الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طاعة أولي الأمر والنصح لهم
لا ينكر عاقل أن لقوة السلطان أثراً عظيماً في نشر الدعوات والأفكار، بالإضافة إلى القوة المعنوية، والحجج والبراهين العقلية والنقلية.
ومن البديهي أن أي دعوة إذا لم يكن لديها من القوة ما يكفي لحمايتها والذود عنها، فإنها سرعان ما تتكالب عليها قوى الشر والطغيان، حتى تستأصل خضراءها فلا يمكن للحق أن ينتشر دون قوة تسنده، وتحميه، وتفرض هيبته.
وتظهر الأهمية البالغة للقوة في قول الله تعالى:
وكذلك تظهر أهمية القوة في قوله تعالى:
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء: 80] .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:
((قال قتادة: فيها إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا
بسلطان، فسأل سلطانا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإِقامة دين اللِّه، فإِن السلطان رحمة من الله، جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم)) . ويعلق ابن كثير على قول قتادة قائلا:
((وهو الأرجح، فإِنه لابد -مع الحق- من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} الآية [الحديد: 25] ، ويقول عثمان بن عفان رضي الله عنه ((إِن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)) .
أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والَاثام ما لا يمتنع كثير من الناس عنه بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع)) 1.
ومن هنا كانت نظرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الاستعانة بقوة السلطان؛ لكي تنجح دعوته في منطقة تعمها الفوضى الدينية والاجتماعية والسياسِة.
وكان من الصعب -والحالة هذه- الوصول إلى أي خطوة عملية مؤثرة في التغيير، والإِصلاح بالجهد الدعوي المجرد، ومن هنا اتجه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعزمه وطموحه؛ ليضع يده في يد أولي الأمر
1 تفسير ابن كثير، 3/58.
أصحاب السلطة والحكم، الذين آمنوا بالعقيدة والشريعة، وسعوا إلى توحيد الجزيرة العربية كلها تحت راية واحدة، مدركا كل الإدراك، وواعيا كل الوعي، أنه ليس من السهل نشر الدعوة في البلاد القاصية والدانية في مدة قصيرة أو معقولة، إلا بحماية أمير ذي قوة ونفوذ، بمساعدته ومساعدة رجال دولته.
لقد فطن الشيخ إلى الفروق الكبيرة بين دعوة لا تؤازرها قوة الحكم، مثلما كان حال المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ودعوة يعضدها الحكم، ويهيء لها أسباب حمل الرسالة، ويضع كل إمكانات دولته في خدمة الدعوة، وذلك مثل حال المسلمين في المدينة بعد الهجرة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالفرق كبير بين الحالين والجهدين، والنتائج جد مختلفة.
وكانت هذه المفاهيم الصحيحة، والآراء العلمية هي التي دعت الشيخ إلى مكاتبة أمير العيينة عثمان بن معمر؛ فقد أرسل إليه رسالة ضافية، ينتهي فيها إلى حثة على مناصرة دعوة الإصلاح بقوته قائلا:((إني لأرجو -إن أنت قمت بنصر: لا إله إلا الله- أن يظهرك الله تعالى، وتملك نجداً وأعرابها)) 1.
وبصرف النظر عن موقف الأمير عثمان منه بعد فترة وجيزة، فإن
1 عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد: عن طريق: محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم، للأستاذ مسعود الندوي، ترجمة عبد العليم عبد العظيم، ص37.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب استطاع في هذه الأثناء أن يصدع بدعوته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرِ، لدرجة أن بعض أهل العيينة بدؤوا يجنحون لقبول الحق رويداً رويداً وفي هذه المدة تصدى الشيخ للقضاء على بعض مراكز البدع، ونجح في مهمته1.
ولما انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إِلى "الدرعية" استقبله -كما ألمحنا سابقا- أميرها (محمد بن سعود) ، فعرض عليه الشيخ أصول دعوته، مبينا له المعنى الصحيح لكلمة التوحيد:(لا إِله إِلا الله) وآفاق وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعنى الجهاد، ثم ذكر بعض المساوئ الموجودة في أهل نجد، ولفت نظره إِلى مسؤوليته أمام الله في إِصلاحها، فما كان إِلا أن تأثر الأمير، ونطق قائلا:
((يا شيخ، إِن هذا دين الله، ورسوله الذي لا شك فيه، وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:
- نحن إِذا قمنا بنصرتك، والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنّا، وتستبدل بنا غيرنا.
- إِن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار، أخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئا.
1 مسعود الندوي: محمد بن عبد الوهاب -مصلح مظلوم-ص36، 37.
قال الشيخ: أما الأولى: فابسط يدك، الدم بالدم، والهدم بالهدم.
وأما الثانية: فلعل الله يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها)) .
وكانت هذه اللحظة هي اللحظة التاريخية الفاصلة في تاريخ الدعوة الإصلاحية، وقد وفق الله فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب توفيقاً عجيباً.
وذلك حين تحقق التآخي والتلاحم والتآزر بين الدعوة التي يقوم بها، والدولة السعودية؛ فقد ناصره، وحماه، وتبنى آراءه أمير الدرعية محمد بن سعود، الذي استطاع -تحت راية الدعوة- إخضاع أكثر إمارات نجد لسلطته، وأتم ابنه الإمام عبد العزيز، ثم سعود، توحيدها، وإقامة الدولة السعودية في شبه الجزيرة العربية.
وهذه كانت ثمرة رائعة لفقه الشيخ محمد في استنصاره بأهل السلطان من أجل نصر الدعوة، كما كانت نتيجة فقهه في وجوب طاعة ولاة الأمر في المعروف والاستعانة بهم على الحق، ومؤازرتهم إنه فقه الإسلام، وشريعته التي أوجب الله فيها طاعة ولاة الأمر، والنصح لهم، والتعاون معهم، وحرم فيها الخروج على الخليفة أو الحاكم، ولو كان فاجرا؛ وذلك لما يترتب على الخروج عليه من المفاسد الضارة بالأمة.
يقول في رسالته إِلى أهل القصيم:
((وأرى الجهاد ماضياً مع كل إِمام، براً كان أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة، وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه)) 1.
وقد أثبتت التجارب السياسية في القرن الرابع عشر للهجرة القرن الذي يمكن أن يطلق عليه (قرن الانقلابات والثورات) ، ولا سيما في العالم الثالث، وعالمنا العربي والإِسلامي أثبتت هذه التجارب صدق هذا الفقه.
فنَزعات الخروج والهيجان الثوري، وعدم الانضباط، والانقياد لكل ناعق نزعات مدمرة، انتهت بمجتمعات كانت غنية إِلى الفقر، ومجتمعات كانت آمنة إِلى القلاقل والفتن التي صعب التحكم فيها، والسيطرة عليها وهكذا يبدو عمق النظرة لدى الشيخ محمد، ولدى الفقهاء المسلمين، والدعاة الناصحين الذين يوجبون طاعة ولاة الأمر، ويطالبون بالإِصلاح والتقويم من خلال القنوات الشرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والالتزام بالمبدأ الأصولي القائل:((درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)) .
1 مؤلفات الشيخ -القسم الخامس- رسائله-ص11.