الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيام، فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكني عنه [بهو] جازَ أيضًا أن تؤكده بـ "ضربًا"، كأنك: قلت: "ضربًا ضربا"، ونصب "ضربًا" المتضمن "ضربًا"
(1)
المصرَّح به، وبه يعمل في الثاني بمعنى "فعلت"، كما كان ذلك في المفعول المطلق إذا قلت:"ضريت ضربًا شديدًا"، أي: فعلت ضربًا شديدًا، (ق/120 أ)، وليس المؤكد كذلك، إنما ينتصب كما ينتصب "زيداً" الثاني في قولك: "ضربت
(2)
زيذاً زيدًا" مكررًا، انتصبَ من حيث كان هو الأول لا أنك أضمرتَ له فعلاً (ظ/91 ت)، فتأمله". تم كلامه.
ثم قال
(3)
:
فصلٌ فيما يؤكَّد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكَّد
قد أشرنا إلى أن الفعل
(4)
قسمان: خاص وعام، فالعام:"فعلت" و"عملت"، و"فعلت" أعمّ؛ لأن "عملت" عبارة عن حركات الجوارح الظاهرة مع دءوب، ولذلك جاء على وزن "فَعِل" كتَعِب ونَصب، ومن ثَمَّ لم تجدها يخبر بها عن الله -سبحانه- إلا أن يَرِدَ بها سمع، فيُحمل على المجاز المحض، ويلتمس له التأويل.
قلت
(5)
: وقد ورد قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
(1)
(ق): "ضربك
…
"، و (ظ ود) سقط منها: "المتضمن ضربًا".
(2)
من قوله: "ضربًا شديدًا
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3)
"نتائج الفكر": (ص / 360).
(4)
(ق): "الفعل المؤكد".
(5)
التعليق لابن القيم رحمه الله.
أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] وقد تقدم
(1)
له كلام أن اليدَ صفة أخصّ من القدرة والنعمة، كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله، ونصر هو ذلك المذهب وارتضاه، وعلى هذا فلا تأويل في الآية، بل هي على حقيقتها على قوله، وأما الدَّءوب والنصب وإثبات الجارحة فمن خصائص العبد، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك كله متعالٍ عنه. وخصائص المخلوقين لا يجوز إثباتها لرب العالمين، بل الصفة المضافة إليه لا يلحقه فيها شي من خصائصهم، فإثباتها له كذلك لا يحتاج معه إلى تأويل، فإن الله ليسَ كمثله شيءٌ، وقد تقدَّم أن خصائصَ المخلوقين غير داخلة في الاسم العامِّ، فضلاً عن دخولها في الاسم الخاص المضاف إلى الربِّ، وأنها لا يدل اللفظ عليها بوضعه حتى يكون نفيها عن الربِّ تعالى صرفًا للفظ عن حقيقته. ومن اعتقدَ دخولَها في الاسم المضاف إلى الربِّ ثم توسَّل بذلك إلى نفي
(2)
الصفة عنه، فقد جمعَ بين التشبيه والتعطيل، وأما من لم يُدْخلها في مسمَّى اللفظ الخاص، ولا أثبتها للموصوف فقوله مَحْض التنزيه، وإثبات ما أثبته الله لنفسه، فتأمل هذه النكتة وَلْتكن منك على ذُكْر في باب الأسماء والصفات، فإنها تُزيل عنك الاضطراب والشبهة، والله الموفق للصواب.
عاد كلامُه، قال:"إذا ثبت هذا "ففعلت" وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة لا تؤكَّد بمصدر؛ لأنها في الأفعال بمنزلة شيءٍ وجسم في الأسماء، فلا يؤكَد؛ لأنه لم يثبت له حقيقة
(3)
معينة
(1)
(2/ 397 - 398).
(2)
(ق): "نفي بدل".
(3)
"له حقيقة" سقطت من (د).
عند المخاطب، وإنما يؤكد ما ثبتت حقيقته، والمخاطَب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة منه إلى توكيد "فعلت"، فلو قلت له:"فعلتُ فعلتُ"، وأكدته بغاية ما يمكن من التوكيد، (ق/120 ب) ما كان الكلام إلا غير مفيد! وكذلك لو قال:"فعلتُ فِعلاً" على التوكيد؛ لأن المصدر الذي كنتَ تؤكد به -لو أكدت- قياسُه أن يكون مفتوح "الفاء" لأنه ثلاثي، والمصدر الثلاثي قياسه فتح فائه، كما أن فعله كذلك".
قلتُ
(1)
: هذا ليس على إطلاقه، فإن "فعلت" إذا أُريد بها الفعل العام الذي لم تتحصل حقيقتُه عند المخاطَب امتنعْ تأكيدُها، بل مثل هذا لا يقع في
(2)
التخاطُب، وأما إذا أُريدَ بها فعل خاص قد تحصَّلت حقيقته وتميزت عندهما، كما إذا قال له:"أنت فعلت هذا"، وأشار إلى فعل معين، فإنه إذا أكد الفعل وقال:"فعلتُ فعلت"، كان الكلام مفيدًا أبلغ فائدة، وهذا إنما جاء من حيث كانت "فعلت" مرادًا بها الحديث الخاص. وأكثر ما يجيء "فعلت": في الخطاب كذلك، فتأمله.
قال
(3)
: "إذا ثبت: هذا؛ فلا يقع بعد "فعلت" إلا مفعول مطلق، إما من لفظها فيكون عامًّا، نحو: "فعلت فِعلاً حَسَنًا"، ومن ثَمَّ جاء مكسور الفاء لأنه كالطَّحْن والذِّبْح، ليس بمصدر اشْتُق منه الفعل، يل هو مشتق من "فعلت". وإما أن يكون خاصًا نحو: "فعلت ضربًا"، "فضربًا" أيضًا مفعول مطلق من غير لفظ "فَعل" فصار "فعلت فِعلاً"
(1)
الكلام لابن القيم رحمه الله.
(2)
(ق ود): "ألا في".
(3)
أي: السهيلي رحمه الله.
كطحنت (ظ / 92 أ)، طِحْنًا، و"فعلت ضربًا" كطحنتُ دقيقًا.
فإن قيل: ألم يجيزوا في "ضربت ضربًا" و"قتلتُ قتلًا" أن يكون مفعولًا مطلقًا، فلِمَ لم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولاً مطلقًا، ومفتوحًا إذا كان مصدراً مؤكَّدَا؟.
قيل: "حدِّث حديثين امرأةً"
(1)
، ألم يقدم في أول الفصل أنه لا يعمل في "ضربًا" إذا كاد مفعولا مطلقًا إلا معنى "فعلت" لا لفظ "ضربت"، فلو عمل فيه لفظ "ضربت" لقلت:"ضِربًا" بالكسر، كطِحْن، وهو محال، لأن الضرب لا يضرب، ولكنك إذا اشْتَقَقْت له اسما من "فعلت" التي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت: هو فِعْل، وإن اشْتَقَقْتَ له اسمًا من "ضربت" التي لا يعملُ لفظُها فيه، لم يجز أن يجعلها كالطِّحْن والذِّبْح؛ لأن الاسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه، فثبت من هذا كله أن "فَعَلت" و"عملت" استغنى بمفعولها المطلق عن مصدرها، لأنها لا تتعدَّى إلا إلى حدث، وذلك الحدث يشتق له اسم من لفظها، فيجتمع اللفظ والمعنى، ويكون أقوى عند المخاطَب من
(2)
المصدر الذي يشتَق منه الفعل، ولذلك لم يقولوا:"صنعت صنْعًا""بفتح الصاد، ولا: "عَملت عَمْلاً" بسكون الميم، ولا "فَعَلت فَعْلا" بفتح الفاء، استغناء عن المصادر (ق/ 21 أ)، بالمفعولات المطلقة؛ لأن العملَ مثل: القَنَص والنَّفَض، والصُّنع مثل: الدهن والخُبْز، والفِعْل مثل: الطِّحن، وكلها
(3)
بمعنى المفعول، لا بمعنى المصدر الذي اشتُق منه الفعل.
(1)
انظر: "مجمع الأمثال": (1/ 342).
(2)
(ق): "و".
(3)
"النتائج": "فكأنها".
وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدَّى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يُخْبر بها عن خالقها، وإنما يتعدَّى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة، نحو:"ضربت زيدًا"، فهو مضروب على الإطلاق، وإن اشتققت له من لفظ "فعلت" مفعول به، أي: فعِلَ به الضرب ولم يفْعَل هو جاز.
وأما: "حَلمت في النوم حُلْمًا" فهو بمنزلة: "فعلت وصنعت" في اليقظة؛ لأن جميع أفعال النوم تشتمل عليها "حَلَمت"، وكأنَّ جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها "فعلت"، فمن ثمَّ لم يقلوا:"حَلْمًا" بوزن "ضَرْبًا"؛ لأن "حلمت" مغنية عن المصدر كما كانت "فعلت" مغنية عنه، وإنما مطلوبُ المخاطب معرفةُ المحلوم والمفعول، فلذلك قالوا:"حلْما"، ولذلك جمعوه على:"أحلام وحُلوم"؛ لأن الأسماء هي التي تُجْمع وتثنى، وأما الفعل، أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر
(1)
فلا تُجمع ولا تُثنى، وقولهم: إنما جمِعت الحلومُ والأشغال لاختلاف الأنواع، يل يقال لهم:[وهل]
(2)
اختلفت الأنواع: إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة؟ ألا ترى أن "الشُّغل" على وزن "فعْل" كالدُّهن، فهو عبارة عما يَشتغل المرء به
(3)
، فهو اسم مشتقٌّ من الفعل وليس الفعل مشتقًا منه، إنَّما هو مشتق من "الشغَل"، والشَّغْل هو المصدر، كما أن "الجعْل والجُعْل" كذلك. فعلى هذا ليس "الأشغال" و"الأحلام" بجمع المصدر، وإنما هو جمع اسم، والمصدر على الحقيقة لا يجمع؛ لأن المصادر كلها جنس
(1)
من قوله: "كما كانت .. " إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2)
في الأصول: "ولم" والمثبت من "النتائج".
(3)
الأصول "عنه" والمثبت من "النتائج".
واحد، من حيث كانت عبارة عن حركة الفاعل، والحركة تماثل الحركة ولا تخالفها بذاتها، ولولا "هاء" التأنيث في الحركة ما ساغ جمعُها، فلو نطقت العربُ بمصدر "حَلَمت" الذي اسْتغني عنه بالحُلْم، وبمصدر "شكرت" الذي استغنى [عنه]
(1)
بالشكر لما جاز جمعه؛ لأن اختلاف الأنواع ليس راجعًا إليه، وإنما هو راجع إلى المفعول المطلق.
ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنْعِم من ثناء أو فعل، وكذلك نقيضه -وهو الكفر- عبارة عما يُقابَل به المنْعِم
(2)
من جَحْد وقبْح فعل، فهو مفعول مطلق لا مصدر اشتق منه الفعل، إلا أن "الكفر" يتعدَّى بالباء لتضمُّنه معنى التكذيب، و"شكرت"(ق 121/ ب) يتعدَّى باللام، التي هى لام الإضافة؛ لأن المشكورَ في الحقيقة هى النعمة، وهي مضافة إلى المنعم، (ظ/92 ب) وكذلك المكفور في الحقيقة هى النعمة، ولكن كفرها تكذيب وجَحْد، فلذلك قالوا:"كفر بالله" و"كفر نعمتَه" و"شكر له" و"شكر نعمتَه".
وإذا ثبتَ أن الشكرَ من قولك: "شكرت شُكرًا" مفعول مطلق، وهو مختلف الأنواع؛ لأن مكافأة النعم تختلف، جار أن يُجمع كما جمع "الحُلْم والشُّغل"، فيحْمل قوله -سبحانه- حكاية عن المخلصين من عباده:{لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9] أن يكون جمعًا لـ "شكر"، وليس كالقعود والجلوس؛ لأنه متعد، ومصدر المتعدي لا يجيءُ على "الفعول"
(3)
.
(1)
سقطت من (ظ ود)، و (ق):"به".
(2)
(ق)"المنعم عليه" وهو خطأ.
(3)
(ظ ود): "لا يجيء مصادرها على المفعول"!.
قلت
(1)
: الصحيح أنه مصدر جاءَ على "الفعول"، لأن مقابله وهو الكفر والجَحد والنفار تجيء مصادرها على "الفعول"
(2)
، نحو: كُفُور وجُحُود ونفُور، ويبعد كلَّ البعد أن يراد بالكفور جمع الكُفْر، والكفر، يُعْهد جمعه في القرآن قطّ ولا في الاستعمال، فلا يعرف في التخاطب:"أكفار وكفور"، وإنما المعروف الكفر، والكُفْران والكفوْرُ، مصادرُ ليس
(3)
إلا، فحسَّن مجيء الشكور على الفعول حمله على مقابله، وهو كثير في اللغة، وقد تقدَّم الإشارة إليه، وحتى لو كان الشكور سائغًا استعماله جمعًا
(4)
، واحتمل الجمع والمصدر، لكان الأليق بمعنى الآية المصدر لا الجمع؛ لأن اللهَ تعالى وصفهم بالإخلاص، وأنهم إنما قصدوا بإطعام الطعام وجهه، ولم يريدوا من المطعَمِين جزاء ولا شكورًا، ولا يليق بهذا الموضع أن يقولوا: لا نريد منكم أنواعًا من الشكر وأصنافًا منه، بل الأليق بهم وبإخلاصهم أن يقولوا: لا نريد منكم شُكراً أصلاً، فينفوا إرادة نفس هذه الماهية منهم، وهو أبلغ في قصد الإخلاص من نفي
(5)
الأنواع، فتأمله فإنه ظاهر، فلا يليق بالآية إلا المصدر، وكذلك قوله تعالى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62] إنما هو مصدر، وليس بالمعهود البيِّن جمع الشُّكر علي الشُّكُور واستعماله كذلك، كما لم يُعْهد ذلك في الكفور.
عاد كلامه
(6)
قال: "ويزيدُ هذا وضوحًا قولهم: "أحببت حبًّا"،
(1)
الكلام لابن القيم رحمه الله.
(2)
من قوله: "قلت
…
" إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3)
سقطت من (ق).
(4)
سقطت من (ق).
(5)
تحرّفت في (ق).
(6)
"النتائج": (ص / 364).
فالحب ليس بمصدر لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، ولذلك جاء على ورنه مضمومَ الأول، ومن ثَمَّ جُمِع كما جُمِع الشغل، قال:
ثلاثةُ أحباب؛ فحبُّ عَلاقةٍ
…
وحُبُّ تِمِلَاّق، وحبٌّ هو القتل
(1)
فقد انكشف لك بقولهم: "أحببتُ حبًّا" ولم (ق/122 أ)، يقولوا:"إحبابًا" استغناءً بالمفعول المطلق الذي هو أَفْيَد عند المخاطب من "الإحباب"، أَنَّ "حلمت حُلْمًا"، و"شكرت شكراً"، و"كفرَ كُفرًا"، و"صَنَع صنعًا"، كلّها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول وناصبة له نَصْب المفعول المطلق. وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك؛ لأنها أعم من "أحببت"؛ إذ الشكرُ واقعٌ على أشياءَ مختلفة، وكذلك الكفر والشغل والحُلم، وكلما كان الفعل أعم وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى، وكان "فَعَل ويَفْعل" مغْنيًا عن، ولولا كشْف الشاعر لاختلاف أنواع "الحب" ما كِدْنا نعرف ما فيه من العموم، ولكنه لما فيه من العموم، وأنه في معنى "الشغل" صار "أحببت" كشغلت، وصار الحب كالشغل. ولو قال:"إحبابًا" لكان بمنزلة: "شَغَلت شَغلاً" بفتح الشين، ألا ترى أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال نحو: الإكرام، وعلى وزن الانفعال، والافتعال، [والتفعيل]
(2)
ونحوها، إلا أن يكون محدودا كالتَّمْرة من التمر.
وأما جمعه لاختلاف الأنواع فلا اختلاف أنواع فيه، إنما اختلاف
(1)
البيت في "اللسان": (10/ 347) بلا نسبة.
(2)
في الأصول: "والفعل"، والمثبت من "النتائج".
الأنواع فيما كان اسمًا مشتقًّا من الفعل اسْتُغنيَ به عن المصدر لخصوصه وعموم المصدر، وذلك لا تجده في الثلاثي إلا على وزن "فُعْل" أو "فَعَل"(ظ/ 93 أ) أو "فِعْل" ألا ترى أنهم، يجمعون ["الفَرَق" و"الحَذَر"، ولا شيئًا من ذلك الباب]
(1)
نحو: "الرَّمَد
(2)
والخَدَر والخَفَش والبَرَص والعَمَى، وبابه".
قلت
(3)
: فِعْل الحب فيه لغتان "فَعَل وأفْعل" وقد أنشدَ في "الصحاح"
(4)
بيتين علي اللغتين وهما:
أُحِبُّ أبا مروانَ من أَجلِ تمرهِ
…
وأعلمُ أن الحبَّ بالمرءِ أرفقُ
ووالله لولا تمرُهُ ما حَبَبْتُه
…
وكان عِياضٌ منه أدنى ومشرقُ
هكذا أنشده المبرّد
(5)
، والذي في "الصحاح":
* ولا كان أَدْنى مِن عبيد ومشرقِ *
بالإقواء
(6)
، والبيتان لغيلان بن شجاع النهشلي وهو عربيٌّ فصيح، وإذا ثبتَ أنهما لغتان في "أحببته حبًّا فأنا له محِب وهو محبوب" على تداخل اللغتين، فأتوا في المصدر بمصدر الثلاثي كالشُّكر والشُّغل، واستعملوا من الفعلين الرباعي في غالب كلامهم، حتى كأنهم هجروا الثلاثي، وأتوا بمصدره حتى كأنهم هجروا الرباعي، فلما جاؤوا إلى
(1)
ما بين المعكوفين من "النتائج".
(2)
(ظ ود): "نحو: الحذر والرمد
…
".
(3)
الكلام لابن القيم رحمه الله، وانظر "روضة المحبين":(ص/ 18).
(4)
(1/ 105).
(5)
في "الكامل": (1/ 438)، وانظر:"الخزانة" ت (9/ 429).
(6)
الإقواءة تغير حركة الرَّوِيّ.
اسم الفاعل أتوا بالاسم من الرُّباعي حتى كأنهم لم ينطقوا بالثلاثي، فقالوا:"محب"، ولم يقولوا:"حابٌّ" أصلاً، وجاؤوا إلى المفعول فأتوا به من الفعل الثلاثي في الأكثر، فقالوا:(ق/ 22 أب)"محبوب"، ولم يقولوا: مُحَب إلا نادرًا كما قال
(1)
:
ولقد نزلتِ فلا تظنِّي غيرَه
…
مِني بمنزلةِ المُحَب المُكْرمِ
فهذا من "أحببت" كما أن المحبوب من "حببت"، ثم استعملوا لفظ الحبيب في المحبوب أكثر من استعمالهم إياه في المُحِب مع أنه يُطلق عليهما، فمن مجيئه بمعنى المفعول قول ابن الدمينة
(2)
:
وإن الكثيبَ الفردَ من جانبِ الحِمَى
…
إليَّ وإنْ لم آتِهِ لحبيبُ
أى: لمحبوب.
ومن مجيئه للفاعل، قول المُخَبَّل
(3)
:
أَتهجر ليلى للفراقِ حَبِيْبَها
…
وما كان نَفْسًا بالفراق تطِيْب
فهذا بمعنى: محبها، وربما قالوا للحبيب: حِب، مثل: خِدْن، فخِدْن وخَدِين مثل: حبّ وحَبيب. وإذا ثبت هذا فقوله رحمه الله: "الحب ليس بمصدر لأَحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب"؛ ليس الأمر كما قال! بل هىِ مصدر للثلاثي أَجْرَوه على الفعل الرباعي
(1)
البيت لعنترة في معلقته، "ديوانه":(ص/ 15).
(2)
(ق): "ابن الزبير" وهو خطأ.
والبيت ضمن قصيدة بائية في "حماسة أبى تمام": (2/ 113).
(3)
في المطبوعة: المجنون، والبيت في "الخصائص":(2/ 384)، و"شرح شواهد الإيضاح" للقيسي (1/ 249)، و"لسان العرب" مادة حبب، و"شرح الكافية" لابن مالك:(2/ 778).
استغناء به عن مصدره، وهذا لكثرة ولوع
(1)
أنفسهم بالحب وألسنتهم به استعملوا منه أخفَّ المصدرين استغناء به عن أثقلهما.
وأما مجيئه بالضم: دون الفتح، فَلِسِرٍّ في ذلك، وهو قوة هذا المغنى وتمتكُّه من نفس المحِبِّ وقهره وإذلاله إياه، حتى إنه ليذل الشجاع الذي لا يذل لأحد فينقهر لمحبوبه ويستأسر له، كما هو معروف في أشعارهم ونثرهم، وكما يدل عليه الوجود، فلما كان بهذه المثابة أَعْطوه أقوى الحركات وهى الضمة، فإن حركة الحب أقوى الحركات فأعطوا أقوى حركات المتحرك أقوى الحركات اللفظة؛ ليتشاكل اللفظُ والمعنى، فلهذا عَدَلوا عن قياسِ مصدره وهو الحب إلى صَمِّه.
وأيضًا: فإنهم كرهوا أن يجيئوا بمصدره على لفظ "الحب" الذي هو اسم جنس للحبة
(2)
، ولم يكن بُد من عدولهم إما إلى الضم أو إلى الكسر، وكان الضم أولى لوجهين؛ أحدهما: قوته وقوة الحب. الثاني: أن في الضمة من الجمع ما يوازي ما في معنى الحب من جمع الهِمَّة والإرادة على المحبوب، فكأنهم دلَّوا السامعَ بلفظه وحركته وقوته على معناه.
وتأمل كيف أتوا في هذا المسمى بحرفين:
أحدهما: الحاء التي هى من أقصى الحلق، فهي مَبْدأ الصوت ومخرجها قريبٌ من مخرج الهمزة من أصل الصدر الذي هو (ق/123 أ) معدن الحب وقراره.
(1)
(ق): "وقوع".
(2)
(ظ): "للمحبة"، و (ق):"المحبة" والصواب ما أثبته.
ثم قرنوها بـ "الباء"
(1)
التي هى من الشفَتَين، وهى آخر مخارج الصوت ونهايته، فجمع الحرفان بدايةَ الصوت ونهايته، كما اشتمل معنى الحبِّ على بداية الحركة ونهايتها، فإن بداية حركةِ المحب من جهة محبوبه، ونهايتها الوصول
(2)
إليه، فاختاروا له حرفين هما بداية الصوتِ ونهايته، فتأمل هذه النكت البديعة تجدها ألطف من النسيم، ولا تَعْلَق إلا في هو يناسبها لطافةً وَرِقَّة.
فقل لكثيفِ الطبعِ وَيْحك ليسَ ذا
…
بِعشِّكَ فادْرجُ
(3)
سالمًا غيرَ غانِمِ
واشتقاقه في الأصل من الملازمة والثبات من قولهم: "أحبَّ البعير فهو محب" إذا برك
(4)
فلم يَثُر، فقال
(5)
:
حُلْتَ عليه بالقَطِيْعِ ضَرْبًا
…
ضربَ بعير السُّوءِ إِذْ أحَبَّا
فلما كان المُحِب ملازمًا لذكر محبوبه، ثابتَ القلب على حُبه [مقيمًا]
(6)
عليه، لا يروم عنه انتقالًا ولا يبغي عنه زوالًا، قد اتخذ له في سويداء قلبه وطنًا وجعله له سكنًا:
تزولُ الجبال الراسياتُ وقَلْبُه
…
على العهدِ لا يلوي ولا يتغيرُ
فلذلك أَعْطَوه هذا الاسم الدال على الثبات واللزوم، ولما جاؤوا
(1)
وهو الحرف الثاني.
(2)
(ظ ود): "إلى الوصول".
(3)
من أمثال العرب قولهم: "ليس هذا بعشك فادرجى" يُضرب لمن يرفع نفسَه فوق قدره. انظر: "مجمع الأمثال": (2/ 181).
(4)
(ق): "نزل".
(5)
هو: أبو محمد الفقعسي، كما في "اللسان":(1/ 292) وفيه: "بالقفيل" وهو السوط، والقطيع" السوط -أيضًا-.
(6)
في (ظ وق): "متيمًا" والمثبت من (د).
إلى المحبوب أعطوه في غالب استعمالهم لفظ: "فَعِيل" الدال على أن هذا الوصف، وهو كونه متعلق الحب أمر ثابت له لذاته، وإن لم يُحب فهو حبيب، سواء أَحبَّه غيره أم لا، وهذا
(1)
الوزن موضوع في الأصل لهذا المعنى كـ "شريف" وإن لم يشرفه غيره، وهو من بناء الأوصاف الثابتة اللازمة، كطويل وقصير وكريم وعظيم وحَليم وجميل وبابه، وهذا بخلاف "مفعول"، فإن حقيقته لمن تعلق به الفعل ليس إلا كـ "مضروب" لمن وقع عليه الضرب، "ومَقْتول ومَأكول" وبابه، فهجروا في أكثر كلامهم لفظ "محبوب" لما يُؤْذِن من أنه الذي تعلَّق به الحبُّ فقط، واختاروا له لفظ "حَبيب" الدال على أنه حبيب في نفسه، تعلَّقَ به الحبُّ أم لا، ثم جاؤوا إلى من قام به الحب فأعطوه لفظة "مُحِب" دون "حابٍّ" لوجهين:
أحدهما: أن الأصل هو الرباعي والنطق به أكثر، فجاءَ على الأصل.
الثاني: أن حروفه أكثر من حروف "حابّ"، والمحل محل تكثير لا محل تقليل
(2)
.
فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي رَوْضة: أُنُف مَنَحَ العزيزُ الوهاب فَهمَها وله الحمد والمنة، وقد ذكرنا من هذا وأمثاله في كتاب "التحفة المكية" ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقَّه من الاستحسان والحدث، ولله الفضل والمنة.
وأما جَمْع الشاعر له على: "ثلاثة أحباب"؛ فلا يخرجه عن كونه
(1)
من قوله: "الوصف، وهو
…
" ساقط من (د).
(2)
"والمحل محل تكثير لا محل تقليل" ساقط من (ق).
مصدراً؛ لأنه أراد أن الحب ثلاثة أنواع وثلاثة ضُروب، وهذا تقسيم للمصدر نفسه، وهو تقسيم صحيح، فإن للحب بداية وتوسطًا ونهاية، فدو الشاعر الأقسام الثلاثة، فحُبُّ البداية هو: حب العلاقة وسمِّيَ علاقة لتعلّق القلب بالمحبوب، قال الشاعر
(1)
:
أعلاقة أمَّ الوليدِ بعدما
…
أفنان رأسكِ كالثَّغامِ المُخْلس
والحب المتوسِّط، هو: حُبُّ التملُّق وهو التذلُّل والتواضع للمحبوب، والانكسار له، وتتبع مواقع رضاه، وإيقاعها على ألطف الوجوه، فهذا هو التملُّق، وهو إنما يكون بعد تعلُّق القلب به.
والحب الثالث: هو الذي يأسر
(2)
القلبَ ويصطلم العقلَ ويُذْهِب اللبَّ ويمنع القرارَ. وهذه المحبة تنقطع دونها العبارة، وتمتنع إليها الإشارة، ولي فيها من أبياتٍ
(3)
:
وما هي إلا الموت أو هو دونَها
…
وفيها المنايا يَنْقلبن أَمَانيا
فقد بان لك أن الشاعرَ إنما أرادَ جَمْع الحب الذي هو المصدر باعتبار أنواعه وضروبه. ولنقطع الكلامَ في هذه المسألة، فمن لم يَشْبع من هذه الكلمات ففي "كتاب التحفة" أضعاف ذلك، والله الموفق.
عاد كلامه
(4)
قال: "فإن قيل: فقد قالوا: "سَقَم وأسقام"، والسَّقَم مصدر لسَقِمَ، فهذا جمعٌ لاختلافِ الأنواع؛ ألا، لأنه اسم كما ذكرت.
(1)
هو: المرار بن سعيد الفقعسي، والبيت من شواهد "الكتاب":(1/ 60)، وانظر:"الخزانة": (10/ 230، 11/ 232).
(2)
(ظ): "باشر" وأهملت في (د).
(3)
لم أقف على شئ منها في كتبه الأخرى.
(4)
أي السهيلي في "نتائج الفكر": (ص/ 365).
قيل: هذه غفلة! أليس قد قالوا: "سُقْم" بضمِّ السين، فهو عبارة عن الداء الذي به يسقم الإنسان، فصار كالدُّهن والشغل، وهو: في ذاته مختلف الأنواع، فجُمع.
وأمَّا المرض فقد يكون عبارة عن السُّقم والعِلة، فيُجْمع على "أمراض"، وقد يكون مصدرا، كقولك: مرض، فلا يجمع.
فإن قيل: تفريقك بين الأمرين
(1)
دعوى، فما دليلها؟.
قلنا: قولك: "عَرق يعرق عرقًا" لا يخفى على أحد أنه مصدر عرق، والعَرَق الذي هو جسم سائل مائع سائل من الجسد، لا يخْفى على أحدٍ أنه غير "العَرَق" الذي هو المصدر، وإن كان اللفظ واحدًا، فكذلك "المرض" يكون عبارة عن المصدر وعبارة
(2)
عن "السقم" والعلَّة، فعلى هذا تقول:"تصبَّب زيدٌ عرقًا" فيكون له إعرابان؛ تمييز -إذا أردت المائع-، ومفعول من أجله أو مصدر مؤكِّد -إذا أردت المصدر- وكذلك:"دميت إصبعي دمًا" إذا
(3)
أردت المصدر فهو [الدَّمَى]
(4)
محل العَمَى، وإن أردت الشيء المائع فهو "دم" مثل:"يد"، وقد يُسمَّى المائع بالمصدر، قال
(5)
:
فَلَسْنا على الأعقابِ تَدْمى كُلُوْمُنا
…
ولكنْ عَلى أقدامنا تَقْطُر الدّما
فهذا (ق/124 أ) مقصور كالعصا، وعليه قول الآخر:
(1)
من قوله: "السُّقم والعنة
…
" إلي هنا ساقط من (ق).
(2)
(ق): "ويكون عبارة".
(3)
"دما" ليست في (ق) وفيها: "إذا"، و (د):"وأما إذا".
(4)
سقطت من الأصول، والاستدراك من "النتائج".
(5)
البَيت لحُصَين بن حمام المرِّي، انظر "حماسة أبى تمام":(1/ 114)، ووقع فى الأصول:"على أعقابنا .. " وهو خطأ.
*جَرَى الدمَيان بالخَبَر اليقينِ
(1)
*
فصل
(2)
ومن حيث امتنع أن يؤكَّد الفعل العام بالمصدر لشيوعه -كما يمتنع توكيد النكرة لشيوعها، وأنها لم تَثبت لها عينٌ- لم يَجُز أن يخبر عنه كما لا يخبر عن النكرة، لا تقول: من فعل كان شرَّا له، بخلاف: من كذب كان شرًّا له؛ لأن "كذب" فعل خاصُّ فجاز الإخبار عما تضمَّنه من المصدر، ومن لمَّ لم يقولوا:"فعلت سريعًا" ولا: "عملت طويلاً"، كما قالوا:"سرت سريعا" و"جلست
(3)
طويلاً" على الحال من المصدر كما يكون الحال من الاسم الخاص ولا يكون من النكرة الشائعة.
فإن قلت: اجعله نعتا للمفعولِ المطلق، كأنك قلت:"فعلت فعلا سريعا"، و"عملت عملاً كثيرًا".
قيل: لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط مذكورة في موضعها، فليس قولهم:"سرت سريعا" نعتًا لمصدر نكرة محذوفة، إنما هو حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه، فقد استقام الميسم
(4)
للناظر في فصول هذه المسألة، واستتبَّ القياس فيها من كل وجه.
فإن قيل: فما قولكم في "عَلِمت عِلمًا"، أليس هو مصدرًا لعلمت،
(1)
عجز بيتٍ لعلي بن بدال بن سليم، وصدره:
* فلو أنَّا على جُحْرِ ذُبحْنا *
من انظر: "الخزانة": (7/ 482)، والبيت في "الأغاني":(24/ 254) بلا نسبة.
(2)
"نتائج الفكر": (ص/ 367).
(3)
(ق): "فعلت"، و (د):"حصلت".
(4)
باليا: العلامة. وبالنون -المنسم- أي: الطريق، وأصله خُفّ البعير.
فلِمَ جاء .. مكسور الأول كالطِّحْن والذِّبْح؟.
قيل: العلم يكون عبارةٌ عن المعلوم، كما تقول:"قرأتُ العلم"، وعبارة عن المصدر نفسه الذي اشتُقَّ منه "علمت"، إلا أن ذلك المصدرَ مفعولٌ لعلمت؛ لأنه معلوم بنفس العلم، لأنك إذا عَلِمت الشيءَ فقدْ علمته، وعلمتَ أنك علمته بعلم واحد؛ فقد صار العلم معلوما بنفسه، فلذلك جاء على وزن "الطِّحْن والذبْح"، وليس له نظير في الكلام إلا قليل، لا أعلم فعلا يتناول المفعول ويتناول نفسه إلا العلم والكلام؛ لأنك تقول للمخاطَب:"تكلم" فيقول: "قد تكلمت"، فيكون صادقًا وإن لم ينطق قبل ذلك. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما قال له: يا ابنَ عبد المطلب: "قد أجَبْتك"
(1)
، فكان "قد أجبتك" جوابا وخبرا عن الجواب، فتناول القول نفسه؛ ولذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] لأن "قل" أمر يتناول ما بعدَه ويتناول نفسه، فمن ثمَّ جاء مصدر "القول" على "القِيل"، كما جاء مصدر "علمت" على "العلم". وجاء أيضًا على "القال" وهو على وزن "القَبَض"؛ لأن القولَ قد يكون مقولاً
(2)
بنفسه، وجاء أيضًا على الأصل مفتوحَ الأول، وأما "العلم" فلم يجئ إلا مكسورًا مصدرا كان أو مفعولاً؛ لأنه لا يكون أبدًا إلا معلومًا بنفسه، و"القول" بخلاف ذلك، قد يتناول نفسه في بعض الكلام، وقد لا يتناول إلا المفعول
(3)
، وهو الأغلب.
(1)
في حديث أخرجه البخاري رقم (63)، ومسلم رقم (12) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
(2)
(ق): "مفعولا"!.
(3)
في بعض نسخ "النتائج": "المقول".