الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفي أبو يعقوب سنة 580هـ فقام بعده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان قد وزر لأبيه [فبلغ غاية] بعيدة من مطالعة الأمور وتقدير الرجال، فكأنما استوفى حظه من إكرام الفلسفة ووفاها قسطها في ذلك الزمن؛ لأنه ما كاد يتصل به الأمر حتى أراد أن يرجعها بدوية ساذجة يجري فيها على سنن الخلفاء الراشدين، فكان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس ثم كان يقعد للناس عامة لا يحجب عنه أحد، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم! "ص189: المعجب"، وقد سلف ما كان من نظره في كتب الرأي وتقدمه بإحراقها، وحكوا عنه أنه لما أزمع الخروج إلى بعض غزواته سنة 592هـ كتب إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه، فحصل على جماعة كبيرة منهم كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده: هؤلاء الجند لا هؤلاء! مشيرًا إلى العسكر؛ ولعله يحكي في ذلك قتيبة بن مسلم الفاتح الشهير، فإنه حين لقي الترك وكان في جيشه أبو عبد الله محمد بن واسع، جعل يكثر السؤال عنه، فأخبر أنه في ناحية من الجيش متكئًا على سية قوسه رافعًا إصبعه إلى السماء ينضنض بها، فقال قتيبة: لتلك الإصبع..... أحب إلي من عشرة آلا سيف.
نكبة الفيلسوف ابن رشد:
وفي أيام يعقوب هذا نالت أبا الوليد ابن رشد فيلسوف الأندلس المحنة الشديدة التي أظلمت أسبابها على الأقلام ظلمة المداد، وأقام لها الكتاب من كلامهم مناحة وألبسوها من صحفهم ثياب الحداد؛ وقد تكلم عنها [الكتبة] من العرب، كالذهبي والأنصاري وابن أبي أصبيعة وعبد الواحد بن علي التميمي صاحب كتاب "المعجب"، وكان يومئذ حيا، ثم تناولها كذلك المؤرخون من الإفرنج وبسطوا فيها العبارة، كالفيلسوف رينان وغيره، وهم إنما حاروا في أسبابها؛ لأن ابن رشد كان قاضي القضاة، وكان مقربًا عند يعقوب وأبيه حتى [إن يعقوب] جاوز به مجلس أخصائه وأدناه فوق ما يؤمل، ولكن أكثر أولئك لم يرجعوا في سبب هذه المحنة إلى سيرة يعقوب هذا؛ لأنها لا تخرج عن أن تكون خلقًا من أخلاقه أو نزوة لبعض هذه الأخلاق، وإنما أعمال المرء بخيرها وشرها ميزان، وسيرته اللسان منه، فهي تنطق بصواب التمييل بين الكفتين وتدل [على] حقيقة الترجيح، وقد أسلفنا من أمر هذه السيرة ما يتعين معه الحكم بأن الأمير يعقوب لا يبغض الفلسفة مستقيمة في كتبها، ولكنه يبغضها معوجة في الألسنة، إذ تزيغ بها القلوب الخفيفة، وتضل العقول الطائشة؛ فلما نتأ رأس الفتنة، وأصبح الكلام على أن يشيع في العامة ويتقلب على الألسن ويختلط بالأهواء ووجوه التأويل، لم يكن بد من أن يحسم الأمير مادة الفتنة ويتقي الله في عامته، وهو الرجل الذي يحكمهم بالقلب المطمئن، ويحوطهم بالنظرات المحككة، فلا يزال يتحرى العدل بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، ولذلك نستبعد نحن أن يكون سبب هذه المحنة غضبًا من المنصور لمن يناوئ الفيلسوف، أو موجدة عليه؛ لأنه ذكر في شرح كتاب "الحيوان" لأرسطاطاليس أنه رأى الزرافة عند ملك البربر -يعني المنصور- فغفل عما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ، ولا أن ابن رشد كان يؤثر أبا يحيى على أخيه يعقوب ولا ما أشبه ذلك مما لا يلتئم مع سيرة المنصور بتة، إذ هو لا يخرج من جلده
ويترك فضلات روحه ويخلق رجلًا جديدًا يحب التمليق والمداهنة ويؤثر الكبرياء ويفسح من صدره للغيبة والنميمة من أجل ابن رشد ولكي يشد عليه هذه الشدة؛ ولولا ذلك ما جمع فقهاء قرطبة وأخذهم بأن ينظروا في كتب الفيلسوف فإما التحريم وإما التحليل.
وقد كان الأمير أتقى الله من [أن يهين شيبة مسلم] ويلعن رجلًا يقول ربي الله، أو يغمض في رأي من يشير بذلك؛ ولكنه أراد أن يبرأ من هذه التبعة، ويتحلل من عهدة ما عسى أن يكون خطأ، فجمع الفقهاء لتكون كلمتهم الحكم على العامة بالسكوت، فإنهم إذا خاضوا في ذلك وترك الأمر على ما هو فشت لهم فاشية من الضلال، ووجند الناس السبيل إلى خذلان هذا الأمير في غزواته، وهو الذي كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكير والبدع ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها! ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات "ص188: المعجب".
هذا ما نراه من سبب المحنة، وهو الحق لا ريب فيه، أما تفصيلها فهو قار في موضعه من كتب من ذكرناهم في صدر هذا الفصل فلا يفوت من يلتمسه؛ وقد أبعد الفيلسوف بعد ذلك إلى [.....] بلدة قريبة من قرطبة يسكنها اليهود، وأبعد من يقول بقوله أو يتكلم في علوم الفلسفة، ومنهم القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي الذي يقال إنه خرج كلمة "ملك البربر" ونبه على أنها محرفة عن "ملك البرين"، وأبو جعفر الذهبي، ومحمد بن إبراهيم قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الشاعر؛ ثم كتبت الكتب عن المنصور إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة، فأشبع الناس من كتب الفلسفة هذه النار التي بقيت في الأندلس إلى زمن ديوان التفتيش تقول: هل من مزيد؟ ولكن المنصور لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر ولكنه مرض بها مرضه الذي مات فيه سنة 594هـ، وتوفي بعده يعقوب صدر سنة 595هـ.
وكان في زمنه من أمراء الكتاب والشعر: أبو عبد الله بن وزير الشلبي المشهور من أمراء كتاب إشبيلية، وشعره يشبه شعر أبي فراس الحمداني، وكان أحد فرسان الأندلس، وابنه أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وأدبًا وشعرًا "ص582 ج2: نفح الطيب"، وقد كثر الشعر في زمنه وجم أهله ولكنه شعر اتباع لا شعر ابتداع؛ إذ لم ينشأ في الأندلس بعد القرن الخامس من يعد في أوائل شعرائها؛ ومن كثرة الشعر يومئذ أن المنصور لما قفل من غزوة الأراكة الشهيرة سنة 591هـ ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنئونه فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين والثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده.
ما أنت في أمراء الناس كلهم
…
إلا كصاحب هذا الدين في الرسل
أحييت بالسيف دين الهاشمي كما
…
أحياه جدك عبد المؤمن بن علي
فأمر به بألفي دينار ولم يصل أحدًا غيره، لكثرة الشعراء، وأخذًا بالمثل: "منع الجميع إرضاء