المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلالشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌فصلالشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد

وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} [طه: 66] ولو كانت تحركت بنوع حيلة -كما يقوله المنكرون- لم يكن هذا من السحر في شيء، ومثل هذا لا يخفى، وأيضًا: لو كان ذلك بحيلة -كما قال هؤلاء- لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزِّئبق وبيان ذلك المحال، ولم يحتجْ إلى إلقاء العصا لابتلاعها، وأيضًا: فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة، بل يكفي فيها حُذَّاق الصُّنَّاع، ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والأجر

(1)

، وأيضًا: فإنه لا يقالُ في ذلك: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} ، فإن الصناعات يشتركُ الناس في تعلُّمها وتعليمها، وبالجملة فبطلانُ هذا أظهرُ من أن يتكلف رده فلنرجعْ إلى المقصود.

‌فصل

الشرُّ الرابع: شرُّ الحاسد إذا حسد

، وقد دلَّ القرآنُ والسُّنَّةُ على أن نفسَ حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شرٌّ يَتَّصِلُ بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذِهِ بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} ، فحقَّق الشرَّ منه عند صدور الحسد.

والقرآنُ ليس فيه لفظة مهملة، ومعلوم أن الحاسد لا يسمَّى حاسدًا إلا إذا قام به الحسد، كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك، ولكن قد يكون الرَّجُلُ في طبيعته الحسد، وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نارُ الحسد من قلبه إليه، ووجهتْ إليه سهام الحسد من قَلْبه

(2)

، فيتأذَّى المحسودُ بمجرد

(1)

(ظ ود): "والإجزاء".

(2)

(ظ): "قِبَله" ولها وجه.

ص: 748

ذلك، فإن لم يستعذْ باللهِ ويتحصَّنْ به، ويكون له أورادٌ من الأذكار والدَّعوات والتَّوَجُّه إلى الله والإقبال عليه، بحيثُ يدفعُ عنه من شرِّه بمقدار توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولابدَّ، فقوله تعالى:{إِذَا حَسَدَ (5)} بيان؛ لأن شرَّهُ إنما يتحقَّقُ إذا حصل منه الحسدُ بالفعل.

وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ الصحيح رُقْيَةُ جبريلَ عليه السلام النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وفيها: "بسم الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شيءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كلِّ نَفْسٍ أو عَيْنِ حَاسِدٍ، الله يَشْفِيكَ"

(1)

، فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها؛ إذ لو نظر إليه نظرَ لاهٍ ساهٍ عنه، كما ينظرُ إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثِّرْ فيه شيئًا؛ وإنما إذا نظر إليه نَظَرَ من قد تكيَّفَتْ نفسُه الخبيثةُ، واتسمَّت واحْتَدَّتْ، فصارت نفسًا غضبيةً خبيثةً حاسدة أثَّرت بها

(2)

تلك النظرةُ، فأثَّرت في المحسود تأثيرًا بحسب صفة ضعفه وقوَّة نفس الحاسد، فربَّما أَعْطَبَهُ وأهلكَه، بمنزلةِ من فوَّق سهمًا نحو رَجُلٍ عُرْيَان فأصاب منه مقتلًا، وربما صرعه وأمرضَهُ، والتَّجارِبُ عند الخاصَّةِ والعامَّةِ بهذا أكثرُ من أن تُذْكَرَ.

وهذه العينُ إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا غضِبَت

(3)

واحتدَّت، فإنها تتكيَّفُ بكيفيَّة الغضب والخبث فتُحْدِثُ فيها تلك الكيفيةُ السُّمَّ فتؤثر في الملسوع، وربما قَوِيَتْ تلك الكيفيةُ واشتدَّتْ في نوعٍ منها حتى

(1)

تقدم ص / 742.

(2)

(ق): "فاقترفت بها".

(3)

(ظ ود) والمطبوعات: "عضَّت"، وما في (ق) أصحّ معنًى.

ص: 749

تُؤَثِّرَ بمجرد نظرة فتطمسُ البصر وتسقطُ الحَبَلَ، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطُّفْيَتَيْن منها، وقال: "اقْتُلُوهُمُا، فإنَّهُما يَطْمِسَانِ

(1)

البَصَرَ ويُسْقِطَانِ الحَبَلَ"

(2)

.

فإذا كان هذا في الحيَّات، فما الظَّنُّ في النفوس الشِّريرة الغَضَبِيَّة الحاسدة إذا تكيَّفت بكيفيَّتِها الغضبيّة واتسمَّت وتوجَّهت إلى المحسود بكيفيَّتها؟! فللهِ كم من قتيل، وكم من سَلِيب، وكم من معافيً عاد مضنيً على فراشه يقول طبيبُه: لا أعلمُ داءَه ما هو = فصدقَ!! ليس هذا الدَّاءُ من علم الطبائع، هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها.

وهذا علمٌ لا يعرفُهُ إلَاّ خواصُّ النَّاسِ، والمحجوبونَ مُنكرونَ له، ولا يعلمُ تأثيرَ ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلّا من له نصيبٌ من ذوق، وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى؟ وهل الإنفعالُ والتأثُرُ وحدوث ما يحدثُ عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلَاّ للأرواحِ، والأجسامُ آلتُها، بمنزلة آلة الصانع، فالصنعةُ في الحقيقة له، والآلاتُ وسائطُ في وصول أثره إلى الصنع.

ومن له أدنى فِطْنة، وتأمَّلَ أحوالَ العالم ولطُفَتْ رُوْحُه، وشاهدتْ أحوالَ الأرواح وتأثيراتها، وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها، كلُّ ذلك بتقدير العزيز العليم، خالق الأسبابِ والمسببات = رأى

(3)

(1)

(ظ): "يلتمسان" وهو موافق لرواية مسلم: "يلتمس البصر".

(2)

أخرجه البخاري رقم (3297)، ومسلم رقم (2233) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، وفي "الصحيحين":"يستسقطان الحَبَل".

وذو الطُّفْيَتين والأبتر: جِنْس من الحيَّاتْ الخبيثة.

(3)

تعلق بقوله: "ومن له أدنى فطنة

".

ص: 750

عجائبَ في الكون، وآياتِ دالَّةً على وحدانِيَّةِ الله وعظمته وربوبيَّتِهِ، وأَنَّ ثَمَّ عالمًا آخَرَ تجري عليه أحكامٌ أُخَرُ تُشْهَدُ آثارُها، وأسبابُها غُيَّبٌ عن الأبصار، فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين الذي أتقنَ ما صنع، وأحسنَ كلَّ شيء خَلَقَهُ!! ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظمُ وأوسعُ وعجائبه أبهرُ وآياتُه أعجبُ!!.

وتأمل هذا الهيكلَ الإنسانيَّ إذا فارقَتْهُ الرُّوحُ كيف يصيرُ بمنزلة الخَشَبة أو القطعة من اللحم، فأين ذهبت تلك العلوم

(1)

والمعارف والعقل، وتلك الصنائعُ الغريبة وتلك الأفعالُ العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات؟ كيف ذهبت كلُّها مع الرُّوح وبقي الهيكل سواء هو والتُّراب؟ وهل يخاطبُكَ من الإنسان أو يراك أو يحبك، أو يواليك أو يعاديك، ويخِفُّ عليك ويَثْقُلُ ويؤنِسُكَ ويوحِشُكَ، إلا ذلك الأمرُ الذي وراء الهيكل المشاهَدِ بالبَصَر.

فربَّ رجلٍ عظيم الهَيُولَي

(2)

كبيرِ الجثة، خفيفٌ على قلبك حُلْوٌ عندك، وآخرُ لطيفُ الخِلْقة صغير الجثة، أثقلُ على قلبك من جَبَل، وما ذاك إلا للطافة رُوح ذاك وخِفَّتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها، وبالجملة فالعُلَقُ والوُصَلُ التي بين الأشخاص والمنافرات والبُعد إنما هي للأرواح أصلًا، والأشباح تبعًا.

فصل

والعائنُ والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشترِكانِ

(1)

(ق) زيادة: "والأرواح".

(2)

الهيوْلَى، لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادة، انظر:"التوقيف على مهمات التعاريف": (ص/ 745).

ص: 751

في أن كلَّ واحد منهما تتكيَّفُ نفسُه وتتوجَّهُ نحو من يريدُ أذاه، فالعائنُ تتكيَّفُ

(1)

نفسُه عند مقابلة المَعِينِ ومُعَايَنَتِهِ. والحاسد يحصلُ له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضا.

ويفترقان في أن العائن قد يُصيبُ من لا يحسدهُ من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكادُ يَنْفَكُّ من حسد صاحبه. وربما أصابتْ عينُهُ نفسَه، فإن رؤيته للشيء رؤيةَ تعجُّبٍ وتحديقٍ، مع تكيُّف نفسِه بتلك الكيفية تؤثرُ في المَعِين

(2)

.

وقد قال غير واحد من المفسرين

(3)

في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] إنه الإصابةُ بالعَيْن، فأرادوا أن يُصِيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مِثْلَهُ ولا مِثْلَ حُجَّته

(4)

. وكان طائفةٌ منهم تمرُّ به الناقةُ والبقرةُ السمينةُ فَيَعينُها، ثم يقول لخادمه: خُذِ المِكْتَلَ والدِّرهم وَآتِنا بشيء من لحمها، فما تبرحُ حتى تقعَ فتُنْحَرَ.

وقال الكلبيُّ

(5)

: كان رجل من العرب يمكثُ يَوْمين أو ثلاثة لا يأكلُ، ثم يرفعُ جانب خِبَائِهِ فتمرُّ به الإبلُ فيقول: لم أرَ كاليوم إبلاً ولا غَنَمًا أحسنَ من هذه، فما تذهبُ إلا قليلًا حتى يسقطَ منها طائفة، فسأل الكفارُ هذا الرجلَ أن يُصيبَ رسول الله بالعين ويفعل به كفعله في غيره، فعصم الله تعالى رسولَه وحفظَه، وأنزل

(1)

هذه وما قبلها في (ق): «تتكشّف» .

(2)

وانظر: «زاد المعاد» : (4/ 164 - فما بعدها).

(3)

انظر «تفسير الطبري» : (12/ 203 - 204) عن ابن عباس وغيره.

(4)

(ق): «حُججه» وكذا في «تفسير البغوي» .

(5)

نقله عنه البغوي في «تفسيره» : (4/ 384).

ص: 752

عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51] هذا قول طائفة.

وقالت طائفة أخرى -منهم ابن قتيبة

(1)

-: ليس المرادُ أنهم يُصِيبونك بالعين كما يُصيبُ العَائِنُ بعينه ما يعجِبُهُ، وإنما أرادَ أنهم ينظرونَ إليك إذا قرأتَ القرآنَ الكريم نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء يكادُ يسقِطُكَ.

قال الزَّجَّاجُ

(2)

: يعني من شِدَّة العداوة يكادون بنظرهم نظرَ البُغَضَاء أن يصرعوك، وهذا مستعملٌ في الكلام، يقول القائل: نظر إليَّ نظرةً قد كان يصرعُني منها.

قال: ويدلُّ على صحَّة هذا المعنى أنه قَرَن هذا النَّظَرَ بسماع القرآن الكريم، وهم كانوا يكرهون ذلك أشدَّ الكراهة، فيُحِدُّون إليه النَّظَرَ بالبغضاء.

قلت: النظرُ الذي يُؤَثِّرُ في المنظور قد يكون سبَبُهُ شِدَّةَ العداوة والحسد، فيؤثر نظره في كما تؤثر نفسه بالحسد، ويقوى تأثيرُ النفس عند المقابلة، فإن العدوَّ إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسُه عنه، فإذا عاينَه قُبلًا اجتمعت الهِمَّةُ عليه، وتوجَّهتِ النفسُ بكُلِّيَّتِها إليه، فيتأثَّرُ بنظره، حتى إن من النَّاسِ من يَسْقُطُ، ومنهم من يُحَمُّ، ومنهم من يُحْمَلُ إلى بيته، وقد شاهدَ الناسُ من ذلك كثيرًا.

وقد يكون سبَبَهُ الإعجابُ، وهو الذي يسمُّونه بإصابة العين، وهو أن الناظرَ يرى الشيءَ رؤيةَ إعجابٍ به أو استعظامٍ، فتتكيَّفُ

(1)

في "تأويل مشكل القرآن": (ص/ 170)، والمؤلف ينقل من "تفسير البغوي":(4/ 384).

(2)

نقله في "اللسان": (10/ 145).

ص: 753

رُوْحُهُ بكيفيَّة خاصَّة تؤثِّرُ في المَعِين، وهذا هو الذي يعرفُه الناسُ من رؤيةِ المعين، فإنهم يستحسنونَ الشيءَ، ويعجبونَ منه فيصابُ بذلك.

قال عبد الرزاق: بن مَعْمر، عن همَّام بن مُنَبِّه

(1)

قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العَيْنُ حَقٌّ" ونهى عن الوَشْم

(2)

.

وروى سفيان، عن عَمْرو بن دينار، عن عُرْوَة عن عامر، عن عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَة، أن أسماءَ بنتَ عُمَيْس قالت: يا رسول الله إن ابني جعفرٍ تصيبُهمِ العينُ، أفَنَسْتَرْقِي لهُم؟ قال:"نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ"

(3)

.

فالكفار كانوا ينظرون إليه نظرَ حاسد شديد العدواة، فهو نظرٌ يكادُ يُزْلقُهُ لولا حفظُ الله وعصمته، فهذا أشدُّ من نظر العائن، بل هو جنسٌ من نظر العائن، فمن قال: إنه من الإصابة بالعَيْنِ، أراد هذا المعنى، ومن قال: ليسَ به

(4)

، أراد أن نَظَرَهُم لم يكن نَظَرَ استحسان وإعجاب، فالقولان

(5)

حق.

(1)

تحرفت في (ظ ود): والمطبوعات إلى: "هشام بن قتيبة"!.

(2)

أخرجه همام في "صحيفته" رقم (131)، وعبد الرزاق في "المصنف":(11/ 18) ، والبخاري رقم (5740)، ومسلم رقم (2187).

(3)

أخرجه أحمد: (6/ 438)، والترمذي رقم (2059)، وابن ماجه رقم (3510)، والنسائي في "الكبرى":(4/ 365) وغيرهم من حديث أسماء. بنت عميس رضي الله عنها.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وله شواهد.

(4)

(ق): "منهم"، و (ظ ود):"فيه" والمثبت أصح.

(5)

(ظ ود) والمطبوعات: "فالقرآن" والتصويب من (ق).

ص: 754

وقد روى التِّرْمِذِيُّ من حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَتَعَوَّذُ من عَيْنِ الإنسانِ"

(1)

فلولا أن للعينِ شَرًّا يتعوَّذْ منها.

وفي التِّرْمِذي من حديث عليِّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني حَيَّة بن حابس

(2)

التميمي، حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا شَيْءَ فَي الهَامِ، والعَيْنُ حَقٌّ"

(3)

.

وفيه أيضًا: من حديث وُهَيْب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ شَيءٌ سَابِقَ القَدَرِ لَسَبَقَتْة العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلُوا"

(4)

، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عَمْرو، وهذا حديث صحيح

(5)

.

والمقصود أن العائن حاسد خاصٌّ، وهو أضرُّ من الحاسد، ولهذا -والله أعلم- إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دود العائن؛

(1)

أخرجه الترمذي رقم (2058)، والنسائي:(8/ 271) وفي "الكبرى": (4/ 441)، وابن ماجه رقم (3511)، والضياء في "المختارة".

قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصحَّحه الضياء.

(2)

تحرفت في (ق) إلى: "جبير في حابس" و (ظ ود): "حابس بن حبة"! والتصويب من المصادر، واختلف في ضبط "حية" فقيل بالياء -آخر الحروف- وقيل بالموحَّدة ذكره ابن أبي عاصم، وخطؤوه فيه وصوّبوا الأول انظر "توضيح المشتبه":(3/ 78)، و"الإصابة":(2/ 201).

(3)

أخرجه أحمد: (27/ 181 رقم 16627)، والترمذي رقم (2061)، والبخاري في "الأدب المفرد":(ص/ 269) وغيرهم.

قال الترمذي: "حديث غريب" يُشير بذلك إلى ضعفه، لكن للحديث شواهد صحيحة يتقوّى بها من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

(4)

أخرجه مسلم رقم (2188)، والترمذي رقم (2062).

(5)

هذا كلام الترمذي عقب الحديث المتقدم، وحديث ابن عَمْرو أخرجه أحمد:(11/ 641 رقم 7070) وفي سنده ضعف.

ص: 755

لأنه أعمُّ، فكلُّ عائنٍ حاسدٌ ولابُدَّ، وليس كلُّ حاسدٍ عائْنًا، فإذا استعاذ من شرِّ الحسد دخل فيه العين، وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته.

وأصل الحَسَدِ هو بُغضُ نعمةِ الله على المحسود وتمنِّي زوالها، فالحاسدُ عدوُّ النعم، وهذا الشَّرُّ هو من نفس الحاسد وطبعها، ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها، بل هو من خُبثها وشرِّها، بخلاف السحر، فإنه إنما يكونُ باكتساب أمور أخرى، واستعانة بالأرواحِ الشَّيطانية، فلهذا -والله أعلم- قَرَن في السُّورة بين شَرِّ الحاسد وشرِّ الساحر؛ لأن الاستعاذة من شرِّ هذين تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يأتي من شياطين الإنس والجن، فالحَسَدُ من شياطين الإنس والجن، والسحرُ من النوعين.

وبقي قِسْمٌ ينفردُ به شياطينُ الجن، وهو الوسوسةُ في القلب، فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، فالحاسدُ والساحرُ يؤذيان المحسودَ والمسحورَ بلا عملٍ منه، بل هو أذىً من أمرٍ خارجٍ عنه، ففرَّق بينهما في الذكر في سورة الفلق.

والوسواسُ إنما يؤذي العبدَ من داخله بواسطةِ مساكنته له، وقبوله منه، ولهذا يعاقَبُ العبدُ على الشر الذي يؤذيه به الشَّيْطان من الوساوس التي

(1)

تقترنُ بها الأفعالُ والعزمُ الجازم؛ لأن ذلك سعيه وإرادته، بخلاف شرِّ الحاسد والساحر فإنه لا يُعَاقَبُ عليه؛ إذ لا يضافُ إلى كسبه ولا إرادته، فلهذا أفرد شرّ الشيطان في سورة، وقرن

(1)

(ق): "الوسواس الذي".

ص: 756

بين شرِّ الساحر والحاسد في سورة، وكثيرًا ما يجتمعُ الشران شر الحسد والسحر في النفوس الخبيثة

(1)

للمناسبة.

ولهذا اليهودُ أسحر الناس وأحسدُهُمْ، فإنهم لشِدَّة خُبْئِهِمْ فيهم من السِّحر والحسد ما ليس في غيرهم، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا، فقال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 102].

وللكلامِ على أسرار هذه الآية وأحكامها، وما تضمَّنَتْه من القواعد، والرَّدِّ على من أنكر السحر، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات، الذي أنكر من أنكرَ السحرَ خشية الالتباس، وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما = موضعٌ غير هذا؟ إذ المقصودُ الكلامُ على أسرار هاتين السورتين، وشدَّة حاجة الخلق إليهما، وأنه لا يقومُ غيرُهما مقامَهُما.

وأما وصفُهم

(2)

بالحسد؛ فكثير في القرآن، كقوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وفي قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ

(1)

(ظ ود): "وكثيرًا ما يجتمع القرآن الحسد والسحر للمناسبة"! والمثبت من (ق).

(2)

أي اليهود.

ص: 757

أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].

والشيطان يقارنُ الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما، ولكنَّ الحاسدَ تُعِينُهُ الشياطينُ بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيهٌ بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلبُ ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشَرَفَه وفضله، وأبى أن يسجدَ له حَسَدًا، فالحاسد من جند إبليس، وأما الساحرُ فهو يطلبُ من الشيطان أن يُعِينَهُ ويستعينه

(1)

، وربما يعبدُهُ من دون الله تعالى حتى يقضيَ له حاجَتَهُ، وربما يسجد له.

وفي كتب السحر و"السِّرِّ المكتوم"

(2)

من هذا عجائب، ولهذا كلما كان الساحرُ أكفرَ وأخبثَ وأشدَّ معاداةً لله ولرسوله ولعباده المؤمنين؛ كان سحرُه أقوى وأنْفَذَ، ولهذا كان سِحْرُ عُبَّاد الأصنام أقوى من سِحْر أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سِحْر المُنْتَسِبين إلى الإسلام، وهم الذين سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي "الموطأ"

(3)

عن كعب قال: "كلماتٌ أحفظُهُنٌ من التَّوراة لولاها لجعلتْني يهودُ حمارًا: أعوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذي لا شيءَ أعظمُ منه، وبكلمات الله التَّامَّاتِ التي لا يُجاوِزهُنَّ بَرٌّ ولا فاجرٌ،

(1)

(ق): "ويستعين به".

(2)

"السر المكتوم في مخاطبة النجوم" لأبي بكر الرازي المتكلم (606) ، والكتاب في عبادة الكواكب في الأصنام وعمل السحر، وقيل: إنه منسوب إليه. انظر: "مجموع الفتاوى": (13/ 180)، و"بيان تلبيس الجهمية":(1/ 447)، و"كشف الظنون":(ص/ 989)، و"طبقات الشافعية الكبرى":(8/ 87).

(3)

(2/ 951 - 952).

ص: 758

وبأسماء الله الحُسنى، ما عَلِمْتُ منها وما لم أعْلَمْ، منْ شَرِّ ما خَلَقَ وذَرَأَ وبَرَأَ".

والمقصودُ أنَّ السَّاحرَ والحاسد كل منهما قصده الشَّرُّ، لكن الحاسد بطبعه ونفْسِه وبغضه للمحسود، والشيطان يقترنُ به ويُعينه ويزيِّنُ له حَسَدَهُ ويأمرُه بموجبه، والساحرُ بعلمه

(1)

وكسبه وشِرْكه واستعانته بالشياطين.

فصل

وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} يعمُّ الحاسدَ من الجنِّ والإنس، فإن الشيطانَ وحزبَهُ يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته، كما قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].

ولكنَّ الوسواس أخصُّ بشياطين الجن، والحسدُ أخصُّ بشياطين الإنس، والوَسْواس يعمُّهما كما سيأتي بيانهما، والحسدُ يعمُّهما أيضًا، فكلا الشيطانين حاسدٌ مُوَسْوِسٌ، فالاستعاذةُ من شرِّ الحاسد تتناولُهما جميعًا.

فقد اشتملت السورةُ على الاستعاذة من كلِّ شَرٍّ في العالم، وتضمَّنت شرورًا أربعة يستعاذً منها: شرًّا عامًّا وهو شرُّ ما خَلَق، وشرُّ الغاسق إذا وقب، فهذا نوعان.

ثم ذكر شرَّ الساحر والحاسد، وهي نوعان أيضًا؛ لأنهما من شرِّ النفس الشريرة، وأحدهما يستعينُ بالشيطان ويعبدُه وهو السَّاحرُ،

(1)

(ق): "بعمله".

ص: 759

وقلَّما يتأتَّىْ السحرُ بدون نوع

(1)

عبادة للشيطان، وتقرُّبٍ إليه؛ إما بذبح باسمه، أو بذبح يُقْصَدُ به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من من أنواع الشرك والفسوق.

والساحرُ وإن لم يُسَمِّ هذا عبادة للشيطان فهو عبادةٌ له، وإن سمَّاه بما سمَّاه به، فإن الشرك والكفر هو شركٌ وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له هذا خضوعٌ وتقبيل الأرض بالجبهة كما أُقَبِّلها بالنِّعم، أو هذا إكرامٌ، لم يخرجْ بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله فَلْيُسَمِّهِ بما شاء.

وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ

(2)

به وتقرَّب إليه بما يحبُّ فقد عَبَدَهُ، وإن لم يُسَمِّ ذلك عبادةً بل يُسَمِّيه استخدامًا ما، وصَدَق هو استخدام

(3)

من الشيطان له، فيصيرُ من خَدَم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمُهُ الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمةَ عبادة، فإن الشيطان لا يخضعُ له ويعبدُهُ كما يفعلُ هو به.

والمقصودُ أن هذا عبادة منه للشيطان وإنما سمَّاه استخدامًا، قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [يس: 60] وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40 - 41] فهؤلاء وأشباهُهم عبَّاد الجنِّ والشياطين، وهم أولياؤُهم في الدنيا

(1)

(ق): "بنوع" وهو خطأ.

(2)

(ق): "واستعان".

(3)

"ما، وصدق هو استخدام" سقطت من (ق).

ص: 760

والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشيرُ، فهذا أحدُ النوعين.

والنوع الثاني: من يُعِينُهُ الشيطانُ وإن لم يستعِنْ به، وهو الحاسدُ؛ لأنه نائبُهُ وخليفتُهُ؛ لأنَّ كِلَيْهما عدوُّ نِعَمِ الله تعالى ومنغِّصُها

(1)

على عباده.

فصل

وتأمل تقييدَهُ -سبحانه- شرَّ الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ (5)} ؛ لأن الرجل قد يكون عندَهُ حَسَدُ ولكن يُخفيه ولا يُرَتِّبُ عليه أذىً

(2)

بوجهٍ ما، لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجدُ في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعامِلُ

(3)

أخاه إلا بما يُحِبُّ اللهُ، فهذا لا يكاد يخلو منه أحدٌ، إلا مَنْ عَصمَهُ اللهُ.

وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساكَ إخوةَ يوسُفَ

(4)

. لكن الفرقَ بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعُها ولا يأتمرُ بها، بل يعصِيها طاعةً لله وخوفًا وحياءً منه وإجلالًا له أن يكرَهَ نِعَمَه على عباده، فيرى ذلك مخالفةً لله وبغضًا لما يُحِبُّ اللهُ ومحبةً لما يبغضُه، فهو يجاهدُ نفسَه على دفع ذلك، ويُلْزِمُها بالدُّعاء للمحسود، وتمنِّي زيادةِ الخير له، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحَسَد، ورتَّب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسدُ المذمومُ هو كلُّه حسد تمنِّي الزوال.

(1)

(د): "ومبغضها".

(2)

(ق): "ولا يرتّب عليه أذى أخيه

".

(3)

(ظ ود): "يعاجل".

(4)

أخرجه هناد بن السَّري في "الزهد": (2/ 642).

ص: 761

وللحسد ثلاثُ مراتبَ:

إحداها: هذه.

الثانية: تمنِّي استصحاب عدم النِّعمة، فهو يكرهُ أن يُحْدِثَ اللهُ لعبده نعمةً، بل يُحبُّ أن يبقى على حاله؛ من جهله أو فقره أو ضعفه أو شَتات قلبه عن الله أو قِلَّة دينه، فهو يتمنَّى دوامَ ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسدٌ على شيء مقدَّرٍ، والأول حسَدٌ على شيء محقَّق؛ وكلاهما حاسدٌ عدوُّ نعمة الله وعدوُّ عبادِه، وممقوتٌ عند الله تعالى وعند الناس، ولا يسودُ أبدًا ولا يَرْأَس، فإن الناس لا يُسَوِّدُون عليهم إلا من يريدُ الإحسان إليهم.

فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يُسَوِّدُونهم باختيارهم أبدًا إلا قهرًا، يَعُدُّونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم اللهُ بها، فهم يُبغضونه وهو يُبْغِضُهم.

والحسد الثالث: حسد الغبطة، وهو تمنِّي أن يكونَ له مثلُ حال المحسود من غير أن تزولَ النعمةُ عنه، فهذا لا بأس به ولا يُعَابُ صاحبُه، بل هذا قريبٌ من المنافسة، وقد قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26].

وفي الصحيحِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا حَسَدَ إلا في اثْنتَيْن: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وَسَلَّطهُ علي هَلَكَتِهِ في الحَق، ورَجُلٌ آتاه اللهُ الحِكْمَةَ فهو يعصي بِهَا، ويعَلِّمها النَّاسَ"

(1)

، فهذا حَسَد غِبْطة، الحاملُ لصاحبه عليه كِبَر نفسه، وحُبُّ خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول فى

(1)

أخرجه البخاري رقم (73)، ومسلم رقم (816) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 762

جملتهم، وأن يكونَ عن سُبَّاقِهِم وعِلْيَتِهم ومُصَلِّيهم لا عن فَسَاكِلِهِم

(1)

، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يضبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخلُ في الآية بوجهٍ ما.

فهذه السورةُ من أكبر أدوية المحسود، فإنها تتضمَّنُ التَّوكُّلَ على الله والالتجاءَ إليه والاستعاذةَ به من شرِّ حاسد النعمة، فهو مستعيذٌ بولى النعم وموليها [من شرِّ لِصِّها وعدوها]

(2)

كأنه يقول: يا منْ أولاني نعمتَه وأسْداها إليَّ، أنا عائذٌ بك من شرِّ من يريدُ أن يستلبَها مني، ويُزيلها عني [فلا يعيذني منه سواك، فهو مستجير بمن أنعم عليه من عدوِّ نعمته، والله تعالى يُجير ولا يجار عليه]

(3)

وهو حسْبُ من توَكَّلَ عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف، ويجيرُ المستجير، وهو نِعْمَ المولى ونعم النصير، فمن تولَّاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه = تولَّاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه وأتَّقاهُ آمَنَهُ من كل ما

(4)

يخافُ ويحذرُ، وجلب إليه كلَّ ما يحتاج إليه من المنافع:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته، فإن الله تعالى بالغ أمره، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدْرًا لا يتقدَّمُ عنه ولا يتأخَّرُ، ومن لم يَخَفْهُ أخافه من كل شيء، وما خاف أحدٌ غيْرَ الله إلا

(1)

المُصَلِّي ما يسبق من الفرس، وتأتي بعد المجلّي، أما الفساكل فجمع فُسْكُل، وهو: ما يجيء آخر الحلية من الخيل. انظر: "القاموس": (ص/ 1681،1346).

(2)

من (ق).

(3)

الزيادة من (ق).

(4)

(ظ ود): "مما".

ص: 763

لنقص خوف من الله، قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 98 - 100] وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، أي: يخوفكم بأوليائه، ويعظِّمهم في صدوركم، فلا تخافوهم، وأفرِدوني بالمخافة أكْفِكمْ إيَّاهم.

فصل

(1)

ويندفع شرُّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:

أحدها: التَّعَوُّذ بالله تعالى من شرِّه، والتَّحصُّن به، واللَّجَأ إليه، وهو المقصود بهذه السورة، والله تعالى سميع لاستعاذته

(2)

، عليمٌ بما يبستعيذُ منه، والسمعُ هنا المرادُ به سمع

(3)

الإجابة لا السمع العام، فهو مثل قوله:"سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَهُ". وقول الخليل صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} . ومرَّةً يقرنُهُ بالعلم، ومَرَّةً بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ بربه

(4)

من عدوٍّ يعلم أن الله تعالى يراهُ، ويعلم كيدَهُ وشرَّهُ، فأخبر. الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي: مجيب عليمٌ بكيد عدُوِّه يراه ويُبصِرُه لينبسطَ أملُ المستعيد ويُقْبِلَ قلبه

(5)

على الدعاء.

(1)

من هنا يبدأ الجؤء الموجود من النسخة العمرية وكُتِب عليه: "الجزء الثاني من بدائع الفوائد" ورمزنا له بـ "ع". وفي أوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الإعانة".

وكتب في هامش (ظ) في هذا الموضع: "أول الجزء الثاني من البدائع".

(2)

ليست في (ق).

(3)

ليست فِي (ع)، و (ظ ود):"سموع".

(4)

(ظ ود): "به".

(5)

: "بقلبه".

ص: 764

وتأملْ حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلمُ وجوده ولا نراه بلفظ: (السميع العليم) في (الأعراف) و (حم السجدة)، وجاءت الاستعاذةُ من شرِّ الإنس الذين يؤنَسُون ويُرَوْن بالأبصار بلفظ:(السميع البصير) في سورة (حم المؤمن) فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]؛ لأن أفعال هؤلاء أفعال مُعَايَنة تُرَى بالبصر.

وأما نزْغُ الشَّيطان؛ فوساوسُ وخَطَراتٌ يُلقيها في القلب، يتعلَّقُ بها العلم، فأمَر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسَّميع البصير في باب ما يُرى بالبصر ويُدركُ بالرُّؤية، والله أعلم.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمرِه ونفِيه، فمن أتقى الله تولى الله حفظه، ولم يَكِلْه إلى غيره

(1)

، قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وقال النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ"

(2)

، فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامَه أينما توجَّه، ومن

(1)

في هامش (ق) حاشية بخط العلامة ابن علان الصديقي نصُّها: "لكاتبه الفقير الحقير محمد على ابن علان البكري الصديقي الشافعي:

اتق اللهَ لا تخف من فلانٍ

ما فلانٌ -مع التُّقى- بفلانِ وأدْرِ أن المقضِيَّ حَتْم وما لم

يقضِهِ الله لا يكن بزمانِ

(2)

أخرجه الترمذي رقم (2516)، وأحمد:(4/ 410 رقم 2669) وغيرهم من طرقٍ كثيرة عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الحافظ ابن رجب في "نور الاقتباس": (ص/ 31): "وأجود أسانيده من رواية حَنَش عن ابن عباس، وهو إسناد حسن لا بأس به" اهـ. ونحوه في "جامع العلوم والحكم": (1/ 460 - 461).

ص: 765

كان الله حافِظَهُ وأمامَهُ فممن يخافُ ومَنْ يحذرُ؟.

السبب الثالث: الصَّبْر على عدوه، وأن لا يقابلَهُ ولا يشكوه، ولا يحدِّثُ نفسَه بأذاه أصلًا، فما نُصِرَ على حَاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتَّوَكّل على الله، ولا يَسْتَطِلْ تأخيرَهُ وبغيَهُ، فإنه كلما بغى عليه كان بغيُهُ جندًا وقوَّةً للمبغي عليه

(1)

المحسودِ، يقاتلُ به الباغي نفسه وهو لا يشعرُ، فبغيه سهامٌ يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغيُّ عليه ذلك لسَرَّه بغيُهُ عليه، ولكن لضعفِ بصيرته لا يرى إلا صورةَ البغي دون آخره ومآله، وقد قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] فإذا كان اللهُ قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقَّهُ أولًا، فكيف بمن لم يستوفِ شيئًا من حقِّه؟ بل بُغِيَ عليه وهو صابر!؟ وما من الذنوب ذنبٌ أسرعُ عقوبةً من البغي وقطيعة الرَّحِم، وقد سبقت سُنَّةُ الله: أنه لو بَغَى جبلٌ على جبل جَعَلَ الباغِيَ منهما دَكًّا

(2)

.

السبب الرابع: التوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، والتوكل من

(3)

أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدْوانهم، وهو من

(4)

أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبُهُ، أي: كافيه، ومن كان اللهُ كافِيَهُ وواقِيَهُ، فلا.

(1)

ليست فِي (ع).

(2)

في هامش (ق)، ما نصه: "كما قال:

فلو بغى جبلٌ يومًا على جبلٍ

لاندك منه أعاليه وأسفَلُه" اهـ

أقول: انظر البيت في "الإيضاح لعلوم البلاغة": (ص/ 387) للقزويني.

(3)

من الآية إلى هنا ليست فى (ق)، وبدلًا منها:"وهو".

(4)

ليست في (ع).

ص: 766

مطمعَ فيه لعدوه

(1)

، ولا يضرُّه إلا أذىً لا بدَّ منه؛ كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يَضُرَّهُ بما يبلغُ منه مرادَه؛ فلا يكون أبدًا، وفَرْق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاءٌ له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يُتَشَّفى به منه.

قال بعض السلف: جعل اللهُ -تعالى- لكل عمل جزاءً من جنسه

(2)

، وجعل جزاءَ التَّوَكُّل عليه نفس كفايته لعبده، فقال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل: نُؤتِهِ كذا وكذا من الأجْرِ، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسَه سبحانه كافِيَ عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكَلَ العبدُ على الله تعالى حقَّ توكُّلِهِ، وكادَتْه السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا من ذلك، وكفاه ونصره

(3)

.

وقد ذكرنا حقيقةَ التَّوَكُّل وفوائده وعِظَمَ منفعته وشدَّةَ حاجة العبد إليه في كتاب: "الفتح القدسي"، وذكرنا هناك فسادَ من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات العوامِّ، وأَبْطَلنا قولَه من وجوهٍ كثيرة، وبيّنا أنه من أجلِّ

(4)

مقامات العارفين، وأنه كلَّما علا مقامُ العبد كانت حاجته إلى التَّوَكُّل أعظمَ وأشدَّ، وأنه على قَدْر إيمان العبد يكون توكُّلُهُ، وإنما المقصود هنا ذكرُ الأسباب التي يندفع بها شرُّ الحاسد والعائن، والسَّاحر والباغي.

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن

(1)

(ق) زيادة: " أبدًا".

(2)

(ظ ود): "نفسه".

(3)

انظر: "مدارج السالكين: (2/ 133).

(4)

من قوله: "فساد من

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 767

يقصدَ أِن يمحوَهُ

(1)

في باله كما خطر [له]

(2)

فلا يَلْتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شرِّه، فإن هذا بمنزلة من يطلبُهُ عدوُّه ليُمْسِكَهُ ويؤذيه، فإذا لم يتعرَّضْ له ولا تماسك هو وإيَّاه، بل انعزل عنه لم يقدر عليه، فإذا تماسكا وتعلَّقَ كل منهما بصاحبه حصل الشَّرُّ.

وهكذا الأرواحُ سواءٌ، فإذا علّق روحَه به وشبَّثها به، وروح الحاسد الباغي متعلِّقةٌ به يقَظَةً ومنامًا لا يَفتُرُ عنه، وهو: يتمنَّى أن يتماسكَ الرُّوحان ويتشبَّثا، فإذا تعلَّقتْ كلُّ روح منهما بالأخرى عُدِمَ القرار ودام الشرُّ حتى: يهلِكَ أحدُهما.

فإذا جَبَذَ روحَه عنه، وصانها عن الفكر فيه والتَّعَلُّق به، وأن يُخْطِره بباله، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفعُ له وأولى يه، بقي الحاسد الباغي يأكلُ بعضُه بعضًا، فإن الحسد كالنار، فإذا لم تجدْ ما تأكلُهُ أكَلَ

(3)

بعضُها بعضًا.

وهذا باب عظيم النفع، لا يلقاه إلا أصحابُ النفوس الشريفة والهمم العَلِيَّة، وبين الكَيِّس الفَطِن وبينه حتى يذوقَ حلاوتَهُ وطيبَهُ ونعيمَهُ، كأنه

(4)

يرى من أعظم عذاب القلب والرُّوح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به، ولا يرى شيئًا آلَمَ لروحه من ذلك، ولا يصدِّق بهذا إلا النفوسُ المطمئنة: الوادعة اللَّيِّنة

(5)

التي رضيتْ بوكالة الله لها،

(1)

(ع): "محوه".

(2)

(ظ ود): "إليه"، وسقطت من (ق وع).

(3)

(ق وظ ود): "أكلت".

(4)

(ع): "فإنه".

(5)

"الوادعة اللينة" ليست فى (ع).

ص: 768

وعلمتْ أن نصرَه لها خيرٌ من انتصارها هي لنفسها، فوثِقتْ بالله وسكَنَتْ إليه واطمأنَّتْ به، وعلِمَتْ أن ضمانَه حقٌّ ووعده صدقٌ، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلًا، فعلمت أن نصرَه لها أقوى وأثبتُ وأدومُ وأعظمُ فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصرِ مخلوقٍ مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بـ:

السبب السادس: وهو الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبَّته وتَرَضِّيه والإنابة إليه في محلِّ خواطر نفسه وأمانيها، تدبُّ فيها دبيبَ تلك الخواطر شيئًا فشيئًا حتى يقهرَها ويغمرَها ويُذْهِبَها بالكلية، فتبقى خواطرُه وهواجسُه وأمانِيُّهُ كلُّها في محابِّ الرَّبِّ والتقرُّب إليه، وتملُّقه وتَرَضِّيه واستعطافه وذكره، كما يذكر المحبُّ التَّامُّ المحبة

(1)

لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأتْ جوانحُهُ من حبه، فلا يستطيعُ قلبُه انصرافًا عن ذكره، ولا روحُه انصرافًا عن محبَّتِهِ، فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيتَ أفكاره وقلبه معمورًا بالفكر في حاسده والباغي عليه، والطريقِ إلى الانتقام منه والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتَّسَعُ له إلا قلبٌ خرابٌ لم تسكنْ فيه محبَّة الله وإجلالُه وطلبُ مرضاته؛ بل إذا مسَّه طيفٌ من ذلك واجتاز ببابه

(2)

من خارج ناداه حرس قلبه: إيَّاك وحِمى المَلِك، اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حَلَّ فيها ونزل بها، مالَك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليَزَكَ

(3)

وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور.

(1)

"التام المحبة" ليست في (ظ ود).

(2)

(ق): "بذاته".

(3)

كلمة فارسية، معناها: طليعة الجيش. انظر: "معجم المصطلحات والألقاب التاريخية": (ص / 446).

ص: 769

قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 - 100]، وقال في حق الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24].

فما أعظمَ سعادةَ مَنْ دخل هذا الحِصْنَ وصار داخلَ اليَزَك، لقد أوى إلى حصْن لا خوفَ على مَن تحصَّن به، ولا ضيْعَةَ على من أوَي إليه، ولا مَطْمعَ للعدو في الدُّنُوِّ منه

(1)

و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سَلَّطت عليه أعداءَه، فإن الله: تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق -وهم أصحاب نبيه- دونه صلى الله عليه وسلم:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فما سُلِّط على العبد مَنْ يؤذيه إلا بذنب يعلمُه أو لا يعلمُه، وما لا يعلمُهُ العبدُ من ذنوبه أضعافُ ما يعلمه منها، وما ينساهُ مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره.

وفي الدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ أَنْ أُشْرِكَ بكَ وَأَنا أعْلَمُ، ْ وَأسْتَغْفِرُك لِمَا لا أعْلَمُ"

(2)

، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغَفار منه

(1)

(ظ ود): "إليه".

(2)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد": (ص / 214)، وأبو يعلى:(1/ 60 - 61)، =

ص: 770

مما لا يعلمُهُ أضعافُ أضعافِ ما يعلَمُهُ، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذٍ إلّا بذنبٍ.

ولقي بعضَ السَّلَفِ رجلٌ فأغلظ له ونال منه، فقال له: قِفْ حتى أدخلَ البيت ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرَّع إليه، وتابَ وأنابَ إلى ربِّه، ثم خرج إليه فقال له: ما صنعتَ؟ فقال: تبتُ إلى الله من الذنبِ الذي سَلَّطَكَ به عَلَيَّ.

وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شرٌّ من الذنوبُ ومُوجباتُها، فإذا عُوفي من الذنوب عوفِيَ من مُوجباتها، فليس للعبد إذا بُغِيَ عليه وأُوذي، وتسلَّطَ عليه خصومُهُ شيءٌ أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته: أن يعكسَ فِكْره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نزل به، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولَّى نُصْرَتَهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعدَه من عبدٍ، وما أبْركَها من نازلة نزلتْ به، وما أحسنَ أثرَها عليه ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطيَ لما مَنَعَ، فما كلُّ أحدٍ يُوَفَّقُ لهذا، لا معرفةَ به، ولا إرادةً له، ولا قُدْرَةً عليه، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.

السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإنَّ لذلك تأثيرًا عجيبًا في دَفْع البلاء، ودفع العين، وشرِّ الحاسد، ولو لم يكنْ في هذا إلا تجاربُ الأُمم قديمًا وحديثًا لكفى به، فما يكادُ العينُ والحسد والأذى يتسلَّطُ على محسنٍ متصدِّقِ، وإن أصابه في شيءٌ ذلك كان

= والضياء في "المختارة": (1/ 150) من حديث أبي بكر رضي الله عنه. قال الضياء: "وسنده ضعيف".

ص: 771

معاملًا فِيه باللُّطفِ والمعونة والتأييد، وكانت له فِيه العاقبةُ الحميدةُ.

فالمحسنُ المُتَصَدِّقُ في خَفَارة إحسانه وصَدَقته، عليه من الله جُنَّةٌ واقيةٌ وحِصنٌ حصينٌ، وبالجملة؛ فالشكرُ حارس النعمة من كلِّ ما يكونُ سببًا لزوالها.

ومن أقوى الأسباب حَسَد الحاسد والعائن، فإنه لا يفْتُرُ ولا يَنِي ولا يبردُ قلبهُ حتى تزولَ النعمةُ عن المحسود، فحينئذ يبردُ أنينُه وتنطفئُ نارُهُ -لا أطفأها اللهُ- فما حرس العيدُ نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها، ولا عَرَّضها للزَّوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كُفرانُ النعمة، وهو باب إلى كُفران المنعم.

فالمحسنُ المُتَصَدِّقُ يستخدمُ جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جندٌ ولا عسكرٌ وله عدوٌّ فإنه يوشِكُ أن يَظْفَرَ به عدُوُّهُ، وإن تأخرت مدَّةُ الظَّفَرِ، والله المستعان.

السبب التاسع: -وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشَقِّها عليها، ولا يوفَّقُ له إلا من عَظُمَ حظُّه من الله- وهو: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذىً وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددتَ إليه إحسانًا وله نَصِيحةً وعليه شفقة، وما أظنُّك تصدِّق بأن هذا يكون: فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قولَه عز وجل:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}

(1)

[فصلت: 34 - 36]، وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا

(1)

هذه الآية ليست في (ع)، وكذا سقطت ونصف التي بعدها من (ق).

ص: 772

صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)} [القصص: 54].

وتأمَّلْ حال النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم

(1)

أنه ضربه قومُه حتى أَدْمَوْه، فجعل يسلُتُ الدَّمَ عنه، ويقول:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ"

(2)

كيف جمع في هذه الكلمات أربَعَ مقاماتٍ من الإحسان، قابَلَ بها إساءَتهم العظيمةَ إليه:

أحدها: عفوه عنهم.

والثاني: استغفاره لهم.

الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.

الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال:"اغفرْ لِقَوْمِي"، كما يقولُ الرجلُ لمن يشفعُ عندَهُ فيمن يَتَّصِلُ به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فَهَبْهُ لي.

واسمع الآن ما الذي يسهِّل هذا على النفس ويطيِّبُه لها وينعِّمها به: اعلمْ أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخافُ عَوَاقِبَها وترجوه أن يعفوَ عنها ويغفرَها لك ويَهَبَها لك، ومع هذا لا يقتصرُ على مجرَّد العفو والمسامحة حتى ينعمَ عليك ويكرمَكَ ويجلبَ إليك من المنافع والإحسان فوقَ ما تُؤَمِّلُه، فإذا كنت ترجو هذا من ربِّك أن يقابلَ به إساءَتك، فما أولاك وأجدرَكَ أن تعاملَ به خَلْقَهُ وتقابلَ به

(3)

إساءَتَهم، ليعامِلَكَ اللهُ هذه المعاملة، فإن الجزاءَ من جنس العمل،

(1)

"الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم" سقطت من (ق)، وفي (ع) بدلًا من "نبينا":"النبي".

(2)

أخرجه البخاري رقم (3477)، ومسلم رقم (1792) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

(ع): "بهم".

ص: 773

فكما تعملُ مع الناس في إساءتهم في حقِّك يفعلُ اللهُ معك في ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقًا، فانتقم بعد ذلك أو اعْفُ، وأَحْسِنْ أو اترُكْ، فكما تَدِين تُدانُ، وكما تفعل مع عباده يُفْعَلُ معك.

فمن تصوَّرَ هذا المعنى وشَغَلَ به فكرَهُ، وإن عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعونته ومعِيَّته الخاصَّة، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للذي شكى إليه قرابَتَهُ وأنه يحْسِن إليهم وهم يسيئونَ إليه، فقال:"لا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْت عَلَى ذلِكَ"

(1)

، هذا مع ما يتعجَّلُّهُ من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلُّهم معه علي خصمه، فإنَّ كل من سمع أنه يحسنُ إلى ذلك الغير وهو مُسِيءٌ إليه، وَجَدَ قلبَه ودعاءَه وهمَّتَه مع المحسن على المسيء، وذلك أمرٌ فطريٌّ فطر اللهُ عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفُهم ولا يعرفونه، وألا يريدون منه إقطاعًا ولا خبزًا، هذا مع أنه لا بُدَّ له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملِكَهُ بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويَدل له ويَبْقى من أحب الناس إليه، وإما أن يُفَتِّتَ كَبدَهُ ويقطعَ دابرهُ إن أقام على إساءته إليه، فإنه يُذيقه

(2)

بإحسانهَ أضعافَ ما ينالُ منه بانتقامه، ومن جرَّب هذا عَرَفَهُ حَق المعرفة، والله هو الموفقُ المعين، بيده الخير كلُّه، لا إله غيره

(3)

، وهو المسؤولُ أن يستعمِلَنا وإخواننا في ذلك بمَنِّه وكرمه.

وفي الجملة؛ ففي: هذا المقام من الفوائد ما يزيدُ على مئة منفعةٍ للعبد عاجلة وآجلة، سنذكرها فِي موضع آخرَ إن شاء الله تعالى.

(1)

أخرجه مسلم رقم (2558) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(2)

كذا في (ظ ود)، وفى (ع وق):"يذبحه".

(3)

(ق): "إلا هو".

ص: 774

السبب العاشر: -وهو الجامعُ لذلك كُلِّه وعليه مدارُ هذه الأسباب- وهو: تجريدُ التوحيد والتَّرَحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم.

والعلم بأن هذه آلاتٌ بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محرِّكها وفاطرها وبارئها، ولا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه، فهو الذي يمسّ

(1)

عبدَه بها، وهو الذي يصرفُها عنه وحدَه لا أحد سواه، قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ (107)} [يونس: 107].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "واعلمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعوا على أنْ يَنْفَعُوك

(2)

لم يَنْفَعُوك إلا بشيءٍ كَتَبهُ اللهُ لك، ولو اجْتَمَعُوا على أن يَضرُّوكَ لمْ يَضُرُّوكَ إلا بشيءٍ كَتَبه اللهُ عَلَيْكَ"

(3)

، فإذا جرَّدَ العبدُ التوحيدَ فقد خرج من قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوُّهُ أهونَ عليه عن أن يخافَه مع الله تعالى، بل يفردُ اللهَ بالمخافة، وقد أمَّنه منه، وخرج عن قلبه

(4)

اهتمامُه به واشتغالُه به وفكره فيه، وتجرَّدَ لله محبَّةً وخشيةً وإنابةً وتوِكُّلًا واشتغالَهُ به عن غيره، فيرى أنَّ إعمالَهُ فكْرَهُ في أمر عدوِّهِ وخوفهُ منه واشتغالَهُ به من نقص توحيده، وإلا فلو جرَّدَ توحيدَه لكان له فيه شغلٌ شاغلٌ، والله يتولَّى حفظَه والدفعَ عنه، فإن اللهَ يدفعُ

(5)

عن الذين آمنوا، فإن كان

(1)

كذا في (ق وع)، و (ظ ود):"يحيى" وكتب في هامش (د): "لعله يمتحن".

(2)

(ع) زيادة: "بشيء".

(3)

تقدم تخريجه ص / 765.

(4)

من قوله: "خوف ما سواه

" إلى هنا ساقط من (ق).

(5)

كذا في جميع النسخ.

ص: 775

مؤمنًا فاللهُ يدفعُ عنه ولا بُدَّ، وبحسب إيمانه يكون دفاعُ الله عنه، فإن كَمُلَ إيمانُهُ كان دفعُ الله عنه أتَمَّ دَفْعٍ، وإنْ مَزَجَ مُزِج له، وإن كان مرَّة ومرَّة فالله له مرَّة ومرَّة، كما قال بعضُ السلف: من أقبل على الله بكُلِّيَّته أقبل اللهُ عليه جملةً، ومن أعرض عن الله بكلِّيته أعرض الله عنه جملةً، ومن كان مرةَ ومرةً فاللهُ له مرةً ومرةً.

فالتوحيد حِصنُ إليه الأعظم الذي من دخله كان من الآمنينَ، قال بعض السلف

(1)

: من خاف الله خاف كلُّ شيء، ومن لم يَخَفِ اللهَ أخافه من كلِّ شيء.

فهذه عشرةُ أسباب يندفعُ بها شرُّ الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفعُ من التَّوَجُّه إلى الله وإقبالِهِ عليه وتَوَكُّلِهِ عليه وثقته به وأن لا يخاف معه غيرَه، بل يكون خوْفه منه وحدَه ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحدَه

(2)

فلا يعلقُ قلبَه بغيره، ولا يستغيثُ بسواه، ولا يرجو إلا إيَّاه ومتى علَّق قلبَه بغيره ورجاه وخافه وُكِلَ إليه وخُذِلَ من جهته، فمن: خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خُذِل من جهتِه

(3)

وحُرِمَ خَيْرَهُ، هذه سُنَّةُ الله فِي خلقة:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 62].

فصل

فقد عرفتَ بعص ما اشتملت عليه هذه السُّورةُ من القواعد النَّافعة المهمَّة، التي لا غِنى للعبد عنها في دينه ودنياه، ودلَّت على أن

(1)

هو يوسف بن أسباط، انظر "الحلية":(8/ 240).

(2)

من قوله: "وثقته به .. " إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

من قوله: "فمن خاف

" إلى هنا ساقط من (ع).

ص: 776

نفوسَ الحاسدين وأعيُنَهم لها تأثيرٌ، وعلى أن الأرواحَ الشيطانيَّةَ لها تأثيرٌ بواسطة السحر والنفثِ في العقد، وقد افترق العالمُ في هذا المقام أربَعَ فِرَقٍ:

ففرقة: أنكرت تأثيرَ هذا وهذا

(1)

، وهم فرقتان: فرقةٌ اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجِنِّ، وأنكرت تأثيرهما أَلْبتةَ، وهذا قلُ طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقُوى والتأثيرات، وفرقة أنكرت وجودَهما بالكلية، وقالت: لا وجودَ لنفس الآدمِيِّ سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط، ولا وجود للجِنِّ والشياطين سوى أعراض قائمة به، وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائَعيين وغيرهم من الملاحدة المُنتسبين إلى الإسلام، وهو قولُ شذوذٍ من أهل الكلام الذين ذمَّهم السَّلَفُ وشهدوا عليهم بالبدعة والضَّلالة.

الفرقة الثانية: أنكرتْ وجودَ النفس الإنسانية المفارقة للبَدَن، وأقرَّت بوجود الجنِّ والشياطين، وهذا قولُ كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم.

الفرقة الثالثة: بالعكس أقرَّت بوجود النَّفس النَّاطقة المفارقة للبَدَن، وأنكرت وجودَ الجن والشياطين، وزعمتْ أنها غير خارجة عن قُوى النفس وصِفَاتها، وهذا قولُ كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم.

وهؤلاء يقولون: إن ما يوجدُ في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة، فهي من تأثيرات النفس، ويجعلون السِّحر والكهَانة كلَّهُ من تأثير النَّفس وحدها بغير واسطة شيطانٍ منفصل، وابنُ سينا وأتباعه على هذا القول، حتى إنهم يجعلونَ معجزاتِ الرسل من هذا

(1)

"هذا" الآية سقطت من (ع).

ص: 777

الباب، ويقولون

(1)

: إنما هي من تأثيرات النَّفْس في هَيُولَى العالم، وهؤلاء كفَّارٌ بإجماع أهل المِلَل، ليسوا من اتباع الرُّسُل جملةً.

الفرقة الرابعة: وهم أتباعُ الرسل وأهل الحق أقَرُّوا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن، وأقرُّو بوجود الجن والشياطين، وأثبتوا ما أثبتَهُ اللهُ تعالى من صفاتهما وشرهما، واستعاذوا بالله تعالى منه، وعلموا أنه لا يُعيذُهم منه ولا يُجيرُهم إلا الله تعالى، فهؤلاء أهلُ الحق، ومن عداهم مفْرِطٌ فِي الباطَل أو معه باطلٌ وحقُّ، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فهذا ما يَسَّرَ اللهُ تعالى من الكلام على سورة (الفلق).

* * *

(1)

من (ع) فقط.

ص: 778

وأما سورة (الناس)؛ فقد تضمَّنَتْ -أيضًا- استعاذة ومستعاذًا به ومستعاذًا

(1)

منه، فالاستعاذةُ قد

(2)

تقدَّمت. وأما المستعاذُ به فهو الله تعالى: {بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} ، فذكر ربوبيَّته للنَّاس، وملكَه إياهم، وإلاهيتَه لهم، ولا بُدَّ من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم، فنذكر أولًا معنى هذه الإضافات الثلاث، ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة.

الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمِّنة لخلفهم وتدبيرهم، وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه، ودفع الشَّرِّ عنهم وحفظهم مما يفسدُهم، هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمَّن قدْرتَهُ التامَّة ورحمته الواسعة، وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كُرباتهم.

الإضافة الثانية: إضافة الملك فهو مَلِكُهم المُتَصَرِّفُ فيهم، وهم عبيدُه ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبِّرُ لهم كما يشاءُ، النافذُ القدرة فيهم، الذي له السلطانُ التَّامُّ

(3)

عليهم، فهو مَلِكُهم الحق الذي إليه مَفْزَعُهُم عند الشَّدائد والنَّوائب، وهو مُسْتَغَاثُهم ومَعَاذُهم ومَلْجَؤُهم، فلا صلاحَ لهم ولا قيامَ إلا به وبتدبيره، فليس لهم مَلِكٌ غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدوُّ، ويستنصرون

(4)

به إذا نزل العدوُّ بساحتهم.

(1)

"به ومستعاذًا" سقطت من (ظ ود)، و"به" وحدها سقطت من (ق).

(2)

من (ع).

(3)

ليست في (ظ ود).

(4)

(ظ): "ويستصرخون".

ص: 779

الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية فهو إلههُم الحقُّ، ومعبودُهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبودَ لهم غيره. فكما أنه وحدَه هو ربُّهم ومليكهُم لم يشركْه في ربوبيَّته ولا فِي ملكه لهم

(1)

أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودُهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيّته، كما لا شريكَ معه فى ربوبيته ومُلْكِه.

وهذه طريقةُ القرآن الكريم يحتجُّ عليهم بإقرارهم بهذا التَّوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وإذا كان وحدَه هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مَفْزَعَ لنا فى الشَّدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبودَ لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى ولا يُخافَ ولا يزجى ولا يُحَبَّ سواه، وفي يُذَلَّ لغيره، ولا يُخْضَعَ لسواه، ولا يُتَوَكَّلَ إلا عليه؛ لأن من ترجوه ونخافُهُ وتدعوه وتتوكَّل عليه إما أن يكون مُربِّيَكَ: والقَيِّمَ بأمورِك ومتوليَ شأنِك، وهو ربُّك فلا ربَّ لك سواه، أو تكونَ مملوكه وعبدَه الحقَّ، فهو ملكُ الناس حقًّا، وكلُّهم عبيدُه ومماليكُه.

أو يكون معبودَك وإلهَك الذي لا تستغني عنه طَرْفةَ عينٍ، بل حاجتُكَ إليه أعظمُ من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإلهُ الحقُّ، إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجأوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم، ووليُّهم ومتولِّي أمورهم جميعًا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبدُ عند النوازل

(2)

ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟! فظهرت.

(1)

من (ع وق).

(2)

(ق): "إلى ربه".

ص: 780

مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوةً وأشدهم ضررًا وأبلغهم كيدًا.

ثم إنه سبحانه كرَّر الاسمَ الظَّاهرَ ولم يوقع المُضْمَرَ موقعَهُ، فيقولُ: ربُّ الناس وملكهم وإلههم، تحقيقًا لهذَا المعنى وتقويةً له، فأعاد ذكرَهم عند كلِّ اسم من أسمائه، ولم يعطفْ بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.

والمقصود الاستعاذةُ بمجموع هذه الصِّفات حتى كأنها صفةٌ واحدةٌ، وقدم الربوبيَّةَ لعمومها وشمولها لكلِّ مربوب، وأخَّرَ الإلهيَّةَ لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إلهُ مَنْ عَبَدَهُ ووحَّده، واتخذه دونَ غيره إلهًا، فمن لم يعبدْه ويوحِّده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن تَرَكَ إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره، ووسَّط صفةَ الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرِّف بقوله وأمره، فهو المطاعُ إذا أمر، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلاهَهُم الحق من كمال ملكه، فى بربوبيَّتهُ تستلزمُ ملكَه وتقتضيه، وملكُهُ يستلزمُ إلهيته ويقتضيها، فهو الرَّبُّ الحق، الملك الحق، الإله الحقُّ، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، استعبدهم بإلاهيته، فتأمَّل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمَّنَتْها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} ، وقد اشتملت هذه الإضافاتُ الثلاثُ على جميع قواعد الإيمان، وتضمَّنَتْ معاني أسمائه الحسنى.

أما تضمُّنها لمعاني أسمائه الحسنى؛ فإن الرَّبَّ هو: القادرُ الخالقُ البارئ المصوِّر الحيُّ القَيُّومُ العليمُ السميعُ البصيرُ المحسِنُ المُنعِمُ الجَوَادُ المُعطي المانعُ الضَّارُّ النافعُ المُقَدِّم المُؤَخِّر،

ص: 781

الذي يُضِلُّ من يشاءُ ويهدي من يشاءُ، ويُسعد من يشاءُ ويُشقِي من يشاء ويعرُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى.

وأما الملك؛ فهو الآمر الناهي المعزُّ المذِلُّ الذي يصرف أمورَ عباده كما يحِبُّ، ويقلبهم كما يشاءُ، وله من معنى الملك ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى؛ كالعزيز الجبار المتكبِّر الحَكَم العَدْل الخافض الرافع المُعِز المُذِل العظيم الجَلِيل الكبير الحَسِيب المجيد الوالي

(1)

المُتَعالي مالك الملك المقسِط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء: العائدة إلى الملك.

وأما الإله؛ فهو الجامعُ لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فِيدخلُ فِي هذا الاسم جميعُ الأسماء الحسنى، ولهذا كان القولُ الصحيح أن "الله" أصلُه "الإله" كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذَّ منهم

(2)

، وأن اسم الله تبارك وتعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، فقد تضمَّنت

(3)

هذه الأسماءُ الثلاثةُ جميعَ معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرًا بأن يُعَاذَ ويُحْفَظ ويُمْنَعَ من الوسواس الخنَّاس ولا يُسَلَّطَ عليه.

وأسرارُ كلام الله أجلُّ وأعظمُ من أن تدركهَا عقولُ البشر، وإنما غايةُ أولي العلمَ الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وإن بادِيَه إلى الخافي اليسير.

(1)

(ع): "الولى"

(2)

انظر ما تقدم من هذا الكتاب (1/ 39 - 40).

(3)

(ق): "شملت".

ص: 782

فصل

وهذه السورة مشتملةٌ على الاستعاذة من الشر الذي هو سببُ الذنوب والمعاصي كلها، وهو الشرُّ الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة (الفلق) تضمّنت الاستعاذة من الشَّرِّ الذي هو ظلمُ الغير له بالسحر والحسد، وهو شرٌّ من خارج، وسورة (الناس) تضمَّنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شرٌّ من داخل.

فالشر الأول: لا يدخلُ تحت التكليف، ولا يُطْلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه، والشر الثاني في سورة (الناس): يدخل تحتَ التكليف، ويتعلَّق به النهيُ، فهذا شرُّ المعايب، والأول شرُّ المصائب، والشر كله يرجعُ إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما، فسورة (الفلق) تتضمَّنُ الاستعاذة من شر المصيبات

(1)

، وسورة (الناس) تتضمَّنُ الاستعاذةَ من شرِّ العيوب التي أصلُها كلها الوسوسةُ.

فصل

إذا عُرِف هذا فالوَسْواس: فَعْلالٌ

(2)

، من وَسْوَسَ، وأصل الوَسْوَسَةِ: الحَرَكَةُ، أو الصَّوتُ الخَفِيُّ الذي لا يُحَسُّ فيُحْتَرَزَ منه، فالوَسْوَاسُ: الإلقاءُ الخَفِيُّ في النفس، إما بصوتِ خفِىٍّ لا يسمعُه إلا من ألقِيَ إليه، وإما بغير صوت كما يُوَسْوِسُ الشيطانُ إلى العبد، ومن هذا "وَسْوَسَةُ الحَلْي"، وهو حركتُهُ الخَفِيَّةُ في الأذن، والظاهر -واللهُ أعلم- أنها سُمِّيَتْ:"وسوسةَ الحَلْي"

(3)

لقربها، وشدَّة مجاورتها

(1)

(ظ ود): "المصايب".

(2)

(ق وظ ود): "فعلان".

(3)

"الحلي" من (ع) فقط.

ص: 783

لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن، فقيل "وَسْوَسة الحَلْي"؛ لأنه صوت مجاورٌ للأذن، كوسوسة الكلام الذي يُلقِيه الشيطانُ في أذن مَنْ يوسْوِسُ له.

ولما كانت الوسوسةُ كلامًا يكرِّرُه الموسوِسُ ويؤكِّدُه عند من يُلقيه إليه كرَّروا لفظها: بإزاء تكرير معناها، فقالوا: وَسوَسَ وَسْوَسَةً، فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه.

ونظير هذا ما تقدَّم

(1)

من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدَّوَران والغَلَيَان والنَّزَوَان، وبابه، ونظير ذلك:"زلْزَلَ ودَكْدَكَ وقَلْقَلَ وكَبْكَبَ الشَّيءَ"؛ لأن الزَّلْزَلة: حركةٌ متكرِّرةٌ، وكذلك:"الدَّكْدَكة والقَلْقَلة"، وكذلك كبْكَبَ الشيءَ: إذا كبَّه في مكانٍ بعيد، فهو يكبُّ فيه كبًّا بعد كبٍّ، كقوله تعالى:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء: 94] ومثلُه رَضرَضَهُ: إذا كرَّر رَضَّهُ مرَّةً بعد مرة، ومثله ذَرْذَرَهُ: إذا ذرَّه شيئًا بعد شيء، ومثله: صَرْصَرَ البابُ: إذا تكرَّرَ صريرهُ، ومثله: مطْمَطَ الكلامَ: إذا مطَّهُ شيئًا بعد شيء، ومثله: كَفْكَفَ الشيءَ: إذا كرَّر كَفَّه، وهو كثير.

وقد عُلِمَ بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرُّباعي المكرر، فإذا قلت:(ذرَّ الشيء، وصَرَّ البابُ، وكَفَّ الثوبَ، ورضَّ الحبَّ) لم يَدُلَّ على تكرار الفعل بخلاف ذَرْذَرَه وصَرْصَرَ ورَضْرَضَ، ونحوه، فتأمله فإنه مطابق لقاعدة العربية فِي الحذو بالألفاظ حذوَ المعاني

(2)

،

(1)

(1/ 189) من هذا الكتاب.

(2)

(ع): "لحذف بالألفاظ: حذف

".

ص: 784

وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته.

وكذلك قولهم: عَجَّ العِجْلُ

(1)

: إذا صَوَّتَ، فإن تابع صوتَه قالوا: عَجعَجَ، وكذلك: ثَجَّ الماء: إذا ضُبَّ، فإن تكرر ذلك قيل: ثَجْثَجَ، والمقصود أن المُوَسْوِسَ لما كان يكرِّر وَسْوَسَتَهُ ويتابعها قيل: وَسْوَسَ.

فصل

إذا عُرِفَ هذا فاختلف النُّحاةُ في لفظ (الوَسْوَاس) هل هو وصفٌ أو مصدرٌ؟ على قولين، ونحن نذكر حُجَّةَ

(2)

كُلَّ قول ثم نُبَيِّنُ الصحبحَ من القولينِ بعون الله تعالى وفضله:

فأما من ذهبَ إلى أنه مصدر، فاحتجَّ بأن الفعل منه: فَعْلَلَ، والوصف من: فَعْلَلَ إنما هو: "ففَعْلِلٌ" كمُدَحْرِج ومُسَرْهِف ومُبَيْطِر ومُسَيْطِر، وكذلك هو من: فَعَلَ بوزن: "مَفْعِّل" كَمَقْطِّع ومَخْرِّج، وبابه، فلو كان الوَسْوَاسُ صِفَةً لقيل: موَسْوِس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زَلْزَلَ: مُزَلْزِلٌ، لا زَلْزَال، وكذلك من دَكْدَكَ: مُدَكْدِكٌ، وهو مطَّرِد، فَدَلَّ على أن الوَسْوَاس مصدرٌ وُصِفَ به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف تقديرُه: ذو الوَسْوَاس. قالوا: والدليل عليه أيضًا قول الشاعر

(3)

:

* تَسْمَعُ للحَلْيِ بها وَسْوَاسًا *

(1)

(ق): "الفحل".

(2)

(ع): "حجةً على

".

(3)

هو الأعشى، من معلقته، والبيت:

تسمع للحَلْي وسواسًا إذا انصرفتْ

كما اسْتَعانَ بِرِبحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ

"ديوانه": (ص/ 300).

ص: 785

فإذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.

قال أصحاب القول الآخر

(1)

: الدليلُ على أنه وصف أن "فَعْلَلَ" ضَرْبَانِ: أحدهما: صحيح لا تكرارَ فيه؛ كَدَحْرَجَ وسَرْهَفَ

(2)

وبَيْطَرَ

(3)

، وقياس مصدر هذه:"الفَعْلَلَة"، كالَدَحْرَجَة والسَّرْهَفَة والبَيْطَرَة، و"الفِعْلال" -بكسر الفاء- كالسِّرهاف والدِّحْراج، والوصف منه "مفَعْلِلٌ" كمدَحْرِج ومبيْطِر.

والثاني: "فَعْلَل" الثنائي المكرر؛ كزَلْزَلَ ودَكْدَكَ ووَسْوَس، وهذا فرعٌ على "فَعْلَلَ" المجرد عن التَّكرار؛ لأن الأصل السلامةُ من التَّكرار، ومصدر هذا النوع والوصف منه مساوٍ لمصدر الأول ووصفه، فمصدره يأتي على "الفعللة"؛ كالوَسْوَسَةِ وَالزَّلْزَلَةِ، و"الفِعْلال" كالزِّلْزَال، وأَقْيَس المصدرين وأولاهما بنوعي فَعْلَلَ:"الفِعْلال" لأمرين:

أحدهما: أن "فَعْلَلَ" مشاكل لـ "أفْعَلَ" في عدد الحروف، وفتح الأول والثالث والرابعِ وسكون الثاني، فجُعِل "إفعال" مصدرْ "أفعل"، و"فِعْلال" مصدر "فَعْلك"، ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفِعْلان، فكان "الفِعْلالُ" أولى بهذا الوزن من "الفعللة".

الثاني: أن أصل المصدر أن يخالفَ وزنه وزن فعله، ومخالفة "فِعْلال" لـ "فَعْلَلَ" أشدُّ من مخالفة "فَعْلَلَة" له، فكان "فِعْلال" أحقَّ بالمصدرية من "فَعْلَلَة"، أو تساويا في الاطِّراد مع أن "فَعْلَلَة" أرجحُ في الاستعمال وأكثرُ، هذا هو الأصل.

(1)

النص من هنا إلى ص/789 من كلام ابن مالك، نقله السيوطي في "الأشباه والنظائر":(4/ 51 - 54).

(2)

السَّرْهفة: نعمة الغذاء. انظر "اللسان": (9/ 151).

(3)

أصل البَطْر: الشق، ومنه أخذ البَيْطار وهو: معالج الدواب. انظر: "اللسان": (4/ 69).

ص: 786

وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء، فقالوا:"وَسْوَسِ الشيطان وَسْوَاسًا"، و"وَعْوعَ الكلبُ وَعْوَاعًا" إذا عوى، و"عَظْعَظ السَّهْمُ

(1)

عَظْعَاظًا"، والجاري على القياس: "فِعْلالٌ" بكسر الفاء، أو "فَعْلَلَة"، وهذا المفتوح نادر؛ لأن الرُّباعي الصحيحَ أصلٌ للمتكرِّر، ولم يأتِ مصدر الصحيح مع كونه أصلًا إلاّ على "فَعْلَلَة وفِعْلال" بالكسر، فلم يحسُن بالرباعي المكرّر لفرعيته أن يكونَ مصدَرُه إلا كذلك، لأن الفرعِ لا يخالف أصلَه، بل يحتذي فيه حذوَه، وهذا يقتضي أن لا يكونَ مصدرُه على "فَعْلال" بالفتح، فإن شذَّ حُفِظ ولم يُزَدْ عليه.

قالوا: وأيضًا فإن "فَعْلالًا" المفتوح الفاء قد كثر وقوعُه صفةً مصوغةً من "فَعْلَلَ" المكرر ليكون فيه نظير "فَعَّال" من الثلاثي لأنهما متشاركان وزنًا، فاقتضى ذلك أن لا يكون لـ "فَعْلال" من المصدرية نصيبٌ، كما لم يكن لـ "فَعال" فيها نصيبٌ، فلذلك اسْتندروا وقوع:(وَسْوَاس ووَعْوَاع وعَظْعَاظ) مصادر، وإنما حقُّها أن تكون صفاتٍ دالَّةً على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.

قالوا: وإذا ثبت هذا فحقُّ ما وقع منها محتملًا للمصدرية والوصفية أن يُحمل على الوصفية، حَمْلًا على الأكثر الغالب وتجنبًا للشَّاذِّ، فمن زعم أن (الوَسْوَاس) مصدر مضاف إليه (ذو، تقديرًا، فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب، ويدلُّ على فساد ما ذهب إليه أمران:

(1)

المعظعظ من السهام هو الذي يضطرب ويلتوي، "اللسان":(7/ 447).

وذكر في "اللسان" أن عَظْعَاظًا -بفتح العين- محكية عن كراع وهي نادرة، والأشهر: عِظْعاظًا.

ص: 787

أحدهما: أن كلَّ مصدر أضيف إليه (ذو) تقديرًا فتجرُّدُهُ للمصدرية أكثرُ من الوصف به، كَرِضى وَصَوْم وفِطْر، و"فَعْلال" المفتوح لم يثبُتْ تجرُّدُه للمصدرية إلا فِي ثلاثة ألفاظ فقط (وَسْوَاسْ ووَعْوَاع وعَظْعَاظ)، على أن منع المصدرية في هذا ممكنٌ؛ لأن غاية ما يمكنُ أن يُستدَلَّ به على المصدرية قولهم: وَسْوَس إليه الشيطان وَسْواسًا، وهذا لا: يتعيَّنُ للمصدرية؛ لاحتمال أن يُرَادَ به الوصفية وينتصب: "وَسْواسًا" على الحال، ويكون حالًا مؤكِّدة، فإن الحال قد يؤكَّدُ بها عاملُها الموافق لها لفظًا ومعنًى، كقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79]{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} ، نعم إنما تتعيَّن مصدرية (الوَسْوَاس) إذا سُمِع:"أعوذ بالله من وَسْوَاس الشيطان"، ونحو ذلك مما يكون الوَسْوَاس فيه مضافًا إلى فاعله، كما سُمع ذلك في (الوَسْوَسَة) ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده؟! فبذلك يتعيّن أن يكون (الوَسْوَاس) مصدرًا لا بانتصابِه

(1)

بعد الفعل.

الوجه الثاني: -من دلِيل فساد من زعم أن وسواسًا مصدرٌ مضافٌ إليه (ذو) تقديرًا-: أنَّ المصدر المضاف إليه (ذو) تقديرًا لا يؤنَّثُ ولا يُثنَّى ولا يُجمعُ، بل يلزمُ طريقةً واحدةً، ليعلمَ أصالته في المصدرية وأنه عارض: الوصفية، فيقال: امرأة صَوْمٌ، وامرأتان صَوْمٌ، ونساءٌ صَوْم، لأن المعنى: ذاتُ صَوْم، وذواتا صَوْم، وذوات صَوْمِ، و"فَعْلال" الموصوف به ليس كذلك، بل يثنَّى ويُجْمَعُ ويؤَنَّثُ فتقول: رجل ثَرْثار، وامرأة ثَرْثَارة، ورجالٌ ثَرْثارنَ.

(1)

من (د) و (ظ وق): "لانتصابه".

ص: 788

وفي الحديث: "أبْغَضُكُمْ إلىَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُون"

(1)

وقالوا: ريحٌ زَفْزَافةٌ، أي: تُحَرِّكُ الأشجار، وريح سَفْسَافة، أي: تنخِّلُ التُّرابَ، ودِرْعٌ فَضْفاضَةٌ، أىِ: مُتَّسِعَة. والفعل من ذلك كله: "فَعْلَلَ"، والمصدر:"فَعْللَةٌ وفِعْلال" بالكسر، ولم ينقلْ في شيء من ذلك:"فَعْلالٌ" بالفتح.

وكذلك قالوا: تَمْتَامٌ، وفَأْفَاءٌ، ولَضْلاضٌ، أي: ماهرٌ فى الدِّلالة، وفَجْفَاجٌ: كثيرُ الكلام، وهَزهارٌ، أي: ضَحَّاكٌ، وكَهْكاهٌ ووطْواطٌ، أي: ضعيفٌ، وحَشحَاشٌ وعَسْعاسٌ، أي: خفيف

(2)

، وهو كثير ومصدره كله "الفَعْلَلَة" والوصف "فَعْلال" بالفتح.

ومثله: هَفْهَافٌ أي: خَمِيصٌ، ومثله: دَحْدَاحٌ أي: قَصير، ومثله: بَجْبَاج أي: جَسِيم، وتَخْتَاخٌ أي: ألْكَن، وسَمْسَامٌ أي: سريع، وشيءٌ خَشْخَاش أي: مُصَوِّتٌ، وقَعْقَاعٌ مثله، وأسد قَضْقَاضٌ أي: كاسِر، وحيَّةٌ نَضْنَاضٌ: تُحَرِّكُ لسانها. فقد رأيت "فَعْلالًا" في هذا كله وصفًا لا مصدرًا، فما بال الوَسْوَاس أُخْرِج عن نظائره وقياس بابه؛ فثبت أن وَسْوَاسًا وصفٌ لا مصدر؛ كَثَرْثَار وتَمْتَام ودَحْدَاح، وبابه.

ويدلُّ عليه وجهٌ آخر وهو: أنه وصَفَه بما يستحيلُ أن يكون مصدرًا، بل هو متعيِّنُ الوصفيَّة وهو الخَنَّاس، فالوسواس والخَنَّاس

(1)

أخرجه الترمذي رقم (2018) من حديث جابر رضي الله عنه قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

وله شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني أخرجه أحمد: (29/ 267 رقم 17732)، وابن حبان "الإحسان ":(2/ 231)، وغيرهم، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا. وله شواهد أخرى يتقوَّى بها من حديث عبد الله بن عَمْرو وابن مسعود رضي الله عنهم.

(2)

"وعَسْعاس، أي: خفيف" سقطت من (ظ ود).

ص: 789

وصفانِ لموصوف

(1)

محذوف وهو الشيطانُ، وحَسَّنَ حذفَ الموصوف هاهنا غلبةُ الوصف حتي صار كالعَلَم عليه، والموصوف إنما يَقْبُحُ حذفُهُ إذا كان الوصفُ مشتركًا فيقعُ اللَّبْسُ؛ كالطَّويل والقبيح والحَسَن، ونحوه، فيتعيَّن ذكرُ الموصوف ليعلم أن الصِّفة له لا لغيره، فأما إذا غلب الوصفُ واختصَّ ولم يعرضْ فيه اشتراك، فإنه يجري مجرى الاسم، ويحسُنُ حذف الموصوف؛ كالمسلم والكافى والبَرِّ والفاجر والقاصي والداني

(2)

والشاهد والوالي والأمير

(3)

ونحو ذلك، فحَذْف الموصوف هنا أحسن من ذكره، وهذا التفصيلُ أولى من إطلاق مَنْ منَعَ حذْفَ الموصوفِ ولم يفَصِّلْ.

ومما يدلُّ على أن الوسواس وصفٌ لا مصدرٌ: أن الوصفيَّة أغلبُ على "فَعْلال" من المصدرية كما تقدَّم، فلو أريد المصدرُ لأتي بـ:(ذو) المضافة إليه، ليزولَ اللَّبْسُ وتَتَعَيَّنَ المصدريَّةُ، فإن اللَّفظ إذا احتمل الأمرين على السواء، فلا بدَّ من قرينةٍ تدُلُّ على تعيينِ أحدهما، فكيف والوصفيةُ أغلبُ عليه من المصدرية!؟.

وهذا بخلاف صَوْم وفِطْر وبابهما، فإنها مصادرُ لا تلتبسُ يالأوصاف، فإذا جرت أوصافًا عُلِم أنها على حذف مضافٍ أو تنزيلًا للمصدر منزلةَ الوصف مبالغةً على الطريقتين في ذلك، فتعيَّنَ أن الوَسْواسَ هو الشَّيطَانُ نفسه، وأنَّه ذاتٌ لا مصدرٌ، والله أعلم.

(1)

(ق): "المصدر".

(2)

(ع): "العاصي"، و"الداني" من (ظ ود).

(3)

ليست في (ظ ود).

ص: 790

فصل

وأما الخنَّاسُ: فهو "فَعَّال" من: خنَسَ يَخْنِسُ: إذا تَوَارى واخْتَفَى. ومنه قول أبي هريرة: "لَقِيَني النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جُنُبٌ فانخَنَسْتُ منه"

(1)

. وحقيقة اللَّفظ اختفاءٌ بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء؛ ولهذا وُصِفت بها الكواكبُ في قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} [التكوير: 15]، قال قتادة: هي النجوم تبدو باللَّيل وتخنِسُ بالنَّهار فتختفي ولا تُرَى. وكذلك قال عليٌّ رضي الله عنه: هي الكواكبُ تخنس بالنهار فلا

(2)

تُرى. وقالت طائفة: الخُنَّسُ: هي الرَّاجعةُ، التي ترجِعُ كلَّ ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعةُ السَّيَّارة، قالوا: وأصل الخُنُوس: الرُّجُوعُ إلى وراء

(3)

.

والخَنَّاسُ هو مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخُّر، فإن العبدَ إذا غَفَلَ عن ذكر الله جَثَمَ على قلبه الشيطانُ، وانبسط عليه، وَبَذَرَ فيه أنواعَ الوساوس التي هي أصلُ الذنوب كلها، فإذا ذكر العبدُ ربَّهُ واستعاذ به انخنَسَ وانقبض كما ينخِنسُ الشيءُ يَتَوَارَى، وذلك الانخناسُ والانقباضُ هو -أيضًا- تَجَمُّعٌ ورجوع وتَأَخُّرٌ عن القلب إلى خارج، فهو تأخُّر ورجوعٌ معه اختفاءٌ.

وخَنَسَ وانْخَنَسَ يدُلُّ على الأمرين معًا. قال قتادة: الخَنَّاسُ له

(1)

أخرجه البخاري رقم (283) ومسلم رقم (371).

(2)

(ظ ود): "تخنس فلا

".

(3)

انظر أقوال السلف في "تفسير الطبري": (12/ 467 - 469)، و"الدر المنثور":(6/ 529).

ص: 791

خُرْطُوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَسَ

(1)

.

ويقالُ: رأسُه كرأس الحيَّة وهو واضعٌ رأسَهُ على ثَمَرَة القلب يُمَنِّيه ويحدِّثُهُ، فإذا ذكر الله تعالى خَنَسَ، وإذا لم يَذْكرْه عادَ ووضَعَ رأسَهُ يوسوِسُ إليه ويُمَنِّيهِ

(2)

.

وجيء من هذا الفعل بوزن: "فعَّال" الذي للمبالغة دون الخَانِس والمُنْخَنِس إيذانًا بشدة هروبه ورجوعه وعِظَم نفوره عندَ ذكر الله، وأن ذلك دأبُهُ ودَيْدَنُهُ، لا أنه يعرِضُ له عند ذكر الله أحيانًا، بل إذا ذُكِرَ اللهُ عز وجل هَرَبَ وانخنسَ وتأخَّرَ، فإنَّ ذِكْرَ اللهِ هو مِقْمَعَتُهُ التي يُقمعُ بها، كما يُقمعُ المفسدُ والشِّرِّيرُ بالمقامع التي تَرْدَعُهُ؛ من سِياطٍ وحديدٍ وعِصِيٍّ، ونحوها.

فذِكْر اللهِ تعالى يقمعُ الشيطانَ ويؤلمُهُ ويؤذيه، كالسِّياط والمقامع التي تؤذي من يُضْرَبُ بها. ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلًا ضئيلًا مضنًى مما يعذبهُ المؤمنُ ويقمعُه به من ذكر الله وطاعته.

وفِي أثرٍ عن بعض السلف: "إن المؤمن يُنْضِي شيطانَه، كما

(1)

ذكره البغوي في "تفسيره": (4/ 548) بدون إسناد، وهو بنحوه مروي: عن معاوية أخرجه ابن أبي داود في "ذم الوسوسة" -كما في "الدر: 6/ 721"، ورُوِيَ مرفوعًا من حديث أنسٍ رضي الله عنه أخرجه أبو يعلى وابنُ شاهين والبيهقي في "الشعب"- كما في "الدر: 6/ 721"، قال الحافظ في "الفتح": (8/ 614): "وإسناده ضعيف"، وروي عن ابن عباسِ وغيره نحوه.

(2)

نقله المؤلف من "تفسير البغوي": (4/ 548)، وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابنُ المنذر عن عروة بن رُويم أن عيسى بن مريم دعا ربَّه أنْ يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلَّى له ذلك

فذكره، انظر:"فتح الباري": (8/ 614)، و"الدر المنثور":(6/ 722).

ص: 792

يُنْضِي الرَّجلُ بعيرَهُ في السَّفَر"

(1)

؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياطَ الذِّكر والتَّوجُّه والاستغفار والطاعة، فشيطانُه معه في عذاب شديد، ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحةٍ ودَعَة، ولهذا يكون قويًّا

(2)

عاتيًا شديدًا.

فمن لم يعذبْ شيطانَه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيدِه واستغفارِه وطاعته، عذبه شيطانُه في الآخرة بعذاب النار، فلا بُدَّ لكل أحدٍ أن يُعَذِّبَ شيطانَه أو يُعَذِّبُه شيطانُه.

وتأمل كيف جاء بناءُ الوسواس مكرَّرًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا، حتى يعزمَ عليها العبد، وجاء بناء "الخناس" على وزن "الفَعَّال" الذي يتكرَّر منه نوع الفعل؛ لأنه كلَّما ذكر الله انخنسَ، ثم إذا غفل العبدُ عاوده بالوسوسة، فجاء بناءُ اللفظين مطابقًا لمعنييها.

فصل

وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5] صفةٌ ثالثة للشيطان، فذكر وسوستَه أولًا، ثم ذكر محلَّها ثانيًا، وأنها في صدور الناس، وقد جعل اللهُ للشّيطان دخولًا في جوف العبد، ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدَّمِ، وقد وُكِلَ بالعبد فلا يفارقُه إلى الممات.

(1)

جاء هذا في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبى هريرة، أخرجه أحمد:(14/ 504 رقم 8940)، وابن أبى الدنيا في "مكايد الشيطان" والحكيم الترمذي -كما في "الجامع الصغير- مع الفيض": 2/ 385 - وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.

(2)

ليست في (ع).

ص: 793

وفي "الصحيحين"

(1)

من حديث الزُّهْري، عن علي بن حسين، عن صَفِيَّة بنت حُيَيّ، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيتُه أزوره ليلًا، فحدَّثتُه، ثم قمت فانقلبتُ، فقام معي ليقلِبَني -وكان مسكنُها في دار أُسامة بن زيد- فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكُما إنَّها صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فقالا: سبحانَ اللهِ يا رسول: الله! فقال: "إنَّ الشَّيطانَ يجري من الإنسانِ مَجْرَى الدَّمِ، وإني خَشِيْتُ أن يَقْذَفَ في قلوبِكُما سواءً" -أو قال:"شيئًا"-.

وفي "الصحيح" أيضًا عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نُوْدِيَ بالصَّلاةِ أدْبرَ الشَّيْطَان وله ضُرَاطٌ، فإذا قُضِي أقْبَلَ، فإذا ثُوِّبَ بها أَدْبَرَ، فإذا قُضِيَ أقْبَل حتى يَخْطرَ بين الإنسانِ وقلبه، فيقول: اذْكُرْ كذا اذْكُرْ كذا، حتَّى لا يَدْرِي أثَلاثا صَلَّى أم أربعًا، فَإذا لم يَدْر أثلاثا صَلَّى أم أرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتى السَّهْوِ"

(2)

.

ومن وسوسته: ما ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي الشَّيْطانُ أحَدَكمْ فيقولُ مَنْ خَلَقَ كذا؟ مَنْ خَلَقَ كذا؟ حتى يقولَ: مَنْ خَلَقَ الله؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلكَ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ ولْيَنْتَهِ"

(3)

.

وفي "الصحيح"

(4)

أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إن أحَدَنا ليجدُ فى نفسه ما لأَنْ يَخِرَّ من السماء إلى الأرض أحَبُّ إليه من أن

(1)

أخرجه البخاري رقم: (2035)، ومسلم رقم (2175).

(2)

أخرجه البخاري رقم: (608)، ومسلم رقم (389).

(3)

أخرجه البخاري رقم (3276)، ومسلم رقم (134).

(4)

ليس هو فى الصحيحين ولا أحدهما، وسنده على شرطهما.

ص: 794

يَتكَلَّمَ به، قال:"الحمْدُ للهِ الذي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ"

(1)

.

ومن وسوسته أيضًا: أن يَشغل

(2)

القلب بحديثه حتى يُنسِيَهُ ما يريدُ أن يفعلَه، ولهذا يضافُ النسيانُ إليه إضافتَه إلى سَبَبه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال:{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63].

وتأمَّلْ حكمةَ القرآن الكريم وجلالَتَهُ كيف أوْقَعَ الاستعاذةَ من شَرِّ الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخنَّاس، الذي يوسوسُ في صدور الناس، ولم يقلْ: من شرِّ وسوسته؛ لتعمَّ الاستعاذةُ شرَّه جميعَه، فإن قوله:{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)} [الناس: 4]، يعم كلَّ شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدِّها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمِّها فسادًا، وهى الوسوسة التي هى مبادئُ الإرادة، فإن القلبَ يكونُ فارغًا من الشر والمعصية، فيوسوسُ إليه، ويُخْطِرُ الذنبَ بباله، فيصوِّرُهُ لنفسه ويُمَنِّيه، ويُشَهِّيه فيصير شهوة، ويُزَيِّنُها له ويُحَسِّنُها ويُخَيِّلُها له في خيالٍ تميلُ نفسه إليه، فيصيرُ إرادة ثم لا يزالُ يُمَثِّلُ ويُخَيِّلُ، ويُمَنِّي ويُشَهِّي، ويُنَسِّي علمه بضررها، ويَطْوي عنه سُوءَ عاقبتها، فيحُوْلُ بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورةَ المعصية والتذاذَه بها فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادةُ عزيمةً جازمةً، فيشتدُّ الحرصُ عليها من القلب، فيبعثُ الجنودَ في الطَّلَب، فيبعثُ الشيطانُ معهم مَدَدًا لهم وعونًا، فإن فَتَروا حرَّكهم، وإن وَنَوْا

(3)

أزعجهم، كما قال تعالى:

(1)

أخرجه أحمد: (4/ 10 رقم 2097)، وأبو داود رقم (5112)، وابن حبان "الإحسان":(1/ 360) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

(ع): "يشتغل".

(3)

أي: ضعفوا.

ص: 795

{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83] أي: تُزْعِجهم إلى المعاصي: إزعاجًا، كلَّما فتروا أو وَنَوْا أزعجتهم الشياطينُ، وأَزَّتْهُم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقودُه إلى الذنب وتنظمُ شمل الاجتماع بألطف حيلة، وأتمِّ مَكِيدة. قد رضي لنفسه بالقيادة لفَجَرة بني آدم، وهو الذي استكبر وأبى أن يَسْجُدَ لأبيهم. فلا بتلك النَّخوة والكبر

(1)

، ولا برضاه أن يصيرَ قوَّادًا لكل من عصى الله! كما قال بعضُهم

(2)

:

عجبتُ من إبليسَ فِي تِيهِهِ

وقبحِ ما أظهَرَ مِنْ نَخْوَتِهْ

تَاهَ على آدَمَ في سجْدَةٍ

وصارَ قوَّادًا لِذرِّيَّتهْ

فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصَفَه بها لتكون الاستعاذةُ من شرها أهمَّ من كل مستعاذ منه، وإلا فشرُّه بغير الوسوسة حاصل أيضًا.

فمن شرِّه: أنه لصٌّ سارقٌ لأموال الناس، فكل طعام أو شراب لم يذكرِ اسمُ الله تعالى عليه، فله فيه حظٌّ بالسَّرقة والخَطْف، وكذلك يبيتُ في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى، فيأكلُ طعامَ الإنس بغير إذنهم، ويبيتُ في بيوتهم بغير أمرهم، فيدخل سارقًا ويخرج مغِيْرًا. ويدلُّ على عوراتهم، فيأمر العبدَ بالمعصية، ثم يلقي فِي قلوب الناس

(3)

يَقظَةً ومنامًا: أنه فعل كذا وكذا.

ومن هذا: أن العبدَ يفعل الذنبَ لا يطَّلِع عليه أحدٌ من الناس،

(1)

"والكبر" ليست في (ظ ود).

(2)

أنشدهما الجاحظ في "البيان والتبيُّن": (3/ 152) بلا نسبةٍ، مع اختلاف يسير.

(3)

(ظ ود): "أعدائه".

ص: 796

فيصبحُ والناسُ يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطانَ زيَّنَة له، وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به، فالرَّبُّ تعالى يسترُه، والشيطانُ

(1)

يَجْهَدُ في كشف ستره وفضيحته

(2)

، فيغترُّ العبدُ ويقول: هذا ذنبٌ لم يَرَهُ إلا اللهُ تعالى، ولم يشعرْ بأنَّ عدُوَّهُ ساعٍ في إذاعته وفضيحته، وَقلَّ من يتفطَّنُ

(3)

من الناس لهذه الدقيقة.

ومن شره: أنه إذا نام العبدُ عقد على رأسه عُقَدًا تمْنَعهُ من اليَقَظَة، كما في "صحيح البخاري"

(4)

عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيةِ رَأسِ أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كلِّ عُقْدَه مَكَانَها عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ، فَإِن اسْتَيْقَظَ فَذَكرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيبَ النَّفْسِ، وَإلَّا أصْبَحَ خَبِيثَ النَفْسِ كَسْلانَ".

ومن شره: أنه يبولُ في أُذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذُكِر عنده رجل نام ليلة حتى أصبحَ، قال:"ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَان فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ" رواه البخاري

(5)

.

ومن شره: أنه قد قعد لابن آدم بطرق الخير كلِّها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشَّيْطَانُ مُرْصِدٌ عليه، يمنعُه بجَهْدِه أن يسلُكَهُ،

(1)

من قوله: "زينه له

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

ليست في (ع).

(3)

(ع): "ينظر".

(4)

رقم (1142)، وكذلك أخرجه مسلم رقم (776).

(5)

رقم (1144)، وكذلك أخرجه مسلم رقم (774).

ص: 797

فإن خالفَه وسلكَه ثَبَّطَهُ فيه وعوَّقَهُ، وشوَّشَ عليه بالمُعارضات والقواطع، فإن عَمِله وفرغ منه، قيَّضَ له ما يُبْطِلُ أثَرَه وَيَرُدُّهُ على حافِرَته.

ويكفي من شرِّه: أنه أقسمَ بالله ليقعُدَنَّ لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم لَيَأتِيَّنهُمْ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أَيْمانهم وعن شمائلهم، ولقد بلغ شرَّه أن أعملَ المكيدة، وبالغ فى الحِيلة، حتى أخرجَ آدَمَ من الجنة، ثم لم يَكْفِهِ ذلك حتى استقطعَ من أولاده شرطة للنَّار من كلِّ ألف تسع مئة وتسعة وتسعين

(1)

، ثم: لم يكفِهِ ذلك حتى أعملَ الحيلةَ في إبطال دعوة الله من الأرض، وقصد أن تكون الدعوةُ له، وأن: يُعْبَدَ من دون الله فهو ساعٍ بأقصى جَهْده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.

ويكفي من شَرِّه: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومُهُ بالمَنْجَنِيق فى النَّار، فردَّ اللهُ تعالى كيدَهُ عليه، وجعل النارَ على خليله بَرْدًا وسلامًا، وتصدَّى للمسيح صلى الله عليه وسلم حتى أراد اليهود قتلَه وصلبَه، فرد الله كَيْدَهُ، وصان المسيحَ ورفعه إليه، وتصدَّى لزكريا ويحيى حتى قُتِلا، واستثار

(2)

فرعون حتى زَيَّنَ له الفسادَ العظيم في الأرض ودعوى أنه ربُّهم الأعلى، وتصدَّى للنبي صلى الله عليه وسلم وظاهر الكفار على قتلة بجَهْده، والله تعالى يكبتُهُ ويَرُدُّهُ خاسئًا، وتفلَّتَ على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار يُريد أن يَرمِيَهُ به وهو فى الصلاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

في جميع الأصول: "تسعون".

والحديث في هذا المعنى أخرجه البخاري رقم (3348)، ومسلم رقم (222).

(2)

(ع): "واستتاب"، و (ق):"واستبان"، ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 798

يقول: "ألْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ"

(1)

، وأعان اليهودَ على سحرهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا كان هذا شأنَهُ وهِمَّتَهُ في الشَّرِّ، فكيف الخلاصُ منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته! ولا يمكن حصرُ أجناس شَرِّه فضلًا عن آحادِها، إذ كلُّ شرٍّ في العالم فهو السبَبُ فيه، ولكن ينحصرُ شرُّهُ في ستة أجناس، لا يزالُ بابن آدم حتى ينالَ منه واحدًا منها أو أكثر:

* الشر الأول: شرُّ الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم بَرَد أنينُهُ، واستراح من تعبه معه، وهو أوَّلُ ما يُريده من العبد، فلا يزالُ به حتى ينالَهُ منه، فإذا نال ذلك منه صَيَّرَهُ من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليسَ ونوَّابه.

* فإن يَئِسَ منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلامُ في بطن أُمه، نقله إلى المرتبة الثانية من الشر، وهي البدعة، وهي أحبُّ إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضرَرَها في نفس الدين وهو ضرر متعدَّ، وهىِ ذنبٌ لا يتابُ منه، وهي مخالفةٌ لدعوة الرُّسُل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، وهي باب الكفر والشرك، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقيَ أيضًا نائِبَهُ وداعيًا من دعاتِهِ.

* فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبدُ ممن سَبَقَتْ له من الله موهبةُ السُنَّة ومعاداة أهل البدَع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشَّرِّ، وهي الكبائرُ على اختَلاف أنواعها، فهو أشدُّ

(2)

حرصًا على أن يوقعَه فيها، ولا سيِّما إن كان عالمًا متبوعًا، فهو حريصٌ على ذلك لينفِّرَ الناس عنه، ثم يشيعُ من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستَنِيبُ

(1)

أخرجه مسلم رقم (542) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

(2)

(ع وق): "أشد شيءٍ

".

ص: 799

منهم من يشيعُها ويذيعُها تديُّنًا وتقرُّبًا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليسَ ولا يشعرُ، فإن الذين يُحِبُّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبُّوا إشاعَتَها وإذاعَتَها

(1)

، فكيف إذا تولَّوْا هم إشاعَتَها وإذاعَتَها [لا] نصيحة

(2)

منهم، ولكن طاعةً

(3)

لإبليس ونيابةً عنه؟! كل ذلك لينفِّرَ الناسَ عنه، وعن الانتفاع به، وذنوب هذا ولو بلغت عَنان السَّماء أهونُ عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلمٌ منه لنفسه، إذا استغفرَ اللهَ وتابَ إليه قبل اللهُ وتوبَتَهُ، وبدَّلَ سيئاتِهِ حسنات، وأما ذنوبُ أولئك فظلم للمؤمنين وتَتَبُّعٌ لعورتهم وقصدٌ لفضيحتهم، والله -سبحانه- بالمرصاد لا تخفى عليه كمائنُ الصدور ودسائسُ النفوس.

* فإنْ أعْجَزَ الشيطانَ عن هذه المرتبة، نقله إلى المرتبة الرابعة وهي: الصَّغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ ومُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب، فإنَّ مَثَلَ ذلك مَثَلُ قَوْمٍ نزلوا بفَلاةٍ من الأرض

"

(4)

، وذكر حديثًا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعُود

(1)

من (ع) فقط.

(2)

زيادة يستقيم بها النص.

(3)

ملحقة في هامش (ق).

(4)

أخرجه أحمد: (5/ 331) وغيره من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه ولفظه: "إيَّاكم ومُحَقَّرَات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ وجاء ذا بعود حتى انضجوا خبزتهم، وإن محقَّرات الذنوب متى يُؤخَذ بها صاحبها تُهْلِكه".

قال الحافظ فى "الفتح": (11/ 337): "إسناده حسن".

وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد:(6/ 367 رقم 3818). وفى سنده ضعف، ولفظه أقرب إلى ما ذكره المؤلِّف.

ص: 800

حَطَب حتى أوقدوا نارًا عظيمة فطبخوا واشْتَوَوْا، ولا يزال يُسَهِّلُ عليه أمرَ الصغائر حتى يستهينَ بها، فيكون صاحبُ الكبيرة الخائفُ منها أحسنَ حالًا منه.

* فإن أعجزه العبدُ من هذه المرتبة، نقله إلى المرتبة الخامسة، وهي إشغالُه بالمُبَاحات التي لا ثوابَ فيها ولا عِقَابَ، بل عقابها فَواتُ

(1)

الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.

* فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظًا لوقته شحيحًا به، يعلم مقدارَ أنفاسِهِ وانقطاعها وما يقابلُها من النعيم والعذاب، نقلَه إلى المرتبة السادسة، وهو: أن يشغَلَهُ بالعمل المفضول عما هو أفضل مه، ليزيحَ عنه الفضيلة

(2)

ويفوّته ثواب العمل الفاضل، فيأمرُهُ بفعل الخير المفضول، ويحضُّه عليه، ويحسّنه له، إذا تضمَّن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقلَّ من يَتنْبَّهُ لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًّا ومحرِّكًا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة، فإنه لا يكادُ يقول: إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمرُ بخير، ويرى أن هذا خيرٌ، فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذورٌ، ولم يصلْ علمُه إلى أن الشيطان يأمره بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما لِيَتَوَصَّلَ بها إلى باب واحد من الشَّرِّ، وإما ليُفَوِّتَ بها خيرًا أعظمَ من تلك السبعين بابًا وأجلَّ وأفضلَ.

وهذا لا يتوصلُ إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفهُ في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدَّة عنايته بمراتب الأعمال

(1)

(ظ ود): "عاقبتها فوت".

(2)

(ع وق): "عليه" وتحتمل في قراءة "ليزيح". "ليربح".

ص: 801

عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحةً لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصَّتهم وعامَّتهم، ولا يعرفُ هذا إلا مَن كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض، وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم، والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده.

* فإذا أعجزه العبدُ من هذه المراتب السِّتِّ وأعيا عليه سَلَّطَ عليه حزبَهُ من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير له والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليُشَوِّشَ عليه قلبَهُ ويشغل بحربه فكره، وليمنعَ الناسَ من الانتفاع به، فِيبقى سعْيُهُ في تسليط المُبْطِلبنَ من شياطين الإنس والجن عليه، لا يَفْتُرُ ولا بَنِي، فحينئذٍ يلبَسُ المؤمن لأُمَةَ الحرب ولا يضعُها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِرَ أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.

فتأمَّل هذا الفصلَ وتدبَّرْ موقِعَهُ

(1)

وعظيمَ منفعته، واجعلْه ميزانًا لك تَزِنُ به الناسَ وتَزِنُ به الأعمال، فإنه يُطْلِعكَ على حقائق الوجود ومراتب الخلق، واللهُ المستعان، وعليه التُّكْلان، ولو لم يكنْ في هذا التعليق إلا هذا الفصلُ لكان نافعًا لمن تدبَّرَهُ ووعاه.

فصل

وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ، ولم يقل: في قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب

(2)

وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمعُ فِي الصدر ثم تَلجُ في القلب، فهو بمنزلة

(1)

(ظ ود): "موضعه".

(2)

زيادة في (ظ ود): "فهو بمنزلة الدهليز".

ص: 802

الدِّهْليز له، ومن القلب تخرجُ الأوامرُ والإرادات إلى الصدر ثم تتفرَّقُ على الجنود.

ومن فهم هذا فهم قولَه تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيتِه، فيُلْقي ما يريدُ إلقاءه في القلب، فهو موسوِسٌ في الصدر، ووسوسته

(1)

واصلةٌ إلى القلب، ولهذا قال تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]، ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى: أنه ألقى إليه ذلك وأوصلَهُ إليه، فدخل في قلبه.

فصل

وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} اختلف المُفَسِّرونَ في هذا الجارِّ والمجرور: بمَ يتعلَّقُ؟.

فقال الفَرَّاءُ

(2)

وجماعة: هو بيانٌ للناسِ المُوَسْوَس في صدورهم، والمعنى: يوَسوِسُ في صدور الناس الذين هم من الجَن والإنس، أي المُوَسوَس في صدورهم قسمان: إنس وجن.

فالوسواسُ يُوَسوِسُ للجنِّيِّ كما يوسوسُ للإنسي، وعلى هذا القول فيكون "منَ الجنة والناس": نصبًا على الحال؛ لأنه مجرورٌ بعد معرفة على قول البصريين، وعلى قول الكوفيين نصبًا بالخروج من المعرفة، هذه عبارتهم، ومعناها: أنه لما لم يصلحُ أن يكون نعتًا للمعرفة انقطع عنها، فكان موضعُهُ نصبًا، والبصريون

(1)

(ظ ود): "في الصدور وسوسةً".

(2)

في "معاني القرآن": (3/ 302).

ص: 803

يقدِّرونه حالًا، أي: كائِنِيْنَ من الجِنَّة والنَّاس، وهذا القولُ ضعيفٌ جدًّا لوجوه:

أحدها: أنَّه لم يَقمْ دليلٌ على أن الجِنِّيَّ يوسوسُ في صدور الجنِّ، ويدخلُ فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإَنسي، فأيُّ دليل يدُلُّ على هذا حتى يصِحَّ حملُ الآية عليه؟.

الثاني: أنه فاسدٌ من جهة اللفظ أيضًا، فإنه قال:(الذي يوسوسُ في صدور الناس)، فكيف يبينُ الناس بالناس؟ فإن معنى الكلام على قوله: يوسوِسُ في صدور الناس

(1)

الذين هم -أو كائنين- من الجنة والناس، أفيجوزُ أن يقالَ: في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوزُ، ولا هو استعمالٌ فصَيحٌ!.

الثالث: أن يكونَ قد قسم الناسَ إلى قسمين: جِنَّة وناس، وهذا غيرُ صحيح، فإن الشيء لا يكون قَسِيمَ نفسِهِ.

الرابع: أن الجنَّةَ لا يطلقُ عليهم اسمُ الناس بوجه، لا أصلًا ولا اشتقاقًا ولا استعمالًا، ولفظهما يأبى ذلك، فإن الجنَّ إنما سمُّوا جنًّا من الاجتنان، وهو الاستتارُ، فهم مستترون عن أعين البشر، فَسمُّوا جنًّا لذلك، من قولهم: جَنَّهُ الليلُ وأجنَّه: إذا سَتَرَهُ، وأجَنَّ المَيِّتَ: إذَا سَتَرَهُ في الأرض. قال:

ولا تَبْكِ مَيْتًا بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ

عَلِيٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بَكْرٍ

يريد النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

ومنه: الجَنِينُ لاستتاره في بطنِ أُمِّهِ، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي

(1)

من قوله: "فكيف يبين

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 804

بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] ومنه: المِجَنُّ لاستتار المُحَارِبِ به من سلاح خصمِهِ، ومنه: الجَنَّةُ لاستتار داخلها بالأشجار، ومنه: الجُنَّةُ بالضمِّ: لِمَا يَقِي الإنسانَ من السِّهام والسِّلاح، ومنه: المجنون لاستتار عقلِه.

وأما "الناسُ" فبينهُ وبينَ الإنس مناسبةٌ فى اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط، وهو: عَقْد

(1)

تقاليب الكلمة على معنى واحد

(2)

، والإنس والإنسان مشتقٌ من الإيناس وهو الرؤية والإحساس، ومنه قوله:{آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] أي: رآها، ومنه:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أي: أحسستموه ورأيتموه، فالإنسان سمِّيَ إنسانًا لأنه يُؤْنَسُ أي: يُرَى بالعين.

والناس فيه قولان:

أحدهما: أنه مقلوب من أنس وهو بعيد، والأصل عدم القلب.

والثاني: -وهو الصحيح- أنه من النَّوْس وهو الحَرَكة المتتابعة، فسُمِّيَ النَّاسُ ناسًا للحركة الظاهرة والباطنة، كما يسمَّى الرجلُ: حارثًا وهمَّامًا، وهما أصدقُ الأسماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

؛ لأن كل أحدٍ له همٌّ وإرادةٌ هي مَبْدأ، وحرثٌ وعملٌ هو مُنتهى، فكلُّ أحدٍ حارثٌ وهَمَّام، والحَرْثُ والهّمُّ، حركتا الظاهر والباطن، وهو حقيقة

(1)

(ظ ود): "عند".

(2)

ويسميه ابن جنِّي الاشتقاق الأكبر، انظر "الخصائص":(2/ 134 - 139).

(3)

فيما أخرجه أحمد: (31/ 377 رقم 19032)، وأبو داود رقم (4950)، والبخاري في "الأدب المفرد":(ص/ 243)، والنسائي:(6/ 218 - 219) وغيرهم من حديث أبي وهب الجُشمي رضي الله عنه وضعَّفه أبو حاتم في "العلل": (2/ 312 - 313).

ص: 805

النَّوْس، وأصل نَاسَ:(نوَسَ) تحركت الواو وقبلها فتحة فصارت ألفًا، هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق "الناس".

وأما قول بعضهم: إنه من النِّسيان، وسُمِّي الإنسانُ إنسانًا لنسيانه، وكذلك الناس سُمُّوا ناسًا لنسيانهم؛ فليس هذا القولُ بشيءٍ! وأين النسيانُ الذي مادَّته (ن س ي) إلى الناس الذي مادَّتُهُ (ن وس)؟ وكذلك أين هو من الأُنس الذي مادته (أن س)؟ وأما إنسانٌ فهو "فِعْلان" من (أن س)؟ والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوزُ فيه غيرُ هذا ألبتَّةَ، إذ ليس في كلامهم أَنْسَنَ

(1)

حتى يكونَ إنْسَانٌ إفعالًا منه، ولا يجوزُ أن يكون الألفُ والنونُ في أوَّله زائدتينِ، إذ ليس في كلامهم "انْفَعْلٌ" فيتعيَّن أنه "فِعْلانٌ" من الإنس، ولو كان مشتقًّا من (نَسِيَ) لكان نِسْيانًا لا إنسانًا.

فإن قلت: فهلَاّ جعلته "إفْعِلالًا"، وأصله: إِنْسِيَان كـ "ليلة إِضْحِيَان"، ثم حذفتَ الياء تخفيفًا فصار إنسانًا؟

قلت: يأبى ذلك: عدمُ "إفْعِلال" فى كلامهم، وحذفُ الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له، وذلك كلُّه فاسد، على أن (الناس) قد قيلَ: إن أصله (الأُنَاسُ) فحُذفت الهمزة، فقيل:(النَّاسُ)، واستدل يقول الشاعر

(2)

:

إنَّ المَنَايا يَطَّلِعْـ

نَ على الأُنَاسِ الغَافِلينا

ولا ريب أن (أُناسًا) فُعَالٌ، ولا يجوزُ فيه غير ذلك ألبَتَّةَ، فإن

(1)

(ق وظ ود): "أنس".

(2)

هو: ذو جدن الحميري، انظر:"الخزانة": (2/ 280)، و"الخصائص":(3/ 151) وفيها: "الآمنينا".

ص: 806

كان أصلُ ناس أُناسًا

(1)

، فهو أقوى الأدلة على أنه من (أن س) ويكون الناسُ كالإنسان سواء في الاشتقاق، ويكون وزن ناس على هذا القول:(عال)؛ لأن المحذوفَ فاؤهُ، وعلى القول الأول يكونُ وزنه:"فَعْلٌ"؛ لأنه من النَّوْس، وعلى القول الضعيف يكون وزنه "فَلْع"، لأنه من (نَسِي)، فقلبت لامُه إلى موضع العين فصار ناسًا ووزنه "فَلْعًا".

والمقصودُ أن الناسَ اسم لبني آدم، فلا يدخلُ الجنُ في مسمَّاهم، فلا يِصحُّ أن يكونَ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} بيانًا لقوله:{فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} هذا واضحٌ لا خفاءَ به.

فإن قيل: لا محذورَ فى ذلك، فقد أُطْلِق على الجن اسم الرجال، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] فإذا أطلق عليهم اسم الرجال، لم يمتنع أن يُطْلَق عليهم اسم الناس.

قلت؛ هذا هو الذي غَرَّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية. وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعًا مقيَّدًا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزمُ من هذا أن يقعَ اسمُ الناس والرجال عليهم مطلقًا، وأنت إذا قلت:"إنسانٌ من حجارة"، أو "رجلٌ من خشب"، ونحو ذلك، لم يلزمْ من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.

وأيضًا: فلا يلزمُ من إطلاق اسم الرجل على الجنِّي أن يُطلقَ عليه اسم الناس، وذلك لأن الناسَ والجِنَّةَ متقابلان، وكذلك الإنس

(1)

(ع وظ ود): "إنسانا".

ص: 807

والجن، فالله تعالى يقابلُ بين اللفظين، كقوله:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن: 33] وهو كثير في القرآن، وكذلك قوله:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}

(1)

[الناس: 6] يقتضي أنهما متقابلان، فلا يدخلُ أحدُهما في الآخر، بخلاف الرجال والجنِّ فإنهما لم يستعملا متقابلينِ، فلا: يقال: الجنُّ والرجال، كما يقال: الجن والإنس، وحينئذٍ فالآية أبْيَنُ حُجَّةٍ عليهَم في أن الجنِّ لا يدخلون في لفظ الناس؛ لأنه قَابَلَ بين الجنة والناس، فعُلِم أن أحدَهما لا يدخلُ فِي الآخر، فالصَّواب القولُ الثاني، وهو أن قوله:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} بيان للذي يوسوسُ، وأنهما نوعان: إنسٌ وجنٌّ، فالجِنِّيُّ يوسْوِسُ في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوسُ إلى الإنسي.

فالموسوِسُ نوعان: إنسٌ وجنٌّ، فإن الوسوسة هي الإلقاءُ الخفيُّ في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاءُ الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأُذُن، والجِنِّيُّ لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل فِي ابن آدمْ ويجري منه مجرى الدم.

على أن الجنيَّ قد يتمثَّلُ له ويوسوسُ إليه في أذنه كالإنسيِّ، كما: في "البخاري" عن عُرْوَةَ، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إِنَّ المَلائِكةَ تُحَدِّثُ فِي العَنَانِ، -والعَنَانُ: الغَمَامُ- بالأمْرِ يَكُونُ فِي الأرْضِ، فَتَسْتَمعُ الشَّيَاطينُ الكَلِمَةَ فَتَقُرُّها فِي أُذُنِ الكَاهِنِ كَمَا تَقُرُّ القَارُورَةُ فَيَريدُونَ مَعَها مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ"

(2)

فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.

(1)

من قوله: "وهو كثير

" إلى هنا ساقط من (ع).

(2)

أخرجه البخارى رقم (3210 و 3288)، ومسلم رقم (2228). وقوله:"من عند أنفسهم" ليست في (ق وع).

ص: 808