الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
…
من مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
تأملات في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
بقلم معالي الدكتور/ عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
أشرفت وكالة شؤون المطبوعات والنشر بالوزارة على إصداره 1419 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إِن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأصلي، وأسلم على خير خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإِحسان إِلى يوم الدين.
أما بعد: فليس من المبالغة في شيء أن نقول: إِنه لم تظهر دعوة للتجديد، والإِصلاح -بعد القرون الأولى المفضلة- تماثل، أو تقارب في ظرفها، والبيئة التي ظهرت فيها، الدعوة التي قام بها المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في القرن الثاني عشر للهجرة.
إِن تلك الدعوة في وضوح أهدافها، وسلامة منهاجها، وما هيأ الله لها من أسباب النجاح، المتمثلة في مؤازرة آل سعود إِياها، ومناصرتهم لها، أعادت للمسلمين في الجزيرة العربية مكانتهم، وفتحت الأمل أمام المسلمين في خارج الجزيرة، في إِمكان قيام دولهم، ومجتمعاتهم على الإِسلام.
ليس في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، تعقيد، ولا غموض، ولا فلسفة، بل هي واضحة، نقية، نقاء الإِسلام، معتمدة على نصوص كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم البينة الواضحة.
تابع فيها الداعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وسلف الأمة الصالح، واستفاد كثيرا ممن سبقه من علماء السلف، وعلى وجه الخصوص شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي جاهد في سبيل رد الناس إِلى الكتاب والسنة، والدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فقد كان أثر ذلك في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب واضحا.
صدق في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عزم الداعية، وقامت الدولة فيها بواجبها في الدعوة إِلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعمل بشريعة الله في مختلف شؤونها.
محورها الأساسي الدعوة إِلى توحيد الله في ربوبيته، وإِلهيته، وأسمائه وصفاته، وأن لا يصرف شئ من أنواع العبادة لغيره، وهو محور دعوة الرسل جميعا-عليهم الصلاة والسلام- وخاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاهد في الله حق جهاده، حتى تحققت العبودية لله وحده دون من سواه، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
تلك العبودية التي خلق الله الخلق لأجلها، كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56] .
لم تسلم الدعوة ورجالها، ولم تسلم الدولة التي نصرتها، وجاهدت في سبيلها، من كيد الأعداء، وتلفيق التهم، واختلاق الافتراءات، من قبل علماء السوء، وأصحاب الأهواء والمطامع، ومن قبل القوى التي
تسعى إِلى إِضعاف المسلمين، وإِبعادهم عن مصدر قوتهم، وعزهم: كتاب ربهم سبحانه وتعالى، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. كثيرون الذين كتبوا عن الدعوة ورجالها، منصفين لها، مثنين عليها، وآخرون جحدوا فضلها، وراموا تشويه صورتها.
ولا تضيف هذه التأملات جديداً في الدعوة، وأساليبها، ومنهاجها، ولكنها إِسهام أملاه الواجب، يستفيد منها غير المتخصصين، أو من لم يتيسر لهم الاطلاع على كتب الدعوة، وآثار علمائها.
لقد كانت الدولة والدعوة، صفحة مفتوحة للناس أجمعين منذ نشأتها، خاطبت العلماء والأمراء، والتقى الناس علماءها في مواسم الحج، وفي الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، حيث انطلقت الدعوة. ليس فيها لبس أو غموض، وليس في رجالها تعال، ولا تكبر، بغيتهم الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة.
لقد خدمت جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية هذه الدعوة، خدمة كبيرة، حينما نظمت ملتقى للعديد من العلماء، من مختلف أنحاء العالم، وهيأت لهم الأسباب للإطلاع على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأئمة الدعوة من بعده، وحرصت على تزويدهم بها قبل حضورهم إِلى المملكة؛ ليكتبوا عن هذه الدعوة، ورجالها على بينة ومعرفة، فكتبوا أبحاثهم بكل حياد وموضوعية، وناقشوها خلال
الملتقى، واستمعوا إِلى محاضرات، ودروس من كبار علماء المملكة عن الدعوة، وصاحبها، وتلاميذه، واجتمعوا بالعديد من المسؤولين، والعلماء في المملكة، وأيقنوا أن ما تعيشه المملكة من أمن، ورخاء، واستقرار، ورغد عيش، وترابط بين الناس وولاة أمرهم، مرده إِلى التقيد بالإِسلام، كما في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم؛ وذلك هو جوهر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع التأكيد على أهمية عودة الناس إِلى الكتاب والسنة، والابتعاد عن الشرك ومظاهره، وعن الابتداع في الدين. ويسرني أن ألحق بهذه التأملات ما صدر عن الملتقى في نهايته.
أما الأبحاث التي قدمت له، فقد طبعتها مشكورة جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية، كما طبعت سابقا مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورسائله.
وسيلحظ القارئ لهذه التأملات تكرارا لبعض الموضوعات، وذلك أمر اقتضاه السياق، نظرا إِلى الترابط بين الأسس والمنطلقات والوسائل والبيئة التي ظهرت فيها الدعوة، وما لذلك من أثر فيها.
إِن هذا البحث، إِنما هو تأملات في الدعوة، ومرتكزاتها وآثارها، أرجو أن يفيد من يطلع عليه، وأن يكون إِسهاما، يخدم هذه الدعوة التي لها فضل كبير على المسلمين، وبخاصة في شبه الجزيرة العربية.
نسأل الله -تعالى- أن يجزي الإِمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب أحسن الجزاء على جهادهما في سبيل الله، وأن يجزي أبناءهما، وأحفادهما الذين ساروا على منهاجهما، في نصرة دين الله، بالدعوة إِليه، وإِقامة أحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما نسأله أن يوفق هذه الدولة المباركة ((المملكة العربية السعودية)) وقادتها، وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وسمو النائب الثاني الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، إِلى ما يحبه ويرضاه، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي كلمته، إِنه ولي ذلك، والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد المحسن التركي
الحديث ورجاله، كما التقى غيرهما من الأعلام البارزين في فنون مختلفة، مما جعل ثقافة الشيخ ثقافة موسوعية متعددة الروافد.
أما الرحلة الأخرى: فقد كانت إِلى البصرة، من أرض العراق، وكان في عزمه أن يواصل السفر إِلى بغداد، والشام؛ للاتصال بعلمائهما، والتزود من علمهم، ولكن حال دون ذلك أمران:
الأول: قلة المال لديه، وقد كان مجبولا على التعفف الذي يمنعه من أن يسأل الناس شيئا.
والثاني: وهو -الأهم- ما رآه في البصرة من انتشار البدع، وذيوع عبادة القبور، والتوسل بالأولياء، والتقرب إِليهم بالذبح والنذر، واعتقاد النفع والضر منهم، الأمر الذي أثار حفيظته، وأشعل نيران الغيرة على التوحيد في نفسه، فراح ينكر ذلك بكل ما أوتي من قوة، حتى ذاع صيته، وانتشر أمره، وسرعان ما ائتمر به أهل البدع، واتفقوا على أذيته، وتواطؤوا على الإِيقاع به، فما كان منه إِلا أن غادر البصرة على الفور؛ خوفا على دعوته الإِصلاحية أن توأد في مهدها، ولعله يجد في مكان آخر من يعزره، ويؤازره، حتى إِذا استوت دعوته على سوقها، عرف الناس الحق، والتفوا حوله1. ولهذين السببين قفل الشيخ راجعا من البصرة إِلى نجد، وفي الطريقِ نزل على عالم الأحساء الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وأقام عنده أياما
1 أمير السعيد: سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 19 طبع دارة الملك عبد العزيز عام 1395هـ.
حافلة بالدرس، والمطالعة، والبحث، ثم قفل إِلى حريملاء التي انتقل إِليها والده من العيينة، بلدته الأولى. وبعد استقرار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حريملاء عام 1139هـ، وكان عمره وقتئذ خمسة وعشرين عاما، بدأ يضاعف جهوده في ثلاثة مجالات دعوية:
أولها: تأليف الكتب، والرسائل التي تتسم بأسلوبها السّهل، ومعانيها الواضحة، مما دفع بالكثير من العامة، وطلبة العلم إِلى حفظها عن ظهر قلب.
ثانيها: عقد الدروس، والمحاضرات العامة والخاصة، حيث كان يجتمع لديه الناس من مختلف الأعمار، ومن مختلف المذاهب، الأمر الذي جعل أمره يذيع، وينتشر انتشارا واسعا، مما بدد ظلمات الجهل، والبدع، والخرافات، كما يبدد ضياء الشمس ظلمات الليل البهيم.
ثالثها: المراسلات العلمية، والزيارات الخاصة، لأصحاب النفوذ المادي والعلمي.
وبهذا الامتداد بدأت نواة الدعوة من حريملاء، إِلا أن سنة الله في الأنبياء، والمصلحين، لا تتغير على مرّ الدهور والعصور، بدءا من نوح وإِبراهيم عليهما السلام إِلى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه،
ومن تبعهم من المجاهدين، في مجال بعث الأمة الإِسلامية، في مراحل الضعف العلمي، أو الانحراف السلوكي، كالإِمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهم ممن تحفزهم الأزمات، وتظهر عبقريتهم الشدائد، ومنهم شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب.
نقول: إِن سنة الله مع هؤلاء لا تتغير، وهي سنة التدافع والابتلاء، التي تصل بالكثير منهم إِلى الانتقال من بلد الزرع والبذر، بفسيلة الدعوة الصحيحة، إِلى حيث تجد أرضا خصبة نقية تقبل الماء، فتنبت الكلأ، والعشب الكثير. وفي خلال هذه النقلة التي تفرضها ضرورة الحماية لهذه الفسيلة، يقع لها من التعطش، والتشوق ما يجعلها تزدهر في الأرض بكل قوة، بعد أن تمرّ بمرحلة المعاناة
وهذا ما حدث بالفعل لهذا المصلح المجاهد الذي لم يكد زرعه يخرج ثماره في "حريملاء" حتى راحت الأيدي الحاقدة الآثمة، ذات المنافع الدنيوية، تحاول استئصال هذه البذور، وذلك بمحاولة إِيذاء الزارع (الداعية) نفسه؛ لما كان يتسم به من وضوح، وقوة، لا مهادنة معهما، في النهي عن المنكر، ولا سيما في الأمور الشركية التي تزخرت بها الجزيرة العربية، وغيرها من المناطق الإِسلامية. ففي ليلة من الليالي، ائتمر أهل الفساد، وهموا بتسلق جدار منزل الشيخ لإِيذائه، والإِيقاع به، لولا حفظ الله له، ثم يقظة بعض جيرانه
لمحة تاريخية
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف التميمي النجدي، في بلدة العيينة عام 1115هـ (1713م) .
وتقع العيينة شمال غرب مدينة الرياض، على بعد سبعين كيلو مترا تقريبا. كان رحمه الله قوي الجسم، دقيق الفهم، سريع الحفظ، فصيح اللسان، سديد الرأي، صادق الفراسة، حسن التدبير، كثير الإِنفاق، زاهدا فيِ الدنيا، موصول الفكرة، لا يفتر لسانه عن ذكر الله وهبه الله قبولا، وهيبة، يشعر بهما كل من رآه، أو سمع منه.
أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله علومه، ومعارفه عن عدد من العلماء من أسرته، وعلماء عصره، من أهل الجزيرة العربية والعراق، ما بين مقرئ، ومفسر للقرآن، وصاحب حديث للنبي صلى الله عليه وسلم وآثار، وغير هؤلاء من أهل العلم والفضل، وهم كثيرون، وقد كان في مقدمتهم والده الشيخ عبد الوهاب، أحد فقهاء نجد، وقضاتها، فهو الذي تولى تحفيظه كتاب الله -تعالى- حتى أتمه قبل بلوغه العاشرة من عمره، ثم فقهه على مذهب الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله حتى بلغ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الفقه قدرا كبيرا، جعل والده يقول
عنه -فيما يرويه أخوه سليمان بن عبد الوهاب-: ((لقد استفدت من ابني محمد كثيرا من الأحكام)) 1.
وقد قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب برحلتين علميتين:
إِحداهما: في داخل شبه الجزيرة العربية، التي كانت تعج آنذاك بكثرة البدع، والأماكن التي يعتقد فيها كثير من الناس دفع الضر، وجلب النفع. وكانت أوقات الشيخ محمد بن عبد الوهاب خلال هذه الرحلة تتوزع بين أمرين اثنين:
الأول منهما: تحصيل العلم من شيوخه الأثبات، وتحقيقه من مصادره الموثوقة.
والثاني: السعي الحثيث في نشر العلم، وحث كل من يراه على العمل بهذا العلم، وتقديم العلوم الدينية للناس، بأسلوب سهل يفهمه العامة، بعيدا عن التقعر، والتكلف
وقد أخذ هذا العمل من جهد الشيخ، ووقته قسطا ليس بالقليل، خلال هذه الرحلة العلمية، رحلته في داخل الجزيرة العربية.
وِخلال هذه الرحلة جاب الشيخ محمد بن عبدا لوهاب رحمه الله مدنا، أهمها: مكة المكرمة، والمدينة النبوية2.
وقد التقى الشيخ علماء، منهم الشيخ عبد الله بن إِبراهيم بن سيف النجدي، والشيخ محمد حياة السندي المدني، الذي كان له باع في علم
1 عبد الرحمن الجطيلي: نبذة مختصرة عن حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص13.
2 حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام، 1/76، 77.
الذين صاحوا فيهم، وصرفوهم عن دار الشيخ، وعندها أدرك الشيخ أنه لا بد من
قوة تحمي هذه الدعوة الناشئة الغضة في هذه البيئة التي تراكمت عليها الأتربة
ورأى أنه من الخير له أن ينتقل إِلى موطنه الأول، حيث إِخوانه، وأصدقاؤه الذين
يحمونه، ويحمون دعوته، ويردّون عنه، وعنها الأعادي.
وقد رحّبت "العيينة" بالدعوة، وصاحبها أفضل ترحيب، وأنزلت الشيخ منْزلته اللائقة
به، وأيده أميرها عثمان بن معمر، تأييدا دفع الشيخ إِلى إِزالة المنكر عمليا، فبدأ
يعمل على إِقامة الحدود، وهدم القباب، والمشاهد، والمزارات، والنصب، التي كان
العامة يقصدونها هناك، يلتمسون منها ما توسوس به شياطينهم، وطواغيتهم.
وقد اطمأن الشيخ في دار إقامته الجديدة، وعكف على إِلقاء الدروس، وتعليم
الطلاب، وأرسل الكتب والرسائل إِلى العلماء وأمراء المناطق.
وفي هذه الأثناء أراد الشيخ أن يتوجه إِلى "الجبيلة"؛ ليهدم القبة المبنية على
قبر الصحابي الجليل، زيد بن الخطاب، أخي عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
وهي المنطقة التي استشهد فيها كثير من الصحابة في معركة اليمامة في أثناء
حرب الردَّة سنة (12هـ) .
وقد كان الناس يعظمون هذه القبة، ويتجهون إِليها؛ لجلب النفع، أو لدفع الضر،
فطلب الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أمير "العيينة" أن يساعده على هدمها،
بمن معه من رجال، وبما له من سلطة التأثير
المادي على من حولها من الناس، لكن الرجل خاف أن يناله مكروه من ذلك، وأراد من الشيخ أن يكون معهم في أثناء الهدم، فبادر الشيخ بمعوله، ومعه ستمائة من رجال "العيينة"، ثم بدأ هو بهدم القبة، والمشاهد الأخرى التي حولها، ثم توجه إلى شجرتين يقدسهما العامة، فقطع واحدة منهما، وقطع أصحابه الأخرى.
وضجت نجد لهذا الحادث، وتوقع الدهماء نزول مكروه بالشيخ ورجاله، ولما خاب ظنهم، ورأوا القوم يتمتعون بصحة جيدة، بادروا إِلى الانضمام إِلى دعوة الشيخ، والانضواء تحت لوائه1.
وقد حدث أن أقرت امرأة محصنة بين يدي الشيخ بالزنا، فردها الشيخ ثلاث مرات، وفي الرابعة حكم بإِقامة حد الرجم عليها، فكان لهذا الحادث الدوي الأكبر في الأوساط القريبة والبعيدة، فمن الناس من فرح بذلك، واستبشر، ومنهم من تبرّم بذلك، وراح يكيد للشيخِ ودعوِته، ويعد العدة للقضاء على هذه الدعوة التي أصبحت تمثل خطرا كبيرا على الفاسقين من جانب، وعلى أهل الرياسات، وأصحاب النفوذ من أهل الأهواء من جانب آخر.
وقد انضم إِلى هؤلاء فريق كبير من علماء المنافع والجمود، وأنصار البدع، حتى إِن واحدا من رؤساء القبائل، وهو سليمان بن عريعر شيخ بني خالد، أرسل إِلى أمير "العيينة" يأمره أن يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإِلا قطع عنه جرايته المالية، بل، وسعى لمداهمته في بلدته.
1 أمين السعيد: سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 22، 23 بتصرف.
وهنا أدرك الشيخ ضعف (العيينة) ، ورجالِها عن القيام بحمايته، فتوجه إِلى "الدرعية" ماشيا على قدميه، مردّداَ قول الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطّلاق من الآيتين: 2-3] .
كان ذلك في سنة (1157هـ) ؛ إِذ بدأت الدعوة تأخذ طورا جديدا، له سماته الخاصة فقد كان فتحا وفرجا بعد ضيق وشدة، وقد تنفس الشيخ الصعداء، وراح يفكر بأناة وروية وحكمة في مستقبل دعوته، دون أن ييأس من رحمة الله، واثقا كل الثقة في أن الله -تعالى- لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ورست سفينة الدعوة بشيخها على أهل بيت كرام، طالما تابعوا دعوة الشيخ، ودافعوا عنه، وهو في بلدته، فكيف يكون حالهم معه، وهو اليوم ينْزل ببلدتهم، ويطلب الأمن والأمان لنفسه ودعوته؟
إِنهم -بلا شك- سيكونون أوفى الناس؛ لأنهم أهل عزّ وإمارة، وهم أعرف الناس بأقدار الناس، فإِنه لا يعرف الفضل إِلا ذووه.
نزل الشيخ محمد بن عبد الوهاب على أحد تلاميذه في الدرعية، وما إِن سمع بذلك أميرها، الأمير محمد بن سعود رحمه الله حتى أسرع لزيارته في محل نزوله، إِكراما لدعوته، وإِكبارا لشأنه.
وفي أثناء هذه الزيارة قال الأمير محمد بن سعود للشيخ: أبشر بالخير والعز، والمنعة.
فردّ عليه الشيخ قائلا:
وأنت أبشر بالعز، والتمكين، والغلبة على جميع بلاد نجد.
إِنها كلمة: (لا إِله إِلا الله) من تمسك بها، وعمل بها، ونصرها، ملك بها البلاد والعباد.
إِنها كلمة التوحيد، وإِنها أول ما دعا إِليه الرسل، عليهم السلام.
وقد أخذ الشيخ طرف الحديث، فتناول بالكلام البين الواضح المؤثر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم وكيف حاربوا الشرك، وجاهدوا الكفر، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر.
وبين الشيخ أن أحوال كثير من المسلمين المعاصرين لا تختلف كثيرا عن أحوال المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لا بد من ردهم إلى رحاب العقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة كما أوضح الشيخ الفروق بين الجاهلية الأولى والثانية، والتي تتمثل في أن الأولين كانوا صريحين في شركهم، وأما الأخيرون فقد خلطوا الشرك بالإِيمان.
وهنا قال الأمير محمد بن سعود:
((أيها الشيخ، إِن هذا دين الله ودين رسوله، لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لما أمرت به، وبالجهاد لمن يخالفك، على أني أشترط عليك أمرين:
أولا: أن تظل لدينا إِذا فتح الله البلاد، ولا تستبدل بنا غيرنا.
ثانيا: أن لي على أهل الدرعية خراجا، أتناوله منهم وقت جني الثمار، فلا تمنعني عن أخذه)) .
فقال له الشيخ:
((أما الأولى فامدد يدك، فمدها، فأمسكها الشيخ، وقال له:
الدم بالدم، والهدم بالهدم.
وأما الثانية: فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير من الخراج)) 1.
وهنا تعاهد الأمير محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب على الالتزام بدين الله، كما بلغه رسوله نقيا صافيا، والجهاد في سبيل نشره، وإِقامة شرائع الإِسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ودخل الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الإِمام محمد بن سعود بلدته واستقر عنده، والتف حولهما رجال ابن سعود، والدرعية كلها، وما حولها من القرى.
ومضت الدعوة -بعد هذه المعاهدة التاريخية- في سبيلها، مسرعة في الطريق المرسوم لها، لا تقابلها عقبة إِلا ذللها الله لها، ولا يعترضها معترض إِلا أذله الله. وقد ازدهرت الدعوة، وذاع صيتها، والتقى الضمير الإسلامى معها
1 أمين السعيد: سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص28، وما بعدها.
وراح العلماء يراسلون الشيخ، ويطلبون منه تلخيص دعوته، وبيان عقيدته، فكان يراسلهم، ويبين لهم وجه الحق، فيقبلون على دعوته البريئة من الشرك أفواجا.
وقد أثمر هذا التعاون المبارك الذي أدى إِلى الامتزاج بين القوة الدعوية العلمية، والقوة السياسية المادية، دولة مرهوبة الجانب، مستقلة الكيان، يحسب لها رؤساء الدول ألف حساب، وهذا حدث عظيم وهائل، بالنظر إِلى أحوال العصر الحديث بعامة، وأحوال شبه الجزيرة بخاصة، وهو أمر يذكرنا بميلاد دولة الإِسلام الأولى في المدينة، حيث تفجرت ينابيع الحكمة والرحمة، وتتابعت فتوح الإِسلام من كل جانب، وفرضت دولة المدينة الوليدة نفسها على ما حولها من البلاد، فراحت تراسل وتعاهد وتسالم وتعادي، كأنها ذات تاريخ طويل، وأمجاد تليدة.
وبإِيجاز: لقد اجتهدت الدولة الجديدة بقيادة الإِمام محمد بن سعود رحمه الله، أن تترسم خطى دولة الإِسلام الأولى في المدينة النبوية بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يجمع بين الجانبين: الديني، والإِداري القيادي (الدنيوي) . وقد عملت الدولة الجديدة في خطة التأسي بدولة الإِسلام الأولى على أن يكون الشعار هو الشعار، والراية هي الراية، والغاية هي الغاية، والمسيرة هي المسيرة.
ومع ما أفاء الله به على بيت المال من الخير الوفير، إِلا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان مثالا في الزهد والتعفف، لا يأكل منه إِلا بالمعروف، يشهد لذلك أنه رحمه الله مات، ولم يخلف شيئا من المال.
لكن الشيخ الذي لم يترك شيئا من المال -مع وجوده في موقع قريب من الدولة- ترك ما هو أثمن بكثير من المال، فكان من حصاد رحلته الدعوية في مراحلها المختلفة علم كثير لم يقصد صاحبه من إِبداعه أن يكون مجرد مؤلفات تعزى إِلى كاتب، أو مجرد إِشباع لرغبة شخصية في التأليف، وإِنما قصد منها بالدرجة الأولى، أن تكون دعوة إلى الله، وأن تأخذ بيد المسلمين إِلى الفقه الصحيح للإِسلام: عقيدة وشريعة ودعوة وثقافة ودولة وتربية، وقدرة على نشر العقيدة الإِسلامية في العالم، وفق فقه السلف، ومنهج السلف، وطريقة السلف، القائمة على الإِخلاص لله في القول والعمل، وعبادة الله وحده دون من سواه، كما كان عليه الأمر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين.
وفي إطار هذه الغاية الدعوية، جاءت مصنفات الشيخ، وكتاباته -من الكتب، والرسائل، والمسائل، والخطب، والمكاتبات- على النحو التالي:
أولا: من الكتب:
1-
أصول الإِيمان.
2-
التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
3-
كتاب الكبائر.
4-
كشف الشبهات.
5-
مختصر الإِنصاف، والشرح الكبير في فقه الإِمام أحمد بن حنبل.
6-
مختصر زاد المعاد لابن القيم.
7-
مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: ومن الرسائل:
1-
تلقين أصول العقيدة للعامة.
2-
ثلاث مسائل يجب تعلمها على كل مسلم ومسلمة.
3-
قواعد الدين الأربع.
4-
مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية.
5-
مفيد المستفيد، في كفر تارك التوحيد.
ثالثا: ومن المسائل:
1-
أحكام الردة.
2-
الإِيمان: قوته، وضعفه، ومحله، وعلاقته بالتقوى.
3-
تسمية المعبودات أربابا.
4-
طلب العلم فريضة.
رابعا: أما خطبه فقد جمعت مع خطب بعض أحفاده، وهي ما بين ثمانين وتسعين صفحة.
وأما المكاتبات، فقد بلغ عدد المطبوع منها إِحدى وخمسين رسالة، وهي مطبوعة في مجلد خاص ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب1.
1 د/ محمد أحمد الضبيب: آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 25.
وفاته
وفي آخر شهر شوال سنة ست بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- كان قضاء الله المحتوم، وحكمه الذي لا يرد، بوفاة الشيخ العالم، والمصلح المجدد، والعابد الأواب، والمجاهد النحرير، شيخ الإِسلام محمد ابن عبد الوهاب، حامل لواء التوحيد الصحيح الذي أنزله الله في كتبه على رسله الكرام البررة، على حين فترة من الإِصلاح، فقام في الناس مقام أبي بكر في الردة، وأحمد بن حنبل في الفتنة، فرحمه الله رحمة واسعة، وألحقه بالصالحين، وخلد ذكره في العالمين آمين.
وكان عمره قد تجاوز التسعين عاما، قضاها في سبيل الله، والدعوة إِليه، وتطهير البلاد والعباد من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
البيئة التي ظهرت فيها الدعوة
والمراحل التي مرت بها
لقد اتسمت البيئة التي ظهرت فيها دعوة التوحيد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بعد تعرضها لعوامل تاريخية أفسدتها، بعدد من المؤثرات، يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند الحديث عن هذه البيئة، وما واجهها من تحديات. فمن الناحية الجغرافية، نرى جزيرة العرب، ونجدا بالذات، تكثر فيها الجبال والأودية والصحاري، وتنتشر فيها الواحات والقرى التي كانت مجالا للدعوة في المراحل التاريخية التي مرت بها، وذلك مثل: حريملاء، والعيينة، والدرعية. ومن الناحية السياسية، نرى إقليم نجد في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري مقسما إِلى عدد من الإِمارات الصغيرة، والمشيخات، فكانت الإِمارة في العيينة -بلد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- لابن معمر، وفي الدرعية لابن سعود، وفي الرياض لابن دوّاس، وفي الخرج لابن زامل، بالإِضافة إلى إمارات ومشيخات صغيرة لا يعبأ بذكرها1.
1 د/ عبد الرحيم عبد الرحمن: تاريخ العرب الحديث والمعاصر ص 60.
ولم يكن لهذه الإِمارات والمشيخات نظام سياسي معروف، إِلا ما قضت به أهواء أمرائها، وعاداتهم، ولم تكن هناك رابطة سياسية تربط بينها، بل كانت الحروب قائمة في معظم الأحيان بين أمرائها، وكان العداء مستمرا بين البدو والحضر، حتى عمت الفوضى، وكثرت الانقسامات، وافترقت الكلمة1.
ومما تجدر ملاحظته أن إِقليم نجد لم يخضع للدولة العثمانية في تلك الفترة السابقة لبدء ظهور الدعوة على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فلم يشهد الإقليم ولاة عثمانيين، ولا حاميات تركية، على الرغم من وجود النفوذ العثماني -وإِن كان نفوذا اسميا- على أطراف هذا الإِقليم بالحجاز، والأحساء، ولعل السبب في ذلك يعود إِلى وعورة أرضه، وتمكّن التوزيع القبلي والعشائري فيه، ولم تكن هناك فائدة ترجى منه2.
ومن الناحية الدينية، ساد في نجد الجهل الذي كان سببا في انتشار الفساد الأخلاقي، والعقدي3.
ولهذا لا يكون من المبالغة القول: إِن معظم إِقليم نجد -في أيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب- أشبه بحالة العرب الأولى، فهو ينقسم إِلى حاضرة، وبادية، ومجتمع البادية -وهو الأغلب-يقوم على العشائر
1 أحمد أمين: زعماء الإصلاح، ص 17-18.
2 د/ عبد الرحيم عبد الرحمن: تاريخ العرب الحديث والمعاصر ص61.
3 د/ آمنة نصير: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، منهجه في مباحث الدعوة، ص58.
التي تكون قبيلة واحدة، ولكل قبيلة أمير، أو شيخ نافذ الكلمة فيهم.
وقد عاد إِلى معظم هذه القبائل حميتها الجاهلية، وعصبيتها القبلية البغيضة، فساد بينها السلب، والنهب، والقتل، وبلغ فيها الجهل، والخرافة مبلغهما، وتفشت الرذيلة، والأخلاق الفاسدة بين جماعات في البادية، حتى في الأماكن الشريفة كـ:(مكة) ، حيث تنتهك الحرمات، وترتكب المخالفات1.
وأما الحاضرة، فقد يوجد في البلد الواحد عدة أمراء، وقد غلب على كثير من هؤلاء الأمراء الظلم، والجور. ومن الناحية العلمية، حظيت الحاضرة بنوع من التعليم، والثقافة لاستقرارها، إِلا أن أكثر اهتمام علماء نجد لم يكن يتجاوز المسائل الفرعية في الفقه، يحفظون متونها، وشروحها، وحواشيها، دون تحرير أو تحقيق أما نصيبهم من علم التوحيد، والتفسير، والحديث، واللغة، فقليل لا يكاد يذكر2.
وغلب على أكثر هؤلاء العلماء السكوت على منكرات العامة، فساعد سكوت العلماء، وفساد الحكام على انتشار الفساد الأخلاقي والاجتماعي. وقد انتشر الشرك الأكبر، لكونه ثمرة مرة من ثمار الجهل
1 عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، 1/6-7.
2 عبد الله البسام: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/28.
والخرافة، وفشا الاعتقاد الفاسد في الجنّ، وفي الأولياء، أمواتا وأحياء، وصار كثير من الناس يعتقدون فيهم القدرة على جلب النفع، ودفع الضر، فأصبحوا يستغيثون بهم في النوازل والحوادث، ويستعينون بهمِ في قضاء الحاجات، ويقدمون لهم النذور والقرابين والهدايا؛ خوفا من غضبهم، وجلبا لبرهم، بل إِن كثيرا من الناس اعتقدوا في الجمادات، كالأشجار، والأحجار، أن لها تأثيرا في جلب المنافع، ودفع المضار1.
ويصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب حال أهل نجد في إحدى رسائله الشخصية قائلا:
((وعرفت ما الناس فيه من الجهل، والغفلة، والإِعراض عما خلقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ، وأفعال، أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير)) 2.
وقد عالج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بمنهج تربوي إسلامي، هذا الواقع المريض، وطلب له الدواء الشافي من القرآن، والسنة، في ضوء فقه سديد بهما.
ولم يأل الشيخ جهدا في معالجة الأحوال بالدروس واللقاءات
1 حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام، 1/10-11.
2 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 5/170.
والرسائل والإِصلاحات المباشرة التي تعمل على تغيير الواقع، وتواجهه بقوة، وحسم، كاشفة علله وأمراضه، رابطة إِياه بجذوره في الماضي، موجهة إِياه إِلى استشراف المستقبل، محققة ربطا موصولا بين الماضي، والحاضر، والمستقبل.
وعندما نستحضر في ذهننا كتب الشيخ، ورسائله، وسائر جهوده العلمية والدعوية، تتكون لدينا صورة واقعية واضحة عن مساحة الضوء، وكثافة الجهد، اللذين قدمهما الشيخ خدمة للناس، وعلاجا لأمراضهم، ودفعا لهم نحو مستقبل أفضل لا ينفصل عن ثوابت الماضي، ولا يندفع دون ضوابط -عقدية وقيمية- نحو المستقبل.
وكان هاجس المستقبل المنشود للدعوة الإِسلامية التي جددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يحتل مكانة أساسية في ذهن الشيخ وهمه ومشروعه الإِصلاحي، وتفيدنا رسائله إِلى رؤساء القبائل، وإِلى العلماء، في أرجاء الجزيرة العربية وخارجها، إِلحاحه في بيان أهمية الدولة الإِسلامية التي تحمي رسالة التوحيد، وتقيم حدود الشريعة، وتردّ الناس إِلى دين الإِسلام، بعد أن دب الضعف، والهزال فيهم، وراحت الأطماع السياسية لدى بعض أبناء الأمة الإِسلامية ممن انضووا تحت رايات القومية الملحدة، والدعوات المادية، والتغريبية، والعلمانية راحت هذه الأطماع تتوزع العالم الإِسلامي، وتتخطفه من كل جانب.
لقد أدرك الشيخ محمد بن عبد الوهاب أهمية أن تحمى العقيدة والدعوة بدولة قوية، تستلهم القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وتاريخ الأمة المشرف؛ لتخرج الأمة من ورطتها، ومن ثمّ تعمل على أن تخرج الناس جميعا من ظلمات الجهل، والشرك، إِلى نور العلم، والتوحيد، حتى تعود للإِنسان إِنسانيته التي ضاعت بأيدي البشر تحت نير الخرافة، وسطوة الدجل، وحتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
هذا، وفي طريق تحقيق هذا المستقبل المنشود، مرت الدعوة بعدة مراحل، شأنها شأن كل دعوة إِصلاحية:
المرحلة الاولى: مرحلة التمهيد والتكوين:
بدأت هذه المرحلة في بلدة حُرَيْملَاء، وظل الشيخ في هذه المرحلة منشغلا بالعلم والتعليم، وأعلن دعوته، واشتد في إِنكاره، حتى شاع خبره، وصار الناس في أمره فريقين: فريقا مؤيدا، وهم القلة، وفريقا معارضا، وهم الكثرة، لكنه استطاع بما أوتي من فصاحة، وقدرة على إِبراز الأدلة، أن يقنع كثيرا من الناس ببطلان ما هم عليه من الشرك.
يقول حسين بن غنام -تلميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب-:
((وأتى إِليه أناس كثيرون، وانتظم حوله جماعة اقتدوا به، واتبعوا طريقه، ولازموه، وقرأوا عليه كتب الحديث، والفقه، والتفسير)) 1.
1 روضة الأفكار والأفهام، 1/77.
ولما كانت الدعوة لم تقو شوكتها بعد، وهمّ نفر في حريملاء أن يستأصلوها، انتقل الشيخ إِلى العيينة مسقط رأسه1.
المرحلة الثانية: مرحلة التطبيق:
وكانت في "العيينة"، حيث عرض الشيخ دعوته على أميرها عثمان بن حمد بن مُعَمَّر، فقبل الأمير عثمان دعوته، وتكفل بنصرتها، وحينئذ أعلن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقطعت الأشجار التي يتبرك الناس بها، وهدمت القباب التي اعتقد الناس فيها، ولم يكن ذلك سهلا، لولا توفيق الله، ثم توفر القوة المادية التي تحققت من قوة الإِمارة.
واستمر الشيخ في إِلقاء الدروس، ونشر التعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواظب على ذلك حتى تألب الأعداء عليه، وأرسل بعض رؤساء القبائل إِلى أمير "العيينة" أن يخرج محمد بن عبد الوهاب من بلدته، وإِلا فعلوا به، وفعلوا، فأدرك الشيخ خطورة ذلك على الدعوة، وانتقل مع بعض أتباعه إِلى "الدرعية".
المرحلة الثالثة: مرحلة التمكين:
وجدت الدعوة في الدرعية من ينصرها، ويحميها، ويوفر لها أسباب النجاح، مما ساعد الشيخ على المضي في ترسيخ أسس دعوته
1 حسين الشيخ خزعل: تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 75.
الإِصلاحية، وتحديد المهمات الكبرى التي يتحقق بتطبيقها المستقبل المنشود مستعينا بالله -تعالى- ثم بآل سعود الذين قادوا الدعوة من خلال دولة الدعوة، بأقصى ما يستطيعون في ظل أحوال بالغة الصعوبة.
وبعد أن كان الشيخ يراسل العلماء ورؤساء القبائل، يوضح لهم دعوته، ويطلب تزكيتها لدى من يعيشون تحت إِمارتهم ونفوذهم، صار الشيخ ينصحهم بلزوم الطاعة، والانقياد لدولة الدعوة، حتى تكاثر عليه الخصوم، ونهضوا عليه جميعا بالعدوان، وصاحوا في جميع البلدان بتكفيره، وتكفير من معه، وأباحوا دماءهم، وأخذوا في إجلائهم عن البلاد1.
وعندها لجأت دولة الدعوة إِلى السيف، ودعا إِمامها الإِمام محمد بن سعود إِلى الجهاد.
وجاهد هو، وجند الدعوة، أعداءها حتى كتب الله لهم النصر. وفي هذه المرحلة الجهادية كان المنهاج التربوي الدعوي للشيخ محمد بن عبد الوهاب يتدرج، مرتبطا بحالة الدعوة وأوضاعها، وينتقل من طور الدعوة الفردية، إِلى طور الدعوة الجماعية، ومن طور تأليف القلوب ومخاطبة العقول، إِلى طور التغيير باللسان واليد، وبخاصة في مرحلة وجود الدولة الحاضنة له، ولدعوته.
1 حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام، 1/83.
على أنه في أثناء مسيرته كلها، ظهرت معالم هادية، تحتاج إِلى رصد.
لقد أقام الشيخ دعوته -مهما تغير الزمان والمكان- على أسس تربوية هادية ثابتة، صالحة للبقاء ما بقي الإِنسان إِنسانا، وما بقي الإِنسان باحثا عن الدين الحق، والفطرة الصحيحة، والغايات النبيلة، والمثل العليا.