الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك لو فعل في البيت الثاني لكان ذكره اللذة زائدًا في المعنى؛ لأن الزق لا يسبأ إلا للذة، وإنما وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملك والرفاهية، وقد أتبعه المتنبي في قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضاح وثغرك باسم
وذكر الواحدي في شرحهما اعتراض سيف الدولة عليه وعلى امرئ القيس وتخلص المتنبي لنفسه وله، غير أن ترتيب امرئ القيس أبدع وفيه من الفائدة ما ليس في بيتي أبي الطيب.
بقي أن نذكر بعض المآخذ التي أصبناها في شعر هذا الشاعر، فمن ذلك أنه له استعانة ضعيفة بالحروف والكلمات، كقوله:
ألا رب يوم منهن صالح
وأن له تكرارًا قبيحًا في الألفاظ والمعاني يجيء بها على وجه واحد في مواضع مختلفة من غير أن يتصرف في ذلك بما يخفي قبح هذا التكرار وينفي عنه الظنة.
ومنها دخوله في وجوه المناقضة والإحالة في بعض الكلام، وذلك مما يدل على أنه يرسله إرسالًا كما اتفق، لا يبتغي به إلا لذة المنطق، وإلا مواتاة ما في نفسه من الميل إلى القول؛ وبهذا كان ختام قصائده مقتضبًا، وقلما قطع الشعر على كلمة بديعة إلا في القليل كختام قصيدته السينية:
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة
…
وعبد المشيب طول عمر ملبسا
فكأن الشعر يقترح عليه اقتراحًا متى فرغ من المعنى الذي يريده سكت دون أن ينظر إلى موضع السكوت وأن الإصابة فيه كأحسن الكلام.
ومنها استعمال الكلام المؤنث في شعره، كقوله: لك الويلات إنك مرجلي، ونحوه، دون أن يوطئ لذلك بما يحسن التضمين ويخرج الكلمة المؤنثة مخرجًا لا يكفي فيه أن يكون حلقيا فقط.
أما ما وقع له غير ذلك من اضطراب بعض القوافي وثقل الألفاظ مما يكد لسان الناطق المتحفظ، فذلك متجاوز عنه بعذر البداوة، والغريب عندنا مألوف عند أهله.
المنازعة بين امرئ القيس وعلقمة:
لما نزل امرؤ القيس في طيئ تزوج امرأة منهم تسمى أم جندب، وكان مفركًا وكانت تكرهه، فنزل به علقمة بن عبدة فتذاكر الشعر وادعاه كل واحد منهما على صاحبه، فقال علقمة: فقل شعرًا تمدح فيه فرسك والصيد، وأقول في مثل ذلك، وهذا الحكم بيني وبينك -يعني تلك المرأة- فبدأ امرؤ القيس يقول:
خليلي مرا بي على أم جندب
…
نقض لبانات الفؤاد المعذب
فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وقال علقمة:
ذهبت من الهجران في غير مذهب
…
ولم يك حقا كل هذا التجنب
فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وكان في قول امرئ القيس:
فللساق ألهوب وللسوط درة
…
وللزجر منه وقع أهوج منعب
وفي قول علقمة:
فأقبل يهوي ثانيًا من عنانه
…
يمر كمر الرائح المتحلب
فتحاكما إليها، فقالت: هو أشعر منك؛ لأنك ضربت فرسك بسوطك وامتريته بساقك وزجرته بصوتك وأدرك فرس علقمة ثانيًا من عنانه. "ص77: ديوان امرئ القيس".
وفي رواية أخرى أنهما احتكما إلى أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها جميعًا، فلما حكمت لعلقمة قال امرؤ القيس: ما هو بأشعر مني ولكنك له وامقة؛ فطلقها فخلفه عليها علقمة. "ابن قتيبة".
وما رأيت أحدًا من أهل النقد وازن بين القصيدتين، بل كلهم متبعون كلمة هذه المرأة، وبعضهم لا يعرف ما كان بينها وبين امرئ القيس فيقول إنهما تحاكما إليها في المفاضلة بينهما؛ لأنها من ذوات العقل والمعرفة. مع أن علقمة معدود من الشعراء المغلبين وامرؤ القيس يقول في قصيدته:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر
…
ضعيف، ولم يغلبك مشل مغلب
وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك من بعلها، فقرعت أنفه على حمية ونخوة وهي تعلم أنها لا بد مسرحة في زمام هذه الكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل؛ لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة، وهو قوله:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه
…
تقول هزيز الريح مرت بأثأب
وقد مر شرحه وبيان وجه البلاغة فيه، ولكن من التمس عيبًا وجده، ومن تدبر صنعة امرئ القيس للخيل في شعره وجد السوط لا يفارقه، فلعلها كانت عادته.
وقصيدة علقمة بجملتها ليست بشيء؛ لأنه كل ما فيها من الألفاظ البارعة والمعاني الحسنة مأخوذ من قصيدة امرئ القيس، حتى ليأخذ البيت برمته والشطر بحاله، ومع ذلك فقد أبر عليه امرؤ القيس، في الصنعة، وما أدري كيف هذا، فلولا أن الرواة مجمعون على أن قصيدة علقمة مما صح له لقلت إنها مصنوعة، ثم إن الذين رووا خبر هذه المنازعة منهم، وهم عمرو بن العلاء؛ وأبو عبيدة، والأصمعي، لم يزيدوا شيئًا على ما سبق، وكان طبيعيا أن يتكلم امرؤ القيس في ذلك كلمة؛ لأن علقمة إنما رد إليه بضاعته، ولن يبلغ التوارد بين الشاعرين هذا المبلغ وأحدهما يسمع من الآخر، إلا أن يكون الاثنان قد اتفقا في الأخذ عن ثالث، وهو أغرب؛ وإن صح خبر هذه المنازعة فيكون ذلك هو السبب في تعفف امرئ القيس على الشعراء وإدلاله بشعره وذهابه إلى الظنة فيه؛ لأنه رأى من استحذاء علقمة واستجدائه ما ينفخ مثله إلى حد الروم، وما زال على ضلالة حتى لقي التوأم اليشكري فقال له: إن كنت شاعرًا كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم، فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقًا هب وهنًا
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعارا
وهي أبيات ستجيء في بحث الصناعات، فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك العصر من يطاوله، آلى أن لا ينازع الشعر أحدًا آخر الدهر. كذا رواه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء "ص135 ج1: العمدة" وعلى ذلك يكون علقمة إنما غلب امرأ القيس بكلمة امرأته لا بقصيدته.
وقد رأينا أن نروي القصيدتين هنا ليكون وجه المقابلة فيهما بيتًا، ولا بد أن ننبه على أن أكثر ما في قصيدة امرئ القيس مفرق بألفاظه ومعانيه في قصائد أخرى له، ومنها أبيات لم يغير منها إلا القافية، وذلك بعض ما أخذناه على شعره "انظر الوسيلة الأدبية ص504، والجزء الأول من شعراء النصرانية ص23، وديوان امرئ القيس".
وقد رأينا أن نقف من الكلام على امرئ القيس عند هذا الحد؛ ففي بعض الكفاية كفاية؛ وما يكون دون غاية من الغايات فربما كان في نفسه غاية.