الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة رتبة، وهي الاستعارة المرشحة، كقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن الاستعارة الأولى وهي لفظ الشراء، رشحت الثانية وهي لفظ الربح والتجارة؛ وهذا النوع لا تصيب منه في شعر امرئ القيس مثالًا واحدًا؛ والذي بقي من استعاراته إنما هو في سبيل ما قدمناه، وهو قليل تدل جملته على قلب يعي وفؤاد يصنع، وشعر في زمنه شاعر؛ ولا نستطيع أن نوازن بين مذاهبه في الاستعارة ومذاهب المولدين، فلو سمع هذا الشاعر القرآن وكان أمويا أو عباسيا لكان ابن المعتز ثان اثنين في الاستعارة والتشبيه.
وقد أخرجوا من كلامه كلمات جرت أمثالًا، ورواها الميداني والضبي وغيرهما "انظر شعراء النصرانية ج1 ص68".
تشبيهاته:
قد قلنا في استعارات امرئ القيس، وترسمنا آثاره في ذلك المذهب بما يؤدي إلى حكم في الصناعة، ويكشف عن غاية من غايات الرجل؛ ونحن وإن لم نكن أفضنا في ذلك، إلا أن هذا المنزع قريب، ربما أغني في بعضه المثال الواحد؛ إذ كان امرؤ القيس مبتدئًا في شيء ومبتدعًا في شيء وجهده في جميع ذلك أن تحصي له الكلمات المعدودة، وهي لا تحتمل الإفاضة على تقسيم الكلام إلى فصول وتمييز بعضها من بعض. ثم هو إنما كان شاعرًا من شعراء الفطرة، يعرض للسانه القول كما يعرض لعينه الوحش؛ فينطلق كلاهما على نفس واحد يصنع القليل ولا ينقح الجملة، فكان ما يجيء في كلامه من بدائع الصنعة هو الدليل على فضل قوته التي تغمر فؤاده وتصرفه إلى مشايعة طبيعة اللغة في النمو، ولو صرفت تلك القوة إلى الصنعة التي [يعرق] فيها الكلام من كثرة تقليبه، لكان للكلام في شعره مذهب آخر، وأنت قد تجد للمتنبي بيتًا واحدًا لو جمع اختلاف العلماء فيه لزاد على اختلافهم في جميع شعر امرئ القيس.
أما تشبيهاته فهي بجملتها ترمي إلى غرض واحد، وهو تصوير الحقيقة تصويرًا غير ملون، وله فيها طرائق بديعة هو أول من ابتكرها، كتشبيه الإضافة في قوله:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
…
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فقد جاء به -كما ترى- حتى جعله تحقيقًا، وفيه أيضًا تشبيهه أربعة بأربعة، وقد زعم الفرزدق أنه أكمل بيت قالته العرب، أو قال: أجمع بيت "ص21 ج2: العمدة" وهو أول من فتح هذا الباب "ص199 ج1: العمدة".
وقد يجيء بعضها مخدجًا غير تام الأجزاء، وتبلغ ببعضها المبالغة إلى الاعتساف والشطط، كقوله في صفة الفرس:
وأركب في الروع خيفانة
…
كسا وجهها سعف منتشر
الخيفانة: الجرادة التي انسلخت من لونها الأول الأسود أو الأصفر وصارت إلى الحمرة، فشبه فرسه بها لخفتها، وشبه ناصيتها بسعف النخلة، قالوا: وهذا الوصف غير مصيب؛ لأن الشعر إذا غطى
العين كان عيبًا، وهو الغمم، والحسن منها أن تكون الناصية كأنها حبشة، أي: قصيرة مجتمعة "ص13 ديوان امرئ القيس" وفي هذه القصيدة وهو مما نحن فيه:
لها متنتان خظاتا كما
…
أكب على ساعديه النمر
يريد أن لها متنين كساعدي النمر البارك، في الغلظ واكتناز اللحم؛ والمستحب عندهم تعريق المتن وتعريق الوجه، كما قال طفيل وهو أحد نعات الخيل المجيدين:
معرقة الألحى تلوح متونها
أي: معرقة الوجوه ويكاد يستبين العصب من قلة اللحم، وكذلك المتون؛ وقد وصف امرؤ القيس الخيل في هذه القصيدة وصف سمسار يزين فرسًا في السوق لا وصف فارس، ولولا تصعلكه لجاء من ذلك بما لا يلحق له الشعراء غبارًا، وهذا شيء تعرفه بمقارنة معانيه في الخيل بمعاني غيره من فرسانها. ومن قبل ما نحن فيه قوله في الغزل:
وإذا هي تمشي كمشي النزيـ
…
ـف يصرعه بالكثيب البهر
يصف تفتر الحسناء في مشيتها بمشية المنزوف دمه أو عقله بالسكر إذا صعد كثيبًا فانقطع نفسه من الإعياء والكلال، فانظر هذه المبالغة الباردة وهذا التشبيه القبيح، وما عسى أن تكون تلك الحسناء إلا في الدرجة الثالثة من السل.
ولهذا الشاعر طريقة في التشبيه جاء منها بأبيات معدودة، وهي تناسب التتبيع الذي سنتكلم عنه؛ لأنه كان أول من اخترعه، وهذه الطريقة هي أن يريد من الوصف ما يلزم من حقيقته الممثلة في الذهن، وقد اتفق له من ذلك ما يعد غاية في الحسن، كقوله في وصف سالفة الفرس:
وسالفة كسحوق الليا
…
ن أضرم فيها الغوي السعر
فلقد أراد من وصف عنق الفرس بأنها شجرة متوقدة من شجر الكندر ما يستتبعه هذا الوصف من لون النار، وهي الشقرة، فكأنه أراد أن يقول إن فرسه شقراء، فاحتال لذلك بهذا التشبيه البديع، وقد أخذ هذا التشبيه أوس بن حجر فقال:
حتى يلف نخيلهم وبيوتهم
…
لهب كناصية الحصان الأشقر
وبيته معدود عند أهل البديع من عجيب ما وقع في باب التتبيع "ص217 ج1: العمدة"؛ لأنهم يقولون إنه أراد الحرب التي هي المقصود بالصفة.
وبمقدار ما أحسن [امرؤ القيس] في هذا القول أساء في قوله:
كأن على لباتها جمر مصطل
…
أصاف غضا جزلًا وكف بأجزال
وهبت له ريح بمختلف الصوى
…
ضبا وشمال في منازل قفال
وهي على طريقته تلك؛ فإنه أراد أن يصف توقد الحلى وصفاءه على لبات تلك الحسناء، فخلص إلى ذلك من طريق الشياطين والزبانية.... إذ لم يكفه أن جعله على صدرها كالجمر، بل خصه بجمر المصطلى؛ لأنه لا يزال يذكيه ويقلبه فهو يتوقد ويظهر جمرة جمرة، ثم كأنه استقل هذا
كله على صدرها فجعل الجمر من الغضا، وهو شجر معروف يقال إن جمره أبقى الحمر وأحسنه، ثم جعل لهذا الجمر كفافًا من أصول الشجر، وهي الأجزال، حتى تزيد في وهجه وتوقده، ثم لما كان قد تلك الحسناء لا بد أن يكون ممشوقًا فقد جعل هذه النار من صدرها على مثل اليفاع من الأرض، لتكون الريح أشد تمكنًا منها، ثم جعلها في منازل راجعين من الأسفار فهي توقد لهم ويحتفل فيها على ما هو معروف من عوائدهم. فليت شعري هل يبقى بعد هذا الحريق من لبات الحسناء ما يناط به الحلى، فضلًا عما يظهر حسنه وتوقده؟.
وأعجب شيء في أوصاف امرئ القيس وهو ابن ملك، أنه يصف الجميلة بحسن الغذاء، يصف سنا البرق بمصابيح راهب أهان في ذبالها السليط، وهو الزيت، فلم يعزه لكثرته عنده
…
وهكذا مما لا يؤخذ منه إلا أنه كان صعلوكًا يصف للصعاليك، وهو دليل أيضًا على ما قدمناه من أن شعره صورة غير مرتبة من حياته.
ومن بدائع التشبيه التي اتفقت له قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالًا على حال
المراد بحباب الماء: إما طرائقه، أو فقاقيعه؛ فمن ذهب إن الحباب الطرائق فإنما أراد: أني جئت أتدفع إليها كما يتدفع الماء شيئًا بعد شيء حتى صرت إلى ما أريد، ومن ذهب إلى أن الحباب الفقاقيع، فإنه أراد خفة الوطء وإخفاء الحركة؛ وكلا المعنيين غاية في تصوير تلك الحال، مع اللطف والرقة وبراعة التشبيه؛ وقد تقدم أنه من مخترعاته التي سلمها له الشعراء، وهو أحد المعاني التي تلم بها خواطرهم فتختلس منه ما تختلس الألحاظ، وكثيرون قد ألموا به، ولكن الغاية في ذلك قول ابن شهيد الأندلسي "ص143 ج2: نفح الطيب":
ولما تملأ من سكره
…
ونام ونامت عيون الحرس
دنوت إليه على قربه
…
دنو رفيق درى ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى
…
وأسمو إليه سمو النفس
ومن هذه القصيدة قوله يذكر العقاب حين شبه فرسه بها، وهو من المخترعات أيضًا في معناه، وأسلوبه طريقة من طرائقه المبتكرة:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسًا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
العناب ثمر أحمر، والحشف ما يبس من الثمر ولم يكن له طعم ولا نوى. وقد أجمع الرواة على أن هذا أحسن بيت جاء في تشبيه شيئين بشيئين في حالتين مختلفين. وقتديره: كأن قلوب الطير رطبًا العناب ويابسًا الحشف البالي؛ فشبه الطريء من القلوب بالعناب، والعتيق بالحشف؛ وخص قلوب الطير؛ لأن فرخ العقاب فيما يأكل لحم الطائر ما خلا قلبه، فلذلك كثرت قلوب الطير عندها، وقيل: غير ذلك. والتشبيه كما ترى ليس بشيء، غير أن الطريقة التي بها هي دليل من الأدلة على فضل صاحبها، ولم يحفظ قبل امرئ [القيس] بيت على هذا النمط، فهو أول من جاء بذلك من