الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعراء، وقد رووا أن بشار بن برد قال: ما قر بي قرار بعد أن سمعت بيت امرئ القيس حتى صنعت:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه
فقد اتبع الطريقة نفسها؛ وقالوا في بيته إنه لم يقع بعد بيت امرئ القيس في الترتيب أحسن منه؛ ولكن البيت الأول يفضله بأنه أورد التشبيه في حالتين مختلفتين، إذ قلوب الطير واحدة، ولكن التشبيه إنما وقع على حالتيها من الطراءة واليبوسة، وقد غفل عن ذلك بشار؛ وبالجملة فإن امرأ القيس وسط بين شعراء التشبيه؛ وإن كان قد أكثر منه واحتذى فيه فعل أبي دؤاد والمهلهل وغيرهما، إلا أن له طرقًا في هذا التشبيه هي من مبتكراته، وهي كل ما في يدنا من الأدلة على براعته وحسن تصرفه ورجحانه على غيره من متميزي الشعراء. وقد عدل المولدون عن تشبيهات الجاهلية إلى ما هو أليق بأزمانهم وأدنى شبهًا منها، ولكنهم مع ذلك لا يزال في مجموع أشعارهم موضع لبعض أبيات امرئ القيس، كقوله: سموت إليها..... وغيره، على أن أكثر شعراء الجاهلية قد خرجوا من هذا الباب، ولم يرض المولدون أن يقفوا عليه ولا وقفة الحجاب!
تتمة الانتقاد:
بقي علينا -بعد أن تكلمنا في استعارات امرئ القيس وتشبيهاته- أن نأتي على بقية هذا الكلام مما يصف معانيه وألفاظه وما يقع عليه الناقد في سائر كلامه ويصيبه من حسناته المتفرقة في كتب البيان، وقد أشرنا إلى بعض مبتكراته تلك ونحن مستوفون سائرها هنا، قالوا: إنه أول من فتح باب الاحتراس، وذلك في نحو قوله "ص6: الديوان":
إذا ركبوا الخيل واستلأموا
…
تحرقت الأرض واليوم قر
أي: واليوم بارد، فاحترس وكان الاحتراس بالقافية التي هي تمام البيت وهذا من أبدع ما يجيء؛ لأنه يزيد في تمكين القافية ويكسبها عزة لا تكون لكلمة غيرها في البيت بجملته.
وقد رأينا هذا الشاعر يبالغ في استقصاء جزئيات المعاني مبالغة هي طبع فيه، وهي عند التي هيأت له مثل هذا الاحتراس، وقد مر في ذلك ما وصف توقد الحلى، ومثله في كلامه كثير وسيمر بك شيء من بديعه، وكذلك قالوا في التتبيع، وهو من أنواع الإشارة وذلك أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه. قال ابن رشيق "ص215 ج1: العمدة": وأول من أشار إلى شيء من ذلك امرؤ القيس يصف امرأة:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها
…
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فقوله "يضحى فتيت المسك" تتبيع، وقوله:"نئوم الضحى" تتبيع ثان، وقوله:"لم تنتطق عن تفضل" تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المئونة، فجاءها بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.
وقال [ابن رشيق] أيضًا في باب التمثيل الذي هو من ضروب الاستعارة -وذلك أن تمثل شيئًا
بشيء فيه إشارة إليه- إن امرأ القيس أول من ابتكره ولم يأت أملح من قوله فيه:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
…
بسهميك في أعشار قلب مقتل
فمثل عينيها بسهمي الميسر، يعني المعلّى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فصار جميع أعشار قلبه لسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له الاستعارة والتمثيل1.
وقال في الإيغال: وهو ضرب من المبالغة إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها: وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه
…
تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالًا في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه خفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:
كأن عيون الطير حول خبائنا
…
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقوله: "لم يثقب" إيغال في التشبيه، واتبعه زهير فقال:
كأن فتات العهن في كل منزل
…
نزلن به، حب الفنا لم يحطم
فأوغل في التشبيه إيغالًا، بتشبيهه ما يتناثر في فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن؛ فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض ألبتة وكان خالص الحمرة؛ وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:
غراء فرعاء مصقول عوارضها
…
تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوجل
فأوغل بقوله: "الوجل" بعد أن قال الوحي؛ وبهذا تستدل على أن الشعراء كانوا يهتدون في الصنعة بامرئ القيس، فكان شعره لهم أشبه بكتب البلاغة للمتأخرين؛ وما من نوع من الأنواع التي سلفت إلا وقد اتبعوه فيها وانسحبوا على أثره، وعلى تقليب المولدين لهذه الأنواع حتى لم يغادروا فيها مطمعًا بقي من شعر هذا الرجل ما هو في بعض نسيج وحده، والمثال الأول في الدلالة على حده.
أما ما جاء في شعره من أنواع البديع غير ما ذكرناه، مما مثلوا له في كتبهم بشيء من قوله: كالالتفات، والتقسيم، والمقابلة، والغلو، ونفي الشيء بإيجابه في قوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره
أي: لا منار له فيهتدي به؛ والاتساع، والاشتراك، والإشارة، والإرداف، والترصيع، وجمع
1 كانت الجزور تقسم على عشرة أعشار، والمراد أنها ضربت على قلبه بالسهمين فاختارته كما تختار بهما أعشار الجزور.
المؤتلف والمختلف، وغيرها، فلم ينص أحد من علماء البديع على أنه أول من جاء به، على أنهم في أكثر ذلك لا يستدلون بشعر شاعر معروف قبله أو معاصر له، فإن لم يكن وقع في ذلك شيء فهو مبتكره، ولكن شعره على الجملة في ذلك مثال حسن؛ وبعضه لا يعدلون به شيئًا، كما ذكروا في التكرار الذي لا يكون إلا على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في تغزل أو نسيب، أنه لم يتخلص أحد تخلص امرئ القيس، ولا سلم سلامه في هذا الباب إذ يقول:
ديار لسلمى عافيات بذي الخال
…
ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا
…
بوادي الخزامى أو على رأس أو عال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا
…
من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
ليالي سليمى إذ تريك منضدًا
…
وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال
ولكن بعض تلك الأنواع اتبع فيها امرؤ القيس غيره، كما احتذى في الغلو على قول مهلهل:
فلولا الريح أسمع من بحجر
…
صليل البيض تقرع بالذكور
وهو الذي قالوا فيه إنه أكذب بيت قالته العرب؛ لأن بين حجر -وهي قصبة اليمامة- وبين مكان الوقعة عشرة أيام، فقال امرؤ القيس يصف النار:
تنورتها من أذرعات وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عال
وفاضلوا بين البيتين فقالوا إن مهلهلًا أشد غلوا من امرئ القيس؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكًا، ثم اتبع امرؤ القيس النابغة في قوله يصف السيوف:
تقد السلوقي المضاعف نسجه
…
وتوقدن بالصفاح نار الحباحب
قالوا: وهو دون بيت امرئ القيس في تنور صاحبة النار إفراطًا، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضًا:
تظل تحفر عنه إن ضربت به
…
بعد الذراعين والساقين والهادي
إذ ليس خارجًا عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض؛ فالغلو فيه ضعيف؛ وقد كدنا نخرج عما نحن بصدد منه؛ والآن فقد تبينت أن هذا الشاعر بصير بصنعة الكلام؛ [وأن] فضله إنما هو في طريقة إيراد المعنى مما يلتحق بتأليف اللفظ وتصريف الأسلوب؛ وانظر إلى قوله:
كأني لم أركب جوادًا للذة
…
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
…
لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقد اعترض في هذين البيتين وقيل: خالف وأفسد ولو جمع الشيء وشكله، فذكر الجواد والكر في بيت، والنساء والخمر في بيت، لكان أصوب، وإنما غفلوا عما قصد إليه من هذا الترتيب، وذلك أن اللذة التي ذكرها في البيت الأول إنما هي الصيد، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء، فجمع المعنيين للتضايف بينهما، ولو نظم البيت كما قالوا لنقص فائدة تدل عندهم على الملك والسلطان،