المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإتباع للسلف لقد كثرت الأقاويل حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب - تأملات في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

الفصل: ‌ ‌الإتباع للسلف لقد كثرت الأقاويل حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب

‌الإتباع للسلف

لقد كثرت الأقاويل حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته، فافترى عليه نفر من الناس، وخاضوا في الحديث عن دعوته بغير علم، وكأنه كان بدعا في تاريخ المصلحين، أتى لهم بمذهب جديد.

والحق أن دعوته هي دعوة الإسلام، ومنهاجه الرشيد، نهجها الاتباع لا الابتداع، ترد الناس إلى الشريعة الإسلامية في مصدريها الأساسيين: القرآن، والسنة، وهي -مع ذلك- تقدر المذاهب الفقهية المعتبرة، والاجتهادات الفرعية المستندة على الدليل من الكتاب والسنة. يقول الشيخ محمد في رسالته إلى (السويدي) من علماء العراق:((وأخبرك أني -ولله الحمد- متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم إلى يوم القيامة)) 1.

وفي رسالته إلى علماء بلد الله الحرام يقول:

((فنحن -ولله الحمد- متبعون، غير مبتدعين، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل)) 2.

1 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 5/36.

2 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 5/40.

ص: 85

((وأنا أشهد الله وملائكته، وأشهدكم على دين الله ورسوله: أني متّبع لأهل العلم)) 1.

ولقد أكد الشيخ، رحمه الله، في غير موضوع من رسائله، وفتاواه، وكتبه ضرورة الرجوع إِلى الكتاب والسنة، حتى لا تطغى آراء العقول على الوحي والأصول.

فقد أجاب الشيخ أحمد بن مانع عن مسائل سأل عنها بقوله:

((وأما المسائل التي ذكرت، فاعلم -أولا- أن الحق إِذا لاح واتضح، لم يضره كثرة المخالف، ولا قلة الموافق، وقد عرفت بعض غربة التوحيد الذي هو أوضح من الصلاة والصوم، ولم يضّره ذلك، فإِذا فهمت قول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النّساء: 59] . وتحققت أن هذا حتم على المؤمنين كلهم، فاعلم أن مسألة الأوقاف فيها النّزاع معروف في كتب المختصرات، وذكر في شرح (الإِقناع) في أول الوقف أنهم اتفقوا على صحة وقف المساجد والقناطر، يعني نفعهما، لا الوقف عليهما. واختلفوا فيما سوى ذلك. إِذا تبين هذا، فأنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا

1 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 5/42.

ص: 86

هذا ما ليس منه فهو رد "1. وفي لفظ الصحيح: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "2. وتقطع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بهذا، ولو أمر به لكان الصحابة أسبق الناس إليه، وأحرصهم عليه3.

ثم إنه في حالة النّزاع يجب الرد إلى الله ورسوله، ولا يسع المسلم إلا ذاك.

وفي جوابه على مسائل سأله عنها الشيخ عبد العزيز الحصين يقرر ذلك، وكانت المسألة الأولى عن العروض، هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها؟ فأجاب الشيح محمد بقوله:

((فأما المسألة الأولى: ففيها روايتان عن أحمد، إحداهما: المنع؛ لقوله: " في كل أربعين شاة شاة، وفي مائتي درهم خمسة دراهم "4 وأشباهه. والثانية: يجوز، قال أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع تمر نخلة، فقال: عشره على الذي باعة، قيل: يخرج تمرا أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج تمرا، وإن شاء أخرج من الثمن.

إذا ثبت هذا، فقد قال بكل من الروايتين جماعة، وصار نزاع فيها، فوجب ردها إلى الله والرسول)) 5.

1 رواه البخاري في الصلح (2697) ، ومسلم في الأقضية (1718/17) ، من حديث عائشة، رضي الله عنها.

2 رواه مسلم في الأقضية (1718/18) ، من حديث عائشة، رضي الله عنها.

3 مؤلفات الشيخ -القسم الثالث- فتاوى ومسائل - ص88، 89.

4 رواه الترمذي في الزكاة (621) ، وأبو داود في الزكاة (1568) ، وابن ماجه في الزكاة (1805) ، من حديث سالم -عن أبيه-.

5 مؤلفات الشيخ -القسم الثالث- فتاوى ومسائل - ص95.

ص: 87

ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على أن دين الله الحق، هو الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل أعطى رسوله جوامع الكلم، وأنه عليه الصلاة والسلام يتكلم بالكلمة الجامعة، وبهذا أكمل الله لنا الدين، وأغنانا بهذا عن إِحداث شيء في الدين ليس منه، فإِنه يكون بدعة وضلالة. يقول الشيخ:

((اعلم -أرشدك الله- أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي هو العلم النافع، ودين الحق الذي هو العمل الصالح، إِذ كان من ينتسب إِلى الدين، منهم من يتعانى بالعلم والفقه، ويقول به كالفقهاء، ومنهم من يتعانى العبادة وطلب الَاخرة، فبعث الله نبيه بهذا الدين الجامع للنوعين. ومن أعظم ما امتن الله به عليه، وعلى أمته أن أعطاه جوامع الكلم، فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة، تكون قاعدة جامعة، يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصى، وكذلك يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلمة الجامعة.

ومن فهم هذه المسألة فهماً جيداً فهم قوله تعالى:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة من الآية: 3] ، وهذه الكلمة أيضا من جوامع الكلم؛ إِذ الكامل لا يحتاج إِلى زيادة.

فعلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما

ص: 88

أوصانا بقوله: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "1.

وفهم أيضا معنى قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} [النّساء: 59] .

فإذا كان الله -سبحانه- قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي إلى كتابه، وإلى الرسول، أي إلى سنته، علمنا قطعا أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع فيه الناس، وجد فيه ما يفصل النّزاع)) 2.

ويتابع كلامه، فيوجب في محل النّزاع الرد إلى الله والرسول، إذا اختلف كلام أحمد، وكلام أصحابه، يقول رحمه الله:

((إذا اختلف كلام أحمد، وكلام أصحابه، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله والرسول، لا إلى كلام أصحابه وبالجملة، فمتى رأيت الاختلاف، فرده إلى الله والرسول)) 3.

ولا يحمل الشيخ الناس على اتباع كلامه، إنما يدعوهم إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي رسالته إلى الشيخ فاضل آل مزيد يقول:

((إني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها، ولا تأخذوا من

1 رواه أبو داود في السنة (4607) ، والترمذي في العلم (2676) ، وابن ماجه في المقدمة (42) ، من حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه.

2 مؤلفات الشيخ -القسم الثالث- فتاوى ومسائل - ص31، 32.

3 مؤلفات الشيخ، 3/32-33.

ص: 89

كلامي شيئا، لكن إِذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم فاتّبعوه، ولو خالفه أكثر الناس)) 1.

ويصرح في غير موضع، بأنه لا يدعو إِلى مذهب، إِنما يدعو إِلى الكتاب والسنة:((ولست -ولله الحمد- أدعو إِلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إِمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم، بل أدعو إِلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إِلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه، إِن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه لا يقول إِلا الحق)) 2.

ولم يقصد الشيخ محمد رحمه الله، بالاتباع، إِغلاق باب الترجيح بالدليل، والاجتهاد في المذهب، أو إِغلاق باب التطور العلمي، بل إِنه على العكس من ذلك، فهو حين يدعو إِلى عدم تقديس كلام الأئمة المجتهدين، وضرورة العودة إِلى الكتاب والسنة، إِنما يحافظ على صلة الناس بمصادر الإشعاع الأولى الكفيلة -بجوامع كلمها، وآفاق معانيها، وغزير كنوزها- بمواجهة كل التطورات والتغيرات، فالكتاب والسنة يشيعان في النفس والعقل معاني متجددة، ويقدمان أنواعا مختلفة من العلاج تواجه كل العصور.

1 مؤلفات الشيخ، 5/32.

2 مؤلفات الشيخ، 5/252.

ص: 90