المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنبيه(1): قولهم: "علمت" و"ظننت" يتعدى إلى مفعولين - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌تنبيه(1): قولهم: "علمت" و"ظننت" يتعدى إلى مفعولين

ولا حذفَ، وإن كان المراد بها المسكن؛ فعلى حَذْف المضاف، فأين التسوية والتنظير؟!.

‌تنبيه

(1)

: قولهم: "علمت" و"ظننتُ" يتعدَّى إلى مفعولين

، ليس هنا مفعولان في الحقيقة، وإنما هو المبتدأ والخبر، وهو حديث: إما معلوم وإما مظنون، فكان حق الاسم الأول أن يرتفعَ بالابتداء. والثاني بالخبر، ويُلْغى الفعلُ، لأنه لا تأثير له في الاسم، إنما التأثير لـ "عرفت" الواقعة على الاسم المفرد تعيينًا وتمييزاً، ولكنهم أرادوا تشبُّث "علمت" بالجملة التي هي الحديث، كيلا يتوهَّم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله؛ لأن الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله، وهم إنما يريدون إعلام المخاطب بأن هذا الحديثَ معلوم، فكان إعمال "علمت" فيه (ق/113 ب) ونصبُه. له إظهارًا لتشبُّثِها، ولم يكن عملها في أحدِ الاسمين أولى من الآخر، فعملت فيهما معاً

(2)

.

وكذلك "ظننت"، لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونًا وإما معلومًا، فإن كان مشكوكًا فيه أو مجهولاً عنده، لم يسعه الحدث به

(3)

، فمن ثَمَّ لم يُعْمِلوا "شككت" ولا "جَهِلت" فيما عملت فيه "ظننت"؛ لأن الشكَّ تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما، بخلاف الظن فإنك معتمدٌ على أحد الأمرين، وأما العلم؛ فأنت فيه قاطع بأحدهما، ومن ثَمَّ تعدى الشك بحرف "في" لأنه مستعار من "شككتُ الحائطَ بالمسمار"، وشكُّ الحائط إيلاجٌ فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين، كما أن الشكَّ في الحديث تردد فيه في

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 9 33)، وفي (د):"تتمة".

(2)

(ظ ود): "جميعًا".

(3)

"النتائج": "لم يَسُغ له الحديث".

ص: 490

غير ترجيح لأحد الجانبين.

ونظير إعمالهم "علمت" وأخواتها في المبتدإ والخبر اللذين هما بمعنى الحديث، إعمالهم "كان" وأخواتها في الجملة، وإنما "كان" أصلها أن ترفع فاعلاً واحدًا، نحو:"كان الأمر"، أي: حدثَ، فلما خلعوا منها معنى الحَدَث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان، ثم أرادوا أن يخبروا بها عن الحديث الذي هو "زيد قائم"، أي: زمان هذا الحديث ماضٍ أو مستقبل، أعملوها في الجملة ليظهر تشبُّثها بها، ولئلا يتوهم انقطاعها عنها؛ لأن الجملة قائمة بنفسها، و"كان" كلمة يُوْقَف عليها أو تكون خبرًا عما قبلها، فكان عملها في الجملة دليلًا على تشبُّثِها بها، وأنها خبر عن هذا الحديث، ولم تكن لتنصب الاسمين؛ لأن أصلها أن ترفع ما بعدها، ولم تكن لترفعهما معًا فلا يظهر عملها، فلذلك رفعَتْ أحدهما ونصبْتَ الآخر.

نعم، ومنهم من يقول:"كان زيد قائم"، فيجعل الحديث هو الفاعل بـ "كان" فيكون معمولها معنويًّا لا لفظيًّا، كأنك قلتَ:"كان هذا الحديث"، و [إن] أضمرت الشأنَ والحديث، ودلَّت عليه فى قرينةُ الحال فالمسألة على حالها؛ لأن الجملة حينئذٍ بدل من ذلك المضمر؛ لأنها في معنى الحديث، وذلك الحديث هو الأمر المضمر؛ فهذا بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.

ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث، معمول "علمتُ وظننتُ" إذا أُلْغِيَت، نحو:"زيد ظننت قائم"، كأنك قلت:"ظننت هذا الحديث"، فلم تُعْمِلها لفظًا إنما أعملتها معنًى.

ومن هذا الباب إعمالهم "إنَّ" وأخواتها، وإنما دخلت لمعانٍ في

ص: 491

الجملة والحديث، ألا ترى أنها كلماتٌ يصحُّ

(1)

الوقف عليهنّ؛ لأن حروفهنّ ثلاثة فصاعدًا، كما قال

(2)

:

* ............. فقلت: إنه *

وقال آخر

(3)

:

* ليتَ شِعْري وأينَ مِنِّيَ لَيْتُ *

وقال حَبِيب

(4)

:

* عَسى وطنٌ يَدْنو بِهم ولَعَلَّما *

وإذا (ظ/ 87 أ) كان (ق/14 أ)، هذا حكمها فلو رُفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، لم يظهر تشبُّثها بالحديث الذي دخلت لمعنًى فيه، فكان إعمالها في الاسم المبتدإ إظهارًا لتشبُّثها بالجملة كيلا يُتَوهَّم انقطاعها عنها، وكان عملها نصبًا، لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظَ بها لنصبت، نحو "أؤكد" و"أترجَّى" و"أتمنَّى"، وليست هذه المعاني مضافةً إلى الاسم المخبر عنه؛ ولكن الحديثَ هو المؤكَّد والمُتَمَنَّى والمُتَرَجَّى، فكان عملها نصبًا بها، وبقي الاسم الآخر

(1)

(ظ ود): "أنها كلمة إن يصح

"!.

(2)

من شواهد "الكتاب": (1/ 474 - 475) والبيت:

ويقلنَ: شَيْبٌ قد علا

كَ وقد كبرتَ. فقلتُ: إنَّه

(3)

البيت لأبي زبيد الطائي، "ديوانه":(ص/ 24)، وهو من شواهد "الكتاب":(2/ 32)، وانظر:"الخزانة": (7/ 319)، وعجزه:

* إن ليتًا وإن لوًّا عناءُ *

(4)

حبيب بن أوس الطائي، "ديوانه":(2/ 121)، وعجزه:

* وإن تعبت الأيام فيهم فربَّما *

ص: 492

مرفوعًا

(1)

لم يعمل فيه، حيث لم تكن أفعالاً، كـ "علمت وظننت" فتعمل

(2)

في الجملة كلها.

وأيضًا أرادوا إظهار تشبُّثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الاسم الأول، يدلك على أنها لم تعمل في الاسم الثاني أنه لا يليها؛ لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره، فلو عملت فيه لوليها، كما يلي "كان" خبرها، ويلي الفعل مفعوله.

نعم، ومن العرب من أعملها قي الاسمين جميعًا، وهو قَوِيٌّ في القياس؛ لأنها دخلت لمعان في الجملة فليس أحدُ الاسمين أولى بأن تعمل فيه من الآخر، قال

(3)

:

إِنَّ العَجُوز خبَّةَ جَرُوزًا

تأكلُ كُلَّ ليلةٍ قَفِيْزا

وقال

(4)

:

كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا

قادمةً أو قَلَمًا مُحَرَّفا

وليس هذا من باب حَذْف فعل التشبيه كما قال بعضهم، فإن هذا لغة قائمة بنفسها.

واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حالا ولا ظرف، ولا يتعلق بها مجرور، لأنها معانٍ في نفس المتكلم، كالاستفهام والنفي

(1)

(ق): "نصبًا"!.

(2)

(ق): "فتقول".

(3)

الرجز في "نوادر أبي زيد": (ص/ 172)، وقائله مجهول، وهو من شواهد "الهمع"، انظر "الدرر اللوامع":(2/ 167).

(4)

هو: محمد بن ذؤيب العماني الراجز، وقيل: لأبي نخيلة، وهو من شواهد "المغني" و"الأشموني"، انظر:"الخزانة": (10/ 237).

ص: 493

وسائر المعاني التي جعلت الحروف أمارات لها، وليس لها وجود في اللفظ. فإذا قلت. هل زيدٌ قائم؛ فمعناه: أستفهِمُ عن هذا الحديث، وكذلك "لا" معناها: أنْفِي، وكذلك "ليس"، وكذلك لما أرادوا إظهار تشبُّثها بالجملة لم ينصبوا بها الاسم الأول كما نصبوا بإن، حيث لم يكن معناها يقتضي نصبًا إذا لفظ به، كما يقتضي معنى "إنّ" و"لعل"إذا لُفِظ به.

وأما "كأَنَّ" للتشبيه، فمفارِقَةٌ لأخواتها من جهة أنها تدل على التشبيه، وهو معنى في نفس المتكلم واقعٌ على الاسم الذي: بعدها، فكأنك تخبر عن الاسم أنه مُشْبه غيره، فصار معنى التشبيه مسندًا إلى الاسم بعدها، كما أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها، فمن ثَمَّ عَمِلت في الحال والظرف، تقول:"كأن زيدًا يوم الجمعة أميرًا"، فيعمل التشبيه في الظرف. ومن ذلك قوله

(1)

:

كأَنَّه خارجًا مِن جَنْبْ صَفحَتِهِ

سَفُّود شَرْبٍ نَسٌوه عند مُفْتأَدِ

ومن ثَمَّ وقعت في موضع الحال والنعت كما تقع الأفعال المخبر بها عن الأسماء، تقول:"مررت برجل كأنه أسد"، و"جاءني رجل كأنه أمير" وليس ذلك في أخواتها، لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال، بل لها صدر الكلام كما لحروفِ الشرط (ق/114 ب) والاستفهام؛ لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت مما قبلها، وإنما كانت "كأن" مخالفةً لأخواتها من وجه وموافقة من وجه، من حيث كانت مركبة من "كاف" التشبيه، و"أن" التي للتوكيد، فكان أصلها:"إن زيدًا الأسد"، أي: مثل الأسد، ثم أرادوا أن يبينوا أَنه ليس هو

(1)

البيت للنابغة، "ديوانه":(ص/ 11).

ص: 494

بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكَّد بأن، لتؤذِنَ أن الحديثَ مشبه به. وحُكْم "إن" إذا أدخل عليها عاملٌ أن تفتح الهمزة منها، فصار اللفظ بها:"كأنَّ زيدًا الأسد".

فلِما في الكلمة من التشبيه المخبر به عن "زيد"، صار "زيد" بمنزلة مَن أُخْبِر عنه بالفعل، فوقع موقع النعت والحال، وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات، ومن حيث كان في الكلمة معنى "إن" دَخَلت في هذا الباب (ظ/87 ب) ووقع في خبرها الفعل نحو قولك:"كأن زيدًا يقوم"، والجملة نحو:"كأن زيدًا أبوه أمير"، [لو] لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يَجُز هذا؛ لأن الاسم لا يُشَبَّه بفعل ولا بجملة، ولكنه حديث مؤكَّد بـ "إن" و"الكاف" تدل على أن خبرًا أشبه من خبر، وذلك الخبر المُشَبَّه هو الذي [دلَّ]

(1)

عليه زيد، فكأنَّ المعنى:"زيد قائم وكأنه قاعد"، و"زيدٌ أبوه وَضيع وكأنَّ أباه أمير"، فشبَّهْت حديثًا بحديث. والذي يؤكِّد الحديث:"إن" والذي يدل على التشبيه: "الكاف"، فلم يكن بُدُّ من اجتماعهما.

فصل

(2)

وكلُّ هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها لفظًا أو معنى. أما اللفظ؛ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد، وهذه الحروف عوامل. وأما المعنى، فلا تقول:"سرني زيد قائم"، أي: سرَّني هذا الحديث، ولا:"كرهت زيدٌ قائم"، أي: كرهت هذا

(1)

ما بين المعكوفات من "النتائج".

(2)

"نتائج الفكر"(ص/ 345).

ص: 495

الحديث، كما يكون ذلك في "كان" و"ليس"؛ لأنهما ليستا بفعلٍ مَحْض، فجاز أن تقول:"كان زيد قائم"، أي: كان هذا الحديث. ولم يجز في "سرني" ولا "بلغني"، فإن أدخلتَ "ليت" أو "لعل" أو "إن" المكسورة لم يجز أيضًا؛ لأن هذه المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع بعدها

(1)

فعل مُعْمَل

(2)

ولا مُلْغى، فإن جئت بـ "أن" المفتوحة قلت:"بلغني أن زيدًا منطلق"، فأعملْتَ الفعل في معمول معنويٍّ وهو الحديث؛ لأن الجملةَ الملفوظ بها حديث في المعنى، وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه "إنَّ" ولابد له من معمول، فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث، حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه "أن"، وكذلك:"كرهت أن زيدًا منطلق"، المفعول هو الحديث، وهو معنًى لا لفظ.

فإذا قيل: ولم لا جعلوا لـ "أنَّ" المفتوحة

(3)

صَدْر الكلام كما جعلوا لـ "ليت" و"لعل"(ق/115 أ) ولجميع الحروف الداخلة على الجمل؟.

قيل: ليس في "إن" معنى زائد على الجملة أكثر من التوكيد، وتوكيد الشيء بمثابة تَكْراره لا بمثابة معنًى زائدً فيه، فصحَّ أن يكون الحديث المؤكَّد بها معمولاً لما قبلها، حيث مَنَعَتْ هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي بعدها، فتسلَّط العامل الذي قبلها على الحديث، ولم يكن له مانع [في]

(4)

صدر الكلام يقطعه عنه، كما

(1)

في بعض نسخ النتائج: "قبلها".

(2)

في الأصول: "يعمل"، والمثبت من "النتائج".

(3)

(ق): "المكسورة" وهو خطأ.

(4)

من "المنيرية"، وسقط: من (د): "له مانع من".

ص: 496

كان ذلك في غيرها.

فإن كسرْتَ همزتَها كان الكسر فيها إشعارًا بتجريد المعنى الذي هو التوكيد عن توطئة الجملة للعمل في معناها، فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى، إلا أنهم إذا أرادوا توطئة الجملة

(1)

لأَنْ يعمل الفعل الذي قبلها في معناها، وأن يُصَيِّروها في معنى الحديث، فتحوا الهمزة، وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على التوكيد اعتمادهم على الترجِّي والتمنِّي كسروا الهمزة ليؤذنوا بالابتداء والانقطاع مما قبل، وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام، لأنه معنى كسائر المعاني؛ وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره. وكان الكَسْر بهذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفتح، والثِّقَل أولى أن يُعْتَمد عليه ويُصَدَّر الكلام به، والفتح أولى بما جاء بعد كلام لخفته، وأن المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجَمامه

(2)

، مع أنّ المفتوحة قد تلي

(3)

الضم والكسر، كقولك:"لأنك، وبأنك، وعلمتُ أنك"، فلو كُسِرت لَتَوالَى الثِّقَل.

فإن قيل: فما المانع أن تكون هي وما بعدها في موضع المبتدإ، كما كانت في موضع الفاعل والمفعول والمجرور؛ أليس (ظ/88 أ) قد صُيِّرت الجملةُ في معنى

(4)

الحديث، فهلَاّ تقول:"إنك منطلق معْجب لي؟ "، وما الفرق بينها وبين "أن" التي هي وما بعدها في تأويَل الاسم، نحو:"أن تقوم خير من أن تجلس"، فلم تكون تلك

(1)

من قوله: "للعمل في

" إلى هنا ساقط من (د).

(2)

"طه وجمامه" سقطت من (ق).

(3)

بالأصول: "تليها"، والتصحيح من محقق النتائج.

(4)

(ق): "موضع".

ص: 497

في موضع المبتدإ، ولا تكون هذه كذلك؟.

قيل: إن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي، والعامل المعنوي لولا أثره في المعمول اللفظي لما عُقِل، وهذه الجملة المؤكَّدة بـ "أن" إنما يصح أن تكون معمولاً لعامل لفظي؛ لأن العامل معنى والمعمول فيه أيضًا

(1)

، فهذا لا يفهمه المخاطب ولا يصل إلى علمه إلا بوحي، فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة فى موضع المبتدإ لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول، ومن ثَمَّ لم تدخل كليها عوامل الابتداء من "كان" وأخواتها، و"إن" وأخواتها؛ لأنها قد استغنت بظهور عملها في الجملة في حرف يُصَيِّر الجملة معنى الحديث

(2)

المعمول فيه، فلا تقول:"كان أنك منطلق"، لا حاجة إلى "أن" مع عمل هذه الحروف الجملة.

وجواب آخر، وهو أنهم لو جَعَلوها فى موضع المبتدإ لم يسبق إلى الذهن (ق/: 115 ب) إلا الاعتماد على مُجَرَّد التوكيد دون توطئة الجملة للإخبار عنها، فكانت تُكْسَر همزتها، وقد تقدَّم أنَّ الكسرَ إشعارٌ بالانقطاع عما قبل، واعتماد على المعنى الذي هو التوكيد، فلم يُتَصور فتحُها في الابتداء إلا بتقديم عاملٍ لفظي يدل على المراد بفتحها؛ لأن العامل اللفظي يطلبُ معمولَه، فإن وجدَه لفظًا غير ممنوعٍ منه، وإلا تسلَّط على المعنى، والابتداء بخلاف هذا.

فإن قيل: فلم قالوا "علمت أن زيدًا منطلق" و"ظننت أنه

(1)

بالأصول و"النتائج": "لأن المعمول

"، وأصلحه محققه كما أثبتنا.

(2)

(ق): "الحرف".

ص: 498

ذاهب"، هلَّا اكتفَوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير الجملة في معنى الحديث، كما أكتفوا في باب "كان" و"إنَّ"، فقالوا: "كان زيد قائمًا"، ولم يقولوا: "كان إن زيدًا قائمًا"؟.

قيل: الفرق بينهما أن هذه أفعال تدلُّ على الحَدَث والزمان، وليست بمنزلة "كان" و"ليس"

(1)

، ولا بمنزلة "إن" و"ليت"، فجرت مجرى "كرهت" و"أحببت"، فلذلك قالوا: علمت أنك مُنْطلق، كما قالوا: أحببت أنك مُنْطلق، إلا أنها تخالف كرهت وسائر الأفعال؛ لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به، فمن ثَمَّ قالوا:"علمت زيدًا منطلقًا" و"زيد علمتُ منطلق"، ولم يقولوا:"كرهت زيدًا أخاك"؛ لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث، إنما مُتَعلّقها الأسماء، إلا أن تفنعها "أنَّ"

(2)

من العمل في الأسماء، فتصير متعلقةً بالحديث، فافهمه.

فصل

(3)

فإن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكَّد بـ "أنَّ" من قولك: "لو أنك ذاهب فعلت"، لاسيما و"لو" لا يقع بعدها إلا الفعل، ولا فِعْلَ هاهنا؛ فما

(4)

موضع "أنَّ" وما بعدها؟.

فالجواب: أنَّ "أنَّ" في معنى التأكيد، وهو تحقيق وتثبيت، فذلك المعنى الذي هو التحقيق اكتفت به "لو"، حتى كأنه فِعْل

(1)

ليست في (ق).

(2)

سقطت من (ظ ود).

(3)

"نتائج الفكر": (ص/ 348).

(4)

(ق): "في"

ص: 499

وَلِيَها، ثم عمل ذلك المعنى في الحديث، كأنك قلت:"لو ثبتَ أنك منطلق"، فصارت "أنَّ" كأنها من جهة اللفظ عاملة في الاسم الذي هو لفظ

(1)

، ومن جهة المعنى عاملة في المعنى الذي هو الحديث.

فإن قيل: ألم يتقدَّم أنه لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي؟.

قيل: هذا في الابتداء حيث لا لفظ يسدُّ مسدَّ العامل اللفظي، فأما هاهنا فـ "لو" لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له، تقوم مقامَ اللفظ بالعامل الذي هو التحقيق والتثبيت الذي دلت عليه "أن" بمعناها، ومن ثَمَّ عَمِلَ حرفُ النفي المركب مع "لو" (ظ/88 ب) من قولك:"لولا زيد"، عَمل الفعل

(2)

، فصارَ زيد فاعلاً لذلك المعنى، حتى كأنك قلت:"لو عُدِم زيد وفُقد وغاب لكان كذا وكذا". ولولا مقارنة "لو" لهذا الحرف لما جاز

(3)

هذا؛ لأن الحروف لا تعمل معانيها في الأسماء أصلاً. فالعامل (ق/116 أ) في هذا الاسم الذي بعد "لولا" كالعامل في هذا الاسم الذي هو الحديث من قولك: "لو أنك ذاهبٌ لفعلت كذا".

وأما اختصاص "لا" بالتركيب معها في باب: "لولا زيد لزرتك"

(4)

، فلأن "لا" قد تكون منفردة تغني عن الفعل، إذا قيل لك: هل قام زيد؟ فتقول: لا، فقد: أخبرت عنه بالقعود. وإذا قيل لك: هل قعد؟ قلت: لا، فكأنك مخبر بالقيام، وليس شيءٌ من حروف النفي يُكْتفى به في الجواب حتى يكونَ بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف، فمن ثَمَّ

(1)

"في الاسم الذي هو لفظ" سقطت من (ق).

(2)

"الأصول": المصدر، والمثبت من "النتائج".

(3)

(ق): "كان".

(4)

"لزرتك" سقطت من (ق).

ص: 500

صَلُح الاعتماد عليه في هذا الباب، وساغَ تركيِبه مع حرف لا يطلب إلا الفعل، فصارت الكلمةُ بأسرها بمنزلة حرف وفعل، وصار "زيدٌ" بعدها بمنزلة الفاعل. ولذلك قال سيبويه:"إنه مبني على "لولا"، وهذا هو الحق؛ لا ما يَهْذُون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف لا يظهر، وخامِلٌ لا يُذكر. هذا الفصل كله كلام السُّهيلي

(1)

إلى آخره.

فائدة

(2)

قول سيبويه

(3)

: "لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول من باب: "أعْلَمت". تأوله أصحابه بمعنى لا يحسن

(4)

الاقتصار عليه، قالوا: لأنه هو الفاعل في المعنى، فإنه هو الذي علم ما أعلمته به من كون زيد قائمًا. قالوا: والفاعل يجوز الاقتصار عليه لتمام الكلام به، فهكذا ما في معناه، بخلاف المفعول الأول من باب "علمت"، فإنه ليس فاعلاً لفظًا ولا معنى، هذا تقرير قولهم. وقول إمامِ النحويين هو الصواب

(5)

، ولا حاجة إلى تأويله هذا التأويل البارد.

وممن أنكر هذا التأويل السهيلي، وقال:"عندي أن كلام سيبويه محمول على الظاهر؛ لأنك لا تريد بقولك: "أعلمت زيدًا"، أي: جعلته عالمًا على الإطلاق، هذا محال، إنما تريد: أعلمته بهذا الحديث، فلابد إذا من ذكر الحديث الذي أعلمتَه به.

فإن قيل: فهل يجوز: أظْنَنْتُ زيدًا عَمْرًا قائمًا؟.

(1)

في "النتائج" كما تقدم.

(2)

"نتائج الفكر": (ص/ 350).

(3)

في "الكتاب": (1/ 19).

(4)

(ق): "لا يجوز" وهو خطأ.

(5)

"الصواب" سقطت من (ق).

ص: 501

قيل: الصحيح امتناعه؛ لأن الظن إن

(1)

كان بعد علمِ ضروري فمحال أن ينقلب ظنًّا وإن كان بعد علمٍ نظري لم يرجع العالم إلى الظن إلا بعد النسيان والذُّهول عن ركن من أركان النظر

(2)

، وهذا ليس من فعلكَ أنت به، فلا تقول:"أَظْنَنْتُه بعد أن كان عالمًا". وإن كان قبل الظن شاكَّا أو جاهلًا أو غافلاً لم يتصور أيضًا أن تقول: "أَظْنَنْته"؛ لأن الظن لا يكون

(3)

عن دليل يوقفه عليه، أو خبر صادق يخبره به، كما يكون العلم؛ لأن الدليل لا يقتضي ظنًّا، ولا يقتضي أيضًا شبهةً كما بَيَّنه الأصوليون، فثبتَ أن الظن لا تفعله أنت به، ولا تفعل شيئًا من أسبابه، فلم يجز:"أَظْنَنْته"، أىِ: جعلته ظانًّا، وكذلك يمتنع (ق / 116 ب):"أشْكَكْته" أي: جعلته شاكًّا، ولكنهم يقولون: شَكَّكْتُه، إذا حدَّثتَه بحديثٍ يصرفه عن حال الظن إلى حال الشك".

هذا كلام السُّهيلي، وليس الأمر كما قال! ولا فرقَ بين "أَعْلَمته وأَظْنَنْته" إلا من جهة السماع.

وأما الجواب عما ذكره، فيقال: ما المانع أن يكون "أَظْنَنْته" أي: جعلته ظانًّا بعد أن كان جاهلاً أو شاكًّا بما ذكرتُه له من الأمارات والأدلة الظنية، وقولك:"إن الظنَّ لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبره (ظ/89 أ) به"، دعوى مجرَّدة بل ظاهرة البطلان، فإن الظن هو الرُّجْحان، فإذا ذكرت له أمارة ظاهرة لا توجب اليقين أفادته الرُّجْحان وهو الظن، وهذا كما إذا أخبرك من يُثير خبرُه لك ظنًّا راجحًا ولا ينتهي إلى قَطْع، كالشاهد وغيره، فدعوى أن الظن: لا

(1)

(ق): "إنما".

(2)

(ق): "الظن".

(3)

(ظ ود): "لا يكون إلَّا".

ص: 502

يكون عن دليل دعوى باطلة، وإن أردت أنه لا يكون عن دليل قاطع لم يفدك شيئًا، فإنه يكون عن أمارة تحصِّل له الظن، ولا يلزم من كون الدليل لا يقتضي الظنَّ ألَاّ تقتضيه الأمارة.

وقوله: "فثبت أن الظنَّ لا تفعله أنتَ ولا تفعلُ شيئًا من أسبابه".

يقال: وكذلك العلم لم تفعله أنت به ولا شيئًا من أسبابه، إن أردتَ أنك لم تُحْدِثْه فيه، وإن أردت: أنك لم تتسبب إلى حصوله فيه فباطل، فإن ذكر الأمارات والأدلة الظنية سبب إلى حصول الظن له، وهذا أظهر من أن يُحْتاج إلى تقريره، ويدل عليه قولهم:"شَكَّكْته"، فإن معناه: أحدثت له شَكًّا بما ذكرته له من الأمور التي تستلزم شَكَّه.

فائدة

(1)

كلُّ فعل يقتضي مفعولاً ويطلبه

(2)

ولا يصل إليه بنفسه، توصَّلوا إليه بأداة وهي حرف الجر، ثم إنهم قد يحذفون الحرفَ، لتضمُّن الفعل معنى فِعْلٍ متعد بنفسه كما تقدم.

لكنّ هاهنا دقيقة ينبغي التفطُّن لها، وهي: أنه قد يتعدَّى الفعل بنفسه إلى مفعول وإلى آخر بحرف الجر ثم يحذف المفعول الذي وصل إليه بنفسه لعلم السامع به، ويبقى الذي وصل إليه بحرف الجر

(3)

، كما قالوا "نصحت لزيد"، و"كِلْت له"، و"وزنت له"، و"شكرت له"، المفعول في هذا كله محذوف والفعل واصل إلى

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 352).

(2)

سقطت من (ق).

(3)

من قوله: "ثم يحذف

" إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 503

الآخر بحرف الجر، ولا يسمع قولهم:"أربعة أفعال تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجو أخرى"، ويذكرون هذه، فإنه كلامٌ مجرَّد: عن تحقيق، بل المفعول في الحقيقة محذوف، فإذا قولك:"نصحت"، مأخوذ من:"نصح الخياط الثوب" إذا أصلَحَه وضمَّ بعضَه إلى بعض، ثم استعير في الرأي، فقالوا:"نصحت له"، أي: نصحت له رأيه، أي: أخلصته له وأصلحته.

والتوبةُ النَّصُوح إنما هي من هذا، فإن الذنب يمزق الدين، فالتوبة النصوح بمنزلة نَصْح الخياط (ق 117 أ)، الثوبَ، إذا أصلحه وضمَّ أجزاءَه، ويقولون:"نصحتُ ريدًا" فيسقطون الحرف؛ لأن النصيحة إرشاد، فكأنك قلت:"أرشدته"، وكذلك:"شكرت"، إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له، من "شَكِرَ بطنُه" إذا امتلأ، فالأصل:"شكرتُ لزيدٍ إحسانَه وفعلَه"، ثم تَحْذف المفعول فتقول:"شكرت لزيد"، ثم تحذف الحرف؛ لأن شكرت متضمنة لحَمدت أو مَدَحت.

وأما: "كِلْتُ لزيد، ووزَنْتُ له"، فمفعولهما غير زيد؛ لأن مطلوبهما ما يُكال أو يُوْزَن، فالأصل دخول اللام، ثم قد يُحذَف لزيادة فائدة، لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمعاوضة إلا مع حرف اللام؛ فإن قلت:"كِلْت لزيد"، أخبرت بكيل الطعام خاصة، وإذا قلت:"كِلْت زيدًا"، فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل، كأنك قلت:"بايعته بالكيل والوزن". قال تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: بايعوهم كيلًا ووزنًا.

وأما قوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2] فإنما دخلت "على" لتؤذِن أنَّ الكيل على البائع للمشتري، ودخلت "التاء" في "اكتالوا"،

ص: 504

لأن افتعل

(1)

في هذا الباب كله للأخذ؛ لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذِن بمعنى زائد على معنى الكلمة، لأن الآخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري (ظ/89 ب) ونحو ذلك، يدخل فعله من التناول والاحتراز إلى نفسه، والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعلي المعْطي والبائع، ولهذا قال سبحانه:{لَهَا مَا كَسَبَتْ} [يعني: من الحسنات]

(2)

{وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] يعني: من السيئات، لأن الذنوب يُوْصَل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى، والحسنة تنال بهبة من الله من غير واسطة شهوة ولا إغواء عدوٍّ، فهذا الفرق بينهما على

(3)

ما قاله السُّهيلي

(4)

؟.

وفيه فرقٌ أحسن من هذا، وهو: أن الاكتساب يستدعي

(5)

التعمُّل والمحاولة والمعاناة، فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمُّله. وأما الكسب؛ فيحصل بأدنى ملابسة حتى بِالهَمَّ بالحسنة ونحو ذلك، فخصَّ الشرَّ بالاكتساب والخيرَ بأعم منه، ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح "إذا هَمَّ عبْدي بحَسَنةٍ فاكْتُبوها وإنْ هَمَّ بسَيئةٍ فلا تكْتُبوها"

(6)

، وأما حديث الواسَطة

(7)

وعدمها فضعيف؛ لأن الخير أيضًا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق،

(1)

"النتائج": "الفعل".

(2)

ما بين المعكوفين من "النتائج".

(3)

(ق): "هذا".

(4)

في "النتائج": (ص/ 352 - 353).

(5)

(ق): "يقتضي".

(6)

أخرجه البخاري رقم (7501) ومسلم رقم (128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7)

يعني ما تقدم من كلام السهيلي من اكتساب السيئات بواسطة الشهوة والشيطان.

ص: 505

فهذا في مقابلة وسائط الشر، فالفرق ما ذكرناه، والله أعلم.

فصل

(1)

وأما "سَمِع الله لمن حمده" فقال السّهيلي: مفعول "سَمِع" محذوف؛ لأن السمع متعلِّق بالأقوال والأصوات (ق/ 117 ب) دون غيرها، فاللام على بابها، إلا أنها تُؤذِن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاد والدلالة على المعنى الزائد وهي الاستجابة لمن حمده، وهذا مثل قوله:{عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] ليست "اللام" لام المفعول كما زعموا، ولا هي زائدة، ولكن "رَدِف" فعل متعدٍّ ومعموله

(2)

غير هذا الاسم، كما كان مفعول "سمع" غير المجرور، ومعنى "رَدِف" تَبع وجاءَ على الأثر، فلو حَمَلْته على الاسم المجرور، لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته، ولكن المعنى: رَدِف لكم استعجالكم وقولكم؛ لأنهم قالوا: {مَتَى هذَا الوَعْدُ} [النمل: 71] ثم حُذف المفعول الذي هو القول والاستعجال اتكالًا على فهم السامع، ودلت "اللام" على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولًا، وآذنت أيضًا بفائدة أخرى وهي معنى: عَجل لكم، فهي متعلقة بهذا المعنى، فصار معنى الكلام: قُل: عسَى أن يكون عَجِل لكم بعض الذي تستعجلون، فرَدِف قولكم واستعجالكم، فدلَّتَ:"رَدِف" على أنهم قالوا واستعجلوا، ودلت "اللام" على المعنى الآخر، فانتظم الكلام أحسن نظام، واجتمع الإيجاز مع

(3)

التمام.

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 353).

(2)

"النتائج": "مفعولها".

(3)

(ظ): "معنى".

ص: 506

قلت: فِعْل السمع يُرَاد به أربعة معان: أحدها: سَمْع إدراك ومتعلَّقه الأصوات. الثاني: سمع فَهْم وعَقْل ومتعلَّقه المعاني. الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل. الرابع: سَمْع قبول وانقياد

(1)

.

فمن الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] و {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} [آل عمران: 181]، ومن الثاني قوله:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ليس المراد به سمع مجرَّد الكلام

(2)

، بل سَمْع الفهم والعقل، ومنه:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، ومن الثالث:"سمع الله لمن حمده"، وفي الدعاء المأثور:"اللهم اسمع"

(3)

، أي: أجب وأعط ما سألتك، ومن الرابع قوله تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 42] أي: قائلون له منقادون غير منكرين له. ومنه على أصح القولين: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أي: قابلون ومنقادون، وقيل: عيون وجواسيس، وليس بشيءٍ، فإن العيون والجواسيس إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين، فيحتاج إلى الجواسيس والعيون، وهذه الآية إنما هي في حَقّ المنافقين (ظ/95 أ)، وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم، فلم يكونوا محتاجين إلى عيونٍ وجواسيس. وإذا عُرِفَ هذا فسمع الإدراك يتعدَّى بنفسه، وسمع القَبول يتعدَّى باللام تارة وبمن أخرى، وهذا

(1)

(ظ ود): "وإيثار".

(2)

سقطت من (ق).

(3)

لعل المراد ما أخرجه أبو داود رقم (1508)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (101)، وأحمد في "المسند":(4/ 369) في حديث طويل وفيه: "

ذا الجلال والإكرام اسْمَع وَاسْتَجب

" من حديث زيد بن أرقم -رضى الله عنه- وفي سنده داود الطُّفَاوي مُتكلَّم فيه.

ص: 507

بحسب المعنى؛ فإذا كان السِّياق يقتضي القبول عُدِّي بـ "من"، وإذا كان (ق/118 أ) يقتضي الانقياد عُدِّي باللام، وأما سَمْع الإجابة فيُعَدَّى باللام، نحو: سمع الله لمن حمده، لتضمُّنه معنى استجابَ له، ولا حَذْف هناك وإنما هو مضمن، وأما سَمْع الفهم فيتعدَّى بنفسه، لأن مضمونَه يتعدَّى بنفسه.

فصل

(1)

ومما يتعلق بهذا قولهم: "قرأتُ الكتابَ واللوح" ونحوهما مما يتعدَّى بنفسه، وأما:"قرأتُ بأم القرآن" و"قرأت بسورة كذا"، كقوله [صلى الله عليه وسلم]:"لا صلاةَ لمنْ لَم يَقْرأ بفاتحةِ الكتابِ"

(2)

، ففيه نكتة بديعة قلَّ من يتفطَّنُ لها، وهي أن الفعل إذا عُدِّي بنفسه فقلت: قرأتُ سورةَ كذا، اقتضى اقتصاركَ عليها لتخصيصها بالذِّكر، وأما إذا عُدِّيَ بـ "الباء"، فمعناه: لا صلاة لمن لم يأت بهذه السورة في قراءته أو في صلاته، أي: في جملة ما يقرأ به، وهذا لا يعطي الاقتصار عليها، بل يُشْعر بقراءة غيرها معها، وتأمَّل قولَه في الحديث:"كان يَقْرأ في الفَجْر بالسِّتين إلى المِئَة"

(3)

كيف تجد المعنى أنه يقرأُ فيما يَقْرأُ به بعد الفاتحة بهذا العدد، وكذلك قوله:"قرأ بالأعراف"

(4)

، إنما هي

(1)

"نتائج الفكر": (ص/345).

(2)

أخرجه البخاري رقم (756)، ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري رقم (541)، ومسلم:(1/ 447 رقم 237) من حديث أبي بَرْزة الأسلمي رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري رقم (764) من حديث زيد بن ثابت قال: "سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ بِطوْلَى الطولَيَيْن" أي: في المغرب. =

ص: 508

بعد الفاتحة، وكذلك قرأ في الفجر بسورة {ق}

(1)

، ونحو هذا، وتأمل كيف لم يأت بالباءِ في قوله:"قرأ سورةَ النَّجْمِ فسَجَدَ وسَجَدَ معه المسلِمُوْنَ والمشركونَ"

(2)

فقال: قرأ سورة النجم، ولم يقل: بها؛ لأنه لم يكن في صلاة فقرأها وحدها، وكذلك قوله: قرأَ عَلَى الجنِّ سورةَ الرحمن

(3)

ولم يقل: بسورة الرحمن، وكذلك: "قرأ على أُبَيٍّ سورةَ: {لَم يَكُنِ}

(4)

ولم يقل: بسورة {لَم يَكُنِ} ، ولم تأت الباء إلا في قراءةٍ في الصلاة كما ذكرتُ لك، وإن شئتَ قلت: هو مضمَّن معنى: صلَّى بسورة كذا وقامَ بسورة كذا، وعلى هذا فيصحُّ هذا الإطلاق وإن أتى بها وحدها، وهذا أحسن من الأول، وعلى هذا فلا يقال: قرأ بسورةِ كذا، إذا قرأها خارجَ الصلاة، وألفاظ الحديث تتنزَّل على هذا، فتدبَّرْها.

فصل

(5)

وأما {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79] فالباء متعلقة بما تضمنه الخبر من معنى الأمر بالإكتفاء، لأنك إذا قلت:"كفى الله"، أو

= ووقع تفسيرها بـ "الأعراف" في "سنن أبى داود" رقم (812)، والنسائي:(2/ 170) وغيرهما.

(1)

أخرجه مسلم رقم (458) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري رقم (1067)، ومسلم رقم (576) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الترمذي رقم (3291) من حديث جابر رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد" أهـ ثم ذكر عن الإمام أحمد والبخاري ما يدلّ على نكارة الحديث.

(4)

أخرجه مسلم رقم (799) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(5)

"نتائج الفكر": (ص/ 355).

ص: 509

"كفاك

(1)

زيد" فإنما تريد أن يكتفي هو به، فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر، فدخلت الباء لهذا السبب، فليست زائدة في الحقيقة، وإنما هى كقولك: حسبكَ بزيد، ألا ترى أن "حسبك" مبتدأ وله خبر، ومع هذا فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول: "حسبك يَنَم الناس"، فينم جُزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام، حكى هذا سيبويه

(2)

عن العرب.

فائدة

(3)

تعدِّي الفعل إلى المصدر على ثلاثة أنحاء؛ أحدها: أن يكون مفعولاً مطلقًا لبيان النوع. الثانى: أن يكون توكيدًا. الحديث: أن يكون حالاً.

قال (ق/18 ب) سيبويه

(4)

: "وإنما تذكره لتبِّين أي فعل فعلت أو توكيدًا". وأَما الحال: فنحو: "جاء زيد مشيًا وسعيًا"، تريد: ماشيًا وساعيًا، وفيه قولان؛ أحدهما: هذا. والثاني: أن الحال محذوف، و"مشيًا" معمولها، أي: يمشي مشيًا، وقد تقول:"مشيت مشيًا وقعدت قاعدًا"، تجعلها حالاً مؤكِّدة، وقد تقول: مشيت مشيًا بطيئًا ومسرعًا، فلك فيها وجهان؛ أحدهما: أن يكون المصدر حالاً فيكون من باب قوله تعالى: {لِسَانًا عَرَبِيًّا}

(5)

[الأحقاف: 12] وهي الحال الموطأة؛ لأن الصفة في وطَّأت الاسم الجامد أن يكون حالًا، فإن اللسان

(1)

(ظ ود): "كفاك الله

".

(2)

فى "الكتاب": (1/ 452 - 465).

(3)

"نتائج الفكر": (ص / 356).

(4)

في "الكتاب": (1/ 117) بنحوه.

(5)

من قوله: "وقد تقول

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 510

اسم جامد، فلما وُصِف بالمشتق وطَّأته الصفة أن يكون حالاً، فإن (ظ/90 ب) حَذفتَ الاسم وبقيت الصفة وحدَها لم يكن في الحال إشكال، نحو:"سِرْت شديدًا".

ويُبَيِّن ما قلناه أن قولك: "سرتُ شديدًا" هي حال من المصدر الذي دل عليه الفعل، فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال. ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولاً مطلقًا أو حالاً، ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيدًا له؛ لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد.

والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه، والعامل فيه إذا كان مفعولاً مطلقًا ليس هو لفظ الفعل بنفسه، وإنما هو ما يتضمَّنه من معنى "فعل" الذي هو فاءٌ وعَينٌ ولامٌ، لأنك إذا قلت: ضربت ضربًا، فالضرب ليس بمضروب، ولكنك حين قلت:"ضربت" تضمن "ضربت"

(1)

معنى "فعلت"؛ لأن كُلَّ ضرْبٍ فعل، وليس كل فعل ضربًا، فصار هذا بمنزلة تضمُّن الإنسان الحيوانَ، وإذا كان كذلك؛ "فضربًا" منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت، حتى كأنك قلت:"فعلت ضربًا".

ولا يكون المصدر مفعولاً مطلقًا حتى يكون منعوتًا أو في حكم المنعوت، وإنما يكون توكيدًا للفعل؛ لأن الفعل يدلُّ عليه دلالةً مطلقةً ولا يدل عليه محدَّدًا ولا منعوتًا، وقد يكون مفعولاً مطلقًا، وليس ثَمَّ نعتٌ في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت، كأنك تريد:"ضربًا مَّا"، فلا يكون حينئذٍ توكيدًا، إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى

(1)

ليست في (ظ).

ص: 511

زائد على معناه، لأن التوكيد تَكْرار محض.

وقد احتج بعضُ أهل السنة

(1)

على القائلين من المعتزلة بأن تكلم الله -تعالى وتقدَّس- لموسى عليه السلام مجاز بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164] فأكَّد الفعلَ بالمصدر، ولا يصح المجاز مع التوكيد. قال السهيلي

(2)

: فذاكرت بهذا شيخَنا أبا الحسين

(3)

، فقال: هذا حسن، لولا أن سيبويه أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولاً مطلقًا، وإن لم يكن منعوتًا في اللفظ، فيحتمل على (ق / 119 أ)، هذا أن يريد

(4)

: "تكليمًا مّا"، فلا يكون في الآية حجة قاطعة، والحِجَاج عليهم كثيرة.

قلتُ

(5)

: وهذا ليس بشيء والآيةُ صريحة فى أن المرادَ بها تكليمٌ أخص من الإيحاء، فإنه ذَكَر أنه أوحى إلى نوح والنبيين من بعده، وهذا الوحي هو التكليم العام المشترك، ثم خص موسى باسم خاصٍّ وفعل خاص وهو "كلم تكليمًا"، ورفع توهُّم إرادة التكليم العام

(6)

عن الفعل بتأكيده بالمصدر، وهذا يدل على اختصاص موسى بهذا التكليم، ولو كان المراد "تكليمًا مَّا"، لكان مساويًا لما تقدَّم من

(1)

بيَّنه السُّهَيلي في كتابه، وهو:"القُتَبِي" وهو: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) سبقت ترجمته.

وكلامه هذا في كتابه: "تأويل مشكل القرآن": (ص/ 111) إذ قال تعليقا على الآية: "فوكَّد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز" اهـ.

(2)

"نتائج الفكر": (ص / 357).

(3)

أي: ابن الطراوة، وسبقت ترجمته.

(4)

(ق): "يكون".

(5)

الكلام الآن لابن القيم.

(6)

من قوله: "المشترك ثم

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

ص: 512

الوحي أو دونه، وهو باطل!.

وأيضًا: فإن التأكيد في مثل هذا السِّياق صريحٌ في التعظيم وتثبيت حقيقة الكلام والتكليم فعلاً ومصدرًا، ووصفه بما يُشعِر بالتقليل مضاد للسياق، فتأمله.

وأيضًا: فإن الله -سبحانه- قال لموسى: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] فلو كان التكليم

(1)

الذي حصل له "تكليمًا مّا" كان مشاركًا لسائر الأنبياء فيه، فلم يكن لتخصيصه بالكلام معنى.

وأيضًا: فإن وَصْف المصدر هاهنا مُؤَذِن بقلَّته وأنَّ "نوعًا ما" من أنواع التكليم حصل له، وهذا محال هاهنا، فإن الإلهام "تكليم مَّا"، ولهذا سماه الله تعالى وحيًا، والوحى "تكليم مَّا" فقال:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]. {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] ونظائره. وقال عُبَادة بن الصامت: "رؤيا المؤمن كلام يكلِّم به الربُّ عبده في منامِه"

(2)

. فكلُّ هذه الأنواع تسمَّى "تكليمًا ما". وقد خصَّ سبحانه وتعالى موسى واصطفاه على البشر بكلامه له.

وأيضًا: فإن الله سبحانه حيثُ ذكرَ موسى ذكرَ تكليمه له باسم التكليم الخاص دون الاسم العام، كقوله:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ (ط/ 91 أ) لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] بل ذَكَرَ تكليمه له بأخصَّ من ذلك وهو تكليم خاص، كقوله:

(1)

سقطت من (ظ ود).

(2)

أخرجه الطبراني -كما في "المجمع": (7/ 174) - والضياء في "المختارة": (8/ 275) مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي:"في سنده من لم أعرفه" اهـ.

ص: 513

{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم: 52] فناداه وناجاه، والنداء والنجاء أخصُّ من التكليم، لأنه تكليمٌ خاص، فالنداءُ تكليم: من البعد يسمعه

(1)

المنادى، والنِّجاءُ تكليم من القرب.

وأيضًا: فإنه قد اجتمع في هذه الآية ما يمتنع معه حملُها على ما ذكره، وهو أنه ذكر الوحيَ المشتركَ، ثم ذكرَ عموم الأنبياء بعد محمد ونوح، ثم ذكر موسى بعَيْنه بعد ذِكْر النبيين عمومًا، ثم ذكرَ خصوص تكليمه، ثم أَكَّدَه بالمصدر، وكل من له أدنى ذوقٍ في الألفاظ ودلالتها على المعانى

(2)

، يجزم بأن هذا السياق يقتضي تخصيصَ موسى بتكليم لم يحصل لغيره، وأنه ليس "تكليمًا ما"، فما ذكره أبو (ق / 119 ب) الحسين غيرُ حسنٍ، بل باطل قطعًا!! والذي غرَّه ما اختاره سيبويه من حذف صفة المصدر وإرادتها، وسيبويه لم يذكر هذا في كل مصدرٍ كان هذا شأنه، وإنما ذكر أن هذا مما

(3)

يسوغُ في الجملة، فإذا كان في الكلام ما يدل على إرادة التأكيد دون الصفة لم يقل سيبويه ولا أحدٌ: إنه موصوف محذوف يدل على تقليله، كما إذا قيل:"صدَّقت الرسول تصديقًا وآمنت به إيمانًا"، أوْ قل:"قاتَلَ فلانٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالاً ونصَره نصرًا"، و"بين الرسولُ لأمته تبيينًا وأرشدهم إرشاداً وهداهم هدى"، فهل يقول سيبويه أو أحد: إن هذا يجور أن يكون موصوفًا؟! والمراد: "تصديقًا مَّا وإيمانًا مَّا وتبيينًا: مَا وهدًى مَّا"!؟، فهكذا الآية والله الموفق للصواب.

(1)

(ق): "بما يسمعه".

(2)

من (ق).

(3)

ليست في (ق).

ص: 514

قال السهيلي

(1)

: "وسألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيدًا للفعل، والتوكيد لا يعمل فيه المؤكَّد، إذ هو [هو]

(2)

في المعنى، فما العامل فيه؟.

فسكتَ قليلاً ثم قال: ما سألني عنه أحدٌ قبلك، وأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسمًا، لأنه لو كان اسمًا لكان منصوبًا بفعلت المتضمَّنة فيه.

ثمَ عرضتُ كلامَه على نفسي وتأملت "الكتاب"، فإذا هو قد ذَهَل عما لوَّح إليه سيبويه في باب المصادر، بل صرَّح، وذلك أنه جعل المصدر المؤكد منصوبا بفعل هو التوكيد على الحقيقة، واخْتُزل ذلك الفعل، وسدَ المصدر الذي هو معموله مسدَّه، كما سدَّت "إياك" و"رُوَيْدًا" مسدَّ العامل فيهما، فصار التقدير:"ضربتُ ضربتُ ضربًا"، فـ "ضربتُ" الثانيةَ هي التوكيدُ على الحقيقة، وقد سدَّ "ضربًا" مسدَّها، وهو معمولها، وإنما يُقَدَّر عملُها فيه على أنه مفعول مطلق لا توكيد، هذا معنى قول صاحب "الكتاب" مع زيادة في الشرح، ومن تأمله هناك وجده كذلك.

والذي أقولُ به الآن قول الشيخ أبي الحسين؛ لأن الفعل المختزل معنى، والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكَّد بالألفاظ

(3)

، وقولك:"ضربت، فعل مشتق من المصدر، فهو يدل عليه، فكأنك قلت: "فعلت الضربَ"، فضربت يتضمَّن (المصدر)

(4)

ولذلك تضمره، فتقول:"من كذبَ فهو شر له"، وتقيده بالحال، نحو:"قمنا سريعًا"، فسريعًا حال من

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 358). والمسؤول ابن الطراوة.

(2)

من "المنيرية".

(3)

(ق): "يوكِّدها الألفاظ".

(4)

في "النتائج": "يتضمَّن الضرب المفعول".

ص: 515