الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبليغ الدعوة
المنطلق
…
المنطلق
لا شك أن المنهاج التربوي السائد لدى أي أمة، يجب أن يراعي ثلاثة أمور، يتعلق كل أمر منها بقسم من أقسام الزمان: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وهذه الأمور الثلاثة تكمن وفق هذا الترتيب فيما يلي:
أولاً: الإِرث الثقافي والحضاري، وهذا يتعلق بالماضي، من حيث البحث في سلبياته وإِيجابياته، سواء فهمت على وجهها الموضوعي، وقومت تقويما صحيحا، واستخلصت منها العظة والعبرة، أم فهمت على غير وجهها، وسواء أكان المنهاج الموضوع ضد هذا الإِرث، أم معه.
ثانيا: الواقع المعيش الذي يعانيه أصحاب هذا المنهاج، وما يحيط بهم من تأثيرات جغرافية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو ثقافية، إِضافة إِلى التحديات التي تواجههم مرحليا، أو استراتيجيا.
ثالثا: المستقبل المنشود لهذه الأمة وما ينبغي أن يُبدأ به، أو يركّز عليه، حسب الأولويات التي يمليها المنهاج، بغية تحقيق هذا المستقبل الذي ينبغي أن تتضافر الجهود، لكي يكون أفضل من الواقع الموجود في الحاضر، والذي سرعان ما تطوى صفحته، ويسبقه الزمان.
ومن هذا المنطلق الذي لا يكاد يُختلَف عليه، ننظر إِلى المنهاج التربوي لدعوة الشيخ المجدد، شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله.
* فبالنسبة للعنصر الأول: لا يكاد يختلف أحد من المنصفين، على أن ماضي هذه الأمة الإِسلامية، وتراثها الثقافي والحضاري، قدّم أعظم مثل يمكن أن يستلهمها المسلمون اليوم، من خلال تجربة حضارية طويلة رائعة، تكفل للأمة النهوض من الهوة الحاضرة، التي مرت بمثلها، في فترات عديدة من التاريخ، وذلك حين تنفصل عن ثوابتها، ويصبح واقعها أشبه بحال الأمم المنقرضة، والتي استطاع الإِسلام أن يتغلب عليها بثقافته، وحضارته المتجددة المتأبية على الانسحاق، والانطماس.
وحول أصالة هذا المنهاج، وقدرته الثابتة، يقول الإِمام مالك بن أنس، إِمام دار الهجرة، حين رأى بعض الصور السلبية:
((لن يصلح آخر هذه الأمة إِلا بما صلح به أولها)) .
وبمقدار استيعاب الأمة لهذه الحكمة الواعية البصيرة التي استقاها مالك بن أنس، رحمه الله، من صفحات فجر الإسلام وضحاه، ومن فقهه الرشيد بطبيعة هذا الدين، وحاجة الإِنسانية إِلى مبادئه، وحاجتها إِلى وجود أمة تحمل المبادئ -قولاً وعملاً- للعالم
وانطلاقا من أنَّ هذه الأمة -كما أدرك مالك أيضا- تختلف عن كل الأمم في أبجديات الرُّقي الحضاري؛ ذلك لأننا قد علمنا من الوحي، ومنِ التجارب البشرية التي تعرض لها المسلمون خلال أربعة عشر قرناً، أنه إذا صح أن تتطور الأمم الأخرى بنبذ ماضيها، وتراثها، وعقائدها، وبالبحث عن جديد، مهما كان مخالفاً لهذا الماضي، فإِنه لن يصح لهذه الأمة الإِسلامية المصطفاة لحمل آخر رسالة إِلهية إِلى البشر أن تخضع لهذه المعادلة، ذلك لأن هذه الأمة تختلف تمام الاختلاف عن الأمم الأخرى، فلا يمكن لها أن تنهض من كبوتها، أو تتطور إِلى الأمام، إِلا إِذا عادت إِلى منطلقها، وقواعدها الثابتة.
ولعل سائلاً يسأل: لم تنفرد الأمة الإِسلامية عن بقية الأمم؟ هل هو غرور استعلائي عنصري؟ أو هو حب للتخلف؟ أو تقديس للماضي؟
إِن الإِجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، لا يمكن أن يقدّرها حق قدرها إلا من وقف على خصائص الإِسلام، الدين الخاتم، والرسالة الخاتمة، ووقف أيضاً على وظيفة المسلمين.
إِن هذا الدين يتميز بخصائص كثيرة يتفرَّد بها عما لدى الأمم الأخرى من مناهج، ولعل من أهم هذه الخصائص: خاصية أن مصدر هذا الدين كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه،
وهي الخاصية الوحيدة التي يمكن أن تنتج ارتقاءً وتطوراً، يتجه في النهاية إِلى أعلى، وإِلى تحقيق صلة مستقيمة بين الإِنسان، وخالقه من خلال القيم الثابتة التي لا تؤثر في وضوحها ونقائها، عوامل التعرية الزمانية.
كما أن المسلمين أراد الله لهم -في ظل ختم الرسالة- أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، يدعون إِلى الله إِلى يوم القيامة.
ومن هذا المنطلق كان إِيمان الشيخ محمد بن عبد الوهاب بضرورة التمسك بأصول هذا المنهاج الرباني، من عقيدة، وشريعة، وأخلاق، بل بضرورة التمسك بالخطوات التي كان يترسمها السلف الصالح، وهذا ما أشارت إِليه الآية الكريمة:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التّوبة من الآية 100] .
فاتّباع السلف الصالح الموصّل إِلى رضوان الله -سبحانه- مشروط بالإِحسان في الاتّباع، وليس أيّ اتباع، صحيحاً، أو مغلوطاً، أو مشوباً ببعض آثار الفوضى الفكرية، أو العاطفية، كما يريد فريق من الناس أن يخدع نفسه، ويخادع الناس من حوله حين يقوم ببعض شعائر الدين، فتنسيه بقية المهمات الشرعية الكبرى، بحجة أنه متبع للسلف الصالح.
فهذا الإِحسان في الاتباع، هو المحك الأكبر، والمؤشر الأدق لمدى
قرب هذا المنهج، أو بعده مما يرضي الله، سبحانه وتعالى.
وهذا الإِحسان دائرته أدق، وأعمق من دائرة الإِيمان الذي تعد دائرته -هو أيضا- أدق، وأعمق من دائرة الإِسلام، فلا يكون إِحسان حتى يكون إِيمان، ولا يكون إِيمان حتى يكون إِسلام، وإِذا اختل الإسلام في أحد أركانه، اختلَّ الإِيمان -ولا بد- في أركانه، وعليه يضعف الأمل في بلوغ رضا الله، الذي تعبِّر عنه مرحلة الإِحسان.
إِنه لا بد من تصحيح الإِسلام -أولا- في قلوب المسلمين، وسلوكهم، فإِذا تم ذلك، ارتقى الإِنسان بإِسلامه، وإِيمانه إِلى درجة الإِحسان، وهناك يغرس حجر الأساس -من خلال هذا الالتزام- للفعالية والوثوب الحضاري المنشود.
ولذلك كان اهتمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتصحيح الاعتقاد، وكان تركيزه على تصحيح إِسلام الناس الذين يحيطون به في نجد، نواةً لشجرة الإِسلام العظمى، وعلى توفير أسباب الحماية اللازمة لها -قدر الاستطاعة- من القوى المعادية، التي تحرص ألا تنبت هذه النواة، التي يمكن أن تصبح بعد ذلك شجرة إِيمانية قوية، يتعذر اقتلاعها، لأنها ليست شجرة شركية مزيفة، مثل التي كانوا يعبدونها، ويتقربون إِليها. لقد ألفوا العيش في الحرّ والعري، وقد رأوا الشجرة شبحاً مخيفاً،
وراحوا يستنجدون بظلال كاذبة، ذاهبة أو آيبة، شرقية أو غربية، أو بظلال ضعيفة هزيلة، لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فعاش أناس منهم حيناً من الزمان يطلبون منها المدد، والعون والسند، ولكن هيهات، ثم هيهات. ومن هذا المنطلق، وضغوطه راح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعد العدّة، وأخذ يطلب العلم الشرعي على الطريقة السلفية الأولى، طريقة التلقي والمشافهة للعلماء العاملين، وعكف على البحث والاطلاع، ومحَّص وميَّز، وعرف ما يضر وما ينفع، فتحاشى الخلافات الكلامية، وأبى كل الإِباء أن يجترّها أمام أقوام ليس من مصلحتهم أن يسمعوها، أو يقرؤوا عنها أصلاً، فخرجت كتبه ورسائله خالية من التقعر والتكلف، نقية من الغوص فيما لا ينفع الخاصة، ولا يفهمه العامة من الناس، لكنها في الوقت ذاته تأخذ بعقول الأكياس. لقد أرسلت كتابات الشيخ مسائل الاعتقاد إِرسالا، كأنها مسلمات -وهي كذلك- لا تتطلب جدلاً عقيماً، أو سفسطة باردة، فغزا الشيخ بهذا اليسر والسهولة في بيان العقيدة الصحيحة، قلوب الناس، تماماً، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ومن تبعهم بإِحسان.
ويقع بعض الباحثين في خطأ استبعادهم أن يكون للشيخ محمد بن عبد الوهاب نوع من دراسة للفسلفة والمنطق، لمجرد أنه لا توجد في كتبه، ولا رسائله تلك التعمقات الفلسفية، والتشعبات المنطقية1.
ونحن نقول:
إِن الشيخ -كما هو معروف لدى الجميع- قد تربى على المدرسة السلفية، مدرسة ابن تيمية، وابن القيم، وأمثالهما، وهي مدرسة مشهورة بالاهتمام بمعالجة القضايا العقائدية، وغيرها بالأدلة النقلية والعقلية معاً.
ولعلّ من أعظم الأمثلة على ذلك كتاب شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: (درء تعارض العقل والنقل) فهو كتاب ضخم مليء بهذا النوعِ من التزاوج بين الوحي والعقل، ولكن الشيخ كان يدرك جيداً أن هذه المعارك الكلامية قد عفا عليها الزمان، وليس وراءها كبير طائل، ولا سيما مع العوام، وأشباه العوام، الذين هم القاعدة العريضة للعالم الإِسلامي كله، وليس في نجدٍ وحدها.
إننا نرى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد غربل التراث الثقافي غربلة كافية، واستلهم الأصول الأولى لهذا الدين استلهاماً جيداً، حتى السيرة النبوية التي يعتبرها البعض ليست
1 لافي خليفة سالم العازمي: المنهج التربوي في دعوات الإصلاح في العصر الحديث -رسالة ماجستير- ص18 وما بعدها، إشراف د. حامد طاهر سنة 94/1995م.