الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ نَزَلَ مَنْزلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ لم يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ" رواه مسلم
(1)
.
روى أبو داود في "سننه"
(2)
عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ ما فِيكِ وَشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ ما يَدِبُّ عَلَيْكِ، أَعُوذُ باللهِ مِنْ أَسَدٍ وأَسْوَد، ومنْ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ، ومن سَاكِنِ البلَدِ، ومِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ"
(3)
.
وفي الحديث الآخر: "أعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ الّتِى لا يُجَاوِزُهُا بَرٌّ ولا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ ما خَلَق وذَرَأَ وبَرَأَ، وَمنْ شَرِّ ما يَنَزِلُ مِنَ السَّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فيها، ومنْ شَرِّ مَا ذَرَأ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنهْا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَمنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَاّ طارقًا يَطْرُق بخيرٍ يا رَحْمنُ"
(4)
.
فصل
الشر الثاني: شر الغاسق
إذا وقب فهذا خاصٌّ بعد
(1)
رقم (2708) من حديث خولة بنت حكيم السُّلَميّة رضي الله عنها.
(2)
رقم (2603).
(3)
وأخرجه أحمد: (10/ 301 رقم 6161)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (563)، وابن خزيمة رقم (2572)، والحاكم:(2/ 100) وغيرهم.
والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم؛ لكن فيه الزبير بن الولد لم يوثقه معتبر، وقد تفرَّد بهذا الحديث.
(4)
أخرجه أحمد: (24/ 200 رقم 15460)، وأبو يعلى رقم (6844) وغيرهم من طرقٍ عن جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي التيَّاح عن عبد الرحمن بن خنبش التميمي بنحوه. وقد تفرّد به جعفر، وهو ممن ينفرد بالمناكير.
عام، وقد قال أكثرُ المفسرين: إنه الليل. قال عبد الله بن عباس: الليلُ إذا أقبلَ بظلمته من الشَّرق، ودخل في كلِّ شيء وأظلمَ
(1)
، والغَسَقُ: الظُّلْمَةُ. يقال: غَسَقَ اللَّيْلُ، وأغْسَقَ: إذا أظلم، ومنه قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
وكذلك قال الحسنُ ومجاهد: الغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل، والوُقوب: الدخولُ، وهو دخولُ اللَّيل بغروب الشمس، وقال مقاتل: يعني ظُلْمَةَ اللَّيل إذا دخل سوادُه في ضوء النهار. وفي تسمية الليل غاسِقًا قولٌ آخرُ: إنه من البَرْد، والليل أبردُ من النهار، والغَسَق: البَرْدُ، وعليه حَمَل ابن عباسٍ قوله تعالى:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} [ص: 57] وقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 24 - 25] قال: هو الزمهريرُ يحرقُهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برْدُهُ
(2)
.
ولا تنافيَ بين القولين: فإن الليلَ باردٌ مظلم، فمن ذكر بردَهُ فقط أو ظلمته فقط، اقتصر على أحد وصفيه، والظلمةُ فِي الآية أنسبُ لمكان الاستعاذة، فإن: الشَّرَّ الذي ينشأ بسبب
(3)
الظلمةَ أوْلى بالاستعاذة من البَرْد الذي في الليل، ولهذا استعاذ بربِّ الفلق الذي هو الصبْحُ والنور، من شرِّ الغاسق الذي هو الظُّلمة، فناسبَ الوصفُ المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة، كما سنزيدُه تقريرًا عن قريب إن شاء الله.
(1)
انظر: "تفسير الطبري": (12/ 748 - 749).
(2)
انظر "تفسير الطبري": (10/ 599)، و"الدر المنثور":(5/ 594) آية (ص)، و"الطبري":(12/ 407)، و"الدر":(6/ 503) آية (النبأ).
(3)
(ظ ود). "يناسب".
فإن قيل: فما تقولونَ فيما رواه التِّرمذي
(1)
من حديث ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سَلَمَةَ، عن عائشة قالت:"أخذَ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فنظر إلى القمر فقال: "يا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي باللهِ منْ شَرِّ هَذا، فَإِنَّ هَذا هُوَ الغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ"
(2)
. قال التِّرْمِذِيُّ: "هَذا حديث حسن صحيح"، وهذا أولى من كلِّ تفسير فيتعيَّنُ المصرُ إليه؟.
قيل: هذا التفسيرُ حقٌّ، ولا يناقضُ التفسيرَ الأوَّلَ بل يوافقُهُ ويشهدُ بصحَّتِهِ، فإنَّ الله تعالى قال:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فالقمر هو آيةُ الليلِ وسلطانُه، فهو أيضًا: غاسقٌ إذا وَقَبَ، كما أن اللَّيلَ غاسِقٌ إذا وقب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب، وهذا خبر صدق، وهو أصدقُ الخبر، ولم ينفِ عن اللَّيل اسمَ الغاسق إذا وَقَبَ، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم له بالذِّكر لا ينفي شمولَ الاسم لغيره.
ونظير هذا قوله في المسجد الذي أُسِّس على التَّقْوى، وقد سُئِل عنه فقال:"هُوَ مَسْجِدِي هذا"
(3)
ومعلومٌ أن هذا لا ينفي كونَ مسجدِ قُباءٍ مؤسَّسًا على التقوى، [بل ثبت أن مسجده أحق بالدخول في هذا الاسم، وأنه أحق بأن يكون مؤسسًا على التقوى]
(4)
من ذاك.
(1)
(ق): "في جامعه".
(2)
أخرجه الترمذي رقم (3366)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (305)، وأحمد (6/ 61 ومواضع أخرى)، والحاكم (2/ 540) من حديث عائشة رضي الله عنها.
والحديث قال فيه الترمذي "حسن صحيح"، وصححه الحاكم، وحسنه الحافظ في "الفتح":(8/ 613).
(3)
أخرجه مسلم رقم (1398) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
ما بين المعكوفين من (ق).
ونظيره أيضًا: قوله في عَلِيٍّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين -: "اللَّهُمَّ هؤلاءِ أَهْلُ بَيْتي"
(1)
، فإن هذا لا ينفي: دخول غيرهم من أهل: بيته فِي لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخل فِي لفظ أهل بيته.
ونظير هذا قوله: "لَيْسَ المِسْكِينُ بِهذا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، وَلكِنَّ المِسْكِينَ الّذِي لا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلا يُفْطَنُ لهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ"
(2)
وهذا لا ينفي اسم المسْكَنة عن الطوَّاف، بل يحفي اختصاصَ الاسم به، ويبيِّن أن تناولَ المسكين لغير السَّائل أولى من تناوله له.
ونظيرُ هذا قوله: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنّ الشَّدِيدَ الّذِيْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَب"
(3)
فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرعُ الرجالَ، ولكن يقتَضي أن ثبوتَه للذي يملكُ نفسَه عند الغضب أولى، ونظيره [الغَسَقُ]
(4)
والوُقُوبُ وأمثالُ ذلك، فكذلك قوله فِي
(1)
أخرجه أحمد: (28/ 195 رقم 16988)، وابن حبان "الإحسان":(15/ 432)، والحاكم:(2/ 416)، والبيهقي:(2/ 152)، وغيرهم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
والحديث صححه ابن حبان والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط مسلم. وللحديث شاهد من حديث أم سلمة أخرجه أحمد:(6/ 292)، والحاكم:(2/ 416).
(2)
أخرجه البخاري رقم (1476)، ومسلم رقم (1039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري رقم (6114)، ومسلم رقم (2609) من حديث أبي هريرة - رضى الله عنه -.
(4)
في الأصول: "المغلس" والمثبت من "المنيرية".
القمر: "هَذا هُوَ الغَاسِق إذا وَقَبَ"، لا ينفي أن يكون الليلُ غاسقًا، بل كلاهما غَاسِقٌ، [والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى آية الليل وسلطانه والمفسرون ذكروا الليلَ نفسَه، والله أعلم]
(1)
.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضُهم أن المرادَ به القمرُ إذا خَسَف واسوَدَّ؟ وقوله: "وقب" أي: دَخَل في الخُسوف أو غاب خاسفًا؟
(2)
.
قيل: هذا القولُ ضعيفٌ، ولا نعلمُ به سَلَفًا، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أشار إلى القمر وقال:"هذا الغاسِقُ إذا وَقَب" لم يكن خاسفًا إذ ذاك، وإنما كان وهو مستنيرٌ، ولو كان خاسفًا لذكرته عائشة، وإنما قالت: نظر إلى القمر وقال: "هذا هو الغاسِقُ "
(3)
، ولو كان خاسفًا لم يصِحَّ أن يحذفَ ذلك الوصف منه، فإنَّ ما أُطْلِق عليه اسم الغاسق باعتبار صفةٍ لا يجوزُ أن يطلقَ عليه بدونها لما فيه من التلبيس.
وأيضًا: فإن اللغة لا تساعد على هذا، فلا نعلمُ أحدًا قال: الغاسقُ هو القمرُ في حال خسوفه. وأيضًا: فإنى الوُقُوب لا يقولُ أحدٌ من أهل اللغة: إنه الخسوفُ، وإنما هو الدُّخول من قولهم:"وَقَبَتِ العَيْنُ" إذا غارت. و"رَكِيَّةٌ وَقْبَاءُ": غارَ ماؤها فدخل في أعماق التُّراب.
ومنه الوَقْبُ: للثُّقْب الذي يدخل فيه المِحْوَرُ، وتقول العربُ: وَقَبَ يَقِبُ وقوبًا: إذا دَخَلَ.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهبَ إليه بعضُهم: أن
(1)
الزيادة بين المعكوفات من (ق).
(2)
(ق) زيادة: "مظلمًا".
(3)
تقدم قريبًا.
الغاسق هو الثُرَيَّا إذا سقطت، فإن الأسقامَ تكثُرُ عند سقوطها وغروبها وترتفِعُ عند طلوعها؟.
قيل: إن أراد صاحبُ هذا القول اختصاصَ الغاسق بالنجم إذا غَرَبَ فباطلٌ، وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجهٍ ما، فهذا يحتملُ أن يدلَّ اللفظُ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه، وأما أن يختصَّ اللفظُ به فباطل.
فصل
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل، وشر القمر إذا وقب هو: أن الليل إذا أقبلَ فهو محلُّ سلطان الأرواح الشِّرِّيرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين، وفى "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا قال:"فَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ واحْبِسُوا مَوَاشِيَكُمْ حَتّى تَذْهَب فَحْمَةُ العِشَاءِ"
(1)
.
وفى حديث آخر: "فَإِنَّ اللهَ يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ"
(2)
، والليلُ هو محلُّ الظلام، وفيه تتسلَّطُ شياطينُ الإنس والجن ما لا تتسلَّطُ بالنهار، فإن النهار نورٌ، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة والمظالم وعلى أهل الظلمة.
وروي أن سائلاً سأل مُسَيْلَمَةَ: كيف يأتيك الذي يأتيكَ؟ فقال: في
(1)
أخرجه البخاري رقم (3280 و 3316 وغيرها)، ومسلم رقم (2012 و 2013) من حديث جابر رضي الله عنه بنحوه.
وقوله في الحديث: "فاكفتوا" قال الحافظ: "بهمزةِ وصلٍ وكسر الفاء ويجوز ضمها، بعدها مثناة، أي: ضمُّوهم إليكم" اهـ من "فتح الباري": (6/ 410).
(2)
أخرجه أحمد: (22/ 188 رقم 14283)، وأبو داود رقم (5104) وغيرهما من حديث جابرٍ أيضًا.
ظلماءَ حِنْدِس، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك؟ فقال "في مثْلِ ضوْءِ النَّهارِ"
(1)
، فاستدلَّ بهذا على نُبُوَّته، وأنَّ الذي يأتيه مَلَكٌ من عند الله، وأن الذي يأتي مُسَيْلَمَةَ شيطانٌ، ولهذا كان سلطانُ السحر وعِظَم تأثيره إنما هو باللَّيل دون النهار، فالسِّحْرُ اللَّيْلِيُّ عندَهم هو السِّحْرُ القويُّ التأثيرُ، ولهذا كانت القلوبُ المظلمةُ هي محالَّ الشياطين وبيوتَهم ومأواهم، والشياطينُ تجولُ فيها وتتحكَّمُ كما يتحكَّمُ ساكنُ البيت فيه، وكلما كان القلبُ أظلم كان للشيطانِ أطوَعَ، وهو فيه أثبَتُ وأمكنُ.
فصل
ومن هاهنا تعلم السِّرَّ في الاستعاذة بربِّ الفلق في هذا الموضعِ، فإن الفلقَ الصُّبْحُ الذي هو مبدأُ ظهور النور، وهو الذي يطردُ جيش الظلام وعَسْكر المفسدين في الليل، فيأوي كلُّ خبيث وكلُّ مفسدٍ وكلُّ لصٍّ وكلُّ قاطع طريق إلى سَرَبٍ أو كِنٍّ أو غارٍ، وتأوي الهوامُّ إلى جِحَرتها
(2)
، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنَتِها ومحالِّها.
فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برَبِّ النور الذي يقهَرُ الظُّلْمَة ويُزيلها ويقهرُ عسكرَها وجيشَها، ولهذا يخبر سبحانه في
(1)
لم أجده، لكن أخرج أحمد:(1/ 312)، والطبراي بنحوه -كما في المجمع: 8/ 258 - عن ابن عباس، وابن سعد في "الطبقات":(1/ 195) عن عروة مرسلاً بسندٍ صحيح في حديث بدء الوحي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا
…
".
قال الهيثمي عن سند أحمد: "ورجاله رجال الصحيح".
(2)
(ظ ود): "أجحرتها"، والمثبت من (ق) وهو جمع "جُحْر" ويجمع على:"جِحَرة وأجحار" في انظر "اللسان": (4/ 117).
كلِّ كتاب
(1)
أنه يخرجُ عبادَهُ من الظُّلُماتِ إلى النُّور، ويدَعُ الكفارَ في ظلمات كفرهم قال تعالى الله:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] وقال في أعمار الكفار: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40].
وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].
فالإيمان كلُّه نور، ومآله إلى نور، ومستقرُّه في القلب المضيء المستنير، والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة، والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى الظلمات، ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة.
فتأملْ الاستعاذة بربِّ الفلق من شرِّ الظُّلْمة ومن شرِّ ما يحدثُ فيها وَنَزِّولْ هذا المعنى على الواقع يشهدْ به: أن القرآن بل هاتانِ السورتان من أعظم أعلام النبوة وبراهين صِدْق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومضادَّةِ لما جاء به الشَّياطينُ من كل وجه، وأن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم، وما يستطيعون فما فعلوه، ولا يليقُ
(1)
"فى كل كتاب" ليست في (ق).
بهم، ولا يتأتَّى منهم، ولا يقدرونَ عليه.
وفي هذا أبْيَنُ جواب وأشفاه لما يوردهُ أعداءُ الرسول عليه من الأسئلة الباطلة، التي قصَّرَ المُتَكَلِّمون غايةَ التقصير في دفعها، وما شَفَوا في جوابها، وإنما اللهُ سبحانه هو الذي شَفَى وكفى في جوابها فلم يُحْوِجْنا إلى متكلِّمٍ ولا إلى أصوليٍّ ولا نَظَّار، فله الحمد والمنة لا نحصي ثناءً عليه.
فصل
واعلم أن الخَلْقَ كُلَّهُ فَلَقٌ، وذلك أن "فَلَقًا" فَعَلٌ بمعنى: مفعول، كَقبَض وسَلَب وقَنَص، بمعنى: مَقْبُوض ومُسْتَلَب ومُقْتَنَص
(1)
، واللهُ عز وجل فالقُ الإصباح، وفالقُ الحب والنوى، وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون، والسَّحاب عن المطر، والأرحام عن الأجِنَّة، والظلام عن الإصباح، ويسمى الصبحُ المتصدِّعُ عن الظلمة: فَلَقًا وفَرَقًا، يقال: أبينُ
(2)
من فَرَقِ الصُّبح وفَلَقِهِ.
وكما أن في خَلْقه فَلَقًا وفَرَقًا، فكذلك أمره كلُّه فرقانٌ، يفرِّقُ به بين الحقِّ والباطل، فيفرق ظلام الباطل بالحق، كما يفرق ظلامَ الليل بالإصباح، ولهذا سمى كتابه:"الفرقان"، ونصرَه:"فرقانًا" لتضمُّنه الفرق بين أوليائه وأعدائه ومنه فَلْقُه البحرَ لموسى وسماه: فلقًا وفرقًا
(3)
.
فظهرت حكمةُ الاستعاذة بربِّ الفلق في هذه المواضع وظهر
(1)
في "المنيرية": "ومسلوب ومقنوص".
(2)
(ظ ود): "هو أبيض".
(3)
من (ق).