"، ولا قولك:"أكلت طيِّبًا"، كقولك:"أكلت الطيِّب"، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"أنت الحق، ووعدك الحقُّ، وقولك الحقُّ"، ثم قال:"ولقاؤك حقٌّ، والجنة حقٌّ والنار حقٌّ"

(4)

فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المُحْدَثة وأدخلها على اسم الرب تعالى، ووعده وكلامه.

(1)

ليست في (ق).

(2)

(ظ ود): "قواعد".

(3)

"فصل" ليست في (د) عند جميع المسائل الآتية.

(4)

أخرجه البخاري رقم (1120)، ومسلم رقم (769) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي رواية البخاري:"وقولك حق".

ص: 411

فإذا عرفتَ هذا؛ فلو قال: "اهدنا صراطًا مستقيمًا" لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى: صراطٍ مَّا مستقيمٍ على الإطلاق، وليس المراد ذلك، بل المراد الهداية إلى الصراط المعيَّن الذي نصَبه الله لأهل نعمته، وجعله طريقًا إلى رضوانه وجنته، وهو دينه الذي لا دين له سواه، فالمطلوب أمرٌ معين في الخارج والذهن، لا شيءٌ مُطْلق مُنَكَّر، واللام هنا للعهد العلمي الذهني، وهو أنه طلب الهداية إلى معهود قد قام في القلوب معرفته، والتصديق به، وتميزه عن سائر طرق الضلال، فلم يكن بُدٌّ من التعريف.

فإن قيل: فلِمَ جاء منكَّرًا في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، وقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]، وقوله تعالى:{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} [الأنعام: 87]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161].

فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو: أنها ليست في مقام الدعاء والطلب، وإنما هي في مقام الإخبار من الله -تعالى- عن هدايته إلى صراطٍ مستقيم وهداية رسوله إليه، ولم يكن للمخاطبين عهد به، ولم يكن معروفًا لهم، فلم يجئ معرَّفًا بلام العهد المشيرة إلى معروفٍ في ذهن المخاطَب قائم في خَلَده، ولا تقدَّمه في اللفظ مَعْهود تكون اللام مصروفة إليه، وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين، أعني: أن يكون لها معهود ذِهنيّ

(1)

أو ذِكْريّ لفظيّ؛ وإذ لا وأحد منهما في هذه المواضع، فالتنكير هو الأصل، وهذا بخلاف

(1)

سقطت من (ظ).

ص: 412

قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ؛ فإنه لما تقرَّر عند المخاطَبين أن لله صراطًا مستقيمًا هدى إليه أنبياءه ورسلَه، وكان المخاطَبُ -سبحانه- المسؤول منه هدايته عالمًا به، دخلت اللام عليه، فقال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} .

وقال أبو القاسم السُّهَيلي

(1)

: إن قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] نزلت في صُلح الحديبية، وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح، ورأوا أن الرأي خلاف، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله عليه هذه الآية، فلم يُرِد صراطًا مستقيمًا في الدين، وإنما أراد صراطًا في الرأي والحرب والمكيدة. وقوله تبارك وتعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم، ولو قال في هذا الموطن:"إلى الصراط المستقيم"، لجعل للكفر والضلال حَظًّا من الاستقامة؛ إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة

(2)

أحق بدلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما [قُرِنَ]

(3)

به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طَرَف منه.

وغيرُ خافٍ ما في هذين الجوابين من الضعفِ والوهنِ؛ أما قوله: "إن المراد بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} في الحرب والمكيدة"؛ فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتنَّ اللهُ به على رسوله، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا

(1)

في "نتائج الفكر": (ص/ 303).

(2)

(ق، ظ): "الموصولة" و (د): "الموصلة"، والمثبت من "النتائج".

(3)

في الأصول: "قرب" والتصويب أفاده محقق "النتائج".

ص: 413

وما فيها

(1)

، ومتى سمَّى اللهُ الحربَ والمكيدةَ "صراطا مستقيمًا"؟! وهل فسر هذه الآية أحدٌ من السلف أو الخلف بذلك؟! بل الصراطُ المستقيمُ ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمرِه أن يخبر بأن الله هداه إليه في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]، ثم فسَّره بقوله تعالى:{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: 161] ونصب "دِيْنًا". هُنا على البدل من الجار والمجرور، أيْ هداني دِيْنًا قِيَمًا، أَفَتَرَاه يمكنه هاهنا أن يقول: إنه الحرب والمكيدة! فهذا جواب فاسد جدًّا!!.

وتأمل ما جمع الله سبحانه

(2)

لرسوله في آية الفتح من أنواع

(3)

العطايا، وذلك خمسة أشياء؛ أحدها: الفتح المبين، والثاني: مغفرة: ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، والثالث: هدايته الصراط

(4)

المستقيم، والرابع: إتمامْ نعمته عليه، والخامس: إعطاؤه النصر العزيز. وجَمَع. له سبحانه بين الهدى والنصر؛ لأنَّ هذين الأصلين بهما كمال: السعادة والفلاح، فإنَّ الهدى هو: العلم بالله ودينه والعمل: بمرضاته وطاعته، فهو العلمُ النافعُ والعملُ الصالح، والنصر و [هو]: القدرة التامَّة على تنفيذ دينه؛ بالحجة والبيان، والسيف والسِّنان، فهو النصر بالحجة واليد، قَهْرُ قلوبِ المخالفين له بالحجة، وقَهْرُ أبدانهم باليد.

(1)

أخرجه البخاري رقم: (4833) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولفظه: "لقد أنزل عليّ الليلة سورة لهي أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} ".

(2)

"الله سبحانه" ليست في (ق).

(3)

ليست في (ق).

(4)

سقطت من (ظ).

ص: 414

وهو -سبحانه- كثيرًا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}

(1)

[التوبة: 33] في موضعين في سورة براءة، وفي سورة الصف، وقال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فهذا الهدى

(2)

، ثم قال:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، فهذا النصر، فذَكَر الكتابَ الهادي والحديدَ الناصر. وقال تعالى:{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 1 - 4]، فذكر إنزال الكتابَ الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحقِّ والباطل.

وسرُّ اقتران النصر بالهدى: أن كلًّا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانًا كما قال تعالي:{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، فذكَر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان، وهو يوم بدر، وهو اليوم الذي فرَّق اللهُ فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم، ومن هذا قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الأنبياء: 48] فالفرقان: نصره له على فرعون وقومه، والضياء والذِّكر: التوراة، هذا هو معنى الآية، ولم يُصِب من قال: إن الواو زائدة، وأن "ضياءً" منصوب على الحال، كما بيَّنا فسادَه فى "الأمالي المكية"، فتبيَّن أن

(1)

هذه الآية ليست في (ظ ود).

(2)

(ق): "الذي".

ص: 415

آيةَ الفتح تضمنت الأصلين

(1)

: الهدى والنصر، وأنه لا يصح فيها غير ذلك ألبتةَ.

وأما جوابه الثاني: عن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] بأنه لو عُرِّف لجعلَ للكفر والضلال حظًّا من الاستقامة"، فما أدري من أينَ جاءَ له هذا الفهم، مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله!!. وما هي إلا كبوة جواد ونَبْوة صارم!! أفترى قوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} [الصافات: 117 - 118] يُفْهَم منه أن لغيره حظًّا من الاستقامة!؟ وما ثَمَّ غيره إلا طرق الضلال، وإنما الصراط المستقيم واحد، وهو ما هدى الله إليه أنبياءه ورسله أجمعين، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم. وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال: إنه يفهم منه أن لغيره. حظًّا من الاستقامة!؟ بل يقال تعريفه ينفي أن يكون لغيره حظًّا من الاستقامة، فإن التعريف في قوَّة الحصر، فكأنه قيل: الذي لا صراطَ مستقيم سواه، وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة، فتأمله هنا وفي نظائره.

فصل

وأما المسألة الثالثة: وهى اشتقاق الصراط؛ فالمشهور أنه من "صرطتُ الشيءَ أصْرطه" إذا بلعته بلعًا سهلًا، فسمى الطريق: صراطًا؛ لأنه يسترط المارَّة فيه. والصراط ما جمعَ خمسةَ أوصاف: أن يكون طريقًا مستقيمًا، سهلًا، مسلوكًا، واسعًا، موصلًا إلى المقصود، فلا تسمي العربُ الطريقَ المعوج: صراطًا، ولا الصعب المشق، ولا

(1)

ليست فى (ظ ود).

ص: 416

المسدود غير الموصل، ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال [جرير]

(1)

:

أَميرُ المؤمنينَ على صِرَاطٍ

إذا اعْوَجَّ الموارِدُ مُسْتَقِيمِ

وبنوا الصراط على زِنَة "فِعَال"؛ لأنه مشتمل على سالكه اشتمالَ الحَلْق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء، كاللِّحاف والخِمار والرِّداء والغِطاء والفِراش والكِتاب، إلى سائر الباب، وهذا الوزن

(2)

يأتي لثلاثة معان

(3)

أحدها: المصدر، كالقِتال والضِّراب، والثاني: المفعول، نحو: الكِتاب والبِناء والغِراسَ

(4)

، والثالث: أن يُقْصَد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها، كالخِمار والغِطاء والسِّداد، لما يُخمَّر به ويُغطَّى ويُسدّ به، فهذا آلة محضة، والمفعول هو الشيء المخمَّر والمغطَّى والمسدود، ومن هذا القسم الثالث "إله" بمعنى مألوه.

وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة، فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم:{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30] وتعبيرهم عنه هاهنا بالطريق فيه نُكتة بديعة، وهي: أنهم قَدَّموا قبله ذكر موسى، وأن الكتاب الذي سمعوه

(1)

من "المنيرية"، انظر "ديوانه":(ص/ 411)، من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك.

(2)

من قوله: "كثير في

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(3)

(ق): "أمور".

(4)

(ق): "الفراش والبناء".

ص: 417

مصدقًا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره، فكان فيه كالنيابة

(1)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لقومه: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي: لم أكن أولَ رسولٍ بُعث إلى أهل الأرض، بل قد تقدمت قبلي رسل من الله إلى الأمم، وإنما بُعِثت مصدقًا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان، فقال مؤمنوا الجن:{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30] أي: إلى سبيل مطروقٍ قد مرَّت عليه الرسل قبله، وأنه ليس بِبِدْع كما قال في أول السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لَفظ "الطريق"؛ لأنه "فَعِيل" بمعنى "مفعول"، أي: مطروق مَشَت عليه الرسل والأنبياء قبلُ، فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه، فذكر الطريق هاهنا إذًا أولى؛ لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه، والله أعلم. ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السُّهيلي

(2)

فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ.

فصل

وأما المسألة الرابعة: وهى إضافته إلى الموصول المبهم: دون أن يقول: صراط النبيين والمرسلين، فقيه ثلاث فوائد:

أحدها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، بأنَّ استحقاقَ كونهم من المنْعَم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط، فبه صاروا من أهل النِّعمة، وهذا كما يُعَلَّق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد

(3)

(1)

(ظ ود): "كالنبأ".

(2)

في "النتائج": (ص/ 304).

(3)

سقطت من (ظ ود).

ص: 418

لما فيه من الإعلام

(1)

باستحقاق ما عُلِّق عليها من الحكم بها، وهذا كقوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 274]{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33]{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الأحقاف: 13] وهذا الباب مُطَّرد؛ فالإتيان بالاسم موصولًا أولى على هذا المعنى من ذِكْر الاسم الخاص.

الفائدة الثانية: فيه إشارة إلى

(2)

نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هُدِيَ إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، فالسائل مستشعر بسؤاله الهداية إليه، [و] طلب الإنعام من الله عليه، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه، والثاني يتضمن

(3)

الطلب والإرادة أن تكون منهم.

الفائدة الثالثة: أنَّ الآية عامة في جميع طبقات المُنْعَم عليهم، ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراطِ جميع المُنْعَم عليهم، فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة: أنَّ المسؤولَ الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلُّ من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا أجلُّ مطلوبٍ وأعظمُ مسؤول، ولو عَرَف الداعي قدرَ هذا السؤال لجعله هِجِّيْرَاه وقَرَنَه بأنفاسه، فإنه لم يدعِ شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمَّنه، ولما كان بهذه المثابة فَرَضه الله على جميع عباده فرضًا متكرِّرًا في اليوم

(1)

(ظ ود): "الإنعام".

(2)

(ظ ود): "إلى أن".

(3)

من قوله: "الإخبار

" ساقط من (ظ ود).

ص: 419

والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثَمَّ

(1)

يعلم تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها

(2)

.

فصل

وأما المسألة الخامسة: وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، ولم يقل: المُنْعَم عليهم، كما قال:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد، وفيه فوائد عديدة:

أحدها: أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن، وهي: أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فيَذْكر فاعلَها منسوبةً إليه ولا يَبْني الفعلَ معها للمفعول، فإذا جاء إلى أفعال العدل والجزاء والعقوبة: حَذَف الفاعل وبَنَى الفعلَ معها للمفعول = أدبًا في الخطاب، وإضافةً إلى الله أشرف قِسْمَي أفعاله، فمنه هذه الآية؛ فإنه لما ذكر النعمةَ فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضبَ حذفَ الفاعل وبَنَى الفعل للمفعول، فقال:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، وقال في الإحسان:{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .

ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 78 - 80] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله، ولما جاء إلى ذكر المرض، قال:{وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل: أمرضني، وقال:{فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} ، ومنه قوله تعالى حكايةً عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ

(1)

(ق): "ومن هنا".

(2)

"يقوم مقامها" ليست في (ق).

ص: 420

رَشَدًا (10)} [الجن: 10] فنسبوا إرادة الرشد إلى الربِّ، وحذفوا فاعِلَ إرادة الشر، وبنوا الفعل للمفعول، ومنه قول الخضر عليه السلام في السفينة:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فأضاف العيبَ إلى نفسه. وقال في الغلامين:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، ومنه قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فحذفَ الفاعلَ وبناه للمفعول، وقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، لأن في ذكر الرَّفَث ما يَحْسُن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل، ومنه:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير} [المائدة: 3] وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى آخرها.

ومنه -وهو ألطف من هذا وأدق معنى- قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخرها، ثم قال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وتأمل قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] كيف صرَّح بفاعل التحريم في هذا الموضع، وقال في حق المؤمنين:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3].

الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المُنْعِم بها، وأصل الشكر ذِكْر المْنعِم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمِّن لذكره -تعالى- الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذِكْره وإضافة النعمةِ إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم

(1)

لو قاله، فتضمَّن هذا اللفظ الأصلين، وهما الشكر

(1)

ليست في (ظ ود).

ص: 421

والذكر، المذكوران في قوله:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].

الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراطِ للهِ وحده، وهو المنعِم بالهداية دون أن يشركه أحدٌ في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن تضاف إليه بوصف الإفراد، فيقال:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، أي: أنت وحدَك المنعِم المحسِن المتفضِّل بهذه النعمة، وأما الغضب؛ فإن الله -سبحانه- غَضِب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط، وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم مِوافقةً لغضبِ ربهمِ عليهم، فموافقته تعالى تقتضي أن يُغْضَب على من غَضِبَ عليه، ويُرْضى عمن رضي عنه، فيُغْضَب لغضبه ويُرْضَى لرضاه، وهذا: حقيقة العبودية، واليهود قد غضبَ اللهُ عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، فحذف فاعل الغضب وقال:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لما كان للمؤمنين نصيبٌ من غضبهم على من غضبَ اللهُ عليه، بخلاف الإنعام فإنه لله وحدَه، فتأمل هذه النكتة البديعة.

الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة؛ فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم، وإذا ثبت هذا فالألف واللام في "المغضوب" -وإن كانت بمعنى "الذين"- فليست مثل "الذين" في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسَمَّى، فإن قولك:"الذين فعلوا"، معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك:"الضاربون والمضروبون"، ليس فيه ما في قولك: الذين ضَربوا أو ضُربوا، فتأمل ذلك. فـ "الذين أنعمتَ عليهم" إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقَصْد ذَوَاتهم، بخلاف

ص: 422

"المغضوب عليهم"، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم، والمعوَّل عليه من الأجوبة ما تقدَّم.

فصل

وأما المسألة السابعة: وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف "إلى"، فجوابها: أن فِعْل الهداية يتعدَّى بنفسه تارة، وبحرف "إلى" تارةً، وبـ "اللام" تارة، والثلاثة في القرآن، فمن المُعَدَّى بنفسه: هذه الآية، وقوله:{وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] ومن المعدى بـ "إلى"، قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] ومن المعدَّى باللام قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقوله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

والفرق بين هذه

(1)

المواضع تدقُّ جدًّا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدةً تشير إلى الفرق، وهي: أن الفعل المُعَدَّى بالحروف المتعدِّدة لابد أن يكون له مع كلِّ حَرْف معنًى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق، نحو: رغبتُ فيه ورغبتُ عنه، وعدلتُ إليه وعدلتُ عنه، ومِلْتُ إليه وعنه، وسعيتُ إليه وبه، وإن تقارب

(2)

معنى الأدوات عَسُرَ الفرق، نحو: قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وظاهريَّة النحاةِ يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل

(1)

تحرفت في (ظ ود).

(2)

(ظ ود): "تفاوت"

ص: 423

يجعلون

(1)

للفعل معنًى مع الحرف ومعنًى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيُشْرِبون الفعل المتعدي به معناه، وهذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حُذَّاق أصحابه؛ يضمِّنون الفعلَ معنى الفعل لا يقيمون الحرفَ مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فِطْنةً ولطافةً في الذهن.

وهذا نحو قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] فإنهم يُضَمِّنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليلٌ على الفعلين؛ أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمُّن، والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غايةِ الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها. ومنه قوله

(2)

في السحاب: "شَرِبن بماء البحر

"، أي: رَوِيْن به ثم ترفَّعن وصعدن. وهذا أحسن من أن يُقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الرِّيِّ، وأن يقال: يروى بها؛ لأنه لا يدل: على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه، وعلى الرِّي بِحَرف

(3)

الباء، فتأمله.

ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ} [الحج: 25] وفعل الإرادة لا يتعدى: بـ "الباء"، ولكن ضمِّن معنى "يَهُم فيه بكذا"،

(1)

من قوله: "أحد الحرفين

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:

شربن بماء البحر ثم ترفَّعَت

متى لُجَج خُضر لهنَّ نئيجُ

وهو من شواهد "المغني" رقم (628)، وانظر "الخزانة":(7/ 97)، وتحرفت العبارة في (ظ ود): شربن ماء البحر حتى روين ثم

".

(3)

(ظ ود): "بخلاف".

ص: 424

وهو أبلغ من الإرادة، فإن الهم مَبدأ الإرادة، فكان في ذكر "الباء" إشارة إلى استحقاق العذاب بمبدأ الإرادة

(1)

وإن لم تكن جازمة، وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه، ويكفي المثالان المذكوران.

فإذا عرفت هذا؛ ففعل الهداية متى عُدِّيَ بـ "إلى" تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، فأتى بحرف الغاية، ومتى عُدِّيَ بـ "اللام" تضمَّن التخصيص بالشيء المطلوب، فأتى بـ "اللام" الدالة على الاختصاص والتعيين، فإذا قلت: هَدَيْته لكذا، أفهم

(2)

معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته، ونحو هذا، وإذا تعدَّى بنفسه تضمَّن المعنى الجامع لذلك كله، وهو التعريف والبيان والإلهام. فالقائل إذا قال:"اهدنا الصراط المستقيم"، هو طالب من الله أن يعرِّفه إياه ويبيِّنه له ويُلْهمه إياه ويقدِّره عليه، فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه، فجرَّد الفعلَ من الحرف، وأتى به مجردًا مُعدًّى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها، ولو عُدِّيَ بحرف تعيَّن معناه وتخصَّص بحسب معنى الحرف، فتأمَّلْه فإنه من دقائق اللغة وأسرارها.

فصل

وأما المسألة الثامنة، وهي: أنه خص أهل الهداية بالنعمة

(3)

دون غيرهم، فهذه مسألةٌ اختلفَ الناسُ فيها وطال الحِجَاج من الطرفين، وهى: أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟ فمن نافٍ يحتج بهذه الآية وبقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ

(1)

من قوله: "فإن الهم

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

(ق): "أوهم".

(3)

(ظ ود)": "سعادة الهداية".

ص: 425

وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]، فخصَّ هؤلاء بالإنعام، فدلَّ على أن غيرهم غير مُنْعَم عليهم، وبقوله لعباده المؤمنين:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة، فأيُّ نعمةٍ على من خُلِقَ للعذاب الأبدي. ومن مثبت يحتجُّ بقوله:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وبقوله لليهود:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47]، وهذا خطاب لهم في حالِ كُفْرهم، وبقوله: في سورة النعم وهي سورة النحل التي عَدَّد فيها نِعَمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)} [النحل: 81 - 83] وهذا نصٌّ صريح: لا يحتمل صرفًا.

واحتجوا بأن البَرَّ والفاجر، والمؤمن

(1)

والكافر كلُّهم يعيش في نعمة الله. وكلُّ أحد مُقِر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته، وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابَرَ وجَحَد حقَّ الله تعالى وكفر بنعمته

(2)

.

وفَصْل الخطاب في المسألة: أن النعمة المطلقة مختصَّة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها

(3)

سواهم، ومُطْلق النعمة عام للخليقة كلِّهم برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فالنعمة المطلقة التامة هي: المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم، فهذه غير مُشْتَركة، ومطلق النعمة: عامٌّ

(1)

سقطت من (ظ).

(2)

من قوله: "وهذا معلوم

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(3)

(ق): "ويشركهم فيما".

ص: 426

مشترك، فإذا أراد النافي سَلْبَ النعمة المطلقة أصاب، وإن أراد سلب مطلق النعمة أخطأ، وإن أراد المثبِت إثبات النعمة المطلقة للكافر أخطأ، وإن أراد إثبات مطلق النعمةَ أصاب، وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع، ويتبين أن كلَّ واحد من الفريقين معه خطأ وصواب، والله الموفق.

وأما قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم، ولهذا يعدِّدها عليهم واحدة واحدة؛ بأن أنجاهم من آل فرعون، وبأن فَرَق بهم البحر، وبأن وعد موسى أربعين ليلة فضلُّوا بعده، ثم تاب عليهم وعفا عنهم، وبأن ظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، إلى غير ذلك من نِعَمه التي يُعدِّدها عليهم، وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم، فأمرهم أن يذكروها لِيَدْعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله

(1)

، والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته، فكانت نعمته على آبائهم نعمةً منه عليهم تستدعي منهم شكرًا، فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي، وتكذيبكم له، ومعاداتكم إياه، وهذا لا يدل

(2)

على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم، والله أعلم.

فصل

وأما المسألة التاسعة: وهي أنه قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، ولم يقل: لا المغضوب عليهم، فيقال: لا ريب أن "لا"

(1)

(ق ود): "برسوله".

(2)

(ق): "وغير هذا يدل".

ص: 427

يعطف بها

(1)

بعد الإيجاب، كما تقول: جاءني زيد لا عَمْرو، وجاءني العالم لا الجاهل، وأما "غير" فهي تابع لما قبلها، وهى صفةٌ ليس إلَّا، كما سيأتي.

وإخراج الكلام هاهنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يُعلم إذا عُرِف فَرْق ما بين العطف في هذا الموضع وبين الوصف، فتقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف، وقيل:"صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم"، لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما هو

(2)

مقتضى العطف، فإنك إذا قلتَ: جاءني العالم لا الجاهل، لم يكن في نفي العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم، وأما الإتيان بلفظ "غير" فهي صفة لما قبلها، فأفاد الكلام معها، وصفهم بشيئين؛ أحدهما: أنهم مُنْعم عليهم، والثاني: أنهم غيرُ مغضوبٍ عليهم، فأفاد ما يفيدُ العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم، فإنه يتضمَّن صفتين: صفة ثبوتية وفي: كونهم مُنْعَمًا عليهم

(3)

، وصفة سلبية وهي: كونهم غير مستحقين لوصف الغضب، وأنهم مغايرون لأهله. ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المُنْعَم عليهم ولم تكن منصوبةً على الاستثناء؛ لأنها يزول منها معنى الوصفية المقصود.

وفيه فائدة أخرى: وهى: أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المُنْعَم عليهم دون أهل الإسلام، فكأنه قيل لهم: المُنْعَم عليهم غيركم لا أنتم، وقيل للمسلمين: المغضوب عليهم

(1)

(ق): "بعدها".

(2)

سقطت من (ق).

(3)

من قوله: "ومدحهم

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 428

غيركم لا أنتم، فالإتيان بلفظة "غير" في هذا السياق أحسنُ وأدلُّ على إثبات المغايرة المطلوبة، فتأمله، وتأمل كيف قال:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} ، ولم يقل: اليهود والنصارى

(1)

مع أنهم هم الموصوفون بذلك، تجريدًا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم

(2)

، ولم يكونوا منهم بسبيل؛ لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال، فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضالٍ، فتباركَ من أودعَ كلامَه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيلٌ من حكيم حميد!.

فصل

وأما المسألة العاشرة: وهى جريان "غير" صفة على المعرفة، وهي لا تتعرَّف بالإضافة، ففيه ثلاثة أجوبة:

أحدها: أن "غيرًا" هنا بدل لا صفة، وبدل النكرة من المعرفة جائز، وهذا فاسد من وجوه ثلاثة: أحدها: أن باب البدل المقصود فيه الثاني، والأول تَوْطِئة له ومِهَاد أمامه، وهو المقصود بالذكر، فقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] المقصود: هو أهل الاستطاعة خاصة، وذِكْر الناس قبلهم توطئة، وقولك:"أعجبني زيدٌ عِلْمُه"، إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرتَ صاحبَه توطئةً لذكره، وكذا قوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] المقصود

(3)

: إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر

(4)

، وهذا ظاهر جدًّا في بدل

(1)

"ولم يقل: اليهود والنصارى" سقطت من (ظ ود).

(2)

ليست في (ظ ود).

(3)

ليست في (ق).

(4)

"لا عن نفس الشهر" ليست في (ظ ود).

ص: 429

البعض وبدل الاشتمال، ويراعى

(1)

في بدل الكلِّ من الكلِّ، ولهذا سُمِّيَ بدلًا إيذانًا بأنه المقصود، فقوله:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: 15 - 16] المقصود: السَّفع بالناصية الكاذبة الخاطئة، وذكر المبدل منه توطئة لها.

وإذا عُرِف هذا؛ فالمقصود هنا ذِكْر المُنْعَم عليهم وإضافة الصراط إليهم، ومن تمام هذا المقصود وتكميله: الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم، فجاء ذكر غير المغضوب عليهم مكمِّلًا لهذا المعنى ومتمِّمًا ومحقِّقًا؛ لأن أصحاب الصراط المسؤول هدايته هم أهل النعمة، فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقَّق، وفائدته فائدة الوصف المبيِّن للموصوف المكمِّل له، وهذا واضح.

الوجه الثاني: أن البدلَ يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتَبْيينه، ولهذا كان في تقدير تَكْرار الفاعل

(2)

، وهو المقصود بالذكر كما تقدم، فهو الأول بعينه ذاتًا ووصفًا، وإنما ذكر بوصفٍ آخر مقصودٍ بالذكر، كقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول ولا يكون مُخِلًّا بالكلام، ألا ترى أنك لو قلتَ في غير القرآن: لله حجُّ البيت على من استطاع إليه السبيل، لكان كلامًا

(3)

مستقيمًا لا خلل فيه، ولو قلت في دعائك: ربِّ اهدني صراط من أنعمتَ عليه من عبادك، لكان مستقيمًا، وإذا كان كذلك فلو قُدِّر الاقتصار على "غير" وما في حيِّزها هنا؛ لاختلَّ الكلام وذهب معظم المقصود

(1)

(ظ ود): "ومما يجيء".

(2)

(ظ ود): "العامِل".

(3)

(ظ ود): "كاملًا" وسقطت "خلل" بعدها.

ص: 430

منه؛ إذ المقصود إضافة الصراط إلى "الذين أنعم الله عليهم"، لا إضافته إلى لفظ "غير المغضوب عليهم"، بل أتى بلفظ "غير" زيادةً في وصفهم والثناء عليهم، فتأمله.

الوجه الثالث: أن "غيرًا" لا يُعْقل ورودها بدلًا، وإنما ترد استثناءً أو صفة أو حالًا. وسر ذلك: أنها لم

(1)

توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها، ولهذا قلما يقال:"جاءني غير زيد، ومررتُ بغير عَمْرو"، والبدل لابد أن يكون مستقلًّا بنفسه كما تبين أنه المقصود، ونكتة الفرق: أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلتَ الأولَ سُلَّمًا ومِرْقاةً إليه، فهو موضعُ قصدك ومحطُّ إرادتك، وفي باب الصفة بخلاف ذلك، إنما أنت قاصد إلى الموصوف موضح له بصفته، فاجعل هذه النكتة معيارًا على باب البدل والوصف، ثم زن بها "غير المغضوب عليهم" هل يصح أن يكون بدلًا أو وصفًا؟.

الجواب الثاني: أنَّ "غيرًا" هاهنا صحَّ جريانه صفة على المعرفة؛ لأنها موصولة، والموصول مبهم غير معيَّن، ففيه رائحة من النكرة لإبهامه

(2)

، فإنه غير دالٍّ على معيَّن، فصلح وصفه بـ "غير" لقُرْبِه من النكرة، وهذا جواب صاحب "الكشَّاف"

(3)

قال: "فإن قلت: كيف صحَّ أن يقع "غير" صفة للمعرفة وهو لا يتعرَّف وإن أُضيفَ إلى المعارف؟ قلت: "الذين أنعمت عليهم" لا تَوْقيت فيه، فهو كقوله:

(1)

(ظ): "لو"، (د):"لا".

(2)

(ق): "لانتهائه".

(3)

(1/ 11).

ص: 431

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللئيمِ يَسُبُّني

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِيْني"

(1)

ومعنى قوله: "لا تَوْقيت فيه" أي: لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس، فجرى مجرى النكرة، واستشهاده بالبيت معناه: أنَّ الفعل نكرة وهو "يسبني"، وقد أوقعه صفةً للئيم المعرفة باللام، لكونه غير معين، فهو في قوَّة النكرة، فجاز أن يُنعت بالنكرة، فكأنه قال: على لئيمٍ يسبني، وهذا استدلال ضعيف، فإن قوله:"يسبني" حال منه لا وصف، والعامل فيه فعل المرور، والمعنى: أمرُّ على اللئيم سابًّا لي، أي: أمرُّ عليه في هذه الحال، فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه.

الجواب الثالث: -وهو الصحيح- أن "غيرًا" هاهنا قد تعرَّفت بالإضافة، فإن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها وعمومها في كلِّ مغايرٍ للمذكور، فلا يحصل بها تعيين، ولهذا تجري صفة على النكرة، فتقول: "رجلٌ غيرُك يقول كذا ويفعل

(2)

كذا"، فتجري صفةً. للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة، ومعلوم أن هذا الإبهام يزول بوقوعها بين متضادَّين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني، فيتعين بالإضافة، ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال:

نَحْنُ بَنُو عَمْروِ الهِجَان الأَزْهَرِ

النَّسَبُ المَعْرُوفُ غَيْرُ المُنْكَرِ

(3)

(1)

قال في "مشاهد الإنصاف": (4/ 126 - بذيل الكشاف): "لرجلٍ من بني سلول". وهو من شواهد "الكتاب"، وانظر "الخزانة":(1/ 357)، و"الكامل":(2/ 983). ونسبه في "الأصمعيات": (ص / 126) لشمر بن عمرو الحنفي. وفي (ظ ود): "

ثم أقول: ما

".

(2)

ليست في (ق).

(3)

البيت في "فصل المقال شرح كتاب الأمثال": (1/ 136) للبكري.

ص: 432

أفلا تراه أجرى "غيرُ المنكرِ" صفة على النسب، كما أجرى عليه "المعروف"؛ لأنهما صفتان معينتان، فلا إبهام في "غير"؛ لأن مقابلها "المعروف" وهو معرفة، وضده "المنكر" متميِّز متعيِّن كتعيُّن المعروف، أعني: تعيين الجنس.

وهكذا قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فالمنْعَم عليهم هم غير المغضوب عليهم، فإذا كان الأول معرفة كانت "غير" معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم، فاكتسبت منه التعريف.

وينبغي أن تتفطن هاهنا لنكتة لطيفة في "غير" تكشفُ لك حقيقة أمرها، وأين تكون معرفة وأين تكون

(1)

نكرة؛ وهي: أن "غيرًا" هي نفس ما تكون تابعة له وضِدّ ما هي مضافة إليه، فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادَف على مرادفه، فإن المعروف هو تفسير "غير المنكر"، والمُنْعَم عليهم هم "غير المغضوب عليهم"، هذا حقيقة اللفظ، فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة، وإن أضيفت كما إذا قلت:"رجل غيرك فعل كذا وكذا"، وإذا كان متبوعها معرفةً لم تكن إلا معرفة، كما إذا قلت:"المحسن غيرُ المسيء محبوب معَظَّم عند الناس"، و"البَرُّ غير الفاجر مهيب"، و"العادل غير الظالم مجاب الدعوة"، فهذا لا تكون فيه "غير" إلا معرفة، ومن ادعى فيها التنكير هنا غَلِط وقال مالا دليلَ عليه؛ إذ لا إبهام فيها بحال، فتأمله.

فإن قلت: عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر، وهي: أنها

(1)

"معرفة وأين تكون" سقطت من (ظ ود).

ص: 433

بمعنى مغاير ابسم فاعل من "غَايَر"، كـ "مِثْل" بمعنى مماثل، و"شِبْه" بمعنى مُشَابه، وأسماء الفاعلين لا تتعرَّف بالإضافة وكذا ما نَاب عنها.

قلتُ: اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة

(1)

إذا أضيف: إلى معموله؛ لأن الإضافة في تقدير الانفصال، نحو:"هذا ضاربٌ زيدًا غدًا"، وليست "غير" بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في: المفعول حتى يقال: الإضافة في تقدير الانفصال، بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات، ألا ترى أن قولك:"غيرك" بمنزلة قولك: "سِواك"، ولا فرق بينهما، والله أعلم.

فصل

وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل، مع أن الأول في نِيَّةِ الطَّرْح؟.

فالجواب: أن قولهم: "الأول في البدل في نية الطرح"

(2)

كلامٌ لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه، بل البدل نوعان؛ نوع يكون الأول فيه في نية الطرح، وهو بدل البعض من الكلِّ وبدل الاشتمال؛ لأن المقصود هو الثاني لا الأول، وقد تقدم. ونوعٌ لا يُنْوى فيه طرح الأول، وهو بدل الكل من الكل، بل يكون الثاني فيه بمنزلة التكرير والتوكيد، وتقوية النسبة، مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه في الفائدة المتجدِّدة الزائدة على الأول، فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار

(1)

من قوله: "وكذا ما ناب" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

(ق): "الاطراح".

ص: 434

بحصول وصف المبدل للمبدل منه، فإنه لما قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ، فكأنَّ الذهن طلب [معرفة ما إذا كان]

(1)

هذا الصراط مخِتصًّا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله تعالى، فقال:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا كما إذا دللت رجلًا على طريقٍ لا يعرفها، وأردتَ توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها، فأنت تقول له: هذه هي الطريق الموصلة إلى مقصودك، ثم تزيد ذلك عنده توكيدًا وتَقْوِية، فتقول: وهي الطريق التي يسلكها الناسُ والمسافرون وأهلُ النجاة.

أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين

(2)

قدرًا زائدًا على وصفك لها بأنها: طريق مُوْصِلة وقريبة، سهلة مستقيمة، فإن النفوس مجبولة على التأسِّي والمتابعة، فإذا ذُكِرَ لها من تتأسى به في سلوكها أَنِسَت واقتحمتها فتأمله.

فصل

وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير "المغضوب عليهم" باليهود، و"الضالين" بالنصارى

(3)

مع تلازم وَصْفي الغضب والضلال؟.

فالجواب أن يقال: هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى، فإنَّ كلَّ مغضوبٍ عليه ضالّ وكل ضال مغضوب عليه، لكى ذَكَرَ كلَّ طائفةٍ بأشْهر وصفيها وأحقِّهما به

(1)

الزيادة من "المنيرية".

(2)

(ق): "الهادين".

(3)

(ق): "والنصارى بالضالين".

ص: 435

وألصقه بها، فإن ذلك هو الوصف الغالب عليها، وهذا مُطابق لوصف الله اليهودَ بالغضب في القرآن، والنصارى بالضلال، فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع.

أما: اليهود؛ فقال تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} [البقرة: 90] وفي تَكْرار هذا الغضب هنا أقوال:

أحدها: أنه غَضَب متكرِّر في مقابلة تكرُّر كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. والبغي عليه ومحاربته، فاستحقوا بكفرهم غضبًا، وبالبغي والحرب. والصدِّ عنه غضبًا آخر. ونظيره قوله تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] فالعذاب الأول بكفرهم، والعذاب الذي زادهم إياه بصدِّهم الناسَ عن

(1)

سبيله.

القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء، والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح

(2)

.

والقول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح، والغضب الثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

والصحيح في الآية: أن التَّكْرار هنا ليس المراد به التثنية التي تَشْفع الواحد، بل المراد غضبٌ بعد غضبٍ، بحسب تكرُّر كفرهم، وإفسادهم، وقتلهم الأنبياء، وكفرهم بالمسيح، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، ومعاداتهم لرسل الله،

(1)

من قوله في الآية: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

} إلى هنا ساقط من (ق ود).

(2)

القول الثاني سقط من (د).

ص: 436

إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبًا على حِدَته. وهذا كما في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}

(1)

[الملك: 3 - 4] أي كرَّةً بعد كرَّة، لا مرتين فقط.

وقَصد التعدد في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] أظهرِ، ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة، وتحريفَهمِ وتبديلَهم يستدعي غضبًا، وتكذيْبَهم الأنبياء يستدعي غضبًا آخر، وقتلَهم إياهم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبهم المسيحَ، وطلبَهم قتلَه، ورميهم أُمَّه بالبهتان العظيم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبَهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستدعي غضبًا، ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبًا، وصدَّهم عن أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبًا، فهم الأمَّةُ الغضبية أعاذنا الله من غضبه، فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر، فكانوا أحق بهذا الاسم

(2)

والوصف من النصارى. وقال تعالى في شأنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] فهذا غضبٌ مشفوع باللعنة والمسخ وهو من أشدَّ ما يكون من الغضب. وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80].

(1)

في الأصول: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} وأكملنا الآية لدلالة السياق.

(2)

ليست في (ق).

ص: 437

وأما وصف النصارى بالضلال؛ ففي

(1)

قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77] فهذا خطاب للنصارى؛ لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 72 - 77] فوصفهم بأنهم قد ضلُّوا أولًا ثم أضلوا كثيرًا، لهم أتباعهم، فهذا قبل مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلُّوا أتباعهم، فلما: بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وسلم ازدادوا ضلالًا آخر بتكذيبهم له. وكفرهم به، فتضاعف الضلالُ في حقِّهم، هذا. قولُ طائفةٍ، منهم الزمخشري

(2)

وغيره، وهو ضعيف!! فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع، فوصفهم بثلاث صفات؛ أحدها: أنهم قد ضلُّوا من قبلهم؛ والثاني: أنهم أضلُّوا أتباعهم، والثالث: أفهم ضلوا عن سواء السبيل، فهذه صفات

(3)

لأسلافهم الذين

(4)

نهى هؤلاء عن اتباع. أهوائهم، فلا يصح أن يكون وصفًا للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم المنهيُّون أنفسهم لا المنهى عنهم، فتأمله.

وإنما سِرُّ الآية: أنها اقتضت تكرر الضلال في النصارى ضلالًا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحقِّ، وهي نظير الآية التي تقدمت في تَكَرر الغضب في حق اليهود، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من

(1)

(ق): "وهي".

(2)

في "الكشاف": (1/ 357).

(3)

من قوله: "أحدها

" إلى هنا ساقط من (ق).

(4)

(ق): "للأسلاف الذي".

ص: 438

اليهود. ووجه تكرر هذا الضلال: أن الضَّال قد يضل عن نَفس

(1)

مقصُوْدِه، فيكون ضالًّا

(2)

فيه، فيقصد ما لا ينبغي أن يُقْصَد، ويعبد من لا ينبغي أن يُعْبَد

(3)

، وقد يُصيب مقصودًا حقًّا لكن يضل في طريقِ طلبِه والسبيلِ الموصلة إليه، فالأول: ضلال في الغاية. والثاني: ضلالَ في الوسيلة، ثم إذا دَعَا غيرَه إلى ذلك فقد أضلَّه.

وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة:

فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه، وزعموا أن إلههم بَشَر يأكل ويشرب ويبكي، وأنه قُتِل وصُلِب وصُفِع، فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به.

وضلوا عن السبيل الموصلة إليه، فلا اهتدوا إلى المطلوب، ولا إلى الطريق الموصل إليه.

ودعوا أتباعَهم إلى ذلك، فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرًا، فكانوا أدخلَ في الضلالِ من اليهود. فوُصِفُوا بأخصِّ الوصفين.

والذي يحقق ذلك: أن اليهود إنما أُتوا من فساد

(4)

الإرادة والحسد، وإيثار ما كان لهم على قومهم من السُّحْت والرياسة فخافوا أن يَذْهب بالإسلام، فلم يؤتوا من عدم العلم بالحقِّ، فإنهم كانوا يعرفون أن محمدًا رسول الله كما يعرفون أبناءَهم، ولهذا لم يوبِّخهم الله -تعالى- ويقرِّعهم إلا بإرادتهم الفاسدة من الكِبْر والحسد وإيثار

(1)

(ظ ود): "أن الضلال قد نفس"!.

(2)

(ق): "ضلال".

(3)

(ق ود): "ويعبد ما لا ينبغي له أن يعبده". و"له" من (ق) وحدها.

(4)

(ق): "نفس".

ص: 439

السحت والبغي وقتل الأنبياء، ووبَّخَ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق، فالشقاءُ والكفر ينشأ من عدمِ معرفةِ الحقِّ تارةً، ومن عدمِ إرادتِهِ والعملِ [به] أُخْرى، ويتركَّبُ منهما، فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غيره عليه بعد معرفته، فلم يكن ضلالًا محضًا؛ وكفر النصارى نشأَ من جهلهم بالحقِّ وضلالهم فيه، فإذا تبيَّن لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمةَ الغضبية وبقوا مغضوبًا عليهم ضالين.

ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبدُ أحوجَ شيء إلى أن يسأل الله -تعالى- كلَّ وقتٍ أن يهديه الصراط المستقيم: تعريفًا وبيانًا

(1)

، وإرشادًا وإلهامًا، وتوفيقًا وإعانة، فيعلمه ويعرفه؛ ثم يجعله مريدًا له قاصدًا لاتباعه، فيخرج بذلك عن طريقة "المغضوب عليهم" الذين عَدَلوا عنه على عَمْد وعِلْم، و"الضالين" الذين عدلوا عنه عن جَهْلٍ وضلال.

وكان السلف يقولون

(2)

: "من فسدَ من علمائنا ففيه شَبَه من اليهود، ومن فَسَد من عُبَّادنا ففيه شَبَه من النصارى"، وهذا كما قالوه؛ فإن من فَسَد من العلماء فاستعملَ أخلاق اليهود من تحريف الكَلِم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه، وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقِسْط

(1)

(ق): "وثباتًا".

(2)

قاله سفيان بن عُيينة، انظر "البداية والنهاية":(14/ 821) وذكره ابن تيمية في كتبه كثيرًا معزوًّا إلى ابن عيينة وغيره.

ص: 440

من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكِبْر والليّ والكتمان والتحريف

(1)

والتحيُّل على محارم الله، وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شَبَهُه باليهود ظاهر.

وأما من فَسَد من العُبَّاد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله، وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلةَ الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوعٍ من الحُلول أو الاتحاد فشَبَهُه بالنصارى ظاهر.

فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشَّبَهَين غايةَ البعد، ومن تصوَّر الشَّبَهَيْن والوَصْفين وعلم أحوالَ الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه، وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنَّفَس؛ لأن غاية ما يُقَدَّر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفَوْته شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يهدينا الصراطَ المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين، إِنه قريبٌ مجيبٌ.

فصل

وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم "المغضوب عليهم" على "الضالين"؛ فلوجوه عديدة:

أحدها: أنهم مقدَّمون عليهم بالزمان.

الثاني: أنهم كانوا هم الذين يَلُون النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين، فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه،

(1)

ليست في (ق).

ص: 441

ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن أكثر من خطاب النصارى، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.

الثالث: أن اليهود أغلظ كفرًا من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة، فإن كفرهم عن عِناد وبَغْي كما تقدم، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أهم وأحق بالتقديم، وليس عقوبة من جَهِل كعقوبة من عَلِم وعاند.

الرابع: -وهو أحسنها- أنه تقدم ذِكْر المُنْعَم عليهم، والغضبُ ضد الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يُذكر فيها الشيء ومقابله، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم "الضالين"، فقولك:"الناس مُنْعَم عليه ومغضوب عليه فكن من المُنْعَم عليهم"، أحسن من قولك:"مُنْعَم عليه وضال".

فصل

وأما المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي

(1)

الضالين باسم الفاعل، فجوابها ظاهر؛ فإن أهل الغضب من غَضِب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوبٌ عليهم، وأما أهل الضلال؛ فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا

(2)

الضلال واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال: ولا المُضَلِّين، مبنيًّا للمفعول، لما في رائحته من إقامة عذرهم، وأنهم لم

(1)

(ق): "ودون".

(2)

(ق): "وأبرزوا".

ص: 442

يكتسبوا الضلالَ من أنفُسِهم

(1)

بل فُعِلَ فيهم، ولا مُسْتراح في هذا للقدرية، فإنّا نقول: إنهم هم الذين ضلوا، وإن كان الله أضلهم، بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلًا إلا على جهَة المجاز لا الحقيقة، فتضمنت الآية الردَّ عليهم كما تضمن قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} الرد على القدرية، ففي الآية إبطال قول الطائفتين، والشهادةُ لأهل الحق أنهم هم المصيبون، وهم المثبتون للقدر توحيدًا وخلقًا، والقدرةِ لإضافة أفعالِ العبادِ إليهم عملًا وكسبًا، وهو مُتَعَلَّق الأمر والنهي

(2)

، كما أن الأول مُتَعَلَّق الخلق والقدرة

(3)

، فاقتضت الآيةُ إثبات الشَّرْع والقَدَر والمعاد والنبوَّة، فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه، فالمُنْعَم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا، وهداية أتباعهم إنما يكون على أيديهم، فاقتضت إثبات النبوة بأقربِ طريقٍ وأبينها وأدلِّها على عموم الحاجة وشدَّة الضرورة إليها، وأنَه لا سبيل للعبد أن يكون من المُنْعَم عليهم إلا بهداية الله له، ولا تُنال هذه الهداية إلَّا على أيدي الرُّسل، وأن هذه الهداية لها ثمرة، وهي: النعمة التامة المطلقة في دار النعيم، ولخلافها ثمرة، وهي: الغضب المقتضي للشَّقاءِ الأبدي، فتأمل كيف اشتملت هذه الآية -مع وجازتها واختصارها- على أهمِّ مطالب الدين وأجلِّها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

فصل

وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي ما فائدة زيادة "لا" بين المعطوف

(1)

"الضلال" من (ظ ود)، و"أنفسهم" من (ق).

(2)

في "المنيرية": "العمل".

(3)

من قوله: "لإضافة أفعال

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 443

والمعطوف عليه؟ ففي ذلك أربع فوائد:

أحدها: أن ذِكْرها تأكيد للنفي الذي تضمَّنه "غير"، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عُطِفَ عليها بـ "لا" مع "الواو" فهو في قوة:"لا المغضوب عليهم ولا الضالين"، أو:"غير المغضوب عليهم وغير الضالين".

الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كلِّ نوع بمفرده، فلو لم يذكر "لا" وقيل:"غير المغضوب عليهم والضَّالين"، أَوْهَمَ أن المراد ما غايَر المجموعَ المركبَ من النوعين لا ما غايَر كلَّ نوع بمفرده، فإذا قيل:"ولا الضالين"، كان صريحًا في أن المراد: صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء. وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيدٌ وعَمْرو، فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كلِّ واحد منهما بمفرده، فإذا قلت:"ما قام زيد ولا عَمْرو"، كان صريحًا في تسليط النفي على كلِّ واحدٍ منهما بمفرده

(1)

.

الفائدة الثالثة

(2)

: رفع توهم أن "الضالين" وصف للمغضوب عليهم، وأنهما صنف واحد وُصِفُوا بالغضب والضلال، ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضِها على بعض، نحو قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} [المؤمنون: 1 - 3] إلى آخرها، فإن هذه صفات للمؤمنين، ومثل قوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3] ونظائره،

(1)

من قوله: "بمفرده فإذا

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

لم يذكر المؤلف الفائدة الرابعة.

ص: 444

فلما دخلت "لا" عُلِم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر، وكانت "لا" أولى بهذا المعنى من "غير" لوجوه؛ أحدها: أنها أقل حروفًا، الثاني: التفادي من تَكْرار اللفظ، الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بـ "غير" مرتين من غير فَصْل إلا بكلمةٍ مفردة، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان، الرابع: أن "لا" إنما يُعْطَف بها بعد النفي، فالإتيان بها مُؤْذِن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم، كما نُفِيَ عنهم الضلال، و"غيرُ" وإن أفهمت هذا فـ "لا" أدخلُ في النفي منها، وقد عُرِف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة، وهي: أن "لا" إنما يُعْطَف بها في النفي.

فصل

وأما المسألة السابعة عشرة: وهى أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات؛ فاعلم أن أنواع الهداية أربعة:

أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق، المذكورة في قوله:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه ت 50] أي: أعطى كلَّ شيء صورتَه التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كلَّ عضو شكلَه وهيأتَه، وأعطى كل موجود خلقَه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه الهداية تعمُّ هِداية

(1)

الحيوان المتحرِّك بإرادته إلى جَلْب ما ينفعه ودَفْع ما يضره، وهداية الجماد المسخَّر لما خُلِق له، فله هداية تليق به، كما أن لكلِّ نوع من الحيوان هداية تليق به، وإن اختلفت أنواعها وصورها

(2)

، وكذلك لكل عضو هدايةٌ تليقُ به،

(1)

"تعم هداية" سقطت من (ظ ود).

(2)

(ق): "وضروبها".

ص: 445

فهدى الرِّجْلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيَّات، وكلَّ عضو لما خُلِقَ له، وهدى الزوجين من كلِّ حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه. ومراتب هدايته -سبحانه- لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين.

وهدى النَّحْل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومن الأبنية، ثم تسلك سبل ربها مذلَّلة لها لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها، وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة

(1)

البناء.

ومن تأمل بعضَ هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسرِ نظر، وأوَّلِ وهلة، وأحسنِ طريق وأخصرِها، وأبعدِها من كلِّ شبهة، فإن من لم يُهْمِل هذه الحيوانات سُدًى ولم يتركها مُعَطَّلة، بل هداها

(2)

إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يتركَ النوعَ الإنساني -الذي هو خلاصة الوجود الذي كرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه- مهملًا وسُدًى معطَّلًا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته، بل يتركه معَطَّلًا لا يأمره ولا ينهاه، ولا يُثيبه ولا يعاقبه، وهل هذا إلا منافٍ لحكمته، ونسبةٌ له إلى ما لا يليق بجلاله؟! ولهذا أنكر ذلك على

(3)

من زعمه ونزَّه نفسه عنه، وبيَّنْ أنه يستحيل نِسْبة ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه،

(1)

سقطت من (ق).

(2)

"بل هداها" سقطت من (د).

(3)

(ق): "أنكره على".

ص: 446

فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 - 116] فنزَّه نفسَه عن هذا الحسبان، فدلَّ على أنه مستقر بطلانه في الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل، وأنه مما تظاهر عليه العقلُ والشرعُ، كما هو أصحُّ الطريقين في ذلك، ومن فهم هذا فهم سِرَّ

(1)

اقتران قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38] بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)} [الأنعام: 37] وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وأن من لم يُهْمل أمرَ كلِّ دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه، بل جعلها أُممًا وهداها إلى غاياتها ومصالحها، كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم؟! فهذه أحدُ أنواع الهداية وأعمُّها.

النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لِنَجْدَي الخير والشر، وطريقي النجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام، فإنها سبب وشرط لا موجب، ولهذا ينتفي الهدى معها، كقوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] أي: بيَّنا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا. ومنها قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].

النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام، وهى الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلَّف عنها، وهى المذكورة في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ

(1)

(ظ ود): "عُسر" وهو خطأ.

ص: 447

وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وفي قوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِل فلا هَادِيَ لَه"

(1)

، وفي قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فنفى عنه هذه الهداية وأثبتَ له هداية الدعوة والبيان في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].

النوع الرابع: غاية هذه الهداية، وهى الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] وقال أهل الجنة فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقال تعالى عن أهل النار:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22 - 23].

إذا عُرِفَ هذا؛ فالهداية المسؤولة في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم"، إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة

(2)

خاصة، فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام.

فإن قيل: كيف يَطْلب التعريف والبيان

(3)

وهو حاصل له؛ وكذلك الإلهام والتوفيق؟.

قيل: هذه هى المسألة الثامنة عشرة: وقد أجاب عنها من أجاب

(1)

قطعة من حديث خطبة الحاجة، وقد جاءت من حديث ستة من الصحابة.

انظر تخريجها في رسالة مفردة للشيخ الألباني رحمه الله: (ص/ 12 - 30).

(2)

سقطت من (ظ ود).

(3)

من قوله: "والإرشاد

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 448

بأن المراد. التثبيتُ ودوامُ الهداية، ولقد أجاب وما أجاب! وذكرَ فرعًا لا قوام له بدون أصله، وثمرةً لا وجود لها بدون حاملها! ونحن نبين بحمد الله أن الأمر فوق ما أجاب به وأعظم من ذلك بحول الله.

فاعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور، وهو محتاج إليها حاجة لا غِنَى له عنها.

الأمر الأول: معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبًا للرب تعالى مَرْضِيًّا له فيؤثره، وكونه مبغوضًا

(1)

له مسخوطًا له فيجتنبه، فإن نَقَضَ هذا العلم والمعرفة شيءٌ نَقَضَ الهداية التامةِ بحسبِه.

الأمر الثاني: أن يكون مريدًا لجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازمًا عليه، ومريدًا لترك جميع ما نهى الله عنه، عازمًا على تركه بعد خُطُوره

(2)

بالبال مفصَّلًا، وعازمًا على تركه من حيث الجملة مجملًا، فإن نَقَص من إرادته لذلك شيء نَقَصَ من الهدى التام بحسب ما نَقَص من الإرادة.

الأمر الثالث: أن يكون قائمًا به فعلًا وتركًا، فإن نَقَص من فعله شيء نَقَص من هداه بحسبه. فهذه ثلاثةٌ هي أصولٌ في الهداية، ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها:

أحدها: أمورٌ هُدِيَ إليها جملةً ولم يَهْتد إلى تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها.

الثاني: أمور هُدِيَ إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام

(1)

في (ظ): "مغضوبًا" ومحرفة في "د".

(2)

(ق): "حضوره".

ص: 449

الهداية فيها لتكمل له هدايتها

(1)

.

الثالث: الأمور التي هُدِيَ إليها تفصيلًا من جميع وجوهها، فهو محتاج إلى الاستمرار على الهداية والدوام عليها.

فهذه ستة أصول تتعلق بما يُعْزم على فعله وتركه، ويتعلق بالماضي [أمر سابع]

(2)

، وهو: أمورٌ وقعت منه على غير

(3)

جهة الاستقامة، فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها، وإذا كان كذلك فإنما يقال: كيف يَسألُ الهدايةَ وهى موجودة له، ثم يُجَاب عن ذلك: بأن المراد التثبيت والدوام عليها. إذا كانت هذه المراتب الست حاصلة له بالفعل، فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال

(4)

تثبيت ودوام، فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه، ومالا يريده من رشده أكثر مما يريده، ولا سبيلَ له إلى فعله: إلا بأن يخلق الله فاعِليته، فالمسؤول هو أصلُ الهداية على الدوام تعليمًا وتوفيقًا، وخَلْقًا للإرادة فيه، وإقدارًا له وخلقًا لفاعليته وتثبيتًا. له على ذلك، فعُلِمَ أنه ليس أعظم ضرورةً منه إلى سؤال الهداية: أصلها وتفصيلها، علمًا وعملًا، والتثبيت عليها، والدوام إلى الممات.

وسِرُّ ذلك: أن العبدَ مفتَقِرٌ إلى الهداية في كلِّ نَفَسٍ، في جميع ما يأتيه ويذره، أصلًا وتفصيلًا وتثبيتًا، ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام، فليس له أنفع ولا هُوَ إلى شيءٍ أحوج من سؤال الهداية، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يثبِّت قلوبَنا على دينه.

(1)

"لتكمل له هدايتها" ليست في (ق).

(2)

(ق وظ): "أمرًا شائعًا" و (د): "أمرًا سابعًا".

(3)

سقطت من (ق).

(4)

ليست في (ق).

ص: 450

فصل

وأما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ضمير جمع؛ فقد قال بعض الناس في جوابه: إن كلَّ عضو من أعضاء العبد، وكلَّ حاسَّةٍ ظاهرة وباطنة مفتقِرَة إلى هداية خاصة به، فأتى بصيغة الجمع تنزيلًا لكلِّ عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه.

وعرضتُ هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحَه- فاستركَّه واستضْعَفَه جدًّا ولم يرضه

(1)

، وهو كما قال، فإن الإنسان اسم للجملة لا لكلِّ جزءٍ من أجزائه وعضو من أعضائه، والقائل إذا قال:"اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني"، سائلٌ من الله ما يحصل لجملته ظاهِرِه وباطِنِه، فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألةً تخصه يُفْرِد لها لفظة.

فالصواب أن يقال: هذا مطابق لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم، فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب -تعالى- وإقرار بالفاقة إلى عبودية واستعانته وهدايته، فأتى فيه بصيغة ضمير الجمع، أي: نحن معاشر عبيدك مُقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظَّم شأنه:"نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك"، فيكون هذا أحسن وأعظم موقعًا عند الملك من أن يقول:"أنا عبدك ومملوكك"، ولهذا لو قال:"أنا وحدي مملوكك"، استدعى مَقْته، فإذا قال: "أنا وكل من في البلد

(1)

من (ق).

ص: 451

مماليكك وعبيدك

(1)

وجُنْد لك"؛ كان أعظم وأفخم؛ لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدًّا وأنا واحد منهم، فكلُّنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك، فقد تضمَّن ذلك من الثناء على الرب بِسَعَة مجده، وكثرة عبيده، وكثرة سائليه. الهداية ما لا يتضمنه لفظَ الإفراد، فتأمله. وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201] ونحو دعاء آخر البقرة، وآخر آل عمران وأولها، وهو أكثر أدعية القرآن.

فصل

وأما المسألة العشرون: وهي ما هو الصراط المستقيم؟.

فنذكر فيه قولًا وجيزًا، فإن الناس قد تنوَّعت عباراتهم: فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقتُه شيءٌ واحد، وهو: طريق الله الذي يرتضيه لعباده، موصلًا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطُّرُق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلًا لعباده إليه

(2)

، وهو: إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحدًا في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحدًا في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول.

وهذا معنى قول بعض العارفين: "إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين؛ صِدْق محبته وحُسْن معاملته"، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأيُّ شيءٍ فُسِّر به الصراط

(1)

(ق وظ): "وعبيد" والمثبت من (د).

(2)

العبارة في (ظ ود) فيها سقط واضطراب، والمثبت من (ق) مع بعض الإصلاح.

ص: 452

فهو داخل في هذين الأصلين، ونُكْتَةُ ذلك وعَقْدُه: أن تحبه بقلبك كلِّه وتُرْضيه بجهدك كلِّه، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بالتحقُّق بشهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بالتحقُّق بشهادة أن محمدًا رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعثَ اللهُ به رسلَه والقيام به.

فَقُل ما شئتَ من العبارات التي هذا أحسنها وقُطْب رَحَاها، وهي معنى قول من قال:"علومٌ وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مِشْكاة النبوة"، ومعنى قول من قال:"متابعة رسول الله ظاهرًا وباطنًا عِلمًا وعَمَلًا"، ومعنى قول من قال:"الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره"

(1)

.

وأما ما عدا هذا

(2)

من الأقوال، كقول من قال:"الصلوات الخمس"، وقول من قال:"حب أبي بكر وعمر"، وقول من قال:"هو أركان الإسلام الخمس التي بُنِيَ عليها"، فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع، لا تفسير مُطابق له، بل هى جزء من أجزائه، وحقيقَتُهُ الجامعةُ ما تقدَّم

(3)

، والله أعلم.

فائدة

(4)

في ذكر بدل البعض من الكل، وبدل المصدر من الاسم، وهما

(1)

انظر هذه الأقوال وغيرها في "تفسير الطبري": (1/ 103 - 105)، و"الدر المنثور":(1/ 40 - 41).

(2)

(ق): "عداها".

(3)

وانظر "مجموع الفتاوى": (13/ 336).

(4)

"نتائج الفكر": (ص / 307).

ص: 453

جميعًا يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من: الشيء، وهما لعين واحدة، إلا أن البدلَ في هذين الموضعين لابُد من إضافته إلى ضمير المبدل منه، بخلاف بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة.

أما اتفاقهما

(1)

في المعنى؛ فإِنك إذا قلتَ: "رأيتُ القومَ أكثرهم أو "نصفهمِ"، فإنما تكلَّمتَ بالعموم وأنت تريدُ الخصوص، وهو كثير شائع، فأردتَ: رأيت بعض القوم، وجعلت "أكثرهم" أو "نصفهم" تبيينًا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم، كما كان الاسمُ المبدلُ مضافًا إلى القوم، فقد آل الكلامُ إلى أنك أبدلت شيئًا من شيء وهما لعين واحدة.

وكذلك بدل المصدر من الاسم؛ لأن الاسم من حيث كان جوهرًا لا يتعلَّق به المدح والذم، والإعجاب والحب والبغض، إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به، فإذا قلتَ:"نفعني عبد الله" عُلِم أن الذي نفعك منه صفةٌ وفعل من صفاته وأفعاله لا ذاته، ثم بيَّنت ذلك الوصف والفعل، فقلت:"علمه أو إرشاده: أو رُؤيته" فأضفتَ ذلكَ إلى ضميرِ الاسمِ كما كان الاسم المبدلُ منه مضافًا إليه في المعنى، فصار التقدير:"نفعني صفةُ زيد أو خَصْلةٌ من خصاله"، ثم بينتَها بقولك:"علمه أو إحسانه أو لقاؤه"، فآل المعنى إلى بدل الشيءِ من الشيءِ، وهما لعينٍ واحدة.

وإذا تقرر هذا فلا يصحُّ في بدل الاشتمال أن يكون الثاني جوهرًا؛ لأنه لا يبدل جوهر من عَرَض، ولابد من إضافته إلى ضمير

(1)

في الأصول: "اتفاقهم".

ص: 454

الاسم؛ لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الاسم في التقدير، والعجب من الفارسيِّ يقول في قوله تعالى:{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)} [البروج: 5] أنها بدل من (الأخدود) بدل الاشتمال، والنار جوهر قائم بنفسه، ثم ليست مضافة إلى ضمير (الأخدود)، وليس فيها شرط من شرائط الاشتمال! وذَهَل أبو علي عن هذا، وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو، وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنه قال:"قتل أصحاب الأخدودِ، أخدودِ النار ذات الوقود"، فيكون من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، كما قال الشاعر

(1)

:

* رَضِيْعَي لِبَانٍ ثَدْىِ أُمٍّ تَحَالَفا *

على رواية الجر في "ثدي أم" أراد: لبان ثدي، فحذف المضاف.

فائدة بديعة

(2)

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].

{حِجُّ الْبَيْتِ} مبتدأ، وخبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله:{عَلَى النَّاسِ} لأنه وجوب، والوجوب يقتضي "على"، ويجوز أن يكون في قوله:{وَلِلَّهِ} لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير،

(1)

هو: الأعشى ميمون قيس، "ديوانه":(ص/ 225). وعجزه: * بأَسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لا نتفرَّق *

(2)

"النتائج": (ص/ 309).

ص: 455

وكان الأحق

(1)

أن يكون {وَلِلَّهِ} ، ويرجح الوجه الأول بأن يقال: قوله: "حج البيت على الناس" أكثر استعمالًا في باب الوجوب من أن يقال: حج البيت لله، إي: حقٌّ واجب لله، فتأمله.

وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول -وليس بخبر- فائدتان:

إحداهما: أنه اسم للمُوْجِب للحج، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب، فتضمنت الآية ثلاثةَ أمور مرتبة بحسب الوقائع

(2)

: أحدها: الموجِب لهذا الفرض فبُدئ بذكره. والثاني: مؤدى الواجب وهو المفتَرَض عليه، وهم الناس. والثالث: النسبة والحق المتعلق به إيجابًا وبهم وجوبًا وأداءً وهو الحج.

والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان اسمًا لله سبحانه وجب الاهتمام بتقديمه تعظيمًا لحرمةِ هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفًا من تضييعه؛ إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره.

وأما قوله "من" فهي بدل، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال:"أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلًا"، وهذا القول يضعف من وجوهٍ:

منها: أَنَّ الحج فرض عين، ولو كان معنى الآية ما [ذكروه] لأفهم فرض الكفاية؛ لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذِممُ غيرهم؛ لأن المعنى يؤول إلى: ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم،

(1)

(ق): "فكان الأحسن".

(2)

(د): "الواقع".

ص: 456

فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبًا على غير المستطيعين، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض عَيْن على كلِّ أحدٍ، حجَّ المستطيعون أو قعدوا، ولكن الله -سبحانه- عَذَر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه، فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه، وليس حجُّ المستطيعين بمُسْقِطٍ للفرض عن العاجزين.

وإن أردت زيادة إيضاح، فإذا قلتَ:"وجبٌ على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد"، فإذا جاهدَتْ تلك الطائفةُ انقطعَ تعلق الوجوب عن غيرهم.

وإذا قلتَ: "واجبٌ على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع"، كان الوجوب متعلقًا بالجميع، وعُذْر العاجز بعجزه، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال:"ولله حج البيت على المستطيعين"، هذه النكتة البديعة، فتأملها.

الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل -إذا وُجِدَ- أولى من إضافته إلى المفعول، ولا يُعْدل عن هذا الأصل إلا بدلَيل منقول، فلو كان "مَنْ" هو الفاعل لأضيف المصدر إليه، فكان يقال:"ولله على الناس حجُّ من استطاع"، وحَمْله على باب:"يعجبني ضَرْب زيدًا عمرو"، مما يُفْصَل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حَمْلٌ على المكثور

(1)

المرجوح، وهي قراءة ابن عامر:{قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}

(2)

[الأنعام: 137]، فلا يُصَار إليه.

(1)

(ق): "المكتوب".

(2)

انظر: "النشر": (2/ 263 - 265) لابن الجزري.

ص: 457

وإذا ثبت أن "من" بدل بعض من كل، وجبَ أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى الناس، كأنه قيل:"من استطاع منهم"، وحَذْف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يَحْسُن، وحَسَّنَه هاهنا أمور:

منها: أن "من" واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه، فارتبطت به.

ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت الصِّلة أعم لقبح حذف الضمير العائد. ومثال ذلك: إذا قلتَ: "رأيت إخوتكَ من ذهب إلى السوق"، تريدُ: من ذهب منهم؛ لكان قبيحًا؛ لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة، وكذلك لو قلت:"البس الثيابَ ما حَسُن وجَمُل"

(1)

، تريد: منها، ولم تذكر الضمير؛ لكان أبعد في الجواز؛ لأن لفظ "ما" أعم من [لفظ] الثياب

(2)

، و [حق] باب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه، فإذا كان أعمَّ وأضفته إلى ضمير، أو قيدته بضمير يعود إلى الأول، ارتفع العموم وبقي الخصوص.

ومما حَسَّنَ حذف الضمير

(3)

في هذه الآية -أيضًا مع ما تقدم- طولُ الكلام بالصلة والموصول.

وأما المجرور من قوله "إليه" فيحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون في موضع حال من "سبيل"، كأنه نعتُ نكرةٍ قُدِّمَ عليها؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل.

(1)

"النتائج": "وكمل".

(2)

في الأصول: "لأن لفظ ما أحسن أعم من الثياب" والمثبت من "النتائج".

(3)

(ق): "المضاف".

ص: 458

والثاني: أن يكون متعلقًا بسبيل.

فإن قيل: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟.

قيل: "السبيل" لما كان هاهنا عبارة عن الموصِّل إلى البيت من قوة وزاد ونحوهما، كان فيه رائحة الفعل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، فصلح تعلق المجرور به، واقتضى حُسْن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير؛ لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وهم يقدِّمون في كلامهم ما هم به أهمُّ، وببيانه أعنى.

هذا تعبير السُّهيلي

(1)

، وهو بعيدٌ جدًّا! بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين، ولا يليقُ بالآية سواه، وهو الوجوب المفهوم من قوله:{عَلَى النَّاسِ} ، أي: يجب لله على الناس الحج، فهو حق وواجب لله. وأما تعليقه بـ "السبيل" أو جعله حالًا منها ففي غايةِ البُعْد، فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية، وهذا كما يقول: لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة والصيام

(2)

.

ومن فوائد الآية وأسرارها: أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر، أو بلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم، نحو:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وفي الحج أتى بهذا النظم

(3)

الدال على

(1)

في "نتائج الفكر": (ص/ 311).

(2)

من (ق). وتكررت "الصلاة" في (ظ ود).

(3)

(ق): "اللفظ".

ص: 459

تأكد الوجوب من عشرة أوجه:

أحدها: أنه قدَّم اسمه -تعالى- وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص، ثمَّ ذَكَر من أوجبه عليهم بصيغةِ العموم الداخلة عليها حرف "على"، ثم أبدلَ منه أهل الاستطاعة، ثم نكَّر السبيلَ في سياق الشرط إيذانًا بأنه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت من قُوْتٍ أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمَّى سبيلًا، ثم أتْبعَ ذلك بأعظم التهديد بالكفر، فقال:{وَمَنْ كَفَرَ} ، أي: بعدم التزام هذا الواجب وتركه، ثم عَظَّم الشأنَ وأكَّد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، والله تعالى هو الغنيُّ الحميد، ولا حاجةَ به إلى حجِّ أحد، وإنما في ذِكْر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقتِهِ له، وسخطه عليه، وإعراضه بوجهه عنه ما هو من

(1)

أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكَّد ذلك بذكر اسم "العالمين" عمومًا، ولم يقل: فإن الله غني عنه؛ لأنه إذا كان غنيًّا عن العالمين كلهم فله الغِنَى الكامل التام من كلِّ وجهٍ عن كل أحدٍ بكل اعتبار. فكان أدل على عِظَم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه. فم أكَّد هذا المعنى بأداة "إن" الدالة على التوكيد.

فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم. وتأمَّل سرَّ البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين. مرَّة بإسناده إلى عموم الناس، ومرةً بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد، ولهذا كان في نية تَكْرار العامل وإعادته.

ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد

(1)

ليست في (ق).

ص: 460

الإجمال، وكيف تضمَّن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحُلتين اعتناء به وتأكيدًا لشأنه. ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذِكْر محاسن البيت وعِظَم شأنه بما يدعو النفوسَ إلى قصده وحجِّه، وإن لم يطلب ذلك منها، فقال:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97] فوصفه بخمس صفات:

أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وَضْعًا في الأرض.

الثاني: أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق.

الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى.

الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية.

الخامس: الأمن الحاصل

(1)

لداخله.

وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصدِه ما يبعث النفوسَ على حجِّه، وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أَتْبَع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدلك على الاعتناء منه -سبحانه- بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] لكفى بهذه الإضافة فضلًا وشرفًا. وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسَهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته،

(1)

من (ق).

ص: 461

فهو المثابة للمحبين، يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبدًا، كلما

أزدادوا له زيارة (ظ/ 81 أ) ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا، فلا الوِصَال

يشْفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:

أطوفُ به والنفسُ بعد مَشُوقة

إليه وهل بعد الطوافِ داني

وألثمُ منه الركنَ أطلبُ بَرْدَ ما

بقلبيَ من شوقٍ ومن هيمان

فوالله ما أزدادُ إلا صَبَابةً

ولا القلبُ إلا كثرةَ الخفقانِ

فيا جنةَ المأوى ويا غايةَ المنى

ويا مُنْيَتي من دون كلِّ أمان

أبَتْ غَلَباتُ الشوقِ إلا تقرُّبًا

إليك فما لي بالبعاد يدان

وما كان صَدِّي عنك صدّ ملالةٍ

ولي شاهد من مقْلَتي ولساني

دعوتُ اصطباري عنك بعدك والبُكا

فلبَّى البُكا والصبر عنك عصاني

وقد زعموا أَن المحبَّ إذا نأى

سَيَبْلى هواه بعد طوكِ زمانِ

ولو كان هذا الزعم حقًّا لكان ذا

دواء الهوى فى الناس كلّ أوان

بلى إنه يبلى التصبُّر والهوى

على حاله لم يُبْلِه المَلَوان

وهذا محبٌّ قادَهُ الشوقُ والهوى

بغير زمامٍ قائد وعنان

أتاك على بُعْد المزار ولو وَنَت

مطيَّته جاءت به القدَمان

فائدة بديعة

(1)

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] من

(1)

"نتائج الفكر"(ص/ 312).

ص: 462

باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلِمَ قدِّم الشهر (ق/106 ب) وقد قلتم: إنهم يقدمون ما هم ببيانه أهم وهم به أَعْنَى؟.

قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر الحرام، وتَشْنيع أعدائهم عليهم بانتهاكه وانتهاك حرمته، فكان اغتمامُهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حُرمة الشهر فلذلك قُدِّم في الذِّكر، وكان تقديمه مطابقاً لما ذكرنا من القاعدة.

فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلَاّ اكتفى بضميره، فقال:"قل: هو كبير"، وأنت إذا قلتَ: سألته عن زيد أهو في الدار؛ كان أوجزَ من أن تقول: "أزيد في الدار".

قيل: في إعادته بلفظ الظاهر نكْتة بديعة، وهي تعليِق الحكم الخبري باسم القتال فيه عمومًا، ولو أتى بالمضمر فقال:"هو كبير"، لتوهم اختصاص الحكم يذلك القتال المسؤول عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما هو عام في كلِّ قتال وقعَ في شهرٍ حَرَام.

ونظير هذه الفائدة: قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوضوء بماء البحر -فقال: "هُوَ الطَّهوْرُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ"

(1)

فأعاد لفظ "الماء" ولم يقتصر على قوله: "نعم توضؤوا به" لئلَاّ يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص، فعدل عن قوله:"نعم توضؤوا"

(2)

(1)

أخرجه أبو داود رقم (83)، والترمذي رقم (69)، والنسائي:(1/ 50)، وابن ماجه رقم (386)، وغيرهم.

والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، وتكلّم فيه غير واحد.

(2)

من قوله: "به، لئلا

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 463

إلى جواب عامٍّ يقتضي تعليق الحكم والطهورية بنفس مائة من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الآية، وبطل توهُّم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع.

فكذلك (ظ/ 81 ب) في الآية لما قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ، فجعلَ الخبر بـ"كبير" واقعًا على "قتال فيه" فتعلَّق الحكمُ به على العموم، ولفظ المضمر لا يقتضي ذلك.

وقريب من هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170] ولم يقل: أجرهم، تعليقًا لهذا الحكم بالوصف، وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدلُّ على الوصف المذكور.

وقريبٌ منه -وهو ألطف معنى- قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ولم يقل: "فيه" تعليقًا لحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال. وقال تعالى:{قُلْ هُوَ أَذًى} ولم يقل

(1)

: الحيض أذى، لأنه جاءَ به على الأصل

(2)

؛ ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذِكْره بلفظ الظاهر في الأمر بالاعتزال أحسن من ذِكْره مضمرًا، ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضًا، بخلاف قوله:{قُلْ هُوَ أَذًى} ، فإنه إخبارْ بالواقع، والمخاْطَبون يعلمون أن جهةَ كونه أذَى هو نفس كونه حَيْضاً، بخلاف (ق/ 107 أ)، تعليق الحكم به فإنه إنما يُعلم بالشرع فتأمله.

(1)

من قوله: "فيه تعليقًا .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

(ظ ود): "إذ الآية جارية على الأصل".

ص: 464

فائدة

(1)

إنما امتنع الحال من المضاف إليه

(2)

؛ لأن الحال يشبه الظرف والمفعول فلابد لها من عامل، ومعنى الإضافة أضعف من لامها، ولامها لا تعمل في ظرف ولا مفعول، فمعناها أولى بعدم العمل.

فإن قلت: فاجعل العامل فيها

(3)

هو العامل في المضاف.

قلت: هو محال لا يجب اتحاد العامل في الحال وصاحبها، فلو كان العامل فيها هو العامل في المضاف

(4)

؛ لكانت حالاً منه دون المضاف إليه، فتستحيل المسألة، فأما إذا كان المضاف فيه معنى الفعل، نحو قولك:"هذا ضاربُ هند قائمة"، و"أعجبني خروجُها راكبة"، جاز انتصاب الحال من المضاف إليه؛ لأن ما في المضاف من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حالٌ منه، وعلى هذا جاء قوله تعالى:{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: 128] وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ} [التغابن: 10] فإن ما في "مثوى" و"صاحب" من معنى الفعل يُصَحِّح عمله فى الحال، بخلاف قولك:"رأيت غلامَ هند راكبة"، فإنه ليس في الغلام شيء من رائحة الفعل.

وقد يجوز انتصاب الحال عن المضاف إليه إذا كان المضاف جزءه أو يُنزَّل منزلة جُزئه، نحو:"رأيت وجهَ هند قائمة"؛ لأن

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 315).

(2)

(ظ ود): "والمضاف"!.

(3)

(ظ): "هنا"، (د):"فاجعل فيها".

(4)

من قوله: "قلت:

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 465

البعض يجري عليه حكم الكل في اقتضاء العامل له، فجاز أن يعمل في الحال ما يعمل في بعض صاحبها، لتنزُّله منزلته، وسريانُ حكمِ البعض إلى الكلِّ لا يُنكَر لغةً ولا شرعًا ولا عقلاً، فاللغة: نحو هذا، ونحو قوله:"ذهبت بعض أصابعه"، و"شرقت صدر القناة"، و"تواضَعَتْ سُور المدينة"، وهو كثير. وأما الشرع: فكَسَريان العِتْق في الشقص المشترك، وأما العقل: فإن الارتباط الذي بين الجزء والكل يقتضي أن يثبت لإحدهما ما يثبت للآخر، وعلى هذا جاء قول الشاعر

(1)

:

* كأن حواميه مدبراً *

وقول حبيب

(2)

:

* والعِلمُ في شهُبِ الأرْماحِ لامِعَةً *

فائدة بديعة

(3)

إن قيل: كيف يضمرون الناصب في مثل:

* لليسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني

(4)

*

(1)

هو النابغة الجعدي: كما في "الخزانة": (3/ 161)، و"أمالى ابن الشجري":(1/ 24)، وعجزه:"وإن كان لم يخضب".

(2)

هو: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، "ديوانه":(1/ 96)، وعجزه:

* بينَ الخميسينِ لا في السبعةِ الشُّهُبِ *

(3)

"نتائج الفكر": (ص/ 317).

(4)

من شواهد الكتاب: (ا/ 264)، ونسبه في "الخزانة":(8/ 503) لميسون بنت بحدل الكلبية، وعجزه:

* أَحبّ إلىَّ من لُبسِ الشُّفوفِ *

ص: 466

وبابه، ولا يجوَّزون إضمار الخافض ولا الجازم، ولا إضمار نواصب الأسماء

(1)

، وعواملُ الأسماء عندكم أقوى من عوامل الأفعال؟.

قيل: نحن لا نجيز إضمار "أن" الناصبة إلا بإحدى شرائط، إما مع الواو العاطفة (ظ/82 أ) على مصدر، نحو.

* تَقَضِّى لُباناتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ

(2)

*

و: * للُبْس عباءَةٍ وتقرَّ عيني *

ألا ترى أنك لو جعلتَ مكان "اللبس" و"التَّقضِّي" اسماً غير مصدر، فقلتَ: يعجبني زيد ويذهبَ عمرو، لم يجز؛ وإنما جاز هذا مع المصدر؛ لأن الفعلَ المنصوبَ بـ "أن" مشتق من المصدر ودالٌّ عليه بلفظه، فكأنك عطفتَ مصدرًا على مصدر.

فإن قيل: (ق/ 107 ب) فكان ينبغي أن يُسْتَغنى بمجرد لفظ الفعل عن ذكر المصدر وإضمار "أن"، فيقال: ألبس عباءةً وتقرّ عيني، وأَقضِي لُباناتٍ ويسأمَ سائم؟.

قيل: هذا سؤالٌ حسن يستدعى جوابًا قويًّا، وقد أجيب عنه: بأن الأول لو جُعِل فعلاً مضارعًا لكاد مرفوعًا، فإذا عُطِف عليه الثاني شاركه في إعرابه وعامِلِه، ورافِعُ المضارع ضعيف لا يَقْوى على العمل في الفعلين، فإن العامل في المعطوف والمعطوف عليه واحد.

(1)

(ظ ود): "الأفعال"!.

(2)

للأعشى، "ديوانه":(ص/77)، وصدره:

* لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويتُه *

ص: 467

ولا يخفى فساد هذا الجواب، فإنه منتقض بالطَّم والرِّم مما يعطف فيه المضارع على مثله، كقولك:"زيد يذهب ويركب"، و:"إنما يذهب ويخرج زيد"، وأمثال ذلك.

فالجواب الصحيح أن يقال: المراد ما في المصدر من الدَّلالة على ثبوت نفسِ الحدث، وتعليق الحكم به دون تقييده بزمان دون زمان، فلو أتى بالفعل المقيد بالزمان لفات الغرض، ألا ترى أن قولها:"للُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني"، المراد به حصول نفس اللبس مع كونها

(1)

تقر عينُها كلَّ وقت شيئاً بعد شيء، فقرةُ العين مطلوبٌ تجدُّدها بحسب تجدد الأوقات، وليس هذا مرادًا في لبس العباءة، وكذا قولك:"أكْلُ الشعير وأكُفَّ وجهي عن الناس أحب إِليَّ منْ أَكل البر وأبذلَ وجهي لهم"، أفلا ترى أنه يُفضل

(2)

أكل الشعير على أكل البر، ويدوم له كَف وجهه عن الناس، كما أن تِلك فضَّلت لُبْس العباءة على لبس الشُّفوف وتدوم لها قُرة العَين. فعلمت أن المقصود ماهية المصدر وحقيقته لا تقييده بزمان دون زمان.

ولما كانت "أن" والفعل تقع موقع المصدر ويؤوَّلانِ به في الإخبار عنهما كما يخبر عن الاسم، نحو قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] -أي: صيامكم

(3)

- أُوِّلَ المصدر بـ "أن" والفعل في صِحَّة عَطْف الفعل عليه، وهذا من باب المقابلة والموازنة، وقد جاء عطفُ الفعل على الاسم إذا كان فيه معنى الفعل نحو:{صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، و {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18]،

(1)

(ق): "بكونها".

(2)

(ق ود): "تفضيل نفس".

(3)

"أي: صيامكم "ليست في (ق).

ص: 468

ومنه: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 45 - 46]} لأن الاسم المعطوف عليه لما كان حاملاً للضمير صارَ بمنزلة الفعل، ولو كان مصدرًا لم يجز عطف الفعل عليه إلا بإضمار "أن"؛ لأن المصادر لا تتحمل الضمائر.

فإن قيل: فلم جاز عطفُ الفعل على الاسم الحامل للضمير ولم يعطف الاسم على الفعل، فتقول: مررتُ برجلٍ يقعد وقائم، كما تقول: قائم ويقعد.

قيل: هذا سؤالٌ قوي، ولما رأى بعض النحاة أنه لا فرق بينهما أجاز ذلك وهو الزجاج، فإنه (ق/ 108 أ) أجازه في "معاني القرآن"

(1)

، والصحيحُ: أنه قبيح. والفرقُ بينهما أنك إذا عطفت الفعل على الاسم المشتق منه رَدَدت الفرع إلى الأصل؛ لأن الاسم أصل الفعل والفعل متفرِّع عنه، فجاز عطف الفعل عليه! لأنه ثان والثواني فروع على الأوائل. وإذا عطفتَ الاسمَ على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعاً وجعلته ثانيًا، وهو أحق (ظ/ 82 ب) بأن يكون مقدَّمًا لأصالته.

وسرُّ المسألة؛ أن عَطْف الفعل على الاسم في محل قوله: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} ، و:"مررتُ برجل قائم ويقعد"؛ لأن الاسم مُعْتمد على ما قبله، وإذا كان اسم الفاعل معتمدًا عَمِل عَمَل الفعل وجرى مجراه، والاعتماد أن يكون نعتاً أو خبرًا أو حالاً، والذي بعد "الواو" ليس بمعتمد، فلو عكستَ المسألة وقلت:"يصففن وقابضات"، و"يقوم وقاعد"؛ قَبُح، لأن ما بعد "الواو" اسم محض وليس بمعتمد، فيجري مَجْرى الفعل

(2)

.

(1)

(1/ 412).

(2)

(ق): "وليس بمعتمد فجرى مجرى الفعل" وبقية الكلام ساقط.

ص: 469

فائدة

(1)

لما كان الفعل اللازم هو الذي لزم فاعله ولم يجاوزه إلى غيره، جاء مصدره مُثْقَلاً بالحركات؛ إذ الثقل

(2)

من صفة ما لزم محله ولم ينتقل منه إلى غيره، والخِفَّة من صفة المنتقل من محله إلى غيره، فكان خِفة اللفظ في هذا الباب وثقله موازيًا للمعنى، فما لزم مكانه ومحله فهو الثقيل لفظًا ومعنى، وما جاوزه وتعداه فهو الخفيف: لفظًا ومعنى.

ومن هاهنا يرجح قول سيبويه

(3)

أن: "دخلت الدار" غير متعدٍّ؛ لأن مصدره دخول، فهو كالخروج والقعود وبابه، إلا أن الفعلَ منه لم يجيء على "فَعُل"؛ لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه، فإن كان الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة ثقَّلوه بضم العين، كظَرُف وكَرُم، فهذا الباب ألزم للفاعل من باب "قَعَد ودَخَل"، فكان أثقلَ منه لفظًا، وباب "قَعَد وخَرَج" ألزم للفاعل من الفعل المتعدي، كـ "ضَرَب" فكان أثقل منه مصدراً، وإن اتفقا في لفظ الفعل.

ولزم مصدر "فَعُل" الذي هو طَبْع وخَصْلة وزن "الفَعَال"؛ كالجَمَال والكَمَال والبَهَاء والسَّناءْ والجَلال والعَلاء، هذا إذا كان المعنى عامًّا مشتملاً على خصال ولا يختص بخَصْلة واحدة، فإن اختصَّ المعنى بخَصْلة واحدة صار كالمحدود ولزمته هاء

(4)

التأنيث؛ لأنها تدل على نهاية ما دخلت عليه كالضّرْبة من الضرب، وحذفُها

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 321).

(2)

في الأصول: "المثقل"وهو تحريف، والتصحيح من محقق "النتائج".

(3)

في "الكتاب": (1/ 15 - 16).

(4)

في الأصول: "تاء". والمثبت من "النتائج".

ص: 470

في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدلُّ على انتفاء النهاية، ألا ترى أن الضربَ يقع على القليل والكثير إلى غير نهاية وكذلك التمر والبرُّ (ق / 108 ب)، وإنما استحقت الهاء ذلك؛ لأن مخرجها من منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات

(1)

، ولذلك قالوا: عَلَّامة ونَسَّابة، أي: غايةٌ في هذا الوصف، فإذا عرفت هذا، فالجَمال والكَمال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه "الهاء" المخصوصة بالتحديد والنهاية، وقولك:"مَلُحَ ملاحة، وفَصُح فصاحة"، على وزنه إلا في التاء لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال، وكذلك الملاحة، فحُدِّدت بالتاء؛ لأنها ليست بجنس عام كالكَمال والجَمال، فصارت كباب "الضَّرْبة والتَّمْرة" من "الضَّرْب والتَّمْر"

(2)

.

ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان

(3)

وقد قالت له امرأته

(4)

: "إنك لجميل"، فقال: أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رِدَاؤه وبُرْنُسه، ولكن قولي:"إنك لمليح ظريف"، فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال، فبان صحة ما قلناه.

وعلى هذا قالوا: "الحلاوة والأصالة والرجاحة والرزانة والمهابة"، وفي ضد ذلك:"السَّفَاهة والوَضَاعة والحَمَاقة والرَّذَالة"؛ لأنها كلها خصال محدودة بالإضافة إلى السَّفال الذي هو في مقابلة العلاء

(1)

من قوله: "وكذلك التمر والبر

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

(ق): "والهمزة من

والهمز".

(3)

أحد خطاء العرب وفصحائها، عاش إلى خلافة السفَّاح وكان من جُلسائه، وكلامه مجموع في كتب، انظر:"الأعلام": (2/ 297).

(4)

الخبر في "البيان والتبيُّن": (1/ 393) للجاحظ، وفي بعض نسخه:"امرأة" ولعله الأصوب، ففد ذكروا أنه كان عَزَبًا.

ص: 471

والكمال، لأنه جنس يجمع الأنواع التي تحته. وهذا هو الأصل في هذا الباب، فمتى شذَّ عنه منه شيء فلمانع وحكمة أخرى كقولهم:"شَرُف الرجل شَرَفًا"، ولم يقولوا:"شَرَافًا"، لأنَّ الشرف رفعة في آبائه وهو شيء خارج عنه، بخلاف كَمُل كَمَالاً، وجَمُل جمالاً، فإن جماله وكماله وصف قائم به، وهذا لأن "شَرُف" مستعار من شرف الأرض (ظ/83 أ) وهو ما ارتفع منها، فاستعير للرجل الرفيع في قومه، كأن آباءه الذين ذُكِر بهم وارتفع بسببهم شَرَفٌ له.

وكذلك قولهم في هذا الباب: "الحَسَب"؛ لأنه من باب "القَبَض والنَّقَض والقَنَص" لا من

(1)

باب المصادر؛ لأن الحَسَب ما يحسبه الإنسان ويعده لنفسه من الخصال الحميدة والأخلاق الشريفة، واستحق الاسم الشامل في هذا الباب اسم "الفَعَال" بفتح الفاء والعين وبعدهما ألف وهي فتح، ليكون اللفظ بتوالي الفتح

(2)

فيه موازيًا لانفتاح المعنى واتساعه، وكذلك اطرد في الجمع الكثير نحو:"مَفَاعِل وفعائل" وبابه، واطرد في باب "تفاعل"، نحو: "تقاتل وتخاصم وتمارض وتغافل

(3)

وتناوم"؛ لأنَّه إظهار للأمر ونشر له

(4)

.

ومن هذا الباب: "حَلُم" فإنه مما يوافقه في وجهٍ ويخالفه في وجه؛ لأنه يدل على ثبات الصفة، فوافقَ "شَرُف وكَرُم" في الضم وخالفه في المصدر (ق/109 أ) لمخالفتهِ له في المعنى؛ لأنه صفة تقتضي كف النفس وجمعها عن الانتقام والمعاقبة ولا يقتضي انفتاحًا

(1)

(ق): "لأن".

(2)

العبارة محرفة فى (ظ ود).

(3)

من قوله: "وفعائل

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(4)

تحرفت في (ق ود).

ص: 472

ولا انتشارًا، فقالوا:"حَلُمَ"؛ لأنه من بناء الخصال والطبائع وقالوا: "حُلَماء"، لأن الصفة صفة جمع النفس وضمها وعدم إرسالها في الانتقام، فتأمله.

ومن هذا الباب: "كَبُر وصَغُر" موافق لما قبله في الفعل مخالف له في المصدر، لأن الكِبَر والصِّغَر عبارة عن اجتماع أجزاء الجسم في قلة أو كثرة، وليس من الصفات والأحداث المنتشرة؛ وهذا تنبيه لطيف على ما هو أضعاف ذلك

(1)

.

فائدة

(2)

فِعْل المطَاوَعَة هو: الواقع مسببًا عن

(3)

سبب اقتضاه، نحو: كسرته فانكسر، فزيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية ساكنة كيلا تتوالى الحركات، ثم وُصِل إليها بهمزة الوصل. وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازية للمعاني الزائدة على معنى الكلمة؛ فإن كان المعنى الزائد مُتَرتِّبًا قبل المعنى الأصلي، كانت الحروف الزائدة قبل الحروف الأصلية كالنون في "انفعل" وكحروف المضارعة في بابها، وإن كان المعنى الزائد في الكلمة آخرًا، كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية

(4)

آخرًا، كعلامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع.

ومن هذا الباب: "تَفَعْلَل وتَفَاعَل وتَفَعَّل". أما "تفعلل" فلا

(1)

من قوله: "أو كثرة

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

"نتائج الفكر": (ص/ 324).

(3)

(ق): "في".

(4)

من قوله: "كالنون في انفعل

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 473

يتعدَّى ألبتة؛ لأن "التاء" فيه بمثابة النون في "انفعل"، إلا أنهم خْصُّوا الرُّباعي بالتاء، وخصّوا الثلاثي بالنون فَرْقًا بينهما، ولم تكن، "التاء" هاهنا ساكنة كالنون، لسكون عين الفعل، فلم يلزم فيها من توالي الحركات ما لزم هناك.

وأما "تفاعَل" فقد توجد متعدِّية؛ لأنها لا يراد بها المطاوعة كما أريد بـ "تفعلل"، وإنما هو فِعْل دخلته "التاء" زيادة على فاعل المتعدية، فصار حُكمه -إن كان متعديًا إلى مفعولين قبل دخول "التاء"، أن يتعدَّى بعد دخول "التاء" إلى مفعول، نحو:"نازعتُ زيدًا الحديث"، ثم تقول: "ما

(1)

تنازعنا الحديث"، وإن كان متعديًا إلى مفعول لم يتعدَّ بعد دخول "التاء" إلى شيءٍ، نحو: "خاصمتُ زيدًا، وتخاصمنا".

وهذا عكس دخول همزة التعدية على الفعل، فإنها تزيده واحدًا أبدًا وإن كان لازمًا صَيَّرته متعديًا إلى مفعول، وإن كان متعديًا: إلى واحد صيرته متعديًا إلى اثنين.

وأما "احمرَّ واحمارّ" ففعل مشتق من الاسم، كانتعل من النعل، وتمسكَن من الِمسْكين، وتَمدْرع وتَمَنْدل وتَمَنْطق.

وزعم الخطابيُّ

(2)

أن معنى "احمرَّ" مخالف لمعنى "احمارَّ" وبابه، وذهبَ إلى أن "افعل" يقال فيما لم يخالطه لون آخر، و"افعالّ" يقال لما خالطه لون آخر. وهو ثقة في نقله، والقياس (ق/109 ب) يقتضي ما ذَكَر؛ لأن الألف لم تُزَد في أضعاف حروف

(1)

من "النتائج": وليست في (ذ)، وفي (ظ وق):"لا".

(2)

انظر "غريب الحديث": (1/ 241 - 242) له.

ص: 474

الكلمة إلا لدخول معنى

(1)

زائد بين أضعاف معناها. والذي قاله (ظ/83 ب) غيره أحسن من هذا وهو أن "احمرَّ"، يقال لحا أحمرَّ وَهْلة نحو:"احمرَّ الثوبُ" ونحوه.

وأما "احمارَّ" فيقال لما يبدو فيه اللون شيئًا بعد شيء على التدريج، نحو:"احمارَّ البُسْر واصفارَّ"، ويدخل "افعلَّ" في هذا على "افعالَّ"، فيقال:"أحمرَّ البسر" إذا تكامل لون الحمرة فيه، و"احمارَّ" إذا ابتدا صاعدًا إلى كماله.

فائدة

(2)

اختلفوا في المتعدي إلى مفعولين من باب "كسا" هل هو قياسي بالهمزة أم سماعي؛ والثاني قول سيبويه

(3)

وهو الصحيح، فإنك لا تقول:"آكلت زيدًا الخبز"، ولا، "آخذته الدراهم"، ولا "أطلقت زيدًا امرأته"، و"أعتقته عبدَه"، ولكن ينبغي التفطن لضابطٍ حَسَن، وهو أن تنظر إلى كلِّ فِعل حَصَل منه في الفاعل صفةٌ ما فهو الذي يجوز فيه النقل؛ لأنك إذا قلت: أفعلته، فإنما معناه: جعلتَه على هذه الصفة. وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إذا كان ثلاثيًا، نحو: قعد وأقعدتُه، وطال وأطلتُه.

وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعِل منه صفة في نفسه

(4)

ولا يكون اعتماده في الثاني على المفعول فيجوز نقله، مثل: "طَعِم زيد

(1)

(ق): "إلا لمعنى".

(2)

"نتائج الفكر": (ص/ 327).

(3)

انظر "الكتاب": (2/ 233).

(4)

"في نفسه"سقطت من (ق).

ص: 475

الخبز وأطعمته"، وكذلك: "جَرِع الماءَ وأجرعته"، وكذلك: بلع وشم وسمع

(1)

؛ وذلك لأنها كلها يحصل للفاعل منها صفة في نفسه عير خارجة عنه، ولذلك جاءت أو أكثرها على فَعِل -بكسر العين- مشابهة لباب: فَزِع وجَذِر وحَزِن ومَرِض، إلى غير ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى [فيه]

(2)

، ولذلك كانت حركة العين كسرًا، لأن الكسرة خفض للصوت أخفاء له، فَشَاكَل اللفظ المعنى، ومن هذا:"لبس الثوب وألبسته إياه"؛ لأن الفعل -كان كان متعديًا- فحاصل معناه في نفس الفاعل، كأنه لم يفعل بالثوب شيئًا، وإنما فعل بلابسه، ولذلك جاء على فعل مقابلة "عَرِي"، وقالوا: كَسَوْته الثوب، ولم يقولوا: أكسيته إياه، وإن كان اللازم منه: كسِي، ومنه:

* واقعُدْ فإنك أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي

(3)

*

فهذا من "كسِي يكسى" لا من "كسا يكسو"، وسرُّ ذلك: أن الكُسْوة سَتْر للعورة، فجاءً على وزن:"سَتَرته وحَجَبته"، فعدَّوْه بتغيير الحركة لا بزيادة الهمزة.

وأما "أَكَل وأَخَذ وضَرَب" فلا تُنْقَل؛ لأن الفعل واقع بالمفعول، ظاهر أثره فيه غير حاصل في الفاعل منه صفة، فلا تقول:"أضربت زيدًا عَمرًا"، (ق/110 أ) ولا:"أقتلتُه خالدًا"؛ لأنك لم تجعله على صفة في نفسك كما تقدم.

(1)

في (د)، زيادة:"وفاق".

(2)

من "النتائج".

(3)

عجز بيت للحُطيئة، "ديوانه":(ص/ 117)، وصدره:

* دع المكارمَ لا ترحَل لبُغْيَتِها *

ص: 476

وأما "أعطيته" فمنقول من "عطا يعطو" إذا أشار للتناول، وليس معناه الأخذ والتناول؛ ألا تراهم يقولون:"عَاطٍ بغيرِ أنواط"

(1)

، أي: يشير إلى التناول من غير شيء، فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل بشيء، فلذلك نُقل كما نُقِل المتعدي لقربه منه، فقالوا: أعطيته، أي: جعلته عاطيًا.

وأما "أنلت" فمنقول من "نال" المتعدية، وهي بمنزلة "عطا يعطو" لا تنبئ إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به.

ألا ترى إلى قوله سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} [الحج: 37] ولو كان فعلاً مؤثرًا في مفعوله لم يجز هذا، إنما هو منبئٌ عن الوصول فقط. وأما "آتيتُ المالَ زيدًا"؛ فمنقول من "أتى"؛ لأنها غير مؤثِّرة فى المفعول، وقد حصل منها في الفاعل صفة.

فإن قيل: يلزمك أن تجيز: "آتيت زيدًا عَمرًا أو المدينة"، أي؛ جعلته يأتيهما؟.

قلت: بينهما فرق

(2)

وهو أن إتيان المال كَسْب وتمليك، فلما اقترن به هذا المعنى صار كقولك:"أكسبته مالاً" أو "ملكته

(3)

إياه"، وليس كذلك: (ظ/ 84 أ) "آتى زيدٌ عَمرًا".

وأما "شَرِبَ زيدٌ الماء"، فلم يقولوا فيه:"أشربته الماء"؛ لأنه بمثابة الأكل والأخذ، ومعظم أثره في المفعول، وإن كان قد جاء

(1)

مثل، يُضَرب لمن يدعي الشيءَ وهو لا يملكه، انظر:"مجمع الأمثال": (2/ 354).

(2)

(ظ ود): "فرقان".

(3)

في الأصول: "ملكته" والمثبت من "النتائج".

ص: 477

على "فَعِل" كبَلِع، ولكنه ليس مثله، إلا أن تريد: أن الماء خالط أجزاءَ الشارب له وحصل من الشرب صفة في الشارب، فيجوز حينئذ، نحو قوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93][البقرة: 93] وعلى هذا يقال: "أشربت الدهنَ الخبزَ"؛ لأن شرب الخبز الدهن ليس كشرب زيد الماء، فتأمله.

وأما "ذَكَرَ زيدٌ عمرًا" فإن كان من ذِكْر اللسان لم ينقل، لأنه بمنزلة: شَتَم ولَطَم، وإن كان من ذِكر القلب نُقِل، فقلت:"أذكرته الحديث"، بمنزلة: أفهمته وأعلمته، أي: جعلتُه على هذه الصفة.

فائدة

(1)

"اخترت" أصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر وهو "مِنْ"، لأنه يتضمن إحْراجَ شيءٍ من شيء. وجاء محذوفًا في قوله تعالى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]، لتضمن الفعل معنى فعل غير متعد، كأنه نَخل قومَه وميَّزَهم وسَبَرَهم، ونحو ذلك، فمن هاهنا -والله أعلم- أسْقِط حرفُ الجر كما سقط من "أمرتك الخير"، أي: ألزمتك وكلفتك؛ لأن الأمر إلزام وتكليف، ومنه:"تمرون الديار"، أي: تقطعونها وتجاوزونها، ومنه:"رحُبَتْك الدار"، أي: وَسِعَتْك.

فائدة

(2)

الاختيار تقديم المجرور في باب "اخترت"

(3)

، وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر، فتقول:"اخترت مِن الرجالِ زيدًا"، ويجوز

(1)

نتائج الفكر": (ص/330).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

إذا لم يسقط حرف الجر.

ص: 478

فيه التأخير، فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورًا به في الأصل، فيقبح أن تقول:"اخترتُ (ق/ 110 ب) زيدًا الرجال"، و"اخترتُ عشرةَ الرجال"، أي: من الرجال، لما يوهِم من كون المجرور في موضع النعتِ للعشرة، وأنه ليس في موضع المفعول الثاني، -وأيضًا- فإن "الرجال" معرفة فهو أحق بالتقديم للاهتمام به، كلما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك:"في الدار رجل"، لكون المجرور معرفة، وكأنه المخْبَر عنه، فإذا حذفتَ حرفَ الجر لم يكن بُد من التقديم للاسم الذي كان مجرورًا، نحو: اخترتُ الرجالَ عشرة.

والحكمة في ذلك أن المعنى الذي من أجله حُذفَ حرفُ الجر هو معنى غير لفظ، فلم يقو على حذف حرف الجر

(1)

إلا مع اتصاله به وقربه منه.

ووجه ثانٍ: وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعَّض ثم ولي الفعل الذي هو "اخترت" توهم أنه مختار منه أيضًا؛ لأن كل ما يتبعَّض يجوز فيه أن يختار منه وأن يختار

(2)

، فألزموه التأخير وقدَّموا الاسمَ المختار منه، وكان أولى بذلك لما سبق من القول؛ فإن كان مما لا يتبعَّض نحو: زيد وعَمرو، فربما جاز على قِلَّة من الكلام، نحو قوله:

* ومنَّا الذي اخْتِيْرَ الرِّجالَ سَماحَةً

(3)

*

(1)

من قوله: "هو معنى

" ساقط من (ظ ود).

(2)

في الأصول "يختاره" والمثبت من "النتائج".

(3)

للفرزدق، "ديوانه"(2/ 516)، وعجزه:

* وخيرًا إذا هبَّ الرياح الزعازع *

ص: 479