الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعاراته:
قالوا إن الاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتدارًا ودالة، وليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم؛ وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فهم إنما استعاروا مجازًا واتساعًا، ومرجع ذلك إلى شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو بحسن المعرض الذي يبرز فيه، تبسطًا في اللغة، واسترسالًا في طرق التعبير، فعلى هذا تكاد تكون الاستعارة البيان كله، وليس من غرضنا أن نشرح أقسامها، أو نلم بما قالوه في تحقيقها، وإنما نتكلم عليها في شعر امرئ القيس خاصة، فهي التي ميزت شعره، وقلدت في جيد الزمان دره، وأكسبته شهرة أنه أول من أفلح في شق هذه الصدفة حتى زعم ابن وكيع "ص106 ج1: العمدة" أن أول استعارة وقعت في الكلام قوله:
ويل كموج البحر أخرى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
وليس يخفى أن العربي الذي يجيء بالاستعارة المتمكنة إنما كان ينظر فيها ويديرها إدارة، بحيث لا تتفق اتفاقًا ولا تجيء عفوًا إلا في النادر، ولذلك قل الجيد منها في كلامهم حتى نزل القرآن، فتكون من هذه الجهة اختراعًا يدل على قوة غير قوة الفطرة، وهي في شعر امرئ القيس أكثر منها في المأثور من شعر غيره من الجاهلية، وأصفى ماء، وأعذب رواء، وحسب ذلك أن يكون دليلًا على تفضيله، وأشهر الاستعارات التي اتفقت له هذان البيتان.
فاستعار لليل سدولًا يرخيها، وصلبًا يتمطى به، وأعجازًا يردفها وكلكلا ينوء به. وقد تنازعهما الأدباء، حتى جريا مجرى المثل، وقلما تجد كتابًا في البيان خاليًا منهما، وقد ذكر الآمدي في "الموازنة" البيت الثاني، ورد عليه ابن سنان وجعله من الاستعارة المتوسطة، وفرق بينهما صاحب المثل السائر، ولكنه على كل حال بمنزلة من الحسن.
وسنخط في البيتين كلمة موجزة: أما الأول فإن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه لا أحسن منه، لما يجيش فيه من الظنون ويتقلب من الخواطر، ثم هو مرمى البصر من سريرة الكون؛ فذلك شبه اتساع البحر وغوره بالنسبة لما يدرك النظر منه، غير أن قوله: أرخى سدوله، ذهب بذلك الحسن كله، إذ أفاد أن الغرض من التشبيه غرض محسوس، وهو أدنى أنواعه؛ لأن إرخاء السدول إنما يدل على السكون والحجاب، لا أكثر من ذلك، والكلمة استعارة لظلام الليل، فصارت لفظة الموج لا معنى لها إلا إقامة الوزن، وهي التي كانت عمود الحسن في التشبيه.
وأما البيت الثاني فقد أجمعوا على أنه في وصف طول الليل، ولست أراه كذلك، وإلا فلو تمطى كلب ما زاد في وصف طوله على هذه الألفاظ، وإنما أراد الشاعر ثقل الليل وفتوره، وأنه كلما هم أن ينجلي سقط، كما يفعل الذي يتمطى ثم يردف أعجازه ثم ينوء بكلكله. فالوصف حقيقة ممثلة وتصوير ناطق، وعلى ذلك المعنى تكون الاستعار أبلغ ما يمكن أن يقع في هذا الموضع، وما أخطأ من عده من التشبيه المضمر الأداة؛ لأنه به أليق.
ومن تصرفه بالاستعارة في شعره قوله:
وهر تصيد قلوب الرجال
…
وأفلت منها ابن عمرو حجر
هر: هي المعروفة بابنة العامري وكان يشبب بها امرؤ القيس، وبفاطمة، والرباب، وهند، وفرتنا، ولميس؛ وسلمى، ومعنى البيت أن أباه أفلت منها، ولو رآها لصادته فيما تصيد، قالوا: واستعارة الصيد مع الهر مضحكة، ولو أن أباه من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف!.
فقد ألزموه الاستعارة كما ترى حتى قارنوا بينها وبين استعارة زهير في قوله: "ص183 ج1: العمدة".
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
…
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
ولكنهم جهلوه فيها هذا الجهل وكيف بمثله من مثله؟ والذي أرى أنهم غفلوا عن المعنى الذي قصد إليه؛ فإن هرا كانت من كلب، وكان امرؤ القيس في كلب وطيئ أيام نفاه أبوه، فهو إنما يتنادر عليه، وإذا خرج البيت على هذا المعنى كانت الاستعارة فيه متوسطة، ولكنها تكون سببًا لكناية من أبلغ الكنايات.
ومن استعارته البديعة كلمته التي كأنما قيد بها شهرته في هذه الحياة، وذلك قوله في الجواد: قيد الأوابد؛ ولقد حاول المولدون أن يجيئوا بمثلها، غير أنها بقيت مفردة، وذلك كقول ابن الرومي في الحديث:
شرك العقول وعقلة المستوفز
وقول المتنبي في صفة الجواد:
أجل الظليم وربقة السرحان
ورأيت لدريد بن الصمة كلمة تكاد تساويها في الحسن، وهي في قوله:
يا فارسًا، ما أبو أوفى إذا اشتغلت
…
كلتا اليدين كرورًا غير وقاف
"عبر الفوارس" معروف بشكته
…
كاف إذا لم يكن من كربة كاف
فالكلمة هي "عبر الفوارس" يريد بها أن الفوارس ترى منه ما يبكي أعينهم ويستعبرها "ص255: سرح العيون".
وهذا وأمثاله مما يدل على فطنة الشاعر وحدة فؤاده، وأن له من قوة الفطرة ما يقوم مقام الصنعة؛ وتلك صفات يدل عليها كثير من كلامه، غير أن امرأ القيس إنما كان مبتدئًا فيما ابتدع، ولذلك لا يمكن أن يؤخذ البديع كله من شعره، وليس هذا بضائره ونحن الآن في الكلام عن استعاراته؛ ومن الاستعارة نوع اتفق علماء البديع أنها المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في