المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلالشر الثالث: شر النفاثات في العقد - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌فصلالشر الثالث: شر النفاثات في العقد

بهذا إعجازُ القرآن وعَظَمَتُه وجلالته، وأن العِبَاد لا يَقْدُرون قَدْره، وأنه:{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]

‌فصل

الشرُّ الثالث: شر النفاثات في العقد

، وهذا الشَّرُّ هو شر السحر، فإن النَّفَّاثات في العُقَد هن: السواحِرُ اللاتي يعقدْنَ الخيوطَ، وينفثْنَ على كلِّ عقدة، حتى ينعقدَ ما يُرِدنَ من السِّحر، والنفث هو: النفخ مع رِيقٍ، وهو دونَ التَّفْل، وهو مرتبةٌ بينهما، والنفثُ: فعلُ الساحر، فإذا تكيَّفَتْ نفسُه بالخبث والشر الذي يريدهُ بالمسحور ويستعينُ عليه بالأرواح الخبيثة نفخَ

(1)

في تلك العُقَد نفخًا معه ريقٌ فيخرج من نَفْسِه الخبيثة نَفَسٌ ممازجٌ للشر والأذى، مقترنٌ بالرِّيق الممازج لذلك، وقد تَسَاعَدَ هو والرُّوح الشيطانية على أذى المسحور، فيقع فيه السِّحْرُ بإذن الله الكونيّ القَدَري لا الأمريّ الشرعي.

فإن قيل: فالسحرُ يكونُ من الذكور والإناث، فَلِمَ خصَّ الاستعاذةَ من الإناث دونَ الذكور؟

قيل في جوابه: إن هذا خَرَج على السَّبب الواقع، وهو أن بنات لَبِيد بن الأعصم سَحَرْنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. هذا جوابُ أبي عبيدة وغيره

(2)

، وليس هذا بسديد فإن الذي سَحَرَ النبي صلى الله عليه وسلم هو لبِيدُ بنُ أعصَمَ كما جاء في "الصحيح".

والجوابُ المحقَّقُ: أنَّ النَّفَّاثات هنا هنَّ الأرواحُ والأنفس النفَّاثات لا النساءُ النَّفَّاثَاتُ، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة

(1)

(ظ ود): "نفث".

(2)

انظر: "زاد المسير": (9/ 275)، و"فتح القدير":(5/ 521).

ص: 736

والأرواح الشريرة، وسلطانُه إنما يظهرُ منها، فلهذا ذكرت النَّفَّاثَات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير، والله أعلم.

ففي "الصحيح"

(1)

عن هشام بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عائشة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم طُبَّ، حتى إنه لَيُخَيَّلُ إليه أنه صَنَع شيئًا وما صنعه، وأنه دعا ربَّه، ثم قال: "أشَعَرتِ أنَّ الله قَدْ أفْتَانِي فيما اسْتَفْتَيتُهُ فِيهِ"، فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "جَاءَنِى رَجُلانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيّ، فَقَالَ أَحَدُهُما لِصَاحِبهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ الآخَرُ: مَطبُوبٌ، قالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قال: لَبيدُ بنُ الأَعْصَم. قالَ لَهُ: فَبمَاذا؟ قَال: في مُشْطٍ ومُشاطَةٍ وجُفِّ طَلْعة ذَكرٍ، قال: فأيْنَ هُوَ؟ قال: في ذَرْوَانَ بئرٍ في بَنِي زُرَيقٍ". قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال: "واللهِ لكأَنَّ مَاءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، ولَكَأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشيَّاطِينِ"، قال: فقلت له: يا رسول الله هلا أخرجته؟ قال: "أمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِى اللهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا" فأمَرَ بها فدُفِنَتْ.

قال البخاري: وقال الليث وسفيان بن عيينة، عن هشام: في مشط ومُشَاقة، ويقال: إن المُشاطة ما يخرجُ من الشعر إذا مُشِطَ، والمشاقة من مشاقة الكَتّان.

قلت: هكذا في هذه الرواية إنه لم يُخرجه اكتفاء بمعافاة الله له وشفائه إياه، وقد روى البخاري

(2)

من حديث سفيانَ بن عُيَيْنَةَ قال:

(1)

أخرجه البخاري رقم (3268 و 5763 وغيرها) ومسلم رقم (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رقم (5765).

ص: 737

أول من حدثنا به ابنُ جُريْج يقول: حدثني آل عُرْوَة، عن عُرْوة فسألت هشامًا عنه، فحدثنا عن أبيه، عن عائشة:"كان رسول الله سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهنَّ، قال سفيان: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحر إذا كان كذا، فقال: "يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَال الّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُل؟ قَالَ: مَطبُوبٌ قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَال: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بنِي زُرَيْقٍ حَليفٌ لِيَهُودَ وَكَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشَاطةٍ قَالَ: وَأَينَ؟ قَال: في جُفِّ طَلْعة ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفةٍ بِئْرِ ذَرْوَانَ"، قال: فأتى البئر حتى استخرَجَهُ، فقال: "هَذهِ البئْرُ الّتي أُرِيتُها، وَكَأَنَّ مَاءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينَ، قَالَ: فاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْت: أَفَلا؟ أَيْ: تَنَشَّرْت، فقال: أمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا".

ففي هذا الحديث أنه استخرجه، وترجم البخاريُّ عليه:"بابٌ هل يُسْتخرج السحرُ؟ ".

وقال قتادة: قلت لسعيد بن المُسَيَّب: رجل به طِبٌّ ويؤخذُ عن امرأته، أيحلُّ عنه وينشرُ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاحَ، فأما ما ينفعُ النَّاسَ فلم يُنْهَ عنه

(1)

.

فهذان الحديثانِ قد يُظَنُّ في الظاهر تعارُضُهُما، فإن حديث

(1)

علّقه البخاري فِي "الصحيح - الفتح": (10/ 243) مجزومًا به، وقال الحافظ:"وصله أبو بكر الأثرم في "كتاب السنن، من طريق أبان العطار عن قتادة"، قال الحافظ في "تغليق التعليق": (5/ 49) "وإسناده صحيح".

ص: 738

عيسى، عن هشام، عن أبيه الأوَّل فيه أنه لم يستخرجْه، وحديث ابن جُرَيْج، عن هشام فيه أنه استخرجه، ولا تَنَافِيَ بينهما، فإنه استخرجه من البئرِ حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شُفِيَ.

وقول عائشة رضي الله عنها: هلا استخرجْتَهُ؟ أي: هلَاّ أخرجْتَهُ للناس حتى يَرَوْهُ ويعاينوه، فأخبرها بالمانع له من ذلك، وهو أنَّ المسلمين لم يكونوا لِيَسكتوا عن ذلك، فيقعُ الإنكارُ ويغضَبُ للساحر قومُهُ، فيحدث الشَّرُّ، وقد حصل المقصودُ بالشفاء والمعافاة فأمر بها فَدُفِنَتْ، ولم يستخرجها للناس، فالاستخراج الواقع غير الذي سألتْ عنه عائشة، والذي يدلُّ عليه أنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء إلى البئر ليستخرجَها منه ولم يجيء إليه لينظرَ إليها ثم ينصرف، إذ لا غرض له في ذلك، والله أعلم

(1)

.

وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقًى بالقبول بينهم، لا يختلفونَ في صحته، وقد اعْتاصَ على كثير من أهل الكلام وغيرهم، وأنكروه أشدَّ الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنّف بعضهم فيه مصنّفًا مفردًا حَمَل فيه على هشام، وكان غاية ما أحسن القول فيه، أن قال:"غَلِط واشتبه عليه الأمرُ، ولم يكنْ من هذا شيء"، قال: "لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوزُ أن يُسْحَرَ فإن يكونه مسحورًا تصديقا لقول

(2)

الكفار: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)} [الإسراء: 47] قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى عليه السلام: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)} [الإسراء: 101]. وقال قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ

(1)

انظر الجمع بين الروايتين في "شرح ابن بطال": (9/ 444 - 445)، و"فتح الباري":(10/ 245 - 246).

(2)

(ظ ود): "لأمر".

ص: 739

الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153]، وقال قوم شعيب له:{إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)} ، قالوا: فالأنبياء لا يجوزُ عليهم أن يُسْحَرُوا، فإن ذلك ينادي حمايةَ الله لهم وعصمتهم من الشياطين".

وهذا الذي قاله هؤلاء مودودٌ عند أهل العلم، فإن هشامًا من أوثقِ النَّاس وأعلمهم، ولم يقدحْ فيه أحدٌ من الأئمة بما يوجبُ رَدَّ حديثه، فما لِلْمُتَكَلِّمِينَ وما لهذا الشأن؟! وقد رواه غيرُ هشام عن عائشة رضي الله عنها.

وقد اتفق أصحابُ "الصحيحين" على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلَّمْ فيه أحدٌ من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصةُ مشهورةُ عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلمُ بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلِّمين.

قال أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ

(1)

: "حدثنا أبو معاويةَ، عن الأعمش، عن يزيد بن حيَّان، عن زَيْدِ ابن الأرقم، قال: سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى لذلك أيامًا، قال فأتاه جبريلُ، فقال: إن رجلًا من اليهود سَحَرَكَ، وعقد لذلك

(2)

عُقَدًا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فاستخرجها، فجاء بها، فجعل كلما حلَّ عقدةً وجد لذلك خِفَّةً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما أُنشِطَ من عِقالٍ، فما ذكر ذلك لليهوديِّ ولا رآه في وجهه قطُّ"

(3)

.

(1)

في "المصنَّف": (5/ 40 - 41).

(2)

(ق ود): "لك".

(3)

وأخرجه أحمد في "مسنده": (4/ 367)، والنسائي:(7/ 112) ، وعَبْد بن حُميد "المنتخب" رقم (271)، والطبراني في "الكبير":(5/ 180) كلهم من طريق أبي معاوية به. =

ص: 740

وقال ابن عباس وعائشة: كان غلامٌ من اليهود يخدُمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنت إليه اليهود، فلم يزالوا حتى أخذ مُشَاطةَ رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وعِدَّةَ أسنان من مُشْطه، فأعطاها اليهودَ فسحروه فيها، وتولى ذلك لَبِيد بن الأعصم رجلٌ من اليهود فنزلت هاتانِ السورتان فيه

(1)

.

قال البغويُّ

(2)

: وقيل كانت مغروزةً بالإبرة، فأنزل الله عز وجل هاتينِ السورتينِ وهما إحْدى عشرة آيةً: سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات، فكلما قرأ آية انحلَّت عقدةٌ، حتى انحلت العُقَدُ كلُّها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أُنْشِطَ من عِقَالٍ

(3)

.

قال: وروى أنه لَبِثَ فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام،

= ورواه الحاكم: (4/ 360) من حديث زيد بإسنادٍ آخر وصححه على شرط الشيخين، وانظر:"الفتح": (10/ 239)، وقال الهيثمي في "المجمع":(6/ 284): "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح".

(1)

ذكره البغوي في "تفسيره": (4/ 546) بلا إسناد، أخذًا من الثعلبي؛ إذ تفسيره مختصر منه، وعزاه للثعلبي ابن كثير في "تفسيره":(8/ 3910 - 3911) مطوَّلًا، وقال عقبه:"هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم" اهـ.

(2)

في "تفسيره": (4/ 546 - 547).

(3)

قال الحافظ في "الفتح": (10/ 236): "وقد وقع في حديث ابن عباسٍ فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل" بسندٍ ضعيف في آخر قصه السحر الذي سُحِر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس، وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرج ابن سعد (الطبقات 2/ 199) بسندٍ آخر منقطع عن ابن عباس: أن عليًّا وعمارًا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة" اهـ. وانظر: "التلخيص الحبير": (4/ 40). وكذا جاء ذكر هذه العقد في رواية عَمْرة عن عائشة، لكنها أيضًا ضعيفة انظر "الفتح":(10/ 241، 246).

ص: 741

فنزلت المعوذتان

(1)

.

قالوا: والسِّحر الذي أصابه صلى الله عليه وسلم كان مرضًا من الأمراض عارضًا شفاه الله منه، ولا نقصَ في ذلك ولا عيب بوجهٍ ما، فإن المرضَ يجوزُ على الأنبياء، وكذلك الإغماءُ فقد أُغْمِيَ عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه

(2)

، ووقع حين انفكتْ قدمُه

(3)

، وجُحِشَ شِقُّهُ

(4)

، وهذا من البلاء الذي يزيدهُ اللهُ به رفعةً في درجاته ونيل كرامته، وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، فابتلوا من أممهم بما ابْتُلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس بِبدْعٍ أن يُبْتَلَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجَّه، وابتليَ بالذي ألقى على ظهره السَّلَى وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقصَ عليهم ولا عارَ في ذلك، بل هذا من كمالهم وعُلوٌّ درجاتهم عند الله.

قالوا: وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي سعيد الخُدْري أن جبريل أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ " فقال: "نَعَمْ"، فقال:"بِاسمِ الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ"

(5)

فعوّذه جبريلُ من شرِّ

(1)

قال الحافظ في "الفتح": (10/ 237): "وقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: "فأقام أربعين ليلة" وفي رواية وهيب (كذا! وصوابه: معمر، أما رواية وهيب 6/ 96 فليس فيها تحديد المدة) عن هشام عند أحمد (6/ 63): "ستة أشهر"، ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامه

" اهـ.

(2)

أخرجه البخاري رقم (198)، ومسلم رقم (418) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه البخاري رقم (1911) من حديث أنسٍ بن مالك رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري رقم (378)، ومسلم رقم (411) من حديث أنسٍ -أيضًا-.

(5)

أخرجه مسلم رقم (2186) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 742

كل نفس وعين حاسد لمَّا اشتكى، فدَلَّ على أن هذا التعويذَ مُزِيلٌ لِشكَايته صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا يُعَوِّذُه من شيء وشِكَايته من غيره.

قالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها فلا حجةَ لكم فيها، أما قوله تعالي عن الكفار أنهم قالوا:{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] وقوله قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153] فقيل: المراد به من له سَحَرٌ، وهي الرِّئَةُ، أي: أنه بَشَرٌ مثلُهم يأكلُ ويشربُ، ليس بِمَلَكٍ، ليس المرادُ به السِّحْرَ، وهذا جواب غير مَرْضيٍّ، وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بأنه مسحور، ولا يُعْرف هذا في لغة من اللغات

(1)

، وحيث أرادوا هذا المعنى أتَوْا بصريح لفظ البشر فقالوا:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ، {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} .

وأما المسحور، فلم يريدوا به: ذا السَّحْر وهي: الرئة وأيُّ مناسبةٍ لذكر الرئة في هذا الموضع؟! ثم كيف يقول فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)} [الإسراء: 101] أَفَتُراه ما علم أنَّ له سَحْرًا وأنه بشرٌ، ثم كيف يجيبُهُ موسى بقوله {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء: 102] ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدَّقه موسى وقال نعم أنا بشرٌ أرسلني اللهُ إليك، كما قالت الرسلُ لقومهم لما قالوا لهم:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فقالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ولم ينكروا ذلك، فهذا الجوابُ في غاية الضَّعف.

وأجابت طائفةٌ منهم ابنُ جرير

(2)

وغيره، بأن المسحور هنا هو

(1)

(ق): "من لغات الأمم".

(2)

كما في "تفسيره": (8/ 158) قال: "وقد يجوز أن يكون مرادًا به: إني لأظنك =

ص: 743

مُعَلَّمُ السِّحر الذي قد علَّمه إيَّاه غيرُهُ، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي: عَلِم بالسحر

(1)

، وهذا جيِّد إن ساعدت عليه اللغة، وهو: أن من عَلِم السحر، يقال له: مسحور، ولا يكاد هذا يُعرف في الاستعمال، ولا في اللغة، وإنما المسحور من سحره غيرُه كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه، وأما من عَلِمَ السحر فإنما

(2)

يقال له: ساحر، بمعنى: أنه عالمٌ بالسحر، وإن لم يَسْحَرْه غيره، كما قال قوم فرعون لموسى:{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)} [الشعراء: 34] ففرعون قذفه بكونه مسحورًا، وقومه قذفوه بكونه ساحرًا.

فالصَّواب هو الجوابُ الثالث، وهو جواب صاحب "الكشاف"

(3)

وغيره: أن المسحور على بابه، وهوَ مَنْ سُحِرَ حتى جُنَّ، فقالوا: مسحورٌ، مثل مجنون زائل العقل لا يعقلُ ما يقولُ، فإنَّ المسحورَ الذي لا يُتَّبَعُ: هو الذي فسد عقلُه بحيث لا يدري ما يقولُ فهو كالمجنون، ولهذا قالوا فيه {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} فأمّا من أُصِيب في بَدَنه بمرض من الأمراض يُصابُ به الناسُ فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان، وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءَهم من اتِّبَاعهم، وهو أنهم قد سُحِروا حتى صاروا لا يعلمونَ ما يقولون بمنزلة المجانين، ولهذا قال تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} [الإسراء: 48]

= يا موسى ساحرًا، فوضع مفعول موضع فاعل، كما قيل: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن

والعرب قد تخرج فاعلًا بلفظ مفعول كثيرًا" اهـ.

(1)

في "المنيرية": "عالم بالسحر".

(2)

(ظ): "فإنه".

(3)

(2/ 377).

ص: 744

مثَّلوك بالشاعر مرة، والساحر أخرى، والمجنون مرة، والمسحور أخرى، فضلُّوا في جميع ذلك ضلالَ من يطلبُ في تِيْهه وتحيُّره

(1)

طريقًا يسلكه فلا يقدر عليه، فإنه أي طريق أخذَها فهي طريقُ ضلال وحيرة، فهو متحيِّر في أمره لا يهتدي سبيلًا، ولا يقدرُ على سلوكها فهذا

(2)

حالُ أعداءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى ضربوا له أمثالًا بَرَّأَهُ الله منها، وهو أبعدُ خَلْقِ الله منها، وقد علم كلُّ عاقلٍ أنها كَذِبٌ وافتراءٌ وبهتانٌ.

وأما قولكم: "إن سحر الأنبياء يُنافي حمايةَ الله لهم وصيانته لهم [أن يُسْحَروا"، فجوابه: أن ما يصيبهم من أذى أعدائهم لهم، وأذاهم إياهم لا ينافي حماية الله وصيانة لهم]

(3)

؛ فإنه سبحانه كما يَحْميهم ويصونُهم ويحفظُهم ويتولَاّهُم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلَّى بهم من بعدهم من أُمَمِهم وخُلفائِهم إذا أُوذوا من النَّاس، فرأوا ما جرى على الرُّسُل والأنبياء، صبروا ورَضُوا وتأسَّوْا بهم، ولِتمتلِيءَ صاعُ الكفار فيستوجبون ما أُعِدَّ لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بَغْيهم وعداوتهم

(4)

، فيعَجِّل تطهيرَ الأرض منهم، فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائِه ورسله بأذى قومهم، وله الحكمةُ البالغةُ والنعمةُ السابغةُ، لا إلهَ غيرهُ، ولا رَبَّ سواه.

فصل

وقد دلَّ قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} ،

(1)

(ق): "في تيهٍ وغيره".

(2)

(ظ): "فكهذا".

(3)

ما بين المعكوفين ساقط من (ظ ود) والمطبوعات، ومستدرك من (ق).

(4)

(ق): "وعدوانهم".

ص: 745

وحديثُ عائشة رضي الله عنها المذكور على تأثير السحر وأن له حقيقة، وقد أنكر ذلك طائفةٌ من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، وقالوا: إنه لا تأثيرَ للسحر ألبَتَّةَ لا في مرض ولا قتل ولا حَلٍّ ولا عقد قالوا: وإنما ذلك تخيلُ لأعين الناظرين، لا حقيقةَ له سوى ذلك.

وهذا خلافُ ما تواترت به الآثارُ

(1)

عن الصحابة والسَّلَف، واتفق عليه الفقهاءُ وأهل التفسير والحديث، وأربابُ القلوب من أهل التَّصَوُّف، وما يعرفُهُ عامَّةُ العقلاء.

والسحرُ الذي يؤثر مرضّا وثقلًا، وحلًّا وعقدًا، وحبًّا وبغضًا ونزيفًا، وغير ذلك من الآثار موجودٌ تعرِفُهُ عامة الناس، وكثير منهم قد علمه ذوقًا بما أصيبَ به منه.

وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} دليل على أن هذا النفث يضرُّ المسحور في حال غيبته عنه، ولو كان الضررُ لا يحصُلُ إلا بمباشرة البَدَن ظاهرًا -كما يقولُه هؤلاء- لم يكنْ للنَّفثِ ولا للنفَّاثات شرٌّ يستعاذ منه.

وأيضًا: فإذا جاز على الساحر أن يَسْحَرَ جميعَ أعينِ النَّاظرين -مع كثرتهم- حتى يَرَوا الشيءَ بخلاف ما هو به -مع أن هذا تَغَيُّرٌ في إحساسهم

(2)

- فما الذي يحيلُ تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقُواهم وطِباعهم؟! وما الفرقُ بين التَّغيير الواقع في الرُّؤية والتَّغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبَدَن؟!.

(1)

(ق): "الأخبار".

(2)

(ق): "أجسامهم".

ص: 746

فإذا غيَّرَ إحساسَه حتى صار يرى السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا، والمُتَّصِلَ منفصلًا، والميِّتَ حَيًّا، فما المُحِيلُ لأن يغيرَ صفات نفسِهِ حتى يجعلَ المحبوبَ إليه بغيضًا والبغيض محبوبًا وغير ذلك من التأثيرات؟.

وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} [الأعراف: 116] فبيَّن سبحانه أن أعينهم سُحِرَتْ، وذلك إما أن يكونَ لتغيير حصل في المرئي، وهو الحبال والعِصِي، مثل أن يكون السَّحَرَةُ استعانت بأرواح حَرَّكَتْها، وهي الشياطينُ، فظنُّوا أنها تحرَّكت بأنفسها، وهذا كما إذا جرَّ من لا يراه حصيرًا أو بساطًا فترى الحصير والبساط ينجرُّ، ولا ترى الجارَّ له، مع أنه هو الذي يجرُّه، فهكذا حالُ الحِبالُ والعِصِيّ التبستها الشياطينُ فقَلَّبتها كتقلُّب الحَيَّة فظنَّ الرائي أنها تقلَّبَتْ بأنفسِها، والشياطينُ هم الذين يقلِّبونها. وإما أن يكونَ التغيُّرُ حَدَثَ في الرائي حتى رأي الحبال والعِصِيَّ تَتَحَرَّكُ وهي ساكنةٌ في أنفسها، ولا ريبَ أن الساحر يفعلُ هذا وهذا، فتارة يتصرَّفُ في نفس الرَّائي وإحساسه حتى يُرِىه الشيءَ بخلاف ما هو به، وتارة يتصرَّف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرَّف فيها

(1)

.

وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحِبال والعِصِيِّ ما أوجب حركتَهَا ومشْيَها مثل الزئبق وغيره حتى سَعَتْ، فهذا باطلٌ من وجوه كثيرة، فإنه لو كان كذلك لم يكنْ هذا خيالًا بل حركة حقيقية، ولم يكنْ ذلك سَحْرًا لأعينِ النَّاسِ، ولا يسمَّى ذلك سِحْرًا، بل صناعة من الصناعات المشتركة، وقد قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ

(1)

(ق): "يؤثر فيه".

ص: 747