المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فائدة بديعة(2)قولهم: "عرفت "، كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌فائدة بديعة(2)قولهم: "عرفت "، كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه

من هذا الجنس، فـ "مِن" الأولى لابتداء الغاية، والثاني لبيان الجنس، وهذا الثاني أظهر، فإذا أُعيدَ حرف الجر مع البدل لطول الاسم الأول فإثبات الحرف من نحو:"أمرتك الخير" إذا طال الاسم أجدر.

الشرط الثاني: أن (ق/112 أ) يكون المأمور به حَدثًا. فإن قلت: "أمرتك بزيد" لم يحذف، لأن الأمر في الحقيقة ليس به وإنما هو على غيره، كأنك قلتَ:"أمرتك بضربه أو إكرامه". وأما: "نهيتك عن الشر"، فلا يحذف الحرف منه؛ لأنه ليس في الكلام ما يتضمَّن الفعل الناصب؛ لأن النهي عنه كَفٌّ وزَجْر وإبعاد، وهذه المعاني التي يتضمنها نَهْي تَطْلب من الحرف ما يطلبه نَهَى، بخلاف أَمَر؛ لأن "كَلَّف وأَلْزَم"

(1)

تطلب "الباء".

‌فائدة بديعة

(2)

قولهم: "عرفتُ "، كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه

، حتى يظهر للذهن منفرداً عن

(3)

غيره، وهذه المادة تقتضي العلو والظهور، كعُرْف الشيء لأعلاه، ومنه الأعراف، ومنه

(4)

عرف الديك.

وأما "علمتُ" فموضوعة للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة، ومعنى التركيب فيها: إضافة الصفة إلى المحل، وذلك أنك تعرف زيدًا على حِدَته، وتعرف معنى القيام على حِدَته، ثم تضيف القيام إلى زيد، فإضافة القيام إلى زيد هو التركيب، وهو متعلَّق العلم.

(1)

(ق): "وأكرم".

(2)

"نتائج الفكر": (ص/ 338).

(3)

(ق): "مستفرد منه".

(4)

"الأعراف ومنه" سقطت من (ظ ود).

ص: 485

فإذا قلت: "علمتُ" فمطلوبها ثلاثة معان محلُّ، وصفةٌ، وإضافةُ الصحفة إلى المحل؛ وهي ثلاث معلومات متميزة

(1)

، إذا عرفت هذا؛ فقال بعض المتكلمين: لا يضاف إلى الله -سبحانه- إلا العلم لا المعرفة؛ لأن علمه متعلِّق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلُّقًا واحدًا، بخلاف علم المُحْدَثين فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم بشيء آخر.

وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلمٍ واحد، وأن علمه بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم هو عين علمه بكذبِ مسيلمة، والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول، وأن العلومَ متكثَّرة متغايرة بتكثُّر المعلومات وتغايرها، فلكلِّ معلومٍ علمٌ يخصه، ولإبطال قول أولئك وذِكْر الأدلة الراجحة

(2)

على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به، وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه سبحانه وتعالى وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلي الإفراد والتركيب في متَعلَّق العلم، وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها، فإنها في مجاري استعمالها إنما تُسْتَعمل فيما سبق تصوره خفاءٌ من نسيان أو ذهول أو عزوب عن القلب، فإذا تصوره وحَصَل في الذهن قيل: عرفه

(3)

. أو وصف له صمته ولم يره، فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل: عرفه، ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينتَ أنه هو، قلتَ: عرفته، وكذلك

(4)

. عرفتُ (ق/ 112 ب) اللفظةَ، وعرفتُ الديار، وعرفتُ المنزل، وعرفتُ الطريق.

(1)

من (ق)، وفي "النتائج":"متلازمة".

(2)

(ق): "الدالة".

(3)

هذه الجملة في (ق) بعد سطر، ومكانها هنا أنسب.

(4)

(ق): "قل: عرفه، وقيل:

".

ص: 486

وسر المسألة: أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه، فالمعرفة تمييز له وتعيين، ومن هذا قوله تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته، وجاء:"كما يعرفون أبناءهم" من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر، فتأمله، وقد بسطنا هذا في "كتاب التحفة المكية"، وذُكِر فيها من الأسرار (ظ/86 أ) والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنَّف.

وأما ما زعموا من قولهم: إن "علمت" قد يكون بمعنى "عرفتُ" واستشهادهم بنحو قوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] وبقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فالذي دعاهم إلى ذلك: أنهم رأوا "علمت" قد تعدت إلى مفعول واحد، وهذا

(1)

هو حقيقة العرفان

(2)

= فاستشهاد ظاهر، على أنه قد قال بعض الناس

(3)

: إن تعدِّي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلى مفعول واحدٍ، لا يخرجها عن كونها علمًا على الحقيقة، فإنه لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدِّي "عرفت"، ولكن على

(4)

جهة الحذف والاختصار، فقوله:{لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم، وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم، وما تقدَّم من الكلام يدلك على ذلك. وكذلك قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ

(1)

(ق): "ومن هذا".

(2)

(ق): "الفرقان".

(3)

هو السُّهَيلي في "نتائج الفكر": (ص/ 339) وسيأتي في النص "قال"، والمقصود هو السهيلي.

(4)

من قوله: "أنه قد قال

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 487

دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمون أنهم أعداء لهم، فيتعلَّق العِلم بالصفة المضافة إلى الموصوف، لا بعينه وذاته. قال: هذا، وإنما مثل من يقول: إنّ "علمت" بمعنى "عرفت" من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ، كَمَثَل من يقول: إن "سألت" يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم: "سألتُ الحائط وسألتُ الدر"، ويحتج بقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قال: وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف، وكذلك ما تقدم.

وليس ما قاله هؤلاء بقوي، فإن الله -سبحانه- نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين، هذا صريحُ اللفظ، وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم، فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين، وهو موجود في غيرهم ولا يعرف أعيانهم، وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم، فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه.

والظاهر بل المتعين أنه صلى الله عليه وسلم لو عرف أشخاصَهم لعرفهم بسيماهم وفي لَحْن القول، (ق/113 أ)، ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوتَه وعداوةَ الله عز وجل، والذي يزيد هذا وضوحًا الآية الأخرى، فإن قوله تعالى:{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال: 60] فيهم قولان:

أحدهما: أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله، وعلى هذا: فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة، ولا يمكن أن يقال

(1)

: إنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك

(1)

"أن يقال" سقطت من (ظ ود).

ص: 488

جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس.

والقول الثاني: أنهم المنافقون، وعلى هذا فقوله:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ} إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصِهم لا على معرفة نفاقِهم؛ لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين، يعلمون نفاقَهم ولا يشكون فيه، فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به، وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب، فيكون كقوله تعالى:{لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فتأمله

(1)

.

ويزيده وضوحًا؛ أن هذه الأفعال لا يجوز فيها الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب "أعطى" و"كسا"؛ للعلة المذكورة هناك، وهي تعلُّق هذه الأفعال بالنسبة، فلابد من ذكر النسبتين، بخلاف باب "أعطى" فإنه لم يتعلق بنسبة، فيصح الاقتصار فيه على أحد مفعوليه، وهذا واضح كما تراه، والله أعلم.

وأما تنظيرهم بـ "سألت الحائطَ والدار" فيا بعدما بينهما! فإن هذا سؤال بلسان الحال وهو

(2)

كثير في كلامهم جدًّا، على أنه لا يمتنع أن يكون سؤالاً بلسان المقال صريحًا، كما يقول الرجل للدار الخَرِبَة:"ليتَ شِعْري ما فعل أهلك"؛ و"ليت شعري ما صَيَّرك إلى هذه الحال"؛ وليس هذا (ظ/86 ب) سؤال استعلام، بل سؤال تعجُّب وتفجُّع وتحزُّن.

وأما قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فالقرية إن كانت هنا اسمًا للسكان كما هو المراد بها في أكثر القرآن والكلام، فلا مجازَ

(1)

(ق): "فتدبره".

(2)

سقطت كلمتان من (ظ ود).

ص: 489