الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما أنه أول من لطف المعاني واستوقف على الطلول إلخ، فلا يكون دليله إلا تتبع كلام العرب ممن كانوا قبله، وإدارة الآذان في هواء الجزيرة من أكنافه، وهو شيء لا يصدق مدعيه كائنًا من كان؛ لأن العرب أنفسهم أهملوا رواية كلام أبي دؤاد كما ذكر الأصمعي، وسبيله سبيل غيره، فضلًا عمن أهملهم الزمن وجلدت صدورهم التي هي دواوين أشعارهم بصفحات من الكفن، وانظر ما معنى قول ذلك القائل:"وإنه أول من فرق بين النسيب وما سواه من القصيدة" فإن هي إلا كلمة مولد قصير النظر في مطارح الكلام، كأن شعراء العرب كلهم كانوا على سنة المولدين من افتتاح القصيدة بالنسيب ثم التخلص بعد ذلك إلى ما يأخذون فيه من المعاني، وهو رأي لم يقل به أحد؛ ولا يزال في القصائد المروية قبل امرئ القيس بقية من القوة على تكذيب.
وأما أن هذا الشاعر أول من قرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، أجاد الاستعارة والتشبيه، فهو الصحيح، ولكن لا على أن أول من ابتدأ ذلك، بل على أنه أول من اشتهر به وابتدع فيه، وجملة ما حفظ له منه أشياء معدودة، غير أنها لو توزعها شعراء الجاهلية لزانتهم جميعًا.
بقي سبب آخر من أسباب شهرة امرئ القيس في العرب وبقاء شعره على ألسنتهم وهو أنهم يجدون في بعض كلامه رقة المنادمة وطرب الخمر وفتور الغزل وغير ذلك مما هو من حظ القلب، ثم هم يرونه إذا أخذ في غير هذه المعاني يطبع ألفاظه على قالبها من الاستعارة والتشبيه، فإذا قابلوا ذلك بخشونة غيره وانصرافه إلى أوصاف البداوة، وجدوا في شعره كالظل الذي يفيء، والماء الذي يجري والحسن الذي يتميح، والنسيم الذي يترنح؛ فكان ولا جرم كأنما يستهويهم استهواء، وكان مجموع شعره في البدو حضارة وفي الحضر بداوة؛ وهذا مروان بن أبي حفصة الشاعر أنشده العتبي لزهير، فقال: هذا أشعر الناس، ثم أنشده للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشده لامرئ القيس فكأنما سمع به غناء على الشراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس "ص9: الطبقات" ومروان شاعر [في صميم] الحضارة، فكيف بالعرب؟ وعندي أن هذا أعظم ما تتميز به شاعرية امرئ القيس؛ لأنه دليل الصنعة [تبرز على] الطبع، والطبع الذي يبلغ في سموه مبلغه بالصنعة؛ وهو الدليل الذي لو سقط من شعره لسقط بشعره لا محالة.
شعر امرئ القيس:
لم نعد ما عددناه من أسباب شهرة هذا الشاعر وهو قليل مجمل، إلا توطئة لما يأتي من انتقاد كلامه، فإنه عند المتأخرين أفق لا يحس إلا بالنظر، ورجل كأنما كانت شهرته قدرًا من القدر، يأخذون ذلك بالتسليم، ويقولون هو أمر كان من قديم؛ مع أن أدباء الصدر الأول قد تكلموا في خطئه في العروض والنحو والمعاني، وعابوا عليه كثيرا من شعره وخطئوه في وجوه من التصرف، ولا يزال ديوانه يدعو إلى ذلك؛ لأنه هو هو اليوم وقبل اليوم، غير أن أولئك المتأخرين أصبحوا يرون هذا الديوان كدار الآثار: لا يطمع الحي ببعض الإجلال لميت من أمواتها.
كل ما يتناوله امرؤ القيس في شعره من المعاني، لا يتجاوز الغزل، والاستهتار بالنساء، ووصف الصيد والخمر والطيب والخيل والنوق وحمر الوحش والطلول والجبال والبرق والمطر؛ أما افتخاره
في شعره فقليل جيد، والحكمة فيه أقل وأكثر جودة، ومن عيونها قوله:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر
…
ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب
وهو يخرج بعض ذلك مخارج نافرة، فلا يتناسب شعره في الجودة، ولا يطرد في سلامة اللفظ، ولا يتشابه في صحة المعنى، بل يجيء بالشريف والسخيف، والمبتذل والضعيف؛ حتى كأن شعره صور على اضطراب أخلاقه، ولا يعلل ذلك إلا بتفاوت الأحوال التي يقول فيها، وأنه لم يكن يقصد إلى الشعر قصدًا إلا في القليل الذي أجاده وبرع فيه، أما فيما عدا ذلك فقد منعته الثقة بنفسه أن يتتبع عليها ويقابل بين وجوه الكلام، وذلك بديهي: وإلا فلا معنى لأن يكون مرة نجمًا في السحاب ومرة حجرًا في التراب؛ والشاعر الذي يسف إنما يسقط في طبقات الهواء لا في طبقات التراب؛ ولذلك كان جيد امرئ القيس أجود شيء، ورديئه أردأ شيء.
وغزل هذا الشاعر ساقط كله؛ لأن استهتاره وتبذله معناه أن يتلطف في المعاني بما يستلزمه الإبداع في التعريض والكتابة، والاكتفاء باللمحة الدالة، فبردت حرارته بذلك التصريح، وثقل على القلوب إلا قليلًا مما يفتن فيه، فيجيء حسنه من صنعة المعنى لا من المعنى نفسه، كقوله:
أغرك مني أن حبك قاتلي
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
فإنه نزع فيه إلى الحماسة، وهو بيت لو دار في كل أمة لوجد له في شعرها موضعًا؛ وكذلك قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالًا على حال
وهذا البيت من مخترعاته، فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، قال صاحب "العمدة": وهو أول الناس اختراعًا وأكثرهم توليدًا "ص175 ج1: العمدة" فلا يبغي من شعره إلا الوصف. ومداره على الاستعارة والتشبيه، وسنأخذ بطرف من الكلام فيهما، ثم نفصل به إلى القول في معانيه ومبلغ انطباق ألفاظه عليها، لنتبين موقع نظره في مطارح الكلام، ومذهب فؤاده من أسرار الصناعة؛ ولا بد لنا هنا من التنبيه على أن الأدباء قد وضعوا أشعارًا من البديع ونحلوها امرأ القيس، يقصدون من ذلك إلى الغض من شأن الذين اخترعوا تلك الأنواع؛ حتى يوهموا أنهم سبقوا إليها؛ أو إقامة الشاهد على بعض ما يتباغضون فيه من مبتذل الشعر.
ومن النوع الأول ما أورده ابن رشيق "ص55 ج2: العمدة" بعد أن أورد بيتين لأبي نواس فقال: وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس:
لمن طلل دارس آية
…
أضر به سالف الأحرس
تنكره العين من جانب
…
ويعرفه شغف الأنفس
وليس فيما دونوه لامرئ القيس؛ والتوليد فيه بين.
ومن الثاني ما أورده ابن رشيق أيضًا "ص25 ج2: العمدة" عند الكلام على التقطيع والتقسيم من باب الترصيع، كقول المتنبي:
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد
…
زد هش بش تفضل أدن سر صل
فإنه قال: وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
أفاد فجاد، وشاذ فزاد
…
وقاد فذاد، وعاد فأفضل
ومهما تهافت امرؤ القيس فلا أراه يسقط على مثل هذا.