المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل(3)فيما يحدد من المصادر بالهاء - بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

الفصل: ‌فصل(3)فيما يحدد من المصادر بالهاء

وأما "الفكر" فليس باسمٍ عند سيبويه، ولذلك مَنَع من جمعه، فقال

(1)

: "لا يُجْمع الفكر على أفكار"، حَمَله على المصادر التي لا تجمع. وقد استهوى الخطباءَ والقصاصَ خلافُ هذا، وهو كالعلم لقُرْبه منه في معناه، ومشاركته له في محلِّه، وأما "الذكر" فبمنزلة العلم؛ لأنه نوع

(2)

منه.

‌فصل

(3)

فيما يحدد من المصادر بالهاء

، وفيه بقايا من الفصل الأول.

قد تقدمَ أنَّ الفعلَ لا يدل على مَصدره إلا مطلقًا غير محدود ولا منعوت، وأنك إذا قلت: "ضربته

(4)

ضربة"، فإنما هي مفعول مُطْلق لا توكيد؛ لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد، ومن ثَمَّ لا تقول: "سِيْر بزيد سريعة حسنة"، تريد: سِيرةً كذلك، ولا "قعدت طويلةً"؛ لأن الفعل لا يدل بلفظه على المَرَّة الواحدة، ومن ثمَّ بطل ما أجاره النحَّاس

(5)

وغيرُه من قوله: "زيد ظننتها منطلق"، تريد:"الظِّنة"، لأن الفعل لا يدل عليها.

وإذا ثبتَ هذا فالتحديدُ في المصادر ليس يطَّرد في جميعها، ولكن فيما كان مها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديدُ غالبًا؛

(1)

في "الكتاب": (2/ 200).

(2)

(ق): "ممنوع"!.

(3)

"نتائج الفكر": (ص/ 369 - 374)، وفي (د):"فائدة".

(4)

"النتائج": "ضربت".

(5)

هو: أحمد بن محمد أبو جعفر المصري، العلامة النحوي، صاحب "إعراب القرآن" وغيره، ت (338)، انظر:"إناه الرواة": (1/ 101)، و "بغية الوعاة":(1/ 362).

ص: 533

لأنه مضارع للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد منه

(1)

والجنس بـ "هاء التأنيث"، نحو: تمرة وتمر، ونخلة ونخل، وكذلك تقول: ضَرْبة وضَرْب.

وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو: عَلِم وحَذِر وفَرق ووَجِل، أو ما كان طبعًا نحو: ظَرف وشَرُف، لا يقال في شيءٍ من هَذا: فَعلَةٌ، لا يقال: فَهم فهْمة، ولا: ظَرُف ظَرْفة. وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقِلَّة نحو: طال وقَصر، وكبرَ وصَغْر، وقل وكَثر، لا تقول فيه: فَعْلَة.

وأما قولهم: "الكَبْرَة في الهَرَم"، فعبارة عن الصِّفة وليست بواحدة من الكبر، وكذلك الكثرة ليست كالضربة من الضرب؛ لأنك لا تقول: كَثُر كَثرًا.

وأما: "حمدًا"؛ فما أحسبه يقال في تحديده: حَمْدة، كما يقال: مَدْحة، والفرق بينهما أن "حِمد" يتضمَّن الثناء مع العلم بما يثني به، فإن تجردَ عن العلم كان مدحًا ولم يكن حمدًا، فكلُّ حَمْد فدح دون العكس، ومن حيث كان يتضمَّن العلم بخصال

(2)

المحمود جاء فعله على "حَمِد" بالكسر موازنَا لـ "علم"، ولم يجئ كذلك "مدح"، فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه (ظ /195)، ومن ثَمَّ لم نجد في الكتاب ولا في السنة "حَمِد ربنا فلانًا"، وتقول: مدحَ الله فلانًا وأثنى علي فلان، ولا: تقول: حَمِد إلا لنفسه، ولذلك قال سبحانه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} بلام الجنس المفيدة للاستغراق، فالحمد كلُّه له إما

(1)

"النتائج" و (د): "فيه"

(2)

(ق): "بحال".

ص: 534

مُلْكًا وإما استحقاقًا، فَحَمْده لنفسه استحقاق، وحمدُ العباد له؛ وحمد بعضهم لبعض ملك له؛ فلو حَمِدَ هو غيرَه لم يَسُغ أن يقال في ذلك الحمد: ملك له؛ لأن الحمد كلامه؛ ولم يَسُغ أن يضاف إليه على جهة الاستحقاق وقد تعلَّقَ بغيره.

فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما عَلِم، فلِمَ لا يجوز أن يُسمى حمدًا؟.

قيل: لا يُسَمى حمدًا على الإطلاق إلا ما يتضمن العلم بالمحاسن على الكمال، وذلك معدوم في غيره سبحانه، فإذا مَدَح فإنما يمدح بخصلة هى ناقصة في حق العبد، وهو أعلمُ بنقصانها، وإذا حَمِد نفسَه حَمِدَ بما عَلِمَ من كمال صفاته.

قلت

(1)

: ليس ما ذكره من الفرق بين الحمد والمدح باعتبار العلم وعدمه صحيحًا، فإن كلَّ واحد منهما يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه، فلا يكون مادحًا ولا حامدًا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح، فكيف يصح قوله:"إن تجرد عن العلم لأن مَدْحًا"، بل إن لجرَّد عن العلم كان كلاما بغير علم، فإن طابقَ فصِدْق وإلا فكَذِب.

وقول: "ومن ثَمَّ لم يجئ في الكتاب والسنة: حمد ربنا فلانًا"، يقال: وأين جاء فيهما: "مدح الله فلانًا"، وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد، وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء:"ما هَذا الطهوْر الذي أَثْنى الله عليكمْ بِه "

(2)

؟،

(1)

التعليق لابن القيم رحمه الله.

(2)

أخرجه أحمد: (3/ 422)، وابن ماجه رقم (355)، وابن خزيمة رقم (83) =

ص: 535

فإذا كان قد أثنى عليهم، والثناءُ حَمْد متكرِّر، فما يمنع حمده لمن شاء من عباده؟!.

ثم الصحيح في تسمية النبيِّ صلى الله عليه وسلم محمدًا: أنَّه الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون. وأما من قال: الذي يحمده أهلُ السماء و

(1)

الأرض. فلا ينافي حمد الله تعالى، بل حمد أهل السموات والأرض له بعد حمد الله له، فلما حمده الله حمده أهل السموات وأهل الأرض

(2)

.

وبالجملة؛ لما

(3)

كان الحمد ثناءً خاصًّا على المحمود، لم يمتنع أن يحمدَ اللهُ من يشاءُ من خَلْقه كما يثني عليه، فالصواب في الفَرْق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردا من حب وإرادة، أو مقرونا بحبه وإرادته، فإن كان الأول؛ فهو المدح، وإن كان الثاني، فهو الحمد، فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حُبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرا يتضمَّن الإنشاء، بخلاف المدح فإنه خبر مجرَّد، فالقائل إذا قال:"الحمد لله"، أو قال:"ربنا لكَ الحمد" تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه -تعالى- باسمٍ جامع محيط متضمن لكلِّ فردٍ من أفراد

= والحاكم: (1/ 155)، والدارقطني:(1/ 62) وغيرهم من حديث جماعةِ من الصحابة.

وفي سنده مقال، ويصح بشواهده، وصححه ابن خزيمة والحاكم وحسّنه الزيلعى في "نصب الراية":(1/ 219).

(1)

(ظ ود): "أهل السماوات وأهل

".

(2)

من قوله: "فلا ينافي .... " إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(3)

(ظ ود): "فإذا".

ص: 536

الحمد المحققَة والمقدَّرة؛ وذلك يستلزم إثبات كلِّ كمال يُحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد.

ولما كان هذا المعنى مقارنا للحمد لا تقوم حقيقتُه إلا به فسره من فسَّره بالرضى والمحبة، وهو تفسير له بجزء مدلوله، بل هو رضاء ومحبة مقارنة للثناء عليه، ولهذا السر -والله أعلم- جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز، فقيل:"حَمد" لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من "فَهم وحذر وسقم" ونحوه، بخلاف الأخبار المجرَّد عن ذلك وهو المدح، فإنه جاء على وزن "فَعَل"، فقالوا: مَدَحه، لتجرد معناه من معاني الغرائز والطبائع، فتأمل هذه النكتة البديعة، وتأمل الإنشاء الثابت في قولك:"ربنا لك الحمد"، وقولك:"الحمد لله"، كيف تجده تحت هذه الألفاظ، ولذلك لا يقال موضعها:"المدح لله"، ولا:"ربنا لك المدح"

(1)

، وسِرّه ما ذكرت لك من الإِخبار بمحاسن المحمود إخبارا مقترنا بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه.

فإن قلت: فهذا ينقض قولكم: إنه لا يمتنع أن يحمدَ اللهُ تعالى من شاء من خلقه، فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيءٌ ولا يستحق التعظيم غيره، فكيف يعَظِّم أحدًا من عباده؟.

قلت المحبة لا تنفك عن تعظيم وإجلال للمحبوب، ولكن يضاف إلى كلِّ ذاتِ بحسب ما تقتضيه خصائص تلك الذات، فمحبة العبد لربه تستلزم إجلاله وتعظيمه، وكذلك محبة الرسول تستلزم

(1)

(ق): "الحمد"!.

ص: 537

توقيره وتَعْزيره

(1)

وإجلاله، وكذلك محبة الوالدين والعلماء وملوك العدل، وأما محبة الرب عبدَه فإنها تستلزم إعزاره لعبده، وإكرامه إياه، والتنويه بذكره، وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه، فهذا المعنى ثابت في محبته وحمدِه لعبدِه، سُمِّي تعظيمًا وإجلالا أو لم يسَمَّ.

ألا ترى أن محبته -سبحانه- لرسله كيف اقتضت أن نوَّه بذكرهم في أهل السماء والأرض، ورفع ذكرَهم على ذِكر غيرهم، وغضب على من لم يحبهم ويوقوهم ويُجلهم، وأحلَّ به أنواعَ العقوبات في الدنيا والآخرة؟! وجعل كرامته في الدنيا والآخرة لمحبيهم وأنصارهم وأتباعهم، أو لا ترى كيف أمر عاده وأولياءه بالصلاة التي هي تعظيم وثناء على خاتمهم وأفضلهم صلوات الله وسلامه عليه؟! أفليس هذا تعظيمًا لهم وإعزازا وإكراما وتكريمًا

(2)

؟!.

فإِن قيل: فقد ظهر الفرق بين الحمد والمدح، واسْتَبان صبح المعنى وأسفر وجهه، فما الفرق بينه

(3)

وبين الثناء والمجد؟.

قل: قد تعدينا طَوْرَنا فيما نحن بصدده، ولكن نذر الفرق تكميلا لفائدة، فنذكر تقسيما جامعا لهذه المعاني الأربعة -أعني: الحمد والمدح والثناء والمجد- فنقول:

الإخبار عن محاسن الغير له ثلاثة اعتبارات؛ اعتبار من حيث المُخْبَر به. واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخَبَر .. واعتبار من حيث

(1)

ليست في (ق)

(2)

ليست في (ق)

(3)

"بينه و" سقطت من (ق).

ص: 538

حال المُخْبِر. فمن حيث الاعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد، فإن المخْبَر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها، أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها

(1)

، فإن كان الأول؛ فهو المجد، وإن كان الثاني؛ فهو الحمد، وهذا لأن لفظ "مجد" في لغتهم يدور على معنى الاتساع والكثرة، فمنه قولهم:"أمجد الدابةَ عَلَفًا"، أي: أَوْسعها عَلَفًا، ومنه: مَجُد الرجل فهو ماجد، إذا كَثر خيره وإحسانه إلىَ الناس قال الشاعر

(2)

:

أنتَ تكون ماجدٌ نبيلُ

إذا تهبُّ شمْال بليلُ

ومنه قولهم: "في كلِّ شَجَرِ نارٌ، واسْتَمْجَد المَرْخُ والعَفَارُ"

(3)

، أي: كثرت النار فيهما.

ومن حيث

(4)

اعتبار الخبر نفسه ينشأُ التقسيم إلى الثناء والحمد، فإن الخبر عن المحاسن إمَّا مُتكرِّر

(5)

أَوْ لا، فإن تكرَّر فهو الثناء، وإن لم يتكرر فهو الحمد، فإن الثناءَ مأخوذٌ من الثني وهو العطف، وردُّ الشيءِ بعضه على بعض، ومنه: ثنيتُ الثوبَ، ومنه: التثنية في الاسم، فالمثْنِي مُكرِّر لمحاسن من يُثْني عليه مرةً بعد مرة.

(1)

من قوله: "أو من

" إلى هنا ساقط من (ق).

(2)

هى: فاطمة بنت أسد، والبيت من شواهد ابن مالك في "شرح الكافية":(1/ 413) وذكره البغدادي في "الخزانة": (9/ 225 - 226) ضمن أبيات.

(3)

أنظر: "مجمع الأمثال": (2/ 445 - 446).

والمَرْخ والعَفَار نوع من الشجر يُسْرع الاشتعال، والمثل يضرب في تفضيل بعض الشي على بعض.

(4)

(ق): "ومنه".

(5)

(ق): "إما أن يقع شكرًا

".

ص: 539

ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأُ التقسيم إلى المدح والحمد، فإن المخبر عن محاسن الغير؛ إما أن يقترن بإخباره حُب له وإجلال أَوْ لا، فإن اقترن به الحب فهو الحمد، وإلا فهو المدح، فَحَصِّلْ هذه الأقسام ومَيِّزْها، ثم تأمَّل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمَينَ} ، فيقول الله:"حَمِدَني عبدني"، فإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: "أثنى عَليَّ عبدي" لأنه كرَّر حمده. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال:"مَجدَني عبدي"

(1)

فإنه وصَفَه بالمُلْك والعَظَمة والجلال.

فاحْمدِ اللهَ على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد عَفوًا لم تسهر فيها عينُك، ولم يسافر فيها فكرُك عن وطنه، ولم تتجرَّد في تحصيلها عن مألوفاتك، بل هى عرائس معانٍ تُجلى عليك وتُزف إليك، فلك لذة التمتع بها ومهرها على غيرك، لك غُنْمها وعليه غُرْمها.

فصل

فلنرجع إلى كلامه

(2)

قال: "وكل ما حدِّد من المصادر تجوز تثنيته وجمعُه، وما لم يُحَدد فعلى الأصل الذي تقدَّم لا يثنى ولا يجْمَع، وقولهم: "إلا أن تختلف أنواعه"، لا تختلف أنواعه إلا إذا كان عبارة عن مفعولٍ مطلق اشْتُقَّ من لفظ الفعل لا عن مصدر اشْتُق الفعلُ منه، ولذلك تجده على ورد "فَعِل" بالكسر، وعلى ورد "فُعْل"، نحو: "شُغْل"، وعلى وزن "فَعَل"

(3)

نحو: "عَمل"، والذي

(1)

أخرجه مسلم رقم (395) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(2)

في "نتائج الفكر": (ص/ 371).

(3)

"نحو "شُغل على وزن فَعَل" ساقط من (ظ ود).

ص: 540

هو مصدر حقيقةً ما تجده على وزن "فَعْل"، نحو:"ضَرْب وقَتْلُ"، وأما "الشَّرب" بالفتح والضم والكسر، فـ "الشَّرْب" بالفتح، هو المصدر، و"الشُّرب" بالضم عبارة عن المشروب أو عن الحَدَث الذي هو مفعول مطلق في الأصل، وربما اتُّسِعَ فيه فأجْريَ مَجْرى المصدر الذي اشْتق الفعل منه، كما قال تعالى:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة: 55] بالضم والفتح".

قلت

(1)

: هذه كَبْوة من جواد، ونَبْوة من صارم، فإن "الشُّرب" بالضم هو المصدر، وأما المشروب فهو "الشِّرب" بكسر الشين، قال تعالى في الناقة:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 155] فهذا هو المشروب، كما تقول: قِسْم من الماء وحَظ ونصيب تشربه في يومها

(2)

، ولكم حظ وقسم تستوفونه في يومكم، وهذا هو القياس في الباب كالذّبْح بمعنى المذبوح، والطحن للمطحون، والحِبّ للمحبوب، والحِمل للمحمول، والقِسْم للمقسوم، والعِرْس للزوجة التي قد عرس بها، ونظائره كثيرة جدًّا.

وأما "الشَّرب" بالفتح؛ فقياسه أن يكون جمع شارب، كصاحب وصَحْب، وتاجر وتجْر، وهو يُسْتعمل كذلك، وإطلاق لفظ الجمع عليه جريا على عادتهم، والصواب أنه اسم جَمْع، فإن "فَعْلاً" ليس من صيغ الجموع واستعمل أيضا مصدرًا، وقد قرئت الآية بالوجوه الثلاثة

(3)

، فمن قرأ بالضم أو الفتح فهو مصدر، ومن قرأ بالكسر فهو بمعنى المشروب، وعلى الأول يقع التشبيه بين الفعلين

(4)

، وهو

(1)

الكلام لابن القيم رحمه الله.

(2)

(ق): "نوبتها".

(3)

انظر "تفسير القرطبي": (14/ 88)، و"روح المعاني":(9/ 114).

(4)

(ق): "المفعولين".

ص: 541

المقصود بالذكر، شَبَّه شربهم من الحميم بشرب الإبل العِطَاش التي قد أصابها الهيام، وهو داء تشرب منه ولا تَروَى، وهو جمع أَهيَم، وأصله "هيْم" بضم الهاء كأحمر وحُمر، ثم قلبوا الضمة كسرة لأجل الياء فقالوا:"هِيْم". وأما قراءة الكسر فوجْهُها أنه شَبَّه مشروبهم بمشروب الإبل الهِيْم في كثرته وعدم الرِّي به، والله أعلم.

عاد كلامه، قال: "فإن قيل: فإن الفهم والعقل والوهم والظن، مصادر وليست مما ذكرتَ، وقد جُمِعتْ، فقالوا: أفهام وأوهام وعقول؟.

قيل: هذه مصادر في أصل وضعها، ولكنها قد أجريت مَجْرى الأسماء، حيث صارت عبارة عن صِفات لازمة وعن حاسَّة باطنة

(1)

كالبصر؛ ألا ترى أنك إذا قلت: "عَقَلت البعير عَقْلًا"، لم يَجُز في هذا المصدر الجمع، فإذا أردت به المعنى الذي اسْتُعير له -وهو عقل الإنسان- جاز جمعه؛ إذ صار للإنسان كأنه حاسة [باطنة]

(2)

كالبصر، ألا ترى أن "البصر" حيثما ورد في القرآن مجموع، والسمع غير مجموع في أجود الكلام، لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثية، ولكون البصر على وزن "فَعَل" كالأسماء، ولأنه يراد به الحاسة، وقد يجوز في السمع -على ضعف- أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون المصدر، كما تجمع الفهم على أفهام، ولكن لا يكون

(3)

ذلك إلا بشرط، وهو أن تكون الأفهام أو الأسماع ونحوها مضافة إلى جَمْع، نحو:"أفهام القوم" و"أسماع الزيدين"، ولو كان

(1)

(ظ ود): "ناطقة".

(2)

في الأصول: "ناطقة" والمثبت من "النتائج ".

(3)

(ق): "يجوز".

ص: 542

هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر، لما جازَ أن تقول:"عرفت أفهامَ القوم في هذه المسألة"، و"عرفت علومهم"؛ لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها، بل هي متماثلة وإن اختلفت محالها، فعِلْم زيد وعلم عَمرو، إذا تعلَّقا بشيء واحد فهما مثلان، وعلم زيد بشيء واحد وعلمه بشيء آخر مختلفان لاختلاف المعلومَيْن.

والمقصود: أنَّ الأفهام والعقول لم تجمع لاختلاف أنواعها، لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي

(1)

عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد، وتجيء مفردةً عند اختلافها نحو: فهم زيد بالحساب والنحو، وغيرهما، لا يقال فيه:"عرفت أفهام زيد بالعلوم"، ولكن تقول:[عرفت] فهم زيد، بالإفراد مع اختلاف متعلَّقه، واختلاف متعلَّقه يوجب اختلافه.

وإذا ثبت هذا؛ فلم يجمع "الفَهْم" على "أَفْهام" إلا من حيث كان بمنزلة حاسة باطِنة للإنسان، فإذا أُضِيف إلى أكثرين

(2)

جُمع، وإذا أضيف إلى واحِدٍ لم يُجْمع؛ لأنه كالحاسة الواحدة، وإن كان في أصله مصدرًا، فربَّ مصدر أخري مجرى الأسماء، كـ "ضَيْف وضيوف"

(3)

، وعَدْل وعدول، وصَيْد وصيود.

وأما "رؤية العين" فليست الهاء فيها للتحديد، بل [هي] لتأنيث الصفة؛ كالكُدْرة

(4)

والصّفرة والحُمْرة، وكان الأصل فيها "رأيًا"،

(1)

(ق): "وهي هذا".

(2)

(ق): "كثيرين"، و"النتائج":"أناسي كثيرة".

(3)

(ظ ود): "ضيفان".

(4)

في الأصول ونسخ "النتائج": "القدرة"! والمثبت هو الصواب.

ص: 543

ولكنهم إنما يستعملون هذا الأصل مضافا إلى العين، نحو قوله تعالى:{رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] فإذا لم تُضَف استُعمل في الرأي المعقول، واستُعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق.

وأما "الظن" فمصدر لا يُثنَّى ولا يُجمع إلا أن تريد به الأمور المظنونة، نحو قوله تعالى:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} [الأحزاب: 10] أي: تظنون أشياء كاذبة، فالظنون -على هذا- مفعول مطلق، لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل. والله أعلم.

فائدة

(1)

"سحَر" على قسمين:

أحدهما: يُرَاد به سَحَر يوم بعينه معرفةً كان اليومُ أو نكرة، وهو في هذا ظرف غير منوَّن بشرط أن يكون اليوم ظرفا لا فاعلا ولا مفعولا، وفيه وجهان:

أحدهما: أن تعريفه لما فيه من معنى الإضافة، فإنك تريد: سَحَر ذلك اليوم، فحذف التنوين منه كما حذف في "أَجْمَع" و"أَكْتع" لما كان مضافا في المعنى.

والوجه الثاني: وهو اختيار سيبويه أن تعريفه باللام المقدرة، كأنك حين ذكرتَ يوما قبله وجعلته ظرفا، ثم ذكرت "سحر" فكأنك أردت: السَّحَر الذي من ذلك اليوم، فاستغنيت عن "الألف واللام" يذكر اليوم.

وهذا القول أصح للفرق الذي

(2)

بين "سحر"(ظ/97 أ) وبين

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 375).

(2)

ليست في (ق).

ص: 544

"أجمع"، فإن "أجمع" توكيد بمنزلة:"كله" و"نفسه"، فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكَّد، واستغنى عن إظهار الضمير بذكر المؤكد؛ لأن "الجمع" لا يكون إلا تابعا له، ولا يكون مخبرا عنه بحال، وليس كذلك "السحر"؛ لأنه بمنزلة "الفرس" و"الجمل" فإن أضفتَه لم يكن بدٌّ من إظهار المضاف إليه، وإنما هو معرف باللام، كما قال سيبويه. وهذا كله لما كان اليوم ظرفا لا مفعولا، فلو قلت: كرهت يوم السبت سحرَهُ، كان بدلا كما تقول: أكلت الشاة رأْسَها.

فإن قيل: فهلا قلتم: إنه يدل إذا كان ما قبله ظرفًا أيضًا؛ لأنه بعض اليوم، فيكون بدل البعض من الكل، كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولاً؟.

قيل: الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم الطرح، ويكون الفعلُ مخصوصا بالبدل بعدما كان عمومًا في المبْدَل منه، فإذا قلت:"أكلتُ السمكةَ رأسَها"، لم يتناول الأكل إلا رأسها، وخرج سائرها من أن يكون مأكولا، وليس كذلك:"خرجت يومَ الجمعة سحر"؛ لأن الظرفَ مقدر بـ "في" وجَعْل "سحر" ظرفا لا يخرج اليومَ عن أن يكون ظرفا أيضًا، بل يبقى على حاله؛ لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه، فالكلام معتمد عليه، كما كان قبل ذكر "سحر". نعم، وما هو أوسع من اليوم في المعنى، نحو: الشهر والعام الذي فيه ذكر اليوم، وما هو أوسع من العام كالزمان، كلّ وأحد من هذه ظرف للفعل الذي وقع في "سحر". [وتخصيصك سَحَر]

(1)

بالذكر لا يخرج شيئا منها أن يكون ظرفا

(1)

ما بين المعكوفين من "النتائج".

ص: 545

للفعل، فلذلك اعتمد الكلام على اليوم، واستغنى به عن تجديد آلة التعريف، بخلاف:"كرهت يوم السبت سحره"

(1)

أو "السحر منه"، لابُدَّ

(2)

من البدل فيه.

فقد بان الفرق، وبانت عِلَّة ارتفاع التنوين؛ لأنه لا يجامع "الألف واللام" ولا معناها، وإن كان في حكم المضاف -كما زعم بعضهم- فلذلك -أيضًا- امتنع تنوينه.

وأما مانع تصرُّفه وتمكنه، فإنك لما أردته ليوم هو ظرف، فلو تمكن خرج عن أن يكون من

(3)

ذلك اليوم؛ لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة بأن السحر من ذلك اليوم، فإذا قلت:"سِيْر بزيد يوم الجمعة سحرُ"، وجعلته مفعولاً على سَعَة الكلام، لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم، فإن أردت هذا المعنى فقل:"سِيْر بزيد يوم الجمعة سحر" أو "السحر منه" حتى يرتبط به؛ لأنك لا تقدر "الألف واللام" من غير أن يلفظ بهما إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما. وأما إذا كان اسما متمكنًا كسائر الأسماء، فلابُدَّ من تعريفه بما تعرف به الأسماء، أو تجعله نكرةَ فلا يكون من ذلك اليوم.

فإن قلت: فقد أجازوا: "سِيْر بزيد يومُ الجمعة سحرَ" برفع "اليوم" ونصب "سحر"، فلم لا يجوز أيضًا:"يومَ الجمعة سحرُ" بنصب "اليوم" ورفع "سحر"؟.

قيل: لأن اليوم -وإن اتّسِعَ فيه- فهو ظرف في معناه، وهو

(1)

(ق وظ): "سحرًا"، و (د):"سحر" والمثبت من "النتائج".

(2)

في الأصول: "يدل" والمثبت من "النتائج".

(3)

سقطت من (ق).

ص: 546

يشتمل على "السحر". ولا يشتمل "السحر" عليه، فلا يجوز إذا أن يتعرف "السحر" تعريفًا معنويًا حتى يكون ظرفا بمنزلةِ اليومِ الذي هو منه، ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفا مُغْنِيًا عن آلة التعريف.

فصل

(1)

وأما "ضحوة" و"عشية" و"مساء"، ونحو ذلك، فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت منوَّنة، وإن أردتَها ليوم بعينه، وهى موافقة له في عدم التصرف والتمكُن. والفرق بينهما: أن هذه أسماء فيها معنى الوصف؛ لأنها مشتقة مما تُوصَف به الأوقاتُ التي هى ساعات اليوم، فالعشي من العِشَاء، والضحوة من قولك:"فرس أضحى" و"ليلة إِضحيان" تُرِيد البياضَ، والصباح من "الأصبح"، وهو لون بين لونين

(2)

، فإذا قلت: خرجث اليوم عشيًّا وظلامًا، وضحَى وبصرا -حكاه سيبويه

(3)

- فإنما تريد: خرجتُ اليومَ في ساعة وصفها كذا، أو خرجت وقتًا مظلما أو مبصرا أو نحو ذلك، فقد بان لك أنها أوصاف لنكرات، وتلك النكرات هى أجزاء اليوم وساعاته؛ ألا ترى أنك إذا قلت:"خرجت اليوم ساعة منه"، أو:"مشيتُ اليوم وقتا منه"، لم يكن إلا منوّنا، إلا أن "ساعة ووقتًا" غير معين، "وضحوة وعشية" قد تخصصا بالصفة، ولكنه لم يتعرَّف، وإن كان ليومٍ بعينه؛ لأنه غير معرف بـ "الألف واللام"، كما كان "سحر"؛ لأن "سحر" اسم جامد يتعرَّف كالأسماء ويُخْبَر عنه، وأما نعته فلا يكون كذلك؛ لأن النعتَ لا يكون فاعلا ولا مفعولاً، ولا يُقَام مقام

(1)

"نتائج الفكر": (ص/ 377).

(2)

سقطت من (ق).

(3)

"الكتاب": (1/ 115).

ص: 547

المنعوت إلا على شُروط مخصوصة.

فإن قلت: أليس هذه الأوقات معروفة عند المخاطَب من حيث كانت ليوم بعينه، فلِمَ لا تكون معرفة كما كان "سحر" إذا كان ليوم بعينه؟.

قيل: لم يتعرَّف "سحر" بشيءٍ إلا بمعنى "الألف واللام" لا من حيث كان ليوم بعينه، فقد تعرِّف المخاطَبَ الشيءَ بصفتِهِ كما تعرف بآلة التعريف، فتقول:"رأيت رجلًا من صفته كذا وكذا"، حتي يعرفه المخاطب، فيسري إليه التعريف، وهو مع ذلك نكرة، وكذلك "ضحوة وعشية"، وإنما اسْتغني عن ذكر المنعوت بهذه الصفات لتقدّم ذكر اليوم الذي هو مشتمل: على الأوقات الموصوفة بهذه المعانى، كما استُغْني عن ذكر المنعوت إذا قلت:"زيد قائم"، ولاشك أن المعنى:"زيد رجلٌ قائم"، ولكن ترك ذكر الرجل لأنه "زيد"، وكذلك:"جاءني زيد صالحًا"، أي

(1)

: رجلاً صالحًا، ولكن زيدًا هو الرجل فأغناك عن ذكره، وكذلك ما نحن

(2)

بسبيله من هذه الأسماء التي هي في نفسها أوصاف لأوقات أَعنى ذكر اليوم -الذي هي له- عن ذكرها لاشتمالها عليه، ولم أيكن ذلك في "سحر"، ومن ثمَّ أيضًا لم تتمكن، فتقول:"سِيْر عليه يوم الجمعة ضحوةً وعشيةً"، لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويُبْطِل منها معنى الصفة، فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له، وينضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدَّمت في فصل "سحر". وكذلك كل ما كان من الظروف نعتًا في الأصل،

(1)

من قوله: "قائم، ولاشك .. " ساقط من (ق).

(2)

(ق) وبعض نسخ "النتائج": "لَحِق".

ص: 548

نحو: "ذا [صباح]

(1)

" و"ذاتَ مَرَّة" و"أقمتُ طويلًا" و"جلست قريبا"، لا يتمكن ولا يخرج عن الظرف.

ويلحق بهذا الفصل: "نهارًا" إذا قلت: "خرجتُ اليومَ نهارًا"؛ لأنَّه مشتقٌّ مِن: "أَنْهِرِ الدَّمَ بما شِئْت"

(2)

يريد الانتشار والسعة، ومنه:"النهر" من الماء؛ لأنه بالإضافة إلى موضع تفجره كالنهار بالإضافة إلى فجوه؛ لأن [النهار]

(3)

ما ينتشر

(4)

ويتسع، فما تفجَّر من الماء والنهر، بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء، واليوم أوسع من النهار في معناه، فصار قولك:"خرجتُ اليوم نهارًا" كقولك: "خرجتُ اليومَ

(5)

" ظهرًا وعشيًّا"، معنى الاشتقاق فيها كلها بَيِّن، فجَرَت مجرى الأوصاف النكرات في تنوينها وعدم تمكنها.

قلت: ولما كان النهار أوسع من النهر، خُصَّ بالألف المعطية اتساع النطق وانفتاح الفم دون النهر.

فصل

(6)

وأما "غُدْوَة" و"بُكْرة" فهما اسمان عَلَمان، وعدم التنوين فيهما

(1)

في الأصول: "حاج"! والمثبت من "النتائج".

(2)

أخرجه أبو داود رقم (2428)، والنسائي (7/ 225)، وابن ماجه رقم (3177) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.

وفي سنده سِماك بن حرب متكلم فيه، ومرِّي بن قطري، قال الحافظ؛ "مقبول".

(3)

في الأصول: "النهر" والمثبت من "النتائج".

(4)

(ق): "ما يتفجر وينتشر .. ".

(5)

"نهارًا كقولك: خرجت اليوم" سقطت من (ق).

(6)

"نتائج الفكر": (ص / 380).

ص: 549

للتعريف والتأنيث، والذي أخرجهما عن باب "ضحوة" و"عشية" -وإن كان فيهما معنى الغدوِّ والبكور- كما كان في أخواتهما معاني الفعل أنهما قد بُنِيا بناءً لا تكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرها للعَلَمية، كما غيِّر "عُمَارة" و"عُمَر"

(1)

وأشباههما، وكما غُيِّر "الدَّبَران"

(2)

، وفيه معنى الدبور، إيذانا بالعلمية وتحقيقا لمعناها، ألا ترى أن "ضحوة" على ورد "صَعبة" من النعوت، و"ضربة" من المصادر، والمصادر يُنْعتَ بها، و"ضُحًى" على وزن "هُدًى" وعلى وزن "حُطَم" من النعت، وكذلك سائر تلك الأسماء، و"غدوة" و"بكرة" بخلاف ذلك، قد غُيِّرتا عن لفظ الغُدو والبكور تغييرًا بيِّنًا ففارقتا الفصلَ المتقدِّم.

فإن قيل: فلعلَّ امتناع التنوين فيهما بمثابة امتناعه في "سحر" ليومٍ بعينه.

قيل: كلامُ العرب يدل على خلاف ذلك؛ لأنهم لا يكادون يقولون: "خرجت اليوم في الغدوة"، ولا:"الغُدْوة خير من أول الليل"، كما يقال:"السحرُ خير من أول الليل"، فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه، و"غدوة" و"بكرة" من اليوم بمنزلة "رَجَب" و"صَفَر" من العام، فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتهما، وأنهما بمنزلة أسماء الشهور

(3)

الأعلام وأسماء الأيام الأعلام، نحو: السبت والجمعة.

وإذا ثبت هذا فَهُما اسمان متمكِّنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل

(1)

فى الأصول: "عمرو" وهو خطأ.

(2)

من منازل القمر، انظر:"اللسان": (4/ 271).

(3)

(ق): "الأشهر".

ص: 550

إذا قلت: "سِيْر بزيد يومَ الجمعة غُدْوةُ"، فلا يحتاج إلى إضافة ولا لام تعريف، وتقول "سِيْر به يومُ الجمعة غدوةَ"، على الظرفِ فيهما جميعًا؛ لأنها بعض اليوم، كما تقول:"سِرت العامَ رجَبًا كلَّه"، وتقول: أيضًا: "سير به يومُ الجمعة غدوةُ" برفعهما، كأنها بدل من

(1)

اليوم، ولا تحتاج أيضًا إلى الضمير كما تحتاج في بدل البعض من الكل؛ لأنها ظرف في المعنى. ولو قلت:"كُرِه يومُ السبت غدوةُ" على البدل، لم يكن بدٌّ من إضافة "غُدوة" إلى ضمير المبدل منه؛ لأن اليوم ليس بظرف، فيكون كقولك:"كرهت يومَ الخميسِ سحَرَه"، إذا أردت البدلَ، لأن المكروه هو السحر دون (ق / 129 ب) سائر اليوم، وإنما يُسْتغنى عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفا على حاله؛ لأن بعض اليوم إذا كان ظرفا لفعل، كان جميع اليوم ظرفا لذلك الفعل.

واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم عَلَم، فإن الفعل إذا وقع فيه تناول جميعه، وكان الظرف مفعولاً على سَعَة الكلام، فإذا قلت:"سِرتُ غدوةَ"، فالسير وقع في الوقتِ كله، وكذلك:"سِرت السبتَ والجمعة، وصفر والمحرم"، كله مفعول

(2)

على سَعَة الكلام لا ظرف للفعل؛ لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان، إنما هي عبارة عن معانٍ أُخَر، فإن أردتَ أن تجعل شيئًا منها ظرفًا، ذكرتَ لفظَ الزمان وأضفتَه إليها، كقولك:"سِرتُ يومَ السبت" و"شهر المحرم"، فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعَه إلا بدليل، والشهر ظرف وكذلك اليوم.

(1)

سقطت من (ق).

(2)

سقطت من (ق).

ص: 551

قال سيبويه

(1)

: "ومما لا يكون الفعل إلا واقعا به كله: "سرت المحرم وصفر""، هذا معنى كلامه. وإذا ثبت هذا؛ فرجب ورمضان أسماء أعلام إذا أردتها (ظ/98 ب) لعامٍ بعينه، أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفها إليه، فإن لم يكن ذلك صار الاسم نكرة، تقول:"صمتُ رمضان ورمضانا آخر"، و"صمت الجمعةَ وجمعة أخرى"، إنما أردت جمعةَ أسبوعِك ورمضان عامِك، وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهرا واحدا، كما تكون النكرة من قولك:"ضربت رجلا"، إنما تريد واحدا، وإذا كان معرفةً يكون ما

(2)

يدل على التمادي وتوالي الأعوام، لم يكن حينئذ واحدًا، كقولك:"المؤمن يصوم رمضان"، فهو معرفة لأنك لا تريده لعام

(3)

بعينهِ؛ إذ المعنى: يصوم رمضان من كل عام على التمادي وذِكْرُ الإيمان قرينةٌ تدل على المراد، ولو لم يكن في الكلام ما يدلُّ على هذا لم يكن محمله إلا على العام الذي أنت فيه

(4)

.

وإذا ثبت هذا؛ فانظر إلى قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وفي الحديث: "مَنْ صامَ رَمَضان"

(5)

و"إذا دَخَلَ رمَضان"

(6)

، بدود لفظ الشهر. ومُحال أن يكون فعل ذلك

(1)

"الكتاب": (1/ 110).

(2)

كذا بالأصول، واستظهر محقق "النتائج" أنها:"مقترنة بما".

(3)

(ظ ود): "لعام واحد".

(4)

بعده في "النتائج": "أو عام تقدم له ذكر".

(5)

أخرجه البخاري رقم (1901)، ومسلم رقم (760) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(6)

أخرجه البخاري رقم (3103)، ومسلم رقم (1079) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

ص: 552

إيجازاً واختصاراً، لأن القرآن أبلغ إيجازًا وأبين إعجازاً، ومُحال أيضا أن يدع صلى الله عليه وسلم، لفظ القرآن مع تحرِّيه لألفاظه، وما عُلِم من عادته من الاقتداء به، فيدع ذلك لغير حكمة، بل لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعين.

وقد ارتبك الناسُ في هذا الباب فكرهَتْ طائفة أن يقولوا: "صمتُ رمضانَ"، بل "شهر رمضان"، واستهوى ذلك (ق / 130 أ) الكُتَّاب، واعتلَّ بعضهم في ذلك برواية مَنْحولةٍ إلى ابن عباس:"رمضانُ اسمٌ مِن أسماءِ الله"

(1)

، قالوا: ولذلك أضيف إليه الشهر، وبعضهم يقول: إن رمضان هن الرَّمْضاء، وهو الحر، وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول: إن هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن.

وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسائي لِعِلْمه وحِذْقه، فقال في "السنن"

(2)

: باب جواز أن يُقال: دخل رمضان أو صمت رمضان، وكذلك فعل البخاري

(3)

، وأوردَ الحديثَ المتقدم:"مَنْ صَامَ رَمَضانَ".

وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة، فقد تقدَّم أن

(1)

أخرجه ابن عدي في "الكامل": (7/ 53)، والبيهقي في "الكبرى":(4/ 201) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وضعّفه ابن عدي بأبي مَعشر الراوي عن أبي هريرة، قال الحافظ في "الفتح":(4/ 135): "وقد رُوي عن أبي معشر عن محمد بن كعب وهو أشبه، وروي عن مجاهد والحسن من طريقين ضعيفين" اهـ. ورجح أبو حاتم في "العلل": (1/ 249) أنه من قول أبي هريرة، ولم أجده من رواية ابن عباس.

(2)

(4/ 130) وفيه: "الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان".

(3)

مع "الفتح": (4/ 135) وبوَّب: "باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعًا".

ص: 553

الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعَها، ولا يكون ظرفا مقدرًا بـ "في" حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم، الذي أصله أن يكون ظرفا، وأما الاسم العلم فلا أصل له في الظرفية.

وإذا ثبت هذا؛ فقوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فيه

(1)

فائدتان أو أكثر:

أحدهما: أنه لو قال: "رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، لاقتضي اللفظ وقوع الإنزال على جميعِهِ، كما تقدَّم من قول سيبويه، وهذا خلاف المعنى؛ لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها، فكيف يتناول جميع الشهر؟، فكان ذكر الشهر

(2)

الذي هو غير عَلَم موافقا للمعنى، كما تقول:"سِرت في شهر كذا"، فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر.

والفائدة الأخرى: أنه لو قال {رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، لكان حكم المدح والتعظيم مقصورًا على شهرٍ بعينه؛ إذ قد تقدَّم أن هذا الاسم وما هو مثله إذا لم تقترن به قرينة تدلُّ على توالي الأعلام التي هو فيها، لم يكن محمله إلا العام الذي أنت فيه، أو العام المذكور قبلَه. فكان ذكْر الشهر -الذي هو الهلال في الحقيقة- كما قال الشاعر

(3)

:

* والشَّهْر مِثلُ قُلامَةِ الظُّفْرِ *

(1)

سقطت من (ق).

(2)

"فكان ذكر الشهر" سقطت من (ق).

(3)

ذكره الخطابي في "غريب الحديث": (1/ 130) بلا نسبة، وصدره:

* ابدأْن مِن نَجْدِ عَلَى ثقةٍ *

ص: 554

يريد: الهلال، مقتضيًا لتعليق الحكم الذي هو (ظ/99 أ) التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الاسم، متى كان في أيِّ عام كان، مع أن رمضان وما كان مثله لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن؛ لأنه لم يرد لعام بعينه؛ ألا ترى أن الآية في سورة البقرة وهي من آخر ما نزل، وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين، ولو قلت:"رمضان حج فيه زيد"، تريد: فيما سلف، لقيل لك

(1)

: أيُّ رمضان كان؟ ولزمك أن تقول: "حجَّ في رمضان من الرمضانات"

(2)

، حتى تريد عاما بعينه كما سبق.

(ق / 130 ب) وفائدة ثالثة: في ذكر الشهر، وهو التبيين في الأيام المعدودات

(3)

، لأن الأيام تتبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تبين بلفظ "رمضان"، لأنه لفظ مأخوذ من مادة أخرى، وهو أيضًا عَلَم فلا ينبغي أن تبين به الأيام المعدودات، حتى يذكَر الشهر الذي هو في معناها ثم تُضَاف إليه.

وأما قوله [صلى الله عليه وسلم]: "من صام رمضان"، ففي حذف الشهر فائدة أيضا وهي تناول الصيام لجميع الشهر، فلو قال:"من صام أو قام شَهر رمضان" لصار ظرفًا مقدراً بـ "في"، ولم يتناول القيام والصيام جميعه، فرمضان في الحديث مفعول على السَّعَة مثل قوله:{قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2]؛ لأنه لو كان ظرفًا لم يحتج إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا (2)} .

(1)

(ق): "بعد ذلك".

(2)

لعل المقصود بـ "رمضان) -مجردًا عن لفظة: الشهر- السنة والعام، كما تطلق الجمعة ويراد بها الأسبوع.

(3)

سقطت من (ق).

ص: 555

فإن قيل: فينبغي إن يكون قوله: "من صام

(1)

رمضان" مقصورا على العام الذي هو فيه، لما لَقدَّم من قولكم: إنه إنما يكون معرفة عَلَمًا إذا أردته لعامك أو لعامٍ بعينه.

قيل: قوله: "مَنْ صَام رمضان"، على العموم؛ خطابٌ لكل قرن ولأهل كل عام، فصار بمنزلةِ قولك:"من صام كلَّ عام رمضان"، كما تقول:"إن جئتني كلَّ يوم سحرا أعطيتك"، فقد [اقترنت به]

(2)

قرينة تدل على التمادي وتنوب مَنَاب ذكر "كلِّ عام"؛ وقد اتضح الفرقُ بين الحديثين والآية. فإذا فهمت فَرْقَ ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تَعْدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بأسرها فما قدرتها حقَّ قدرها، والله المستعان على واجب شكرها. هذا نص كلام السُّهيلي بحروفه، ثمَّ قال:

"فصل

(3)

الفعل، يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظُه، كالمصدر والفاعل والمفعول به، أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو:"سرت سريعًا"، و"جاء: زيد ضاحكًا"؛ لأن الحالَ هي صاحبُ الحال في المعنى. وكذلك النعتُ والتوكيدُ والبدل؛ كلُّ واحد من هذه هو الاسم الأول في المعني، فلم يعمل الفعلُ إلا فيما دلَّ عليه لفظه؛ لأنك إذا قلت: "ضرَب" اقتضى هذا اللفظ "ضربًا" و"ضاربًا" و"مضروبًا"، وأقوى دلالته على المصدر؛ لأنه هو الفعل في المعنى،

(1)

بالأصول: "قام"، والمثبت من "النتائج" بدليل ما بعده.

(2)

معرفة في الأصول، والإصلاح من "النتائج".

(3)

"نتائج الفكر": (ص/ 387).

ص: 556

ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن تريد التوكيد أو تبيين النوع منه، وإلا فلفظ الفعل مُغْنٍ عنه، ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين:

أحدهما: أنه يدلُّ على الفاعل بعمومه وخصوصه، نحو:"فَعَل زيد"، و"عَمِل عَمْرو". وأما الخصوص فنحو:"ضربَ زيد عَمْرًا"، ولا تقول:"فعل زيد عَمْرا"، إلا أن يكون الله هو الفاعل سبحانه.

والوجه (ق / 131 أ) الآخر: أن الفعل هو حركة الفاعل، والحركة لا تقوم بنفسها، وإنما هي متصلة بمحلها، فوجبَ أن يكون الفعلُ متصلا بفاعله لا بمفعوله، ومن ثمَّ [قالوا "ضربت"، فجعلوا ضمير الفاعِل كبعض حروف الفعل، ومن ثم]

(1)

قالوا: "ضرْب زيد لعمرو"، و"ضرْب زيدٍ عَمْرًا"، فأضافوه إلى المفعول باللام تارة وبغير لام أخرى، ولم يضيفوه إلى الفاعل باللام أصلا؛ لأن اللام تؤذن بالانفصال (ظ/99 ب)، ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظًا، كما لا ينفصل عنه معنى".

قلت

(2)

: وفي صِحَّة قوله: "ضرْب زيد لعَمْرو" نظر، والمعروف الإتيان بهذه اللام إذا ضَعُف الفعل بالتأخير، نحو قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} [يوسف: 43] أو كان اسمًا نحو: "أنا ضارب لزيد"، أو:"يعجبني ضربُك لزيد"، لضعف العامل

(3)

في هذه المواضع دُعِّم باللام، ولا يكادون يقولون:"شربت للماء"،

(1)

ما بين المعكوفين ساقط من الأصول، والاستدراك من "النتائج".

(2)

الكلام لابن القيم رحمه الله.

(3)

(ق): "لضعفت العوامل".

ص: 557

و"أكلت للخبز"

(1)

.

قال: "فإن قيل: فإن الفعل لا يدل على الفاعل معينًا، ولا على المفعول معينا، وإنما يدل عليهما مطلقًا؛ لأنك إذا قلت: "ضرب" لم يدل على "زيد" بعينه، وإنما يدل على "ضارب"، وكذلك "المضروب". وكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول: "ضرَبَ ضاربٌ مضروبًا"، بهذا اللفظ، لأن لفظ "زيد" لا يدل عليه لفظ الفعل ولا يقتضيه.

قيل: الأمر كما ذكرت، ولكن لا فائدةَ عند المخاطب في الضارب المطلق، ولا في المفعول المطلق؛ لأن لفظ الفعل قد تضمنهما، فوضعَ الاسم المعين مكان الاسم المطلق تبيينا له، فعَملَ فيه الفعل، لأنه هو هو

(2)

في المعنى، وليس بغيره".

قلت

(3)

: الواضع لم يضع هذه الألفاظ في أصل الخطاب مقتضية فاعلا مطلقا ومفعولا مطلقًا، وإنما جاء اقتضاءُ المطلقِ من العقل لا من الوَضْع، والواضع إنما وضعها مقتضيات لمعيَّن من فاعل ومفعول طالبة له، فما لم يقترن بها المعيَّن كان اقتضاؤها وطلبها بحاله؛ لأن الإخبار والطلب إنما يقعان على المعيَّنِ.

فإن قيل: فلو كانت قد وُضِعت مقتضيةً لمعيَّن لم يصح إضافتها إلى غيره، فلما صحَّ نسبتها وإضافتها إلى كلِّ معيَّن عُلِم أنها وضعت مقتضية للمطلق.

قيل: الفرقُ بين المعيَّن على سبيل البدل، والمعيَّن على سبيل

(1)

(ق): "الماء

الخبز".

(2)

"هو" الثانية ليست في (ظ ود).

(3)

الكلام لابن القيم رحمه الله.

ص: 558

التعيين بحيث لا يقوم غيره مقامه. والسؤال إنما يلزم أَنْ لو قيل: إنها مقتضية للثاني. أما إذا كانت مقتضية لمعيَّن من المعيَّنات على سبيل البدل لم يلزم ذلك السؤال، والله أعلم.

قال: "وإذا ثبت ما قلناه، فما عدا هذه الأشياء فلا يصل إليه الفعل (ق/ 131 ب) إلا بواسطة حرف، نحو: "المفعول معه" و"الظرف المكاني"، نحو: "قمت في الدار"؛ لأنه لا يدلُّ عليه بلفظه، وأما ظرف

(1)

الزمان، فكذلك أيضا؛ لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه ولا بِبِنْيته، وإنما يدلُّ بِبِنْيته على اختلاف أنواع الحَدَث، وبلفظه على الحدث

(2)

نفسه، وهكذا قال سيبويه في أول "الكتاب"

(3)

، وإن تسامحَ في موضعٍ آخر

(4)

.

وأما الزمان؛ فهو حركة الفلك، فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الاتفاق والمصاحبة، إلا أنهم قالوا:"فعلت اليوم"؛ لأن اليومَ ونحوه أسماء وُضعتْ للزمان يَتَورخَّ بها الفعل الواقع فيها، فإذا سمعها المخاطب علم المراد بها، واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار. فإن أَضْمَرتها لم يكفِ لفظ الإضمار، ولا أَغْنى عن الحرف، لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره، فقلت: يومَ الجمعة خرجت فيه، وقد تقول: خرجت في يوم الجمعة، لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتأريخ فقد يُخْبر عنها

(5)

، كما يُخْبر عن

(1)

(ظ ود): "لفظ".

(2)

(ق): "الحديث" في الموضعين.

(3)

(1/ 2).

(4)

(1/ 15)، كما تقدمت الإشارة إليه في أول هذا الكتاب.

(5)

بعده في "النتائج": "فتقول: ذهب اليوم".

ص: 559

المكان، إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى؛ لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعَمرو، وظروف الزمان بخلاف ذلك، فمن ثَمَّ قالوا:"سرت اليوم" و"سرت في اليوم"، ولم يقولوا:"جلستُ الدارَ"

(1)

فصل

(2)

فإن كان الظرف مشتقا من فعل، (ظ/ 100 أ) تعدَّى إليه الفعل

(3)

بنفسه؛ لأنه في معنى الصفة لا تتمكن ولا يُخْبر عنها، وذلك: كـ "قبل" و"بعدُ" و"قريبا منك"؛ لأن في "قَبْل" معنى المقابلة، وهي من لفظ "قَبَل"، و"بَعْدُ" من لفظ "بَعُدَ"، وهذا المعنى هو من صفة المصدر؛ لأنك إذا قلت:"جلست قبل جلوس زيد"، فما

(4)

في "قبل" من معنى المقابلة فهو في

(5)

صفة جلوسك، ولم يمتنع الإخبار عن "قبل" و"بعد" من حيث كان غير محدود، لأن الزمان والدهر قد يُخْبر عنهما وهما غير محدودين. تقول:"قمت في الدهر مرةً"، وإنما امتنع:"قمتُ في قبلك"، للعلة التي ذكرناها.

ومن هذا النحو ما تقدم في فصل "غدْوة" و"عَشيَّة" من امتناع تلك الأسماء من التمكن، لما فيها من معنى الوصف

(6)

، نحو:"خرجت بَصَرًا وظلامًا" و"عشية وضحى"، وإن كنا قد قدَّمنا أن هذه

(1)

"جلست الدار" ليست في (ظ ود). وبعدها في "النتائج": "بغير حرف الوعاء".

(2)

"نتائج الفكر": (ص/ 389).

(3)

(ق): "المفعول ".

(4)

(ق): "فما كان".

(5)

كذا في الأصول، وأصلحها محقق "النتائج" إلى:"من".

(6)

بعدها في "النتائج": "وما فيها من معنى الوصف راجع إلى الاسم الذي هو: الفاعل". وانظر ما تقدم (2/ 549).

ص: 560

المعاني أوصاف للأوقات، فليس بمناقض لما قلناه آنفا؛ لأن الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجارا، وأما في الحقيقة فالأوقات هي الفَلَك، والحركة لا توصف بصفة معنوية؛ لأن العَرَض لا يكون حاملا لوصف.

ومن هذا الفصل

(1)

: "خرجت ذات يوم" و"ذات مرة"؛ لأن "ذات"(ق/132 أ) في أصل وضعها وصف للخرجة ونحوها، كأنك قلت:"خرجت خرجةً ذات يوم"، أي: لم يكن إلا في يوم واحد، فمن ثَمَ لم يجز فيها إلا النصب، ولم يَجُز دخول الجار عليها، وكذلك:"ذا صباح" و"ذا مساء" في غير لغة خَثْعَم.

فإن قيل: فلِمَ أعربها النحويون ظرفا إذا كانت في الأصل مصدرًا؟.

قيل: لأنك إذا قلت: "ذات يوم"، عُلِم أنك تريد يومًا واحدًا، وقد اخْتُزِل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات، فمن ثَمَّ أعربوه ظرفا، وسر المسألة

(2)

في اللغة ما تقدم.

وأما "مرة" فإن أردت بها فَعْلَة واحدة من مرور الزمان؛ فهي ظرف زمان، وإن أردت بها فَعْلة واحدة من

(3)

المصدر، مثل قولك:"لقيته مرة"، أي: لَقْيَة، فهي مصدر، وعبَّرتَ عنها بالمرة، لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررتَ به ولم تُقِم عنده، فإذا جعلتَ المرة ظرفًا، فاللفظ حقيقة؛ لأنها من مرور الزمان، وإذا جعلتها مصدرًا فاللفظ مجاز إلا أن تقول: مررت مرة، فيكون حينئذ حقيقة.

(1)

(ق): "الوصف ".

(2)

(ظ ود والنتائج): "وسرُّه في اللغة".

(3)

"نتائج الفكر": (ص/ 391).

ص: 561

فصل

(1)

ومن هذا القبيل: جلستُ خلفك وأمامك، وفوقُ وتحت، [وإزاءَ وتِلْقاء وحِذَاء، وكذلك: قربك وعندك؛ لأن]

(2)

عندك في معنى القرب، لأَنها من لفظ "العَنَد"، قال الواجز

(3)

:

وكلُّ شيءٍ قد يحبُّ ولَدَه

حتَّى الحُبَارَى فتطير عَنَدَه

أي: إلى جنبه، وهذه الألفاظ غير خافٍ أنها مأخوذة في لفظ الفعل، فخلف من "خَلَفت"، وقُدَّام من "تقدمت"، وفَوْق من "فُقْت"، وأمام من "أَمَمْتُ"، أي: قصدت، وكذلك سائرها، إلا أنهم: لم يستعملوا فعلاً من "تَحت"، ولكنها مصدر في الأصل أُمِيْت فعلُه.

وإذا كان الأمر فيها كلها كذلك، فقد صارت كـ "قبلُ" و"بَعْدُ" في الزمان، [وكعشيٍّ] وقريب، وصار فيها كلِّها معنى الوصف، فلذلك عَمِل الفعلُ فيها بنفسه، كما يعمل فيما هو وَصْف للمصدر أو وصف للفاعل أو المفعول به؛ لأن الوصف هو الموصوف في المعنى، فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أو ما هو في معناها؛ لأنها لا تدل بلفظها إلا عليها، كما تقدم، فقد بان لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها، ولا دخول الجار عليها من جهة الإبهام كما قالوه؛ لأنه لا فرقَ بينها وبين غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها؛ إذ (ظ/100 ب) لا يدل الفعل بلفظه على مُبْهَمِها ولا على محدودها ولا على حركة فَلَك،

(1)

من قوله: "مرور الزمان

" إلي هنا ساقط من (د).

(2)

ما بين المعكوفين من "النتائج".

(3)

انظر: "غريب الحديث": (1/ 439) للخطابي، و "المستقصى":(2/ 227) و"اللسان": (3/ 308).

ص: 562

وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مُطْلَقًا وعلى المفعول (ق/ 132 ب) به كذلك.

فإنَّ قيل: فأين لفظ الفعل في "مِيْل" و"فَرْسخ"؛ وأي معنى للوصف فيه، والفعل قد تعدَّى إليه بغير حرف وعمل فيه بلا واسطة؟.

قيل: المراد بالمِيْل والفرسخ تبيين مقدار المشي، لا تبيين مقدار الأرض، فصار المِيْل عبارةً عن عِدة خطًا، فكأنك قلت:"سِرْت خُطًا عِدَّتها كيت وكيت"، فلم يتعدَّ الفعلُ في الحقيقة إلا إلى المصدر المقدَّر بعدد معلوم، كقولك

(1)

: "ضربت ألف ضربة" و"مشيت ألف خطوة"، ألا ترى أن المِيْل عبارة عن ثلاثة آلاف وخمس مئة خطوة، والفرسخ أَضْعاف ذلك ثلاث مرات، فلم ينكسر ما أصَّلْناه من أن الفعل لا يتعدَّى إلا إلى ما ذكرنا، وإنما سموا هذا المقدار من الخُطَى والأذْرُع "مِيْلاً"؛ لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث

(2)

كل فرسخ نصبًا كهيئة المِيل الذي يُكْتَحل به، إلا أنه كبير، ثم يكتبون في رأسه عددَ ما مَشَوه ومقدارَ ما تخطَّوه.

وذكرَ قاسم بن ثابت

(3)

أن هشام بن عبد الملك مرَّ في بعض أسفاره بميل، فأمر أعرابيًا أن ينظر في المِيْل كم فيه مكتوبًا، وكان الأعرابي أُميًّا، فنظر فيه ثم رجع إليه

(4)

، فقال: "فيه مِحْجن، وحَلْقة، وثلاثة

(1)

(ق): "كأنك قلت".

(2)

سقطت من (ق ود).

(3)

هوة قاسم بن ثابت بن حزم السَّرَفسطي أبو محمد، من العلماء بالفقه والحديث واللغة، صاحب "الدلائل" في الغريب، توفي شابًا سنة (302)، انظر:"الديباج المذهب": (ص/ 223)، و"السير":(14/ 563).

(4)

(ق): "نظر إليه".

ص: 563

كأطباء

(1)

الكَلْبة، وهامة كهامة القَطَا"، فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال.

فقد وضح لك أن الأميال مقادير المشي، وهو مصدر، فمن ثَمَّ عمل فيها الفعل، ومن ثَمَّ عمل في المكان، نحو:"جلست مكان زيد"، لأنه مَفْعل من الكَون، فهو في أصل وضعه مصدر عبِّر به عن الموضع، والموضع أيضًا من لفظ الوضع، فلا يعمل الفعل في شيءٍ من هذا القبيل بغير حرف.

والذي قلناه في مكان، أنه من الكَون هو قول الخليل في "كتاب العين"

(2)

إلا أنهم شبهوا "الميم" بالحرف الأصلي للزومها، فقالوا: في الجمع: "أمكنة"، حتى كأنه على وزن "فَعَال"، وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة، شبَّهوا الزائد بالأصلي، نحو:"تمدرع" و"تمسكن".

وأما: "جلست يمينك وشمالك"، فليس من هذا الفصل، ولكنه مما حُذِفَ منه الجار لعلم السامع، أرادوا:"عن يمينك وعن شمالك"، أي: الناحيتين

(3)

، ثم حُذِف الجار فتعدَّى الفعل فنَصَب، فهو من باب:"أمرتك الخيرَ"، وإنما حُذِف الحرف لما تضمنه الفعل من معنى الناصب؛ لأنك إذا قلت:"جلست عن يمينك"، فمعنى الكلام: قابلت يمينك وحاذيته، ونحو ذلك.

فصل

(4)

ومن هذا الباب تعدِّي الفعل إلى الحال بنفسه، ونعني بالحال

(1)

الطُّبْي: حلمات الضرع، وجمعه: أَطْباء. "القاموس": (ص/1684).

(2)

(5/ 410).

(3)

"النتائج": "الجارحتين".

(4)

"نتائج الفكر": (ص/ 394).

ص: 564

صفة الفاعل التي فيها ضميره، أو صفة المفعول، أو صفة (ق/133 أ) المصدر الذي عَمِل فيها؛ لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف؛ وذلك نحو:"سرتُ سريعًا" و"جاء ضاحكًا"، و"ضربته قائمًا"، فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالاً؛ لأن الحال غير الاسم الذي يدل عليه الفعل؛ ألا تري أنك إن صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف، نحو:"جاء زيد في حال ضَحِك"، ولا تقول:"جاء زيد حالَ ضحك"؛ لأن الحال غير "زيد"، ولذلك لا تقول:"جاء زيد ضَحِكًا"؛ لأنه غيره، وغير المجيء، فلا يعمل "جاء" فيه إلا بواسطة؛ فإذا قلت:"ضاحكًا" عمل فيه؛ لأن الضاحك هو (ظ/ 101 أ) زيد. وإذا قلت: "جاء مشيًا"، عمل فيه أيضًا، لا من حيث كان صفة لزيد؛ لأنه لا ضمير فيه يعود على "زيد"، ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو "المجيء"، فعمل فيه "جاء" كما يعمل في المصدر.

وأما عمله في المفعول من أجله، فإنه لم يعمل فيه بلفظه عندي؛ ولكنه دلَّ على فعل باطن من أفعال النفس والقلب

(1)

، أثارَ هذا الفعل الظاهر، وصار ذلك الفعل الباطن عاملاً في المصدر الذي هو المفعول من أجله في الحقيقة، والفعل الظاهر دالٌّ عليه، ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوبًا إلا بثلاثة شرائط:

* أن يكون مصدرًا.

* وأن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة.

(1)

تحرفت في (ظ ود): "ولا قلت".

ص: 565

* وأن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره.

لْحو: "جاء زيد خوفًا منك ورغبةً"، ولو قلت:"جاء قراءةً للعلم" و"قتلاً للكافر"؛ لم يجز؛ لأنها أفعال ظاهرة، فقد بانَ لكَ أن المجيءَ إنما يُظْهِر ما كان باطنًا خفيًّا، حتى كأنك قلت: جاء زيدٌ مُظْهرًا بمجيئه الخوف أو الرغبة أو الحرص أو أشباه ذلك، فهذه الأفعال الظاهرة تبدي تلك الأفعال الباطنة، فهي مفعولات في المعنى والظاهرة دالة على ما تتضمنها

(1)

، فإنَّ جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي ذكرناه، لم يصل الفعل إليه إلا بحرف، نحو:"جئت لكذا" أو "من أجل كذا"، والله أعلم.

قلت

(2)

: ما أدري أيُّ ضرورة به إلي هذا التعسُّفْ والتكلُّف الظاهر الذي لا يصح لفظًا ولا معنى!! أما اللفظ فإن هذا لو كان معمولاً لعامل مُقدَّر، وهو قولك: يظهر الخوف والمحبة، ونحوه لتلفظوا به ولو مرَّة في كلامهم، فإنه لا دليل عليه من سِياق ولا قرينة، ولا هو مقتضى الكلام فيصح إضماره، فدعوى إضماره ممتنعة.

وأما فساده من جهة المعنى فمن وجوه عديدة:

منها: أَن المتكلِّم لا يخطُر (ق/133 ب) بباله هذا المعنى بحال، فلا يخطر ببال القائل:"زُرْتك محبة لك": زرتك مُظْهِرًا لمحبتك، ولا بقوله:"تركت هذا خوفًا من الله": تركته مُظْهِرًا خوفي من الله، وهذا أظهر مِن أن يُحْتاج إلى تقديره.

الثاني: أنه إذا كان التقدير ما ذكر خرَجَ الكلام عن حقيقته ومقصوده؛

(1)

"النتائج": "تنصبها".

(2)

التعليق لابن القيم رحمه الله.

ص: 566

إذ لا يبقى فيه دليل على أنه هو علة الفعل الباعثة عليه، فإنه إذا قال:"خرجتُ مُظْهِرًا ابتغاء مرضات الله" مثلًا، لم يدل ذلك على أن الباعثَ له على الخروج ابتغاء مرضات الله؛ لأن قوله: "مظهرًا

(1)

كذا" حال، أي: خرجتُ في هذه الحال، فأين مسألة الحال من مسألة المفعول لأجله

(2)

؟!.

الثالث: أن المفعول له هو علة الفعل، وهي إِمَّا علة فاعلية أو غائية، وكلاهما ينتصب على المفعولية، تقول: "فعلت ذلك خَوْفًا، وقعدت

(3)

عن الحرب جُنبًا، وأمسكَ عن الإنفاق شُحًّا"، فهذه أسبابٌ حاملة على الفعل والترك لا أنها

(4)

هي الغايات المقصودة منه، وتقول:"ضربته تأديبًا، وزرته إكرامًا، وحبسته صِيَانة"، فهذه غايات مطلوبة من الفعل. إذا ثبت هذا؛ فالمعلِّل إذا ذكر الفعل طلب المخاطَب منه الباعث عليه لما في النفوس من طلب الأسباب والغايات في الأفعال الاختيارية شاهداً وغائبًا، فإذا ذكر الباعث أو الغاية، وهو المراد من الفعل كان مخبرًا بأن هذا هو مقصوده وغايته، والباعث له على الفعل، فكان اقتضاء الفعل اللفظي له كاقتضاء الفعل الذي هو حَدَث له، فصحَّ نصبُه له

(5)

كما كان واقعًا لأجله، وهذا بحمد (ظ/101 ب) الله واضح، فتأمله

(6)

.

(1)

من قوله: "مثلاً لم

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

(2): "من أجله".

(3)

(ق): "فعلت ذاك خوفًا وقعد

".

(4)

(ق): "لأنها".

(5)

ليست في (ق).

(6)

من (ق).

ص: 567

فصل

قال

(1)

: "إذا كانت الحال صفةً لازمةً للاسم، كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها، وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل صلح

(2)

أن تكون حالاً، لأنها مشتقة من التحول، فلا تكون إلا صفة يتحول عنها، ولذلك

(3)

لا تكون إلا مشتقة من فعل؛ لأن الفعل حركة غير ثابتة، وقد تجيء غير مشتقة، لكن في معنى المشتق، كقوله صلى الله عليه وسلم:"وأحيانًا يَتَمَثَّلُ لي الملَكُ رَجُلاً"

(4)

، أي: يتحوَّل عن حاله ويعود متصورًا في صورة الرجل، فقوله:"رجلاً" في قوة: "متصوراً بهذه الصورة"، وأما قولهم:"جاءني زيد رجلاً صالحًا"، فالصفة وطَّأت الاسم للحال، ولولا "صالحًا" ما كان "رجل" حالاً، وكذلك قوله تعالى:{لِسَانًا عَرَبِيًّا} " [الأحقاف: 12].

قلت

(5)

: وعلى هذا فيكون أقسام الحال أربعة: (ق/ 134 أ)، مقيدة، ومقدَّرة، ومؤكَدة وموطِّئة.

"فإنَّ قيل: وما فائدة ذكر الاسم الجامد في الموطئة؟ وهلا اكتُفي بالمشتق فيها؟.

قيل: في ذكر الاسم موصوفًا بالصفة في هذا الموطن، دليل على لزوم هذه الحال لصاحبها، وأنها مستمرة له، وليس كقولك: "جاءني

(1)

أي السهيلي في "نتائج الفكر": (ص/396).

(2)

(ظ ود): "صح".

(3)

(النتائج): "وكذلك".

(4)

قطعة من حديث صفة الوحي، أخرجه البخاري رقم (2)، ومسلم رقم (6) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

التعليق لابن القيم ثم يعود الكلام للسُّهيلي.

ص: 568

زيد صالحًا"، لأن "صالحًا" ليس فيه غير لفظ الفعل، والفعلُ غير دائم. وفي قولك: "رجلاً صالحًا"، لفظ "رجل" وهو دائم، فلذلك ذُكِر.

فإنَّ قيل: كيف يصح في: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} أن يكون حالاً وليست وصفا منتقلاً، ولهدا لو قلت:"جاءني زيدُ قرشيًّا أو عربيًّا"، لم يَجُز؟.

قيل: قوله: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من الضمير في {مُصَدِّقٌ} لا من {كِتَابٌ} ، لأنه نكرة والعامل في الحال ما في {مُصَدِّقٌ} من معنى الفعل، فصار المعنى أنه مصدق لك في هذه الحال، والاسم -الذي هو صاحب الحال- قديم، وقد كان غير موصوفٍ بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى ومن خلا من الرسل، وإنما كان عربيًّا حين أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا له ولما بين يديه من الكتاب، فقد أوضحت فيه معنى الحال، وبَرِحَ الإشكال.

قلت

(1)

: كلا، بل زدت الإشكال إشكالاً! وليس معنى الآية ما ذهبت إليه! وإنما:{لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من "كتاب"، وصحَّ انتصاب الحال عنه مع كونه نكرة لكونه قد وُصِف، والنكرة إذا وُصِفت انتصب عنها الحال لتخصصها بالصفة، كما يصح أن يُبْتدأ بها.

وأما قوله: "إن المعنى مصدق لك"، فلا ريبَ أنه مصدق له، ولكن المراد من الآية: أنه مصدق لما تقدَّم من كتب الله -تعالى- كما قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48]، وقال:{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 1 - 3]، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ

(1)

التعليق الطويل لابن القيم رحمه الله وفيه الرد على السُّهيلي إذ اختار قول الكلَّابية.

ص: 569

مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، [أفلا ترى كيف اطَّردَ فى القرآن وصف الكتاب بأنه مصدِّق لما بين يديه]

(1)

، وباتفاق الناس أن المراد: مصدِّق لما تقَدَّمه من الكتب، وبهذه الطريق يكون مصدِّقًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون أبلغ فى الدليل على صِدْقه من أن يقال: هذا كتاب مصدِّق لك، فإنه إذا طابق الكتبَ المتقدمة وصدَّقها وشَهِد بصحَّة ما فيها مما أنزله الله من غير مواطأةٍ ولا اقتباس منها، دلَّ على أن الذي جاء به رسولٌ

(2)

(ظ/102 أ) صادقٌ، كما أن الذي جاء بها كذلك، وأن مَخْرَجَها من مشكاة واحدة.

ولهدا قال النَّجاشي حين قُرِئ عليه القرآن: "إنَّ هذا والذي جاءَ به موسى يخرجُ من مِشكَاةٍ واحدة"

(3)

، يعني: فإذا كان موسى صادقًا وكتابه حق فهذا كذلك؛ إذ من المحال أن يخرج شيئان من مشكاة واحدةٍ ويكون (ق/134 ب) أحدهما

(4)

باطلًا محضًا والآخر حقًّا محضًا، فإن هذا لا يكون إلا مع غاية التباين والتنافر. فالقرآن صدَّقَ الكتبَ المتقدمة، وهي بشَرت به وبمن جاءَ به، فقام الدليلُ على صدقه من الوجهين معًا، من جهة بشارة من تقدَّمه به، ومن جهة تصديقه لما تقدمه ومطابقته له، فتأمله.

ولهذا كثيراً ما يتكرر هذا المعنى فى القرآن؛ إذ فى ضمنه الاحتجاج على أهل الكتابَيْن بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الطريق،

(1)

ما بينهما ساقط من (ق)، وبعده في (ظ ود):"قال" والصواب حذفها.

(2)

(ظ ود): "رسول الله".

(3)

أخرجه أحمد في "المسند": (1/ 201 - 203) في حديث طويل وسنده قوي، وصححه أحمد شاكر في "شرح المسند":(3/ 180).

(4)

سقطت من (ق).

ص: 570

وهي حُجَّة -أيضًا- على غيرهم بطريق اللزوم؛ لأنه إذا جاء بمثل ما جاؤوا به من غير أن يتعلَّم منهم حرفًا واحدًا دلَّ على أنه من عند الله، وحتى لو أنكروا رسالةَ من تقدَّم لكان في مجيئه بمثل [ما] جاؤوا به

(1)

إثباتٌ لرسالته ورسالة من تقدمه، ودليل على صحة الكتابين وصدق الرسولين؛ لأن الثاني قد جاء بأمر لا يمكن أن يُنَال بالتعليم أصلاً ولا البعض منه، فجاءَ على يدي أمِّيٍّ لم يقرأ كتابًا ولا خطَّه بيمينه، ولا عاشرَ أحدًا من أهل الكتاب، بل نشأ بينكم وأنتم تشاهدون حاله حضرًا وسفرًا وظعنَا وإقامة، فهذا من أكبر الأدلَّة على أن ما جاء به ليس من عند البشر، ولا في قدرتهم. وهذا برهان بيِّن أبين من برهان الشمس، وقد تضمَّن ما جاءَ به تصديق من تقدَّمه، وتضمَّن ما تقدَّمَه البشارة به، فتطابقت حُجَج الله وبيِّناته على صدق أنبيائه ورسله، وانقطعت المعذرة وثبت الحقُ وقامت

(2)

الحُجَّة، فلم يبق لكافرٍ إلا العناد المحض أو الإعراض والصَّدُّ.

وقوله: "إن الاسم الذي هو صاحب الحال قديم، وكان غير موصوف بهده الصفة حين أُنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود"، هذا بناء منه على الأصل الذي انفردت به الكُلَاّبية عن جميع طوائف أهل

(3)

الأرض، من أن معاني التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن

(4)

وسائر كتب الله معنى واحد، فالعين لا اختلافَ فيها ولا تعدُّد، وإنما تتعدد وتتكرَّر العبارات الدالة على ذلك المعنى الواحد،

(1)

من قوله: "من غير

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

"الحق وقامت" من (ق).

(3)

ليست في (ق).

(4)

(ق ود): "الفرقان".

ص: 571

فإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنًا وهو نفس التوراة، وإن عُبِّر عنه بالعِبْرية كان توراة وهو نفس القرآن، وإن عُبِّر عنه بالسِّريانية كان إنجيلًا، وهو -أيضًا- نفس القرآن ونفس التوراة، وكذلك سائر الكتب!!.

وهذا قول يقوم على بطلانه تسعون

(1)

برهانًا لا تندفع، ذَكَرها شيخُ الإسلام في "الأجوبة المصرية"

(2)

وكيف تكون معاني التوراة والإنجيل هي

(3)

نفس معاني القرآن، وأنت تجدها إذا عُرِّبت لا تدانيه ولا تقاربه فَضْلًا (ق/ 135 أ) عن أن تكون هي إياه، وكيف يقال: إن الله تعالى أَنزلَ هذا القرآنَ على داود وسليمان وعيسى بعينه بغير هذه العبارات؟! أم كيف يقال: إن معاني كتب الله تعالى كلها معنى واحد يختلف التعبير عنها دون المعنى المعبَّر عنه؟! وهل هذا إلا دعوى يشهد الحس ببطلانها! أم كيف يقال: إن التوراة إذا عُبِّر عنها بالعربية صارت قرآنًا، مع تميُّز القرآن عن سائر الكلام بمعانيه (ظ/ 102 ب) وألفاظه تميُّزًا ظاهرًا لا يرتاب فيه أحد. وبالجملة؛ فهذا الجواب منه بناء على ذلك الأصل.

والجواب الصحيح أن يقال: الحال المؤكِّدة لا يشترط فيها الاشتقاق والانتقال، بل التنقُّل مما ينافي مقصودها، فإنما أُتي بها لتأكيد

(1)

(ق): "سبعون".

(2)

لعل المقصود كتاب "التسعينية" الشيخ الإسلام، طبع ضمن "الفتاوي الكبري" ثم طبع في ثلاثة مجلدات، رسالة علمية. وإليه أشار ابن القيم في نونيته:

وكذاك تسعينية فيها له

ردٌّ على من قال بالنفساني

تسعونَ وجهًا بيَّنت بطلانَه

أعني كلامَ النفس ذا الوجدن

ولشيخ الإسلام كتاب آخر بعنوان: "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية" وهو كبير، انظر "الجامع لسيرة ابن تيمية":(ص/256، 294، 353).

(3)

(ظ ود): "على".

ص: 572

ما تقدمها وتقريره، فلا معنى لوصف الاشتقاق والانتقال

(1)

فيها أصلاً، وتسميتها "حالاً" تعبير نحوي اصطلاحي، وإلا فالعرب لم تقل: هذه حال، حتى يُقال: كيف سميتموها حالاً وهي وصف لازم، وإنما النحاة سموها: حالاً، فيالله العجب! أتكون تسميتهم الحادثة الاصطلاحية موجبة لاشتراط التنقل والاشتقاق!! فلو سمَّاها مسمٍّ بغير هذا الاسم، وقال: هذه نصب على القطع من المعرفة إذا جاءت بعد معرفة، أكان يلزمه هذا السؤال؟ فقد بانَ لكَ ضعف ما اعتمده من الجواب، وبالله التوفيق.

عاد كلامه، قال

(2)

: "وأما قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فقد حكموا أنها حال مؤكدة، ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل؛ لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى، وذلك نحو: "قم قائمًا"، و"أنا زيد معروفاً"، هذه هي الحال المؤكدة فى الحقيقة. وأما:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فليست بحال مؤكِّدة؛ لأنه قال: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق؛ إذ ليس من شرط الحق [أن يكون مصدقًا]

(3)

لفلان ولا مكذبًا له، بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقًا لغيره، ولكن {مُصَدِّقًا} هنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى:{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} جملة في معنى الحال أيضًا. والمعنى: كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال؛ أعني: مصدِّقًا لما معكم، كما تقول: "لا تشتم

(4)

زيدا وهو أمير محسنًا إليك"؛ فالجملة حال،

(1)

من قوله: "بل التنفُّل

" ساقط من (ظ ود).

(2)

"النتائج": (ص/ 397).

(3)

من "النتائج".

(4)

كذا في الأصول و"النتائج"، ولو قال:"أتشتم" لَوَافق المعنى في الآية والتمثيل بعدها.

ص: 573

و"محسنًا" حال بعدها، والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الخال على قولك:"محسنا" و (مصدقًا) أنك لو أخَّرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في "محسن" و (مصدق). (ق/135 ب) ألا ترى أنك لو قلت: "أتشتم زيدًا محسنًا إليك وهو أمير"، لدهب الوهم إلى أنك تريد: محسنًا إليك في هذه الحال، فلما قدَّمْتَها اتضح المراد وارتفع اللبس.

ووجه آخر يطَّرد في هذه الآية، وفي الأخرى التي في سورة فاطر:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] وهو أن يكون {مُصَدِّقًا} هاهنا حالاً يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها "الألف واللام"؛ لأن "الألف واللام" قد تُنبئ عما تنبئ عنه أسماء الإشارة، حكى سيبويه

(1)

: "لمن الدارُ مفتوحًا بابُها"، فقولك:"مفتوحًا بابها"

(2)

حال لا يعمل فيها الاستقرار الذي يتعلق به "لمن"؛ لأن ذلك خلاف المعنى المقصود، وتصحيح المعنى:"لمن هذه الدار مفتوحًا بابها"، فاستغنى بذكر "الألف واللام" وعلم المخاطب أنه مشير وتنبَّه المخاطب بالإشارة إلى النظر، وصار ذلك المعنى [المنبَّه]

(3)

عليه عاملاً في الحال.

وكذلك قوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] كأنه يقول: "هو ذلك الحق

(4)

مصدقًا"، لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة، فلما أشار: نبَّهت الإشارةُ على العامل في الحال، كما إذا

(1)

فى "الكتاب": (2/ 12 - 16).

(2)

"فقولك: مفتوحًا بابها" سقطت من (ق).

(3)

تحرفت فى الأصول، والمثبت من "النتائج"

(4)

العبارة في (ظ ود): "ذلك هو الحق"، و"ق ":"ذلك الحق هو"، والمثبت من "النتائج".

ص: 574

قلت: "هذا زيد قائمًا"، نبهت الإشارة

(1)

المخاطب على النظر، فكأنك قلت:"انظر إلى زيد قائمًا"، لأن الاسم الذي هو "ذا"[ليس]

(2)

هو العامل، ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال، وذلك المعنى (ظ/ 103 أ)، هو "انظر".

ومما أغنت فيه "الألف واللام" عن الإشارة قولهم: "اليومَ قمتُ"، و"الساعةَ جئت"، و"الليلةَ فعلتُ"، و"الآن قعدتُ"، اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة.

قلت

(3)

: ليس المراد بقول النحاة: "حال مؤكدة" ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع

(4)

. فالتأكيد المبوَّب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة، وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه، وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه، وهذا كقولهم:"زيد أبوك عطوفاً"، فإنه كونه عطوفاً ليس معنى كونه أباه، ولكن ذِكْر أبوته تشعر بما يلازمها من العَطْف، وكذلك قوله:{هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] فإنَّ ما لين يديه

(5)

حقٌ، والحق يلازمه تصديق بعضه بعضًا.

وقوله: "ليس من شرط الحق أن يكون مصدِّقًا لفلان"، يقال: ليس هذا بنظير لمسألتنا، بل الحقُّ يلزمه لزومًا لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضًا، فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقًا. فهذا

(1)

من قوله: "على العامل

" إلي هنا ساقط من (د).

(2)

زيادة ليستقيم السياق.

(3)

التعليق لابن القيم رحمه الله.

(4)

(ق): "الموانع".

(5)

"فإنَّ ما بين يديه" سقط من (ق).

ص: 575

(ق/136 أ) معنى قولهم: "إنها حال مؤكدة" فافهمه. والمعنى: أنه لا يكون إلا على هذه الصفة، وهي مقررة لمضمون الجملة، فإن كونه مصدقًا للحق المعلوم الثابت، مقرِّرٌ ومؤكِّدٌ ومبينٌ لكونه حقًا في نفسه.

وأما قوله: "إنها حال من المجرور في قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة:] والمعنى: يكفرون به مصدقًا لما معهم"، فهذا المعنى وإن كان صحيحًا لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى، وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن، فكيف يقول في قوله تعالى:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] والكلام والنظم واحد!!.

وأيضًا فالمعنى مع جَعْل

(1)

{مُصَدِّقًا} حالاً من قوله: {هُوَ الْحَقُّ} أبلغ وأكمل منه إذا جُعِل حالاً من المجرور، فإنه إذا جُعِل حالاً من المجرور يكون الإنكار قد توجَّه عليهم في كفرهم به، حالَ كونه مصدقًا لما معهم، وحالَ كونه حقًّا، فيكونان حالًا من المجرور، أي: يكفرون به في هذه الحال وهذه الحال، وإذا جعِل حالاً من مضمون قوله:{هُوَ الْحَقُّ} ، كان المعنى: يكفرون به حال كونه حقًّا مصدِّقًا لما معهم، فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به، وهو اجتماع كونه حقًا في نفسه وتصديقه لما معهم، فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح، وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل: يكفرون به حالَ كونه حقًا، وحالَ كونه مصدقًا لما معهم. فتأمله فإنه بديع جدًّا، فصحَّ قولُ النحاة والمفسرين في الآية، والله أعلم.

(1)

(ق): "جعل الحق".

ص: 576

فائدة

(1)

قولهم: "هذا بُسْرًا أطيبُ منه رُطَبًا"، فيها عشرة أسئلة.

أحدها: ما جِهة انتصابِ "بُسرًا ورُطبًا"، أعلى الحال أم على خبر كان؟.

الثاني: إذا كانا حالين، فما هو صاحبهما؟.

الثالث: ما العامل في الحالين، هل هو أفعل التفضيل، أم اسم الإشارة، أو غير ذلك؟.

الرابع: أنكم إذا جعلتم العاملَ أفعل التفضيل، لزمَ تقديم معمول أفعل التفضيل عليه، والاتفاق واقع على امتناع:"زيد منك أحسن"، وإذا لم يتقدم "منك" لم يتقدم الحال.

الخامس: متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين، ومتى لا يجوز، وما (ظ/103 ب) ضابط ذلك؟.

السادس: هل يجور التقديم والتأخير في الحالين جميعًا أم لا؟.

السابع: كيف تصورت الحال في غير المشتق؟.

الثامن: إلى أيِّ شيءِ وقعت الإشارة (ق/136 ب) بقولهم: "هذا

"؟.

(1)

في "نتائج الفكر" للسهيلي: (ص/399 - 405) سبعة أسئلة، وزاد المصنف هنا ثلاثة أسئلة وأرقامها (1، 4، 10) وزاد أجوبةَ السُّهَيلي -كعادته- تحريرًا وتكميلًا، ومن أجله قال ما قال في آخر هذه الأجوبة.

ثم نقلَ هذه الأسئلة العشرة مع اختصار أجوبتها، ونسْبتها لنفسه -الجلالُ السيوطي في "الأشباه والنظائر النحوية":(4/ 336 - 342)، وسمَّاها:"تحفة النجبا في قولهم: هذا بُسرًا أطيب منه رطبا".

ص: 577

التاسع: هلا قلتم: إن بسرًا ورطبًا منصوب على خبر "كان" وتخلَّصتم من هذا كلِّه؟.

العاشر: هل يُشترط في هذه المسألة أن يكون الاسمان المنصوبان اسمين لشيء واحد باعتبار صفتين، أو يجوز أن يقع بين شيئين مختلفين، نحو: هذا بُسرًا أطيبُ منه عِنَبًا؟.

* فالجواب عن هذه المسائل.

أما السؤال الأول: فجهة انتصابه على الحال

(1)

في أصحَّ القولين، وهو اختيار سيبويه ومحقِّقي أصحابِه، خلافًا لمن زعمَ أنه خبر "كان"، وسيأتي إبطاله فى جواب السؤال التاسع، وإنما جعله سيبويه حالاً؛ لأن المعنى عليه، فإن: المخبر إنما يفضله على نفسه باعتبار حالين

(2)

من أحواله، ولولا ذلك لما صح تفضيل الشيءِ على نفسِه، فالتفضيل إنما صحَّ باعتبار الحالين فيه، فكان جهة انتصابهما علي الحال لوجود شروط الحال، وسيأتي الكلام على شرط الاشتقاق، فلما كان هذا الباب لا يُذْكر إلا لتفضيل شيءٍ فى زمانٍ أو على حالٍ، على نفسه في زمان أو على خبرٍ على حال أخرى؛ وسائر وجوه النصب متعذرة فيه إلا الحال، أو كونه خبرًا "لكان"، وسيأتي بطلان الثاني = فيتعين أن يكون حالاً.

فإنَّ قلت: فهلا جعلته تمييزاً؟.

قلت: يأبى ذلك أنه ليس من قِسْميَ التمييز، فإنه ليس من المقادير المنتصبة عن تمام الاسم، ولا من التمييز المنتصب عن تمام الجملة،

(1)

"على الحال" سقطت من (ق).

(2)

(ق): "حالة".

ص: 578

فلا يصح أن يكون تمييزًا.

فصل

(1)

وأما السؤال الثاني: وهو ما هو صاحب الحال هاهنا، فجوابه أنه الاسم المضمر في "أُطْيب" الذي هو راجع إلى المبتدأ من خبره، "فبُسْرًا" حال من ذلك الضمير، و"رُطَبًا" حال من الضمير المجرور بمن، وإن

(2)

كان المجرور بمن هو المرفوع المستتر في "أَطْيب" من جهة المعنى، ولكنه ينزَّل منزلةَ الأجنبي، ألا ترى أنك لو قلتَ:"زيد قائمًا أخطب من عَمْرو قاعدًا"، لكان "قاعدًا" حال من الاسم المخفوض بمن -وهو عمرو- فكذلك "رطبًا" حال من الاسم المجرور بـ "من".

هذا قول جماعةٍ من البصريين، وقال أبو علي الفارسي: صاحب الحالين الضمير المستكِنّ في "كان" المقدَّرة التامة، وأصل المسألة: هذا إذا كان، أي وجد بسرًا أطيب منه إذا كان، أي وجد رطبًا، فبسرًا

(3)

ورطبًا حالان من الضمير المستكِنّ في "كان".

وهذان القولان مبنيان على المسألة الثالثة: وهو ما هو العامل في هذه الحال؟ وفيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه ما في "أطيب" من معنى الفعل؛ لأنك تريد أن طيبه في حال البُسْرية يزيد على طِيْبه في حال الرُّطبية، فالطيب أمر واقع في هذه الحال.

(1)

"فصل" في جميع الأسئلة العشرة ليس في (د).

(2)

(ق): "وإذا".

(3)

(ق): "بُسرًا ورُطبًا".

ص: 579

والقول الثاني: أن العامل فيها "كان" التامَّة المقدَّرة، وهذا اختيار أبي علي.

والقول الثالث: (ق/137 أ) أن العاملَ فيها ما في اسم الإشارة من [معنى]

(1)

الفعل، أي: أُشير إليه بُسْرًا.

والقول الرابع: أنه ما في حرف التنبيه من معنى الفعل.

والمختار القول الأول: أن العامل فيها ما في "أطيب" من معني الفعل

(2)

، وإنما اخترناه لوجوه:

أحدها: أنهم متفقون

(3)

على جواز: "زيد قائمًا أحسن منه راكبًا"، و"ثمرة نخلتي (ظ/ 104 أ) بُسرًا أطيب منها رُطَبًا"، والمعنى في هذا كالمعنى في الأول سواء، وهو تفضيل الشيءِ على نفسه باعتبار حالين، فانتفى اسم الإشارة وحرف التنبيه، ودار الأمر بين القولين الباقين: أن يكون العامل "كان" مقدَّرة أو "أطيب"، والقول بإضمار "كان" ضعيفٌ، فإنها لا تُضْمَر إلا حيث كان في الكلام دليل عليها، نحو قولهم:"إنْ خيرًا فخيبر"، وبابه؛ لأن الكلام هناك لا يتم إلا بإضمارها بخلاف هذا. وأيضًا فإن "كان" الزمانية ليس المقصود منها الحدث، وإنما هي عبارة عن الزمانِ، والزمانُ لا يُضْمَر، وإنما يُضْمَر الحدَث إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وليس في الكلام ما يدلُّ على الزمانٍ الذي يقيَّد به الحَدَث، إلا أن يلفظ به، فإن لم يلفظ به لم يُعْقل.

(1)

من "النتائج" و"الأشباه والنظائر".

(2)

من "أن العامل

" إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

(ق): "يقولون"!.

ص: 580

فإن قلت: فمن هاهنا قالوا: إن "كان" هاهنا تامة غير ناقصة، بل قد خلعوا منها الدلالة على الزمان، وجرَّدوها لنفس الحَدَث.

قلت: هذا كلام من لم يحصِّل معنى "كان" التامة والناقصة كما ينبغي، فإن كان الناقصة والتامة يرجعانِ إلى أصل واحد، ولا يجوز إضمار واحد منهما، وكشف ذلك يطُوْل، لكن نشير إلى بعضه، وهو: أن القائل إذا قال: "كان برد وكان مطر"، فهو بمنزلةِ:"وَقَع وحَدَث" وغيرهما من الأفعال اللازمة والزمان [جزء]

(1)

مدلول الفعل، فلا يجوز أن يخلعه ويجرّد عنه وإنما الذي خلِع من "كان" التامة اقتضاؤها خبرًا يُقارن زمانَها، وبقيت تقتضيه مرفوعًا يقارن زمانها كما كان يقارنه الخبر فلا فرقَ بينهما أصلاً، فإن الزمان الذي كان الخبر يقترن به هو بعينه الزمان الذي اقترن به مرفوعها، وينزل مرفوعها في تمامها به منزلةَ خيرها إذا كانت ناقصة، فتأمل هذا السر الذي أغفله كثيرٌ من النحاة!.

ويُبْطل هذا المذهب أيضًا شيءٌ آخر، وهو: كثرة الإضمار، فإن القائل به يضمر ثلاثة أشياء:"إذا" والفعل والضمير، وهذا تعدٍّ لطور الإضمار وقول بما لا دليلَ عليه.

الوجه الثاني: من وجوه الترجيح أنَّ العاملَ في الحال لو كان معنى الإشارة؛ لكانت الإشارة إلى الحال لا إلى الجوهر وهذا باطل، فإنه إنما يُشير إلى ذات الجوهر، ولهذا يصح إشارته إليه وإن لم يكن على تلك الحال، كلما إذا أشار إلى تمر يابس، وقال:"هذا بُسرًا أطيبُ منه رطبًا"، فإنه يصح، ولو كان العامل في الحال (ق/137 ب)

(1)

في الأصول: "خبر"، والمثبت هو الصواب.

ص: 581

هو الإشارة لم تصح المسألة.

الوجه الثالث: أنه لو كان العامل معنى الإشارة لوجب أن يكون الخبر عن الذات مطلقًا؛ لأن تقييد المشار إليه باعتبار الإشارة إذا كان مبتدأً لا يوجب تقييد

(1)

خبره إذا أخبرتَ عنه، ولهذا تقول:"هذا ضاحكًا أبي"، فالإخبار عنه بالأبوَّة غير مقيد بحال ضحكه بل التقييد للإشارة فقط، والإخبار بالأبوة وقعَ مطلقًا عن الذات، فاعْتَصِمْ بهذا الموضع، فإنه ينفعك في كثير من المواضع، وإذا عُرِف هذا وجب أن يكون الخبر بـ "أطيب" وقعَ عن المشار إليه مطلقًا.

الوجه الرابع: أن العامل لو لم يكن هو "أطيب" لم تكن الأطيبية مقيدة بالبُسْرية، بل تكون مُطْلقة، وإذا لم تكن مقيَّدة فسد المعني، لأن الغرض تقييد الأطيبية (ظ/ 104 ب) بالبُسرية مفضَّلة على الرُّطَبية، وهذا معنى العامل، وإذا ثبت أن الأطيبية مقيدة بالبسرية وجبَ أن يكون "بُسرًا" معمولاً في "أطيب".

فإن قلت: فلأجل هذا قدرنا الظرف المقيد حتى يستقيم المعني، وقلنا: تقديره: "هذا إذا كان بسرًا أطيب منه إذا كان رطبًا"، أي: هذا في وقت بُسْريته أطيب منه في وقت رُطَبيته.

قلت: هذا يحتاج إليه إذا لم يكن في اللفظ ما يغني عنه ويقوم مقامه، فأما إذا كان مَعَنا ما يغني عنه، فلا وجهَ لتكلُّف إضماره وتقديره.

فإن قلت: لو كان العامل هو "أطيب" لزم منه المحال، لأنه يستلزم تقييده بحالين مختلفين، وهذا ممتنع.

(1)

(ظ ود): "تقديم".

ص: 582

قلت: الجواب عن هذا: أن العامل في الحالين وصاحبهما متعدِّد ليس متحدًا، أما العامل في الحال الأولى، فهو ما في "أطيب" من معنى الفعل؛ لأنك إذا قلت:"هذا أطيبُ من هذا" تريدُ: أنه طاب وزاد طِيْبُه عليه، والطيبُ أمرٌ ثابت له في حال البُسْرية. قال سيبويه

(1)

: "هذا باب ما يُنْصَب من الأسماء على أنها أحوال وقعت فيها الأمور".

وأما الحال الثانية وهي "رطبًا" فالعامل فيها معنى الفعل الذي هو متعلَّق الجار في قولك: "منه"، فإنَّ "منه" متعلِّق بمعنى غير الطيب؛ لأن "طاب يطيب" لا يتعدى بمن، ولكن صِيْغة الفعل

(2)

تقتضي التفضيل بين شيئين مشتركين في صفةٍ واحدة، إلا أن أحدهما متميز من الآخر منفصل منه بزيادة في تلك الصفة، فمعنى التميز والانفصال الذي تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر، وهو الذي يعمل في الحال الثانية، كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك:"زيد في الدار قائمًا" في الحال التي هي "قائمًا".

فإنَّ قلت: فهلَاّ أَعْمَلْت فيهما جميعًا ما في "أطيب" من معنى الطيب

(3)

.

قلت: يستلزمه

(4)

المحال المذكور؛ لأن الفعل الواحد لا (ق/ 138 أ) يقع في حالين كما لا يقع في ظرفين، لا تقول:"زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس"، ولا:"جالس خلفك أمامك"، فإذا قلت:

(1)

"الكتاب": (1/ 199) بنحوه.

(2)

كذا في الأصول و"النتائج"، وأصلحها محققه إلى:"أفعل".

(3)

"من معنى الطيب" سقطت من (ظ ود).

(4)

(ظ ود): "لاستلزامه".

ص: 583

"زيد يوم الجمعة أطيب منه يوم الخميس"، جازَ؛ لأن العامل في أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني؛ لأنك فضَّلْتَ حين قلت:"أطيب" أو "أصح" أو "أقوم" صحةً وقيامًا على صِحَّةٍ أُخرى وقيام آخر، وفضلت حالاً من حالٍ بمزية وزيادة، وكذلك حين قلت:"هذَا بُسْرًا أطيب منه رطبًا"، ولا يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين، إلا أن يتداخلا، ويصح الجمع بينهما، نحو قولك. "زيد مسافر يومَ الخميس ضَحْوةً"، لأن الضحوة داخلة في اليوم، وكذلك:"سِرْت راكبًا مسرعًا" لدخول الإسراع في السير وتضْمُّنِه له، ولو قلت:"سِرْت مسرعًا مبطئًا"، لم يجز؛ لاستحالة الجمع بينهما إلا على تقدير الواو، أي: مسرعًا تارة ومبطئًا أخرى، وكذلك:"بسرًا ورطبًا" يستحيل أن يعمل فيهما عامل واحد، لأنهما غير متداخِلَيْن هذا هو الجواب الصحيح عندي.

وأجاب طائفةٌ بأن قالوا: أفعل التفضيل في قوة فعلين؛ لأن معناه: حَسُن وزاد حُسْنه، وطاب

(1)

وزادَ طِيْبه، وإذا كان في قوة فعلين، فهو عامل في "بُسرًا" باعتبار حَسُن وطاب، وفي "رطبًا" باعتبار زادَ، حتى لو فككت

(2)

ذلك لقلت: هذا زادَ بُسْرًا في الطيب على طيبه في حال كونه رطبًا، (ظ/105 أ) فاستقام المعنى المطلوب، وهذا جواب حَسَن، والأول أمتن، فتأملهما.

فصل

وأما السؤال الرابع: وهو تقديم معمول أفعل التفضيل عليه،

(1)

"وطاب" ليست في (ق).

(2)

(ق): "ملكت".

ص: 584

فالجواب عنه من وجهين:

أحدهما: لا نسلم امتناع تقديم معموله عليه، وقولكم الاتفاق واقع على امتناع:"زيد منك أحسن"، غير صحيح، لا اتفاق في ذلك، بل قد جَوَّر بعض النحاة ذلك واستدل عليه بقول الشاعر

(1)

:

* جَنَى النحلِ أو ما زوَّدَتْ منه أَطْيبُ *

قال هؤلاء: وأفعل التفضيل لما كان في قوة فعلين جاز تقديم معموله عليه. قالوا: وتقديمه أقوى من قولك: "أنا لك محب"، و"فيك راغب"، و"عندك مقيم"، ولاستقصاء الحجج في هذه المسألة موضع آخر.

الوجه الثاني: سلَّمنا امتناع تقديم معموله عليه، ولا يقال:"زيد منك أحسن"، فهذا الأمر يختص بقولهم:"منك" لا يتعدى إلى الحال والظرف، وذلك لأن "منك" في معنى المضاف إليه، بدليل أن قولهم:"زيد أحسن منك"، بمنزلة:"زيد أحسن الناس" في قيام أحدهما مقام الآخر، وأنهم لا يجمعون بينهما، فلما قام المضاف إليه مقامه، لكونه (ق/ 138 ب) المفضل عليه في المعنى، كرهوا تقديمه على المضاف لأنه خلاف لغتهم، فلا يلزم من امتناع تقديم معمولٍ هو كالمضاف إليه امتناع تقديم معمول ليس كهو، وهذا بين.

وجواب ثالث: وهو أنهم إذا فضلوا الشيءَ على نفسه باعتبار حالين فلا بد من تقدُّم أحدهما على العامل، وإن كان مما لا يسوغ

(1)

هو: الفرزدق، "ديوانه":(ص/ 32)، وصدره:

* وقالت لنا أهلًا وسهلاً وزوَّدت *

ص: 585

تقديمه لو لم يكن كذلك، فإذا فضلوا ذاتين باعتبار حالين، قدَّموا أحمدهما على العامل وأخَّروا الآخر عنه، فقالوا: "زيد قائمًا أحسن منه

(1)

قاعدًا"، وكذلك في التشبيه أيضًا يقولون: "زيد قائمًا كعَمْرو قاعدًا"، وإذا جاز تقديم هذا المعمول على "الكاف" التي هي أبعد في العمل من باب أحسن، فتقديم

(2)

معمول "أحسن" أجدر، والغرض هنا بهذا الكلام تفضيل هذه "التمرة" في حال كونها "بُسرًا" عبيها في حال كونها "رطبًا".

فصل

وأما السؤال الخامس: وهو متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين؟ فقد فرغنا من جوابه فيما تقدم، وأن ذلك يجوز إذا كانت إحدى الحالين متضمنة للأخرى، نحو:"جاء زيد راكبًا مسرعًا"، وكذلك يعمل في الظرفين إذا تضمَّن أحدُهما الآخر، نحو:"سِرْتُ يوم الخميس بُكرة".

فصل

وأما السؤال السادس: وهو هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين أم لا؟.

فالجواب عنه: أن الحال الأولى يجوز فيها ذلك، لأن العامل فيها لفظي، وهو ما في "أطيب" من معنى الفعل، فلك أن تقول:"هذا بسْرًا أطيبُ منه رُطَبًا"، وأن تقول:"هذا أطيب بسرًا منه رطبًا"، وهو الأصل.

(1)

كذا فى الأصول، ولعله: من عَمرو.

(2)

(ق): "فيقول".

ص: 586

فإن قلت: إذا كان هذا هو الأصل، فلِمَ مثلَّ سيبويه

(1)

بها مقدمة، وكان ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها؟.

قلت: كأنه أراد تأكيد معنى الحال فيها؛ لأنه ترجم عن

(2)

الحال، فلو أخرها لأشبهت التمييز؛ لأنك إذا قلت:"هذا الرجل أطيب بسرًا من فلان "، فبسرًا -لا محالة- تمييز، وإذا قدمت "بسرًا" على "أطيب من كذا" فبسرًا -لا محالة- حال، ولا يصح أن يُخْبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن شيءٍ سوى التمر وما هو في معناه. فإذا قلت:"هذا [أطيب] بسرًا"، احتمل الكلام قيل تمامه وقبل النظر (ظ / 105 ب) في قرائن أحواله أن يكون "بُسرًا" تمييزًا، وأن يكون حالاً، وبينهما في المعنى فرقٌ عظيم، فاقتضى تَحْصِين المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال الأولى على عاملها، ولو أخرت لجاز.

وأما الحال الثانية: فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها لأنه معنوي، (ق / 139 أ) والعامل المعنوي لا يُتَصور تقديم معموله عليه؛ لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه منصوبه الذي حقه التأخير، قلت فيه: مقدَّم في اللفظ مؤخَّر في المعنى، فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى

(3)

، فإذا لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم

(4)

يتصور تقديم المعمول عليه؛ لأنه لابد من تأخير المعمول على عامله في المعنى، فلا يوجد إلا بعدَه وعامله متقدِّم عليه، لأنه مَنْويّ غير ملفوظ به، فلا

(1)

فى "الكتاب": (1/ 199).

(2)

(ق): "على".

(3)

ليست في (ق).

(4)

من قوله: "مؤخر في

" إلى هنا ساقط من (د).

ص: 587

تذهب النية والوهم إلى غير موضعه، بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعني القلب، فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه

(1)

، لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه، وهو التقديم.

فصل

وأما السؤال السابع: وهو كيف

(2)

يتصور الحال في غير المشتق؟.

فاعلم أنه ليس لاشتراط الاشتقاق حجة، ولا يقوم على هذا الشرط دليل، ولهذا كان الحُذَّاق من النحاة على أنه لا يشترط، بل كلُّ ما دلَّ على هيئةٍ صحَّ أن يقع حالاً، فلا يشترط فيها إلا أن تكون دالة على معنى متحول، ولهذا سميت حالاً كما قال:

لَوْ لم تَحُلْ ما سُمِّيَتْ حالا

وكلُّ ما حالَ فَقَد زالا

فإذا كان صاحبُ الحال قد أوقع الفعلَ فى صفةٍ غير لازمةٍ للفعل، فلا تُبال أكانت مشتقة أم غير مشتقة؛ فقد جاء فى الحديث:"يتمثَّلُ لي الملكُ رَجُلاً"

(3)

فوقع "رجلاً" هنا حالاً؛ لأن صورة الرجليَّة طارئة على الملَك فى حال التمثُّل، وليست لازمة للملَك إلا في وقت وقوع الفعل: منه وهو التمثل، فهي إذًا حال؛ لأنه قد تحول: إليها، ومثله:{يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] ومثله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]، ومثله:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا} [مريم: 17]، ويقولون:"مررتُ بهذا العودِ شَجَرًا ثم مررتُ به رَمَادًا"، و"هذا زيد أسدًا"، وتأويل هذا كلَّه بأنه معمول الحال، والتقدير: يُشْبِه، بعيدٌ

(1)

من قوله: "بخلاف اللفظي .... " إلى هنا ساقط من (د).

(2)

(ق): "كيف لم".

(3)

تقدم تخريجه 2/ 568.

ص: 588

جدًّا، وكذا تأويل ذلك كله

(1)

بمشتقّ تعسُّف ظاهر، والتحقيقُ ما تقدَّم، وأنها كلها أحوال، وإن كانت جامدة؛ لأنها صفات يتحول الفاعل إليها، وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فِعْلية، بل منها نفسيَّة ومعنويَّة وعدمِيَّة، وهي صفة النفي، وإضافية وفعلية، ولا يكون من جميعها حالاً إلا ما كان الفعلُ واقعًا فيه وجاز خُلُوه عنها، فأما ما كان لازمًا للاسم مما لا يجوز خلوه (ق/139 ب) عنه، فلا يكون حالاً منتصبة بالفعل، نحو قولك: قرشي، وعربى، وحبشي، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، فكلُّ هذه لا يُتَصوَّر وقوعها أحوالاً؛ لأنها لا تتحوَّل.

فصل

وأما السؤال الثامن: وهو إلى أيِّ شيءٍ وقعت الإشارة بقولك: هذا؟.

فالجواب: أن متعلَّق الإشارة هو الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال، وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بَلَحًا، ثم يكون سَيَابًا، ثم جَدَالاً

(2)

، ثم بُسرًا إلى أن يكون رُطَبًا، فمتعلَّق الإشارة المحل الحامل لهذه الأوصاف، فالإشارة إلى شيءٍ ثالث غير البسر والرطب، وهو حامل البسريَّة والرطبيَّة (ظ/ 106 أ)، وقد عرفت بهذا أنه لا ينبغي تخصيص الإشارة بقولهم: إنها إلى البلح أو الطلع أو الجَدَال، كلُّ ذلك تمثيل، والتحقيقُ: أن الإشارة إلى الحقيقة الحاملة لهذه الصفات والذي يدلك على هذا أنك تقول: "زيد قائمًا أخطب

(1)

ليست في (ق).

(2)

(ق): "خلالاً"! وانظر "المخصَّص": (11/ 120 - 121) لابن سِيْده.

ص: 589

منه قاعدًا"، وقال عبد الله بن سلام لعثمان: "أنا خارجًا أنفع لك مني داخلًا"، فلا إشارةَ ولا مُشَار هنا، وإنما هو إخبار عن الاسم الحامل للصفات التي منها القيام والقعود، ولا يصحُّ أن يكون متعلَّق الإشارة صفة البُسرية ولا الجوهر يقيد تلك الصفة، لأنك لو أشرت إلى البسرية وكان الجوهر يُقيدها، لم يصح تقييده بحال الرُّطبية، فتأمله، فلم يبق إلا أن تكون الإشارة

(1)

إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال، وقد تبين لك بطلان قول من زعم أن متعلَّق الإشارة في هذا هو العامل في "بسرًا"، فإن العامل فيها إما ما تضمنه "أطيب" من الفعل، وإما "كان" المقدَّرة، وكلاهما لا يصح تعلُّق الإشارة به.

فصل

وأما السؤال التاسع: وهو قوله: هلا قلتم: إنه منصوب على أنه خبر كان؟.

فجوابه: أن "كان" لو أُضْمِرت لأضمر ثلاثة أشياء: الظرف الذي هو "إذا" وفعل "كان": ومرفوعها، وهذا لا نظير له إلا حيث يدلُّ عليه الدليل، وقد تقدم ذلك، وقد منع سيبويه من إضمار "كان" فقال

(2)

: "لو قلت: عبدَ الله المقتولَ، تُرِيد:[كن]

(3)

عبدَ الله المقتول، لم يَجُز"، وقد تقدم ما يدل على

(4)

امتناع إضمار "كان"، فلا نطوِّل بإعادته، وإذا لم يجز إضمار كان على

(5)

انفرادها فكيف يجوز إضمار

(1)

من قوله: "صفة البُسْرية

" إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2)

في "الكتاب": (1/ 133).

(3)

في الأصول: كان، والتصويب من "الكتاب".

(4)

"ما يدل على" سقطت: من (ق).

(5)

(ق): "في".

ص: 590

"إذ" و"إذا" معها!! وأنت لو قلت: "آتيك جاء زيد" تريد: إذا جاء زيد، كان خَلْفًا من الكلام بإجماع، وإذا كان كذلك كان الإضمار من هذا الموطن أبعد؛ لأنه لا (ق/ 140 أ) يُدرى هاهنا "إذ" تريد أم "إذا"؟ وفي قولك "سآتيك" لا يحتمل إلا أحدهما، بخلاف قولك:"زيد قائمًا أخطب منه قاعدًا"، وإذا بَعُد كل البعد إضمار الظرف هاهنا فاضماره مع "كان" أبعد، ومن قدَّره

(1)

من النحاة، فإنما أشارَ إلى شرح المعنى بضرب من التقريب.

فإنَّ قيل: الذي يدلُّ على أنه لابُد من إضمار "كان": أن هذا الكلام لا يُذكر إلا لتفضيل شيءٍ في زمان من أزمانه على نفسه في زمان آخر، ويجوز أن يكون الزمان المفضَّل فيه ماضيًا وأن يكون مستقبلًا، ولابدَّ من إضمار ما يدل على المراد منهما، فيضمر للماضي "إذ"

(2)

، وللمستقبل "إذا"، و"إذ"

(3)

و"إذا" يطلبان الفعل، وأعم الأفعال وأشملها فعل الكَوْن الشامل لكلِّ كائن، ولهذا كثيرًا ما يضمرونه، فلابدَّ من فعل يُضاف إليه الظرف، لاستحالة أن تقول:"هذا إذ بُسرًا أطيب منه إذ رطبًا"، فتعين إضمار "كان" لتصحيح الكلام.

قيل: هذا السؤال إنما يلزم إذا أضمرنا الظرف، وإما إذا لم نُضْمره لم نحتج إلى"كان ويكون". وأما قولكم: إنه يفضل الشيءَ على نفسِه باعتبار زمانين، و"إذ وإذا" للزمان؛ فجوابه: أن في التصريح بالحالين المفضل أحدهما على الآخر غُنْية عن ذِكْر الزمان وتقدير إضماره.

(1)

(ق): "قلده"!.

(2)

(ق): "فيضمن إذا".

(3)

ليست في (ق) وكذا التي في آخر الفقرة.

ص: 591

ألا ترى أنك إذا قلت: "هذا في حال بُسريَّته أطيب منه في حال رُطَبيته"، استقام الكلام، ولا "إذ" هنا ولا "إذا" لدلالة الحال على مقصود المتكلم من التفضيل

(1)

باعتبار الوقتين، وكذلك تقوك:"هذا في حال شبوبيته أعقل منه في حال شيخوخته"، ونظائر ذلك مما يصح فيه التفضيل باعتبار زمانين، من غير ذكر ظرف ولا تقديره، فافهمه.

فصل

وأما (ظ/106 ب) السؤال العاشر: وهو أنه هل يشترط اتحاد المفضَّل والمفضَّل عليه بالحقيقة؟.

فجوابها: أن وضعها كذلك، ولا يجوز أن يقال:"هذا بُسرًا أطيب منه عنبًا"؛ لأن وضع هذا الباب لتفضيل الشيءِ على نفسه باعتبارين وفي زمانين. قال الأخفش: كلُّ ما لا يتحول إلى شيء فهو رفع، نحو:"هذا بُسر أطيب منه عنب"، فـ "أطيب" مبتدأ و"عنب" خبره، وفي هذا التركيب إشكال، وتوجيهه: أن الكلامَ. جملتان إحداهما: قولك: "هذا بسر". والثانية: قولك: "أطيب منه عنب"، والمعنى:"العنب أطيب منه"، فأفدت خبرين؛ أحدهما: أنه بسر، والثاني: أن العنب أطيب منه، ولو قلت: هذا البسر أطيب منه عنب، لاتضحت المسألة (ق/140 ب) وانكشف معناها، والله أعلم.

فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث، علَّقتها صيداً لسوانح الخاطر

(2)

فيها خشيةَ أن لا يعود، فلْيُسامح الناظرُ فيها،

(1)

تحرفت في (ظ ود).

(2)

(ق): "الخواطر".

ص: 592

فإنها عُلِّقت على حين بُعْدي من كتبي، وعدم تمكُّني من مراجعتها، وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر، والله المستعان

(1)

.

* * *

(1)

"والله المستعان" ليست في (ق)، وانظر التعليق في (2/ 577).

ص: 593