الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في المستعاذ به
، وهو اللهُ وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المُستعِيذينَ، ويعصِمُهم ويمنعُهُم من شرِّ ما استعاذوا من شَرِّه.
وقد (ظ 129/ ب) أخبر اللهُ تعالى في كتابه عمن استعاذَ بخلقه، أن استعاذَتَهُ زادته طغيانًا ورهقًا، فقال حكاية عن مؤمني الجن:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، جاء في التفسير
(1)
: أنه كان الرجلُ من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قَفْر، قال: أعوذ بسَيِّدِ هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه، فيبيت في أمنٍ وجوار منهم حتى يصبح، أيْ: فزاد الإنسَ الجنُّ باستعاذتهم بسادتهم رَهَقًا، أي: طغيانًا
(2)
وإثمًا وشرًّا، يقولون: سُدْنا الإنسَ والجنَّ.
والرَّهَقُ في كلام العرب: الإثم وغِشْيان المحارم
(3)
، فزادهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظوراً من الكِبْر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنسَ والجنَّ.
واحتج أهل السُّنَة على المعتزلة في أن كلمات الله غيرُ مخلوقة
(1)
جاء ذلك عن جماعة من السلف، انظر تفسير الطبري":(12/ 263).
(2)
بعدها في (ق): "وغيًّا وإثمًا .. ).
(3)
انظر "القاموس": (ص/1148).
بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بها
(1)
بقوله: "أعُوذُ بكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ"
(2)
وهو صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق أبدًا
(3)
.
ونظير ذلك قوله: "أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبتَكَ"
(4)
، فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق. وكذلك قوله:"أعُوذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرتهِ"
(5)
، وقوله:"أعُوذُ بِنوُرِ وَجْهِكَ الَّذِي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ"
(6)
، وما استعاذَ به النبي صلى الله عليه وسلم غير مخلوق، فإنه لا يستعيذُ إلا بالله أو بصفةٍ من صفاته.
وجاءت الاستعاذةُ في هاتين السورتين باسم الرَّبِّ والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولابد من أن يكونَ ما وصف به نفسَه -سبحانه- في هاتينِ السورتينِ يناسبُ
(7)
الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفعَ الشَّرِّ المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها، وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله -سبحانه- يُدْعى بأسمائه الحسنى، فيُسألُ لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه
(8)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين: إنه "مما تعَوَّذَ المتَعَوِّذُونَ
(1)
من (ق).
(2)
تقدم ص/706.
(3)
ليس في (ق).
(4)
تقدم 1/ 294.
(5)
تقدم ص/706.
(6)
قطعة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من الطائف أخرجه ابن إسحاق "سيرة ابن هشام": (2/ 419) عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً، والضياء في "المختارة":(9/ 181) وغيره، عن عبد الله بن جعفر الطيار مرسلاً -أيضًا-.
(7)
سقطت من (ظ ود).
(8)
انظر ما تقدم في هذا الكتاب: (1/ 281، 289، وغِيرها)، و "المدارج":(1/ 482).
بِمِثْلِهِما"
(1)
، فلابد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشيء المستعاذ منه، فتتبين المناسبة المذكورة فنقول:
الفصل الثالث فى أنواع الشرور (ق/ 171 أ) المستعاذ منها فى هاتين السورتينِ
الشَّرّ الذي يُصيبُ: العبدَ، لا يخلو من قسمين: إما ذنوبٌ منه يعاقَب عليها، فيكون وقوعُ ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشرُّ هو الذنوبَ وموجباتها، وهو أعظمُ الشَّرَّيْنِ وأدْوَمُهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه، وإما شرٌّ واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّفٌ أو غير مكلف، والمكلف إما نظيرُه وهو الإنسان، أو ليس نظيرَهُ وهو الجِنِّيُّ، وغيرُ المكلف مثل الهوَامِّ وذوات الحُمى
(2)
وغيرها.
فتضمنَت هاتان السورتان الاستعاذةَ من هذه الشرور كلِّها، بأوجز لفظ وأجمعِهِ وأَدَلِّهِ على المراد وأعمَّه استعاذةً، بحيث لم يبقَ شرٌّ من الشُّرور إلا دخلَ تحتَ الشَّر المستعاذ منه فيهما.
فإنَّ سورة الفلق تضمَّنت الاستعاذةَ من أمور أربعة: أحدها: شرُّ المخلوقات التي لها شرّ عمومًا. الثاني: شرُّ الغاسق إذا وَقَبَ. الثالث: شَرّ النَّفَّاثَات في العُقَد. الرابع: شرُّ الحاسد إذا حَسَدَ. فنتكلَّمُ على هذه الشُّرور الأربعة، ومواقعها، واتصالها بالعبد، والتحرُّز منها قبل
(1)
تقدم ص/ 699.
(2)
الحُمَّة: سُمُّ كل شيء يلدغ أو يلسع، ويجمع على: حمات وحُمَى. "اللسان": (14/ 201).
وقوعها، وبماذا تُدفع بعد وقوعها.
وقبل الكلام في ذلك لابد من بيان الشَرِّ ما هو وما حقيقته؟
(1)
فنقول:
الشَّرُّ يقالُ على شيئين: على الألم وعلى ما يُفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرورُ هي (ظ/ 130 أ) الآلام وأسبابُها، فالمعاصي وِالكفرُ والشِّركُ وأنواع الظلم هى شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولَذة لكنها شرورٌ، لأنها أسبابُ الآلام ومفضيَةٌ إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبَّباتِها، فترتُّب الألم عليها كترتّب الموتِ على تناولُ السُّموم القاتلة، وترتبه على الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي نصِبَت
(2)
مفضيةً إلى مسبَّباتها ولابُدَّ، ما لم يمنعْ السببيةَ مانع، أو يعارضْ السببَ ما هو أقوى منه، وأشد اقتضاء لضدِّه، كما يعارض سببَ المعاصي قُوة الإيمان وعَظَمة الحسنات الماحيةِ وكثرَتها، فيزيد في كمِّيتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفعُ الأقوى الأضعفَ، وهذا شأن جميع الأسباب المتضادَّة كأسباب الصِّحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لَذَّة مَّا، هى شرٌّ، وإن نالت بها النفس مَسَرَّة عاجلة، وهى بمنزلة طعام لذيد شهيٍّ لكنه مسمومٌ، إذا تناوله الآكل لَذَّ له أكله
(3)
وطاب له مَسَاغُهُ، وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل، (ف/ 171 ب) فهكذا المعاصي والذنوب ولابدَّ، حتى لو لم
(1)
"وما حقيقته" ليست في (ق).
(2)
(ظ ود): "تصيبه".
(3)
(ظ ود): "لذَّ أكله".
يخبر الشارعُ بذلك لكان الواقعُ والتجربةُ الخاصَّةُ والعامةُ من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحدٍ قطُّ نعمةٌ إلا بشؤم معصيته، فإنَّ الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه، ولا يغيِّرُها عنه حتى يكونَ هو السَّاعيَ في تغييرها عن نفسه:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].
ومن تأمَّل ما قصَّ الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمَه عنهم، وجد سبب ذلك جميعَه إنما هو مخالفةُ أمره وعصيانُ رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَها
…
فإنَّ المعاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
(1)
فما حُفِظت نعمةُ الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحَطَبِ اليابس.
ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له، والمقصود أن هذه الأسباب شرورٌ ولا بُدَّ. وأما كون مسبباتها شرورًا؛ فلأنها آلامٌ نفسية وبدنية فيجتمعُ على صاحبها مع شدَّة الألم الحسي ألَمُ الرُّوح بالهموم والغموم، والأحزان والحسرات.
ولو تفطَّنَ العاقلُ اللّبيبُ لهذا حقَّ التَّفَطُّن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب ولكن قد ضَرَبَ على قلبه حجابَ الغفلة ليقضيَ
(1)
ذكره في "نفح الطيب": (2/ 174).
الله أمرًا كان مفعولاً. فلو تَيَقَّظَ حقَّ التَّيَقُّظِ لتقطَّعَتْ نفسُه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظِّه العاجل والآجل من الله، وإنما يظهرُ له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم، والإشراف والاطِّلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول:{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24] و {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
ولما كان الشرُّ هو الآلامَ وأسبابها، كانت استعاذاتُ النبي صلى الله عليه وسلم جميعُها مدارها على هذين الأصلين، فكل ما استعاذَ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو: إما مؤلمٌ وإما سبَبٌ إليه. فكان يتعوَّذُ في آخر الصلاة من أربع، وأَمَر بالاستعاذة منهن، وهي:"عذاب القبر، وعذاب النار"، فهذان أعظم المؤلمات، و"فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال"
(1)
. وهذان سبب العذاب المؤلم، فالفتنةُ سبب العذاب، وذَكَر الفتنةَ خصوصًا وعمومًا، وذكر نوعي الفتنة، فإن الفتنة إما في الحياة وإما بعد الموت، ففتنةُ الحياة قد يَتَراخى عنها العذاب مدَّة، وأما فتنة الموت فَيَتَّصلُ بها العذابُ من غير تراخٍ، فعادت الاستعاذةُ إلى الألم والعذاب وأسبابهما، وهذا من آكَدِ أدعية الصلاة حتى أوجب بعضُ السَّلف والخَلَف الإعادةَ على من لم يَدْعُ به في التَّشَهُّد الأخير، وأوجبه ابنُ حزم في كل تشهد فإن لم يأتِ به بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
(2)
.
ومن ذلك قوله: "اللَّهُمَّ إني أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ والعَجْزِ
(1)
أخرجه البخاري رقم (1377) ، ومسلم رقم (588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر "المحلى": (3/ 271).
والكَسَل والجُبْنِ والبُخْلِ وضَلَعِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ الرِّجَالِ"
(1)
، فاستعاذ من ثمانية أَشياء كل اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان، [وهما] من آلام الرُّوح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهمَّ تَوَقُّعُ الشر في المستقبل، والحزن التَّألُّم على حصول المكروه فِي الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألُّمٌ وعذابْ يَرِدُ على الروح، فإنْ تَعَلَّقَ بالماضي سُمِّي حزنًا، وإن تعَلَّق بالمستقبل سُمِّي همًّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما منْ أسباب الألم؛ لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدمَ القدرة، والكسلُ يستلزمُ عدم إرادته، فتتألمُ الرُّوح لفواته بحسب تعلُّقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبنُ والبخل قرينانِ؛ لأنهما عدمُ النفع بالمال والبَدَن، وهما من أسباب الألم، لأن الجبان تفوتُهُ محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تُنال إلَّا [بالبَذْل والشجاعة]
(2)
فالبخل يحولُ بينه وبينها أيضًا، فهذان الخُلُقان من أعظم أسباب الآلام.
وضَلَع الدَّيْن وقَهْر الرجال قرينان، وهما مؤلمان للنفس معذبان لها؛ أحدُهما قهر بحق وهو ضَلَع الدَّيْن. والثاني قهر بباطل هُو غَلَبَةُ الرجال، وأيضًا فضَلَعُ: الديْن قهرٌ بسبب من العبد في الغالب، وغلبة الرجال قهر
(3)
بغير اختياره.
(1)
أخرجه البخاري رقم (2893) ومسلم رقم (2706) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
(2)
(ق): "بالشجاعة والإقدام" مع تكرار، و (ظ ود):"بالبذل والسخاء".
(3)
(ق): "فهي".
ومن ذلك تعوُّذُه صلى الله عليه وسلم: "مِنَ المَأثَمِ وَالمَغْرَمِ"
(1)
فإنهما يسببان الألم العاجل والآجل
(2)
، ومن ذلك قوله:"أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ"
(3)
، فالسخط سبب الألمِ، والعقوبة هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.
فصل
والشرُّ المستعاذُ منه نوعان:
أحدهُما: موجود يُطلب رفعه.
والثاني معدومٌ يطلبُ بقاؤه على العدم وأن لا يوجد.
كما أن الخير المطلق نوعان:
أحدهما موجودٌ فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه.
والثاني معدومٌ فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعةُ هي أمهات مطالب السَّائلين من ربِّ العالمَين، وعليها مدارُ طَلَبَاتِهِم، وقد جاءت هذه المطالبُ الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً
(4)
عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن
(1)
أخرجه البخاري رقم (832) ، ومسلم رقم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
من (ق).
(3)
تقدم 1/ 294.
(4)
(ق): "في الآية".
الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه.
ثم قال: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار (193)} ، فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود وهو الإيمان، حتى يتوفاهم عليه، فهذانِ قسمان.
ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه.
ثم قال: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلبٌ أن لا يقعَ
(1)
بهم الشَّرُّ المعدومُ، وهو خزيُ يوم القيامة، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظام، مرتبةً أحسن ترتيبٍ، قُدِّمَ فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة، ودوامُ الإسلام إلى الموت، ثم أُتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما: أن يُعطوا ما وُعِدُوه على ألسنة رسله، وأن لا يُخْزِيَهُم يوم القيامة.
إذا عُرِف هذا؛ فقوله صلى الله عليه وسلم في تشهُّد الخطبة: "وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنا، ومِنْ سيئاتِ أَعْمَالِنَا"
(2)
، يتناوَلُ الاستعاذةَ من شرِّ النفس الذي هو معدومٌ لكنه فيها بالقوَّة، فيسأل دفعه وأن لا يوجد.
وأما قوله: "مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا"؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه استعاذةٌ من الأعمال السيئة التي قد وُجِدتْ، فيكون الحديثُ قد تناولَ نوعَي الاستعاذة من الشَّرِّ المعدوم الذي لم يوجدْ، ومن الشر الموجود فطلب دَفْع الأول ورَفْع الثاني.
(1)
كذا في الأصول، وفي "المنيرية":"يوقع".
(2)
تقدم 2/ 448.
والقول الثاني: إن سيئاتِ الأعمال هي: عقوباتُها وموجباتُها السيئة التي تسوءُ صاحبَها، وعلى هذا يكونُ مِن استعاذةِ الدفع أيضًا لكنه
(1)
دفعُ المسبب، والأول دفع السبب، فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه، وعلى الأوّل يكون إضافةُ السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه، فإن الأعمال جنسٌ وسببُها
(2)
نوعٌ منها. وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبَّب إلى سَبَبِهِ، والمعلول إلى علته، كأنه قال: من عقوبة عملي، والقَولانِ محتملانِ، فتأمل أيَّهُمَا ألْيَقُ بالحديث وأولى به، فإنّ مع كلِّ واحد منهما نوعًا من الترجيح.
فيترجَّحُ الأولُ: بأن منشأ الأعمال السيئة من شرِّ النفس، فشرُّ النفس يولِّدُ الأعمالَ السَّيِّئَةَ فاستعاذ من صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة، وهذان جِمَاعُ الشَّرِّ وأسباب كلِّ ألم، فمتى عوفي منها عُوفِيَ من الشَّرِّ بحذافيره
(3)
.
ويترجَّحُ الثاني: بأن سيئاتِ الأعمال هي العقوباتُ التي تسوءُ العامل، وأسبابها شرُّ النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها، والقولانِ في الحقيقة متلازمان، والاستعاذة من أحدهما تستلزمُ الاستعاذةَ من الآخر.
فصل
ولما كان الشَّرُّ له سببٌ هو مصدرُه، وموردٌ هو منتهاه، وكان
(1)
من (ق).
(2)
"المنيرية": "وسيئاتها".
(3)
من قوله: "التي تحدث
…
" إلى هنا ساقط من (ق).
السببُ إما من ذات العبد. وإما من خارج، ومورده ومنتهاه، إما نفسه وإما غيره = كان هنا أربعة أمور: شرٌّ مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى، وشرٌّ مصدره من غيره وهو السبب فيه، ويعودُ على نفسه تارة في على غيره أخرى.
جمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصِّدِّيقَ أن يقولَه إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه:"اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْب والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ ومَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إلاّ أَنْتَ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ نَفْسي، وَشَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، وأَنْ أقْترِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلى مُسْلِمٍ"
(1)
فذكر مصدَرَي الشَّرِّ وهما النفسُ والشيطانُ، وذكر مَوْرِدَيْهِ ونهايتيه، وهما: عودُه على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديثُ مصادرَ الشَّرِّ ومواردَهُ في أوجز لفظٍ وأخصرِه وأجمعِه وأبينِه.
فصل
فإذا عُرِفَ هذا فلْنَتَكَلَّمْ على الشُّرور المستعاذ منها في هاتين السورتين:
الشَّرُّ الأوَّل: العامِ في قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} و (ما)، هاهُنا موصولة ليس إلَّا، والشَّرُّ مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خَلْق الرَّبِّ تعالى الذي هو فعلُه وتكوينُه، فإنه لا شرَّ فيه بوجهٍ ما، فإن الشَّرَّ لا يدخل في شيءٍ من صفاته ولا في أفعاله، كما لا
(1)
أخرجه أبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، وابن حبان. "الإحسان":(3/ 242)، والحاكم:(1/ 513) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الترمذي: "حسن صحيح" وصححه ابن حبان والحاكم والذهبى.
يلحقُ ذاتَهُ تبارك وتعالى، فإن ذاتَهُ لها الكمالُ المطلقُ الذي لا نقصَ فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمالُ المطلَقُ والجلالُ التَّامُّ ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوجهٍ ما.
وكذلك أفعالُه كلُّها خيراتٌ محضة لا شرَّ فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه لاشْتُقَّ له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى وتقدَّس عن ذلك، وما يفعلُه من العدل بعباده وعقوبة من يستحقُّ العقوبةَ منهم هو خيرٌ محض، إذ هو محضُ العدل والحكمة، وإنما يكون شرًّا بالنسبة إليهم، فالشَّرُّ وقع في تعلُّقه بهم وقيامه بهم
(1)
، لا في فعله القائم به تعالى، ونحنُ لا نُنكرُ أن الشَّرَّ يكونُ في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالقُ الخيرِ والشَّرِّ.
ولكن هنا أمرانِ ينبغي أن يكونا منك على بالٍ.
أحدهما: أن ما هو شرٌّ أو متضمِّنٌ للشر فإنه لا يكونُ إلَّا مفعولاً منفصلًا، لا يكونُ وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرًّا هو أمر نسبيٌّ إضافيٌّ، فهو خيرٌ من جهة تعلُّق فعل الرَّبِّ وتكوينه به، وشرٌّ من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان، هو من أحدهما خيرٌ، وهو الوجه الذي نُسِبَ منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقًا وتكوينًا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطْلَعَ من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثرُ الناس تضيقُ عقولُهم عن مبادئ معرفتها، فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله -سبحانه- هو الغنيُّ
(1)
(ق): "وقيامهم به".
الحميدُ، وفاعل الشر لا يفعله إلَّا لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيلُ صدورُ الشَّرِّ من الغني الحميد فعلًا، وإن كان هو الخالقَ للخير والشَّرِّ، فقد عرفتَ أن كونه شرًّا هو أمرٌ إضافيٌّ، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه.
فلا تغفلْ عن هذا الموضع، فإنه يفتحُ لك بابًا عظيمًا من معرفة الرَّبِّ ومحبته، ويزيل عنك شُبُهَات حارتْ فيها عقولُ أكثر الفضلاء. وقد بسطت هذا في كتاب "التحفة المكية"، وكتاب "الفتح القدسي"
(1)
. وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أُوضِّحه لك بأمثلة:
أحدُها: أن السَّارقَ إذا قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَطْعُها شرٌّ بالنسبة إليه، وخيرٌ محض بالنسبة إلى عموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضَّرر عنهم، وخيرٌ بالنسبة إلى مُتَوَلِّي القطع أمرًا وحكمًا؛ لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضرِّ بهم، فهُو محمودٌ على حكمه بذلك، وأمرِه به، مشكورٌ عليه، يستحقُّ عليه الحمدَ من عباده والثَّناء عليه والمحبَّة.
وكذلك الحكم يقتل من يصولُ عليهم في دمائهم وحُرُماتهم، وجَلْد من يصولُ عليهم في أعراضهم، فإذا كان هذا عقوبةَ من يصولُ عليهم في دنياهم فكيف عقوبةُ من يصولُ عليهم في
(2)
أديانهم ويحولُ بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به [
(3)
رسلَهُ، وجعل
(1)
تقدم الكلام عليهما.
(2)
(ظ ود): "على أديانهم".
(3)
سقطت (الورقة 174) من (ق) وهي من قوله: "رسله
…
" إلى قوله: "فما أحوج القلوب" ص/ 724.
سعادةَ العباد في معاشهم ومعادهم منوطةً به؟!.
أفليس في عقوبة هذا الصَّائل خيرٌ محضٌ وحكمةٌ وعدلٌ وإحسان إلى العبيد؟! وهي شرٌّ بالنسبة إلى الصائل الباغي، فالشرُّ ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نُسِبَ إلى الربِّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عينُ الخير والحكمة، فلا يغْلُظْ حجابُك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسِّرّ الذي يُطْلعكَ على مسألة القَدَر، ويفتحُ لك الطريقَ إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه كما أنه البَرُّ الرحيم الودودُ المحسنُ، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمتُهُ رحمتَهُ، بل يضعُ رحمتَهُ وبِرَّهُ وإحسانَهُ موضِعَهُ، ويضعُ عقوبَتَهُ وعدلَه وانتقامَه وبأسَهُ موضعَه، وكلاهما مقتضى عِزَّتِهِ وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضعَ رضاه ورحمته موضعَ العقوبة والغضب، ولا يضعُ غضبَه وعقوبتَه موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفتُ إلى قول من غَلُظ حجابُه عن الله تعالى: إن الأمرين بالنسبة إليه على حدٍّ سواء، ولا فرْقَ أصلًا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره، كيف تجدُه كفيلاً بالرَّدِّ على هذه المقالة، وإنكارها أشدَّ الإنكار، وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35 - 36] وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21] وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28] فأنكر سبحانه على من
ظن هذا الظن ونزَّه نفسه عنه، فدل على أنه مستقرٌّ فِي الفِطَر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعِزَّته وإلاهيته، لا إله إلَّا هو، تعالى عما يقولُ الجاهلون علوًّا كبيرًا.
وقد فطرَ اللهُ عقولَ عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضعِ الرحمة والإحسان، ومكافأة الصُّنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضعَ العقوبة موضعَ ذلك استنكرته فِطَرُهُمْ وعقولُهم أشدَّ الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيءُ إلى العالمَ بأنواع الإساءة في كلِّ شيءٍ من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمَه غايَةَ الإكرام ورفعه وكرَّمه، فإن الفِطَر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهدُ على سَفَه من فعله.
هذه فطرةُ الله التي فَطَر الناسَ عليها، فما للعقول والفِطَر لا تشهدُ حكمتَه البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أَوْلى المحالّ بها: وأحقِّها بالعقوبة؛ وأنها لو أوليت النِّعَمَ لم تحسنْ بها ولم تَلِقْ، ولظهرت مناقضةُ الحكمة، كما قال الشاعر:
نِعْمَةُ اللهِ لا تُعَابُ ولَكِنْ
…
ربَّما استُقْبِحَتْ علي أَقْوامِ
فهكذا نعمُ الله لا تليقُ ولا تَحْسُنُ ولا تجمُلُ بأعدائه الصَّادِّين عن سبيله، السَّاعين في خلاف مرضاته، الذين يَرْضَوْنَ إذا غضب، ويغضبُون إذا رَضِيَ، ويعطِّلون ما حكم به، ويَسْعَوْن في أن تكون الدعوةُ لغيره، والحكمُ لغيره، والطاعةُ لغيره، فهم مضادُّون في كلِّ ما يُريدُ، يحبُّون ما يُبغِضُه ويدعون إليه، ويُبغضون ما يُحِبُّه وينفرون عنه، ويوالون أعداءَهُ وأبغضَ الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى
رسوله، كلما قال تعالى:{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55] وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 55].
فتأمل ما تحتَ هذا الخطابِ الذي يسلبُ الأرواحَ حلاوةً وعقابًا
(1)
وجلالة وتهديدًا، كيف صدّره بإخبارنا أنه أمر إبليسَ بالسجود لأبينا، فأبى ذلك، فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنتُه وطردتُه؛ إذ
(2)
لم يسجدْ لأبيكم، وجعلته عدوًّا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني، أفَلَيْس هذا من أعظم الغَبْن وأشدِّ الحسرة عليكم؟ ويوم القيامة يقول تعالى: أليس عدلاً مني أن أوَلِّيَ كلَّ رجل منكم ما كان يَتَوَلَّى في دار الدنيا، فليعْلمَنَّ أولياءُ الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائِهم وبقي أولياءُ الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلَّى لهم، ويقول:"أَلا تَذْهَبُونَ حَيْثُ ذَهَبَ النَّاسُ؛ فَيَقُولونَ: فَارَقْنَا النَّاسَ أَحْوَجَ ما كُنَّا إِلَيْهِمْ، وإِنَّما نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الّذِي كُنّا نَتَوَلَاّهُ وَنَعْبُدُهُ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَلامَةٌ تَعْرِفُونَهُ بِها؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم إِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ، فَيَتَجلَّى لَهُمْ وَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَيَخِرُّون لَهُ سُجَّدًا"
(3)
.
فيا قرَّةَ عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فَرَحَهُمْ إذا ذهب الناس مع أوليائهم وبقُوا مع مولاهم الحق، فسيعلمُ المشركون به الصَّادُّون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءَهُ، إنْ أولياءُهُ إلَّا المُتَّقُون، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
(1)
كذا، ولعلها: عتابًا.
(2)
(ظ ود): "إن".
(3)
قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (7439)، ومسلم رقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
ولا تستطِلْ هذا البَسْطَ، فما أحوجَ القلوب] إلى معرفته وتعقُّله، ونزولها منه منازلَها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة مع الذين أنعم الله تعالى عليهم من النَّبييِّن والصِّدِّيقين، والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
فصل
إذا عُرِفَ هذا عُرِف معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِليْكَ"
(1)
، وأنَّ معناه أجلُّ وأعظم من قول من قال:"والشَرُّ لا يُتَقرَّبُ به إليك"، وقول من قال:"والشرُّ لا يصعَدُ إليكَ" وأن هذا الذي قالوه إنما يتضمَّن تنزيهَه: عن صعود الشرِّ إليه والتقرب به إليه، لا يتضمَّن تنزيهَهُ في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشَّرِّ، بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدَّق
(2)
، فإنه يتضمَّنُ تنزيهَه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشَّرِّ إليه بوجهٍ ما، لا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، ولا في أسمائه، وإن دخل في مخلوقاته، كقوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1 - 2].
وتأملْ طريقَة القرآن في إضافة الشَّرِّ تارة إلى سببه ومن قام به، كقوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254] وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة: 108]، وقوله:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160]، وقوله:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76]، وهو فِي القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشارِه، وإنما المقصودُ التمثيلُ.
(1)
أخرجه مسلم رقم (771) من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
(ق): "المصدوق".
وتارة بحَذْف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10] فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرَّحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] ، فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه، والضلال منسوبًا إلى من قام به، والغضب محذوفًا فاعله. ومثله قول الخَضر في السفينة:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وفي الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
ومثله قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فنسب هذا التَّزيينَ المحبوبَ إليه، وقال:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] فحذف الفاعلَ المُزَيِّن.
ومثله قول الخليل صلى الله عليه وسلم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 78 - 82] فنسب إلى ربِّه كل كمال من هذه الأفعال، ونسبَ إلى نفسه النقصَ منها وهو المرضُ والخطيئةُ.
وهذا كثير في القرآن الكريم، ذكرنا منه أمثلةً كثيرةً في كتاب "الفوائد المكية" وبيّنا هناك السِّرَّ في مجيء:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121]{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] والفرق بين الموضعين، وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعًا في سياق المدح،
وحيثُ حذَفَه كان من أوتيه واقعًا في سياق الذَّمِّ أو منقسمًا، وذلك من أسرار القرآن الكريم.
ومثله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وقال:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14] وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169] فهذا خلف سوءٍ
(1)
، وبالجملة فالذي يضافُ إلى الله تعالى كلُّه خيرٌ وحكمة ومصلحة وعدل، والشرُّ ليس إليه.
فصل
وقد دخل في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا، أو هامَّةً أو دابَّةً، أو ريحًا أو صاعقةً، أو أيَّ نوع كان من أنواع البلاء.
فإن قلت فهل في (ما) هاهنا عموم؟
قلت فيها عمومٌ تقييديٌ وصفيٌ لا عمومٌ إطلاقيٌ، والمعنى: من شرِّ كلِّ مخلوق فيه شرٌّ، فعمومها من هذا الوجه، وليس المرادُ الاستعاذة من شرِّ كلِّ ما خلقه الله تعالى، فإن الجنةَ وما فيها ليس فيها شرٌّ، وكذلك الملائكةُ والأنبياءُ فإنهم خيرٌ محضٌ، والخير كلُّه حصل على أيديهم، فالاستعاذة من {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} تعمُّ شرَّ كلِ مخلوق فيه شرٌّ، وكل شرٍّ في الدنيا والآخرة، وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوامِّ، وشر النار والهواء، وغير ذلك.
(1)
"فهذا خلف سوءٍ" من (ق).