الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهاشم هذا هو الجد الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك قبل الهجرة بمائة سنة على الأكثر، وهو العهد الذي نبغ فيه عدي بن ربيعة التغلبي الملقب بالمهلهل، خال امرئ القيس، وقال الأصمعي: إنه أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر، تقول: ولعل هذه الكلمة هي التي قام بها على قبر أخيه كليب ومطلعها:
أهاج قذاة عيني الادكار
وإذا كان الشعر العربي طبيعيا كما أسلفنا، فإن العوامل في نموه لا بد أن تكون طبيعية، وعلى ذلك فنحن نرجح ما قالوه من أن عديا هذا هو
أول من قصد القصائد
وذكر الوقائع في شعره؛ لأنه كان غزلًا على همته، زير نساء على شجاعته، وكان أخوه كليب بن وائل الفارس المشهور أحد الثلاثة الذين اجتمعت عليهم معد، وهم عامر بن الظرب، وربيعة بن الحارث وكليب هذا "ص237ج1: ابن الأثير"، فلما قتل في الخبر المعروف، وكان قتله سبب الأيام بين بكر وتغلب، سير فيه عدي قصائد عدة، أرق بها الشعر وهلهله؛ وبهذا السبب لزمه لقب المهلهل، فكان طبيعيا بعد أن كان أخوه يعيره بأنه زير نساء، أن يعلن همته في القيام بثأره وحميته لذلك، وأن يشير بهذه الفجيعة ليعرف العرب منزلته من أخيه في الهمة، ومنزلة أخيه من نفسه في الحمية والجاهلية؛ وسنأتي على وصف هذه المراثي في ترجمته.
فكان الشعر قبل مهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم جاء امرؤ القيس فافتن به، وطل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء، حتى كان الأغلب العجلي وهو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد، وجاء بعده العجاج وهو وابنه رؤبة أشهر أهل الرجز، ففعل به ما فعل امرؤ القيس بالشعر بعد المهلهل.
الرجز والقصيد:
ومما نقله ابن رشيق أن الراجز قلما يقَصّد، فإن جمعهما كان نهاية، نحو: أبي النجم، فإنه كان يقصد، وأما غيلان -ذو الرمة- فإنه كان راجزًا، ثم صار إلى التقصيد، وسئل عن ذلك فقال: رأيتني لا أقع بين هذين الرجلين على شيء، يعني العجاج وابنه رؤبة، وكان جرير والفرزدق يرجزان، وكذلك عمر بن لجأ كان راجزًا مقصدًا، ومثله حميد الأرقط والعماني أيضًا، وأقلهم رجزًا الفرزدق "ص 124 ج1: العمدة". والرجز كثير عند العرب لسهولة الحمل عليه، حتى سماه المتأخرون حمار الشعر، وقد وقع إلى الرواة من ذلك شيء كثير، فكان الأصمعي يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة على ما قيل، وعندنا أن ذلك ليس بكثير إذا علمت ما نقله الجاحظ عن أبي عبيدة، قال: اجتمع ثلاثة من بني سعد يراجزون بني جعدة، فقيل لشيخ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل لا أفثج1؛ وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل لا أنكف2؛ فقيل للآخر الثالث: ما
1 لا أعيا.
2 لا أنقطع.
عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل لا أنكش1. فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا وخلوهم "ج2: البيان" وكانوا يروون صبيانهم الأرجاز ويعلمونهم المناقلات ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب؛ لأن ذلك يفتق المهاة ويفتح الجرم، واللسان إذا أكثرت تحريكه رق ولان، وإذا قللت تقليبه وأطلت إسكانه جسأ وغلظ "ج1: البيان". وليس كالرجز ما يهرت الأشداق ويوطئ للشعر ويأخذ النفس بهذه الملكة الموسيقية، ويكاد يكون منفصلًا عن الشعر من حيث الارتباط بين وزنه ومعناه، فهم يرسلونه كلامًا كالكلام، ولكنه أخص ما يكون فيما يؤلف بين حركات البدن وحركات النفس؛ فكانوا يتراجزون على أفواه القلب، وفي بطون الطرق، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة ونحو ذلك "ج2: البيان".
1 لا أنزف.