الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصر، وحمل إلى بيت المقدس فدفن فيها1.
قتل ابن المديني القاصّ:
وفيها: أخذ ابن المَدِينيّ القاصّ في جماعة يدعو إلى المهديّ، فضرب تكين عنقه.
فاة بنت المتوكّل:
وفيها: ماتت ميمونة بنت المتوكّل عمّة المقتدر.
امتلاك القائم المهديّ للفسطاط:
وفيها: ملكت جيوش القائم بالجيزة من الفُسْطاط، فاشتدّ قلق أهل مصر وتأهّبوا للهروب وكثُر البكاء، وجرت أمورُ يطول شرحها2.
وفاة إمام جامع المنصور:
وفيها: تُوُفّي إمام جامع المنصور محمد بن هارون بن العبّاس بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، وكان مُعْرِقًا في النَّسَب. أَمَّ بجامع المنصور خمسين سنة.
ولى ابنه جعفر بعده، فعاش تسعة أشهر بعد أبيه. والله أعلم.
1 النجوم الزاهرة "3/ 196"، ولاة مصر "294".
2 انظر. تاريخ الخلفاء "382"، والنجوم الزاهرة "3/ 196".
أحداث سنة تسع وثلاثمائة:
خلاف الطبريّ المؤرّخ والحنابلة:
جري بين أبي جعفر محمد بن جرير الطِّبَريّ وبين الحنابلة كلام، فحضَر أبو جعفر عند عليّ بن عيسى لمناظرتهم، فلم يحضروا1.
تلقيب مؤنس الخادم بالمظفّر:
وفيها: قدِم مؤنس من حرب صاحب القيروان، فخلع عليه المقتدر، ولقبه بالمظفر2.
1 البداية والنهاية "11/ 132".
2 الكامل في التاريخ "8/ 114"، وتجارب الأمم "1/ 76".
استرجاع الإسكندرية من المغاربة:
وسار ثمل الخادم من طرسُوس في البحر إلى الإسكندريّة، فأخذها من جيش المغاربة.
عزل تكين عن مصر وإعادته:
وفيها: عُزِل تكين عن مصر بأبي قابوس محمود بن حمك، فأقام ثلاثة أيام، ثمّ عُزِل وأُعيد تَكِين.
خروج القادة لقتال عسكر القائم المهديّ:
وفيها: عسكر مؤنس وتَكِين والقوّاد وساروا إلى الفيّوم لحرب عساكر القائم، فرجع القائم إلى إفريقيّة مِن غير قتال، وذلك في أوائل السنة.
مقتل الحلاج:
وفيها: قُتل الحلاج، وقد مرّ من أخباره في سنة إحدى وثلاثمائة؛ وهو أبو عبد الله الحسين بن منصور بن مَحْمِيّ، وقيل: أبو مغيث.
وكان محميّ مجوسيًّا فارسيًّا. نشأ الحلاج بواسط، وقيل: بِتُسْتَر، وتتلمذ لسهل بن عبد الله التستري. ثم قدم بغداد وأخذ عن الجنيد والنوري، وابن عطاء، وأخذ في المجاهدة ولبْس المُسُوح. ثمّ كان في وقتٍ يلبس الأقبية، وفي وقت يلبس المصبوغ.
وقيل: كان أبوه حلاجًا. وقيل: أنّه تكلَّم على النّاس، فقيل: هذا حلاج الأسرار1.
وقيل: إنّه مرَّ على حلاجٍ، فبعثه في شغلٍ له، فلمّا عاد الرجل وجده قد حلجَ كلّ قطنٍ في الدُّكّان. وقد دخل الهند وأكره الأسفار وجاور.
قال حَمَدٌ ابْنُه: مولد أبي بطور البيضاء، ومنشأه بِتُسْتَر. ودخل بغداد فكان يلبس المُسُوح، ومرّةً يلبس الدّرّاعة والعمامة، ومرّة القباء، ووقتًا يمشي بخرقتين.
1 راجع: صلة تاريخ الطبري "86"، وتاريخ بغداد "8/ 112"، والمنتظم "6/ 160"، وصحيح التوثيق "7/ 367".
وخرجَ إلى عُمَرو بن عثمان المكّيّ وإلى الْجُنَيْد وصحِبَهما. ثمّ وقع بين الْجُنَيد وبين أبي لأجل مسألة، ونسبه الْجُنَيد إلى أنّه مدَّعي. فرجع بأمّي إلى تُسْتَر، فوقع له بها قَبُولٌ. ولم يزل عُمَرو بن عثمان المكّيّ يكتب الكُتُب فيه بالعظائم، حتّى غضب ورمى بزِيّ الصُّوفيّة ولبس قباءٍ، وصحِبَ أبناء الدّنيا. ثمّ سافر عنّا خمس سِنين، بلغ إلى ما وراء النّهر؛ ثمّ رجع إلى فارس، وأخذ يتكلَّم ويدعو إلى الله. وصنَّف لهم، وتكلَّمَ على الخواطر، ولُقِّبَ حلاج الأسرار1.
ثمّ قدِم الأهواز فحُمِلت إليه، ثم خرج إلى البصرة ثمّ إلى مكّة، ولبس المرقَّعَة، وخرج معه خلْق، فتكلّم فيه أبو يعقوب النهْرَجُوريّ وحسده، فقدِم الأهوازَ، وحمل أمّي وجماعة من رؤسائها إلى بغداد، فبقي بها سنة، ثمّ قصدَ الهند وما وراء النهّر ثانيًا، ودعا إلى الله، وصنَّف لهم كُتُبًا، ثمّ رجع، فكانوا يكاتبونه من الهند بالمُغِيث، ومن بلاد تُرْكستان بـ"المُقِيت"، ومن خُراسان، بـ"المميّز"، ومن فارس بـ"أبي عبد الله الزّاهد"، ومن خُوزسْتان بـ"الشّيخ حلاج الأسرار". وكان ببغداد قوم يسمّونه:"المصْطَلِم"، وبالبصرة "المحيّر"2.
ثمّ كثُرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السَّفْرة، فحج وجاوَرَ سنتين رجاءً. وتغيّر عمّا كان عليه في الأوّل، واقتنى العقار ببغداد، وبنى دارًا ودعا النّاس إلى معنًى لم أقف عليه، بل على شطر منه، حتّى خرج عليه محمد بن داود وجماعة من أهلِ العلم، وقبَّحوا صورته3.
ووقع بين عليّ بن عيسى وبينه لأجل نصر القُشُوريّ، ثمّ وقع بينه وبين الشِّبْليّ وغيره من المشايخ، فقيل: هو ساحر، وقيل: هو مجنون، وقيل: بل له كرامات، حتّى حبسه السّلطان.
روى هذا ابن باكُوَيْه الشِّيرازيّ، قال: أخبرني حمد بن الحلاج، فذكره.
وقال الحسين بن محمد المذاريّ: سمعت أبا يعقوب النَّهْرَجُوري يقول: دخل الحسين إلى مكّة فجلس في صحن المجلس سنة لَا يبرح من موضعه الّا لطهارةٍ أو
1 تاريخ بغداد "8/ 113".
2 تاريخ بغداد "8/ 113"، والعبر "2/ 139".
3 المنتظم "6/ 161".
طواف، ولا يُبالي بالشّمس ولا بالمطر، ويُفْطر على أربع عضّات مِن قُرصٍ يؤتَى به، ثم إنه سافر إلى الهند، وتعلَّم السِّحر1.
وقال أحمد بن يوسف التّنُوخيّ الأزرق: كان الحلاج يدعو كلّ وقتٍ إلى شيء على حسب ما يَسْتَبْله طائفة. أخبرني جماعة من أصحابه أنّه لمّا افتتن النّاس به بالأهواز، ونواحيها لِما يُخْرجه لهم من الأطعمة في غير حِينها والدّراهم، ويسمّيها "دراهم القُدرة". حُدِّث أبو عليّ الْجُبَّائيّ بذلك فقال: هذه الأشياء تمكن الحِيَل فيها، ولكنْ أدخِلُوه بيتًا من بيوتكم، وكلّفوه أن يُخرج منه خرْزتين شَوْك. فخرج عن الأهواز.
وعن محمد بن يحيى الرّازيّ قال: سمعت عُمَرو بن عثمان المكّيّ يلعن الحلاج ويقول: لو قدره عليه لقتلته؛ قرأتُ آيةً فقال: يمكنني أن أؤلف مثله.
وقال أبو يعقوب الأقطع: زوّجت بنتي من الحلاج، فبانَ لي بعد مُدَيدة أنّه ساحر محتال.
وقال أبو عُمَر بن حَيَّوَيْه: لما أُخْرِج الحلاج لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ وزاحَمْتُ حتّى رأيته، فقال لأصحابه: لَا يَهُولَنَّكُم، فإنّي عائد إليكم بعد شهر2.
هذه حكاية صحيحة توضح أنّه مُمَخْرِق حتّى عند القتل.
وقال أبو بكر الصولي: جالسْت الحلاج، فرأيت جاهلًا يتعاقل، وعييًا يتبالغ، وفاجرًا يتزهد.
وكان ظاهره أنّه ناسك، فإذا علم أن أهل بلدته يرون الاعتزال صار معتزليًا، أو يرون التشيع تشيع، أو يرون التسنن تسنن. وكان يعرف الشعبذة والكيمياء والطب. وكان حينًا ينتقل في البلاد، ويدعي الربوبية، ويقول للواحد من أصحابه: أنت آدم؛ ولذا: أنت نوح؛ ولذا: أنت محمد. ويدعي التناسخ، وأن أرواح الأنبياء انتقلت إليه.
وروى عليّ بن أحمد الحاسب، عن أبيه قال: وجهني المعتضد إلى الهند، وكان
1 تاريخ بغداد "8/ 118"، وتاريخ ابن الوردي "256".
2 في تاريخ بغداد "8/ 131"، "فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يومًا"، وانظر نهاية الأرب "23/ 600".
معنا في السفينة رجل يقال له: الحسين بن منصور، قلت: فيم جئت؟ قال: أتعلم السِّحْر، وأدعو الخلق إلى الله1.
وقال أبو بكر الصوليّ: قبضَ عليّ بن أحمد الراسبيّ الأمير الحلاج وأدخله بغداد وغلامًا له على جمل مشهورين سنة إحدى وثلاثمائة. وكتب يذكر أن البينة قامت عنده أنه يدعي الربوبية، ويقول بالحلول.
فأحضره عليّ بن عيسى الوزير، وأحضر العلماء فناظروه، فأسقط في لفظه، ولم يجده يُحسن من القرآن شيئًا ولا من غيره. ثمَّ حُبِس مدّة.
قال الصولي: كان يري الجاهل شيئًا من شعبذته، فإذا وثق به دعاه إلى أنه إله، فدعا فيمن دعا أبا سعيد بن نوبخت، فقال له، وكان أقرع: أَنْبِت في مقدم رأسي شعرًا2.
ثم ترقت به الحال، ودافع عنه نصر الحاجب؛ لأنه قيل: إنّه سني، وإنما يريد قتله الرافضة.
قال: وكان في كتبه: إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود.
وكان حامد بن العبّاس الوزير قد وجد لهُ كتبًا فيها أنّه إذا صام الإنسان وواصل ثلاثة أيّام وأخذ في اليوم الرابع ورقات هنْدباء، فافطر عليها أغناه عن صوم رمضان.
وإذا صلّي في لَيْلَةٍ واحدةٍ رَكْعَتَين طول اللّيل أغنته عن الصّلات ما بقي.
وإذا تصدَّق في يومٍ بجميع ما يملكه أغناه عن الزّكاة.
وإذا بنى بيتًا وصامَ أيامًا وطاف به أغناه عن الحجّ3.
فأحضر حامد القضاة وأحضره وقال: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: هذا كتاب "السُّنَن" للحَسَن البصْريّ.
فقال: ألست تدين بما فيه؟ قال: بلى. هذا كتاب أدين الله بما فيه.
1 تاريخ بغداد "8/ 120"، والمنتظم "6/ 161".
2 تاريخ بغداد "8/ 124"، والمنتظم "6/ 163".
3 راجع: تكملة تاريخ الطبري "24"، ونشوار المحاضرة "1/ 162، 163"، والمنتظم "6/ 163"، وصحيح التوثيق "7/ 368".
فقال له أبو عُمَر القاضي: هذا فيه نقض شرائع الإسلام.
ثمّ جاراه في الكلام إلى أن قال له أبو عُمَر: يا حلال الدّم، من أيَّ كتابٍ نقلت هذا؟ قال: من كتاب "الإخلاص" للحَسَن البصْريّ.
قال: كذبت يا حلال الدّم، فقد سمعنا الكتاب، وليس فيه شيء من هذا1.
فقال حامد لأبي عُمَر القاضي: قد أفتيت أنه حلال الدّم، فضع خطَّك بهذا. فدافعَ ساعةً، فمدّ حامد يده إلى الدَّواة وقدّمها للقاضي وألحّ عليه، فكتب بأنّه حلال الدّم، وكتب الفُقَهاء والعُلماء بذلك خطوطهم، والحلاج يقول: يا قوم، لَا يحلّ لكم إراقةُ دمي.
فبعث حامد بخطوطهم إلى المقتدر، وأستأذنه في قتله، فتأخّر عنه الجواب، فخاف أن يبدو للمقتدر فيه رأي لِما قد استمال من الخواصّ بزُهْده، وتعبُّده في الحبْس، فنفَّذ إلي المقتدر أنّه قد ذاع كُفْره وادّعاؤه الرُّبوبيّة، وإنْ لم يقتل افتتن الناس، وتجرأ قومُ على الله تعالى وَالرُّسُلِ.
فأذِن المقتدر في قتله. وطلبَ حامدُ صاحبَ الشرطة محمد بن عبد الصَّمد، وأمره أن يضربه ألف سَوط، فإنْ ماتّ وإلّا يقطع يديه ورِجْليه.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لستِّ بقين من ذي القعدة أُحضِر الحلاج مقيَّدًا إلى باب الطّاق، وهو يتبختر بقيده ويقول:
حبيبي غير منسوب
…
إلى شيء من الحيفِ
سقاني مثل ما يشربُ
…
فعلَ الضيف بالضيف
فلما دارت الكاسُ
…
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح
…
مع التِّنِّين في الصيف2
فضُرب ألف سوط، ثم قطعت يده ورجله، ثم حز رأسه وأحرقت جثته3.
1 راجع وفيات الأعيان "2/ 143".
2 ديوان الحلاج "ص/ 73"، والمنتظم "6/ 164".
3 خبر صحيح: أخرجه الخطيب "8/ 120، 127، 138، 139"، كما في التاريخ، ونشوار المحاضرة "6/ 87-91"، وأورد ابن الجوزي "6/ 163، 164"، كما في المنتظم، ووفيات الأعيان "2/ 143-145" لابن خلكان، وشذرات الذهب "2/ 255"، لابن العماد، والفخري "261"، وغيرهم.
وذكر أن حوقل قال: ظهر من إقليم فارس الحسين بن منصور الحلاج، زعم أنه من هذب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال الصالحة قلبه، وصبر على مفارقة اللذات، ومنع نفسه عن الشهوات يترقى في درج المصافاة حتّى يصفو عن البشرية طبعُه، فإذا صفى حلّ فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، فيصير مطاعًا، يقول للشيء: كن فيكون فكان الحلاج يتعاطى ذلك، ويدعو إلى نفسه، حتّى استمال جماعة من الوزراء والأمراء، وملوك الجزيرة والجبال والعامة.
وقال أبو الفرج بن الجوزي: قد جمعت كتابًا سمّيته "القاطع لِمُحَال اللّجاج بحال الحلاج"1، وقال: قد كان هذا الرجل يتكلم بكلام الصُّوفيّة، فتندر له كلمات حِسان، ثمّ يخلطها بأشياء لَا تجوز.
وكذلك أشعاره، فقال: فمنها:
سبحان من أظهر ناسوتُهُ
…
سِرَّ سَنا لاهُوتِه الثّاقبِ
ثمّ بدا في خلقِه ظاهرًا
…
في صورة الآكل والشارب
حتّى لقد عايَنَهُ خَلْقُهُ
…
كَلَحْظَةِ الحاجِبِ بالحاجِبِ2
قال: ولمّا حبس ببغداد استغوى جماعةً، فكانوا يستنشقون بوله، ويقولون: إنّه يُحيي الموتى.
وقال ثابت بن سنان: انتهى إلى حامد بن العبّاس في وزارته أمرُ الحلاج، وأنّه قد موَّه على جماعةٍ من الخَدَم والحَشَم وأصحاب المقتدر، وعلى خَدَم نصر بن الحاجب بأنّه يُحْيِي الموتى، وأنّ الْجِنّ يخدمونه ويُحْضرون إليه ما يريد. وأنّ حَمْد بن محمد الكاتب قال: إنّه مرض فشربَ بَوْلَه، فعُوفي، وكان محبوسًا بدار الخلافة3.
وَسُعِيَ إلى حامد برجل يُعرف بالسّمّريّ وبجماعة، فقبض عليهم وناظرهم، فاعترفوا أنّ الحلاج إله وأنّه يُحْيِي الموتى. ووافقوا الحلاج وكاشفوه فأنكر4.
1 المنتظم "6/ 162".
2 ديوان الحلَّاج "41"، والبداية والنهاية "11/ 134".
3 تاريخ بغداد "8/ 132".
4 تاريخ بغداد "8/ 133"، ونهاية الأرب "23/ 59".
وكانت ابنة السمّريّ صاحب الحلاج قد أقامت عنده في دار السّلطان مدّة، وكانت عاقلة حسنة العبارة. فدعاها حامد فسألها عن أمره فقالت: قال لي يومًا: قد زوّجْتُك من سليمان ابني وهو بنَيْسابور، وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها "خلاف"، فإنْ جرى منه ما تكرهينه، فصُومي يومك، واصعدي آخر النّهار إلى السطح، وقومي على الرماد، وأَفْطري على المِلْح، وأذكُري ما أنكرتيه منه، فإنّي أسمع وأرى1.
قالت: وكنتُ نائمةً لَيْلَةٍ وهو قريب منّي، وابنته عندي، فما حسست به إلّا وقد غشيَني، فانتبهتُ فَزعةً فقلت: ما لك؟ قال: إنّما جئت لأوقظك للصّلاة.
وقالت لي بنته يومًا: اسجدي له.
فقلت: أويسجد أحدُ لغير الله؟ وهو يسمع كلامنا، فقال: نعم إله في السّماء وإلهُ في الأرض2.
وذكر القصّة إلى أن قال: فسلّمه حامد الوزير إلى صاحب الشرطة وقال: اضربه ألف سَوْط، فإنْ ماتَ فحُزّ رأسه وأحرِق جثَّته، وإنْ لم يتلف فاقطع يديه ورجليه، وأحرق جسده، وانصب رأسه على الْجِسْر. فَفُعِلَ به ذلك، وبعث برأسه إلى خُراسان، وطيف به، وأقبل أصحابه يعدّون أربعين يومًا ينتظرون رجوعه3.
وزعم بعضهم أنّه لم يُقْتَلْ، وأنّ عدوًا له ألقي عليه شبهة4.
وبعضهم ادَّعى أنّه راه في غد ذلك اليوم في طريق النّهْروان راكبًا على حمار وهو يقول: قولوا لهؤلاء البقر الّذين ظنُّوا أنّني أنا الّذي قُتلتُ ما أنا ذاك5.
وأحضر حامد الورّاقين واستحلفهم أن لَا يبيعوا شيئًا من كُتُب الحلاج ولا يشترونها.
وقيل: إنّ الحلاج لم يتأوه في ضربه.
1 تجارب الأمم "1/ 78".
2 تاريخ بغداد "8/ 135"، ونشوار المحاضرة "6/ 82".
3 انظر المصدر السابق.
4 تاريخ بغداد "8/ 141"، ووفيات الأعيان "2/ 145".
5 تاريخ بغداد "5/ 141"، والكامل في التاريخ "8/ 121".
وقيل: إنّ يده لمّا قطعت كتبَ الدّم على الأرض: الله الله وليس ذلك بصحيح.
وسائر مشايخ الصُّوفيّة ذمّوا الحلاج إلّا ابن عطاء، ومحمد بن خفيف الشِّيرازيّ، وإبراهيم بن محمد النَّصْراباذيّ، فصححّوا حاله ودوّنوا كلامه1.
ثمّ وقفت على الجزء الّذي جمعه ابن باكُوَيْه في الحلاج فقال: حدَّثني حمد بن الحلاج، وذكر فصلًا قد تقدم قطعة منه، إلى أن قال: حتى أخذه السّلطان وحبَسه، فذهب نصر القُشُوريّ واستأذن الخليفة أن يبني له بيتًا في الحبْس، فبنى له دارًا صغيرة بجنْب الحبْس، وسدّوا باب الدّار، وعملوا حواليه سُورًا، وفتحوا بابه إلى الحبْس، وكان الناس يدخلون عليه سنة، ثمّ مُنِعوا، فبقي خمسة أشهر لَا يدخل عليه أحد، إلا مرة رأيت أبا العباس بن عطاء الأدميّ دخل عليه بالحيلة. ورأيت مرّةً أبا عبد الله عبد الله بن خفيف، وأنا برًّا عند والدي باللّيل والنّهار عنده. ثمّ حبسوني معه شهرين، وعُمَري يومئذٍ ثمانية عشر عامًا.
فلمّا كانت اللّيلة الّتي أخرج من صبيحتها، قام فصلّى رَكعات، ثمّ لم يزل يقول: مَكْر مَكْر؛ إلى أن مضى أكثر اللّيل. ثمّ سكت طويلًا ثم قال: حقّ، حقّ. ثمّ قام قائمًا، وتغطّى بإزارٍ، واتّزر بمئزر، ومدّ يديه نحو القِبْلة، وأخذ في المُنَاجاة. وكان خادمه حاضرًا، فحفظْنا بعضها. فكان من مناجاته: نحن شواهدك، نَلُوُذ بَسَنا عِزَّتك، لَتُبْدِي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك، أنتَ الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله، يا مُدَهّر الدُّهور، ومصوَّر الصُّوَر، يا من ذَلّتْ له الجواهر، وسجدت له الأعراض، وانعقدت بأمره الأجسام، وتصوَّرت عنده الأحكام. يا مَن تجلّى لما شاء، كما شاء، كيف شاء، مثل التجلّي في المشيئة لأحسن الصُّورة.
وفي نسخة: مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن صورة.
والصّورة هي الرّوح النّاطقة الّتي أفردته بالعِلم والبيان والقُدرة.
ثمّ أوعزتَ إلى شاهدك؛ "لأنّي" في ذاتك "الهُويّ" اليسير لمّا أردت بدايتي، وأظهرتني عند عقيب كراتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، "وأبديت" حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدًا في مَعَارجي إلى عُروش أوليائي، عند القول من برياتي، إنّي أحتضر وَأُقْتَلُ وأُصلب وأُحرق، وأُحمل على السّافيات الذاريات. وإن الذرة من
1 تاريخ بغداد "8/ 128".
"ينجوج" مظَانّ هيكل "متجلّياتي" لأعظم من الرّاسيات1.
ثم أنشأ يقول:
أنْعى إليك نفوسًا ماج شاهدها
…
فيما وراء الغيب وفي شاهد القِدَم
أنْعى إليك قلوبًا طالما هَطَلَتْ
…
سَحايُب الْوحْيِ لها أو بحر الْحِكَمِ
أنْعى إليك لسان الحقّ من زمن
…
أوْدَى وتَذْكَارُهُ في الوهْم كالعدم
أنْعى إليك بيانًا تستبشر له
…
أقوال كل فصح مقول فيهم
أنْعى إليك إشارات العُقول معًا
…
لم يَبْق مِنْهنّ الّا دارسُ الْعِلْمَ
أنْعى وحقَّك أحلامًا لطائفةٍ
…
كانت مطاياهم من مكمد الكِظَمِ
مضى الجميعُ، فلا عَيْنُ ولا أثرُ
…
مُضِيّ عادٍ وفِقْدَانَ الأُولَى إرَم
وخلفوا معشرًا يَجْدُون لِبستَهم
…
أعمى من البَهْم بل أعمى من النَّعَمِ2
ثم سكت، فقال خادمه أحمد بن فاتك: أوْصِني يا سيّدي.
فقال: هي نفسُك إنّ لم تَشْغلْها شَغَلتْك3.
فلمّا أصبحنا أُخرج من الحبْس، فرأيته يتبخْترَ في قَيده ويقول: نديمي غير منسوبِ. الأبيات.
ثمّ حُمِل وقُطِّعت يداه ورجلاه، بعد أن ضرب خمسمائة سوط، ثم صُلب، فسمعته وهو على الْجِذْع يناجي ويقول: إلهي، أصبحتُ في دار الرّغائب أنظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى مَن يؤذيك، فكيف لَا تتودّد إلى من لَا يؤذَى فيك.
ثمّ رأيتُ أبا بكر الشِّبْليّ وقد تقدَّم تحت الْجِذْع، وصاح بأعلى صوته يقول: أَوَلم أَنْهَكَ عن العالَمين؟.
ثمّ قال له: ما التَّصوّف؟ قال: أهون مرقاةٍ عندي ما ترى4.
1 سير أعلام النبلاء "11/ 346 وما بعدها".
2 سير أعلام النبلاء "11/ 347"، وديوان الحلاج "24، 25".
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
قال: فما أعلاه؟ ليس لك إليه سبيل، ولكنْ سترى غدًا ما يجري، فإنّ في الغَيْب ما شهدتَه وغابَ عنك.
فلمّا كان بالعِشيّ جاء الإذْن من الخليفة بأن تُضرب رَقَبَتُه، فقالوا: قد أمسينا ويؤخّر إلى الغَداة.
فلمّا أصبحنا أُنْزل وقُدِّم لتُضْرب رقبته، فسمعتُه يصيح ويقول بأعلى صوته: حَسْب الواحِد إفرادُ الواحد له. وقرأ هذه الآية: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَق} [الشورى: 18] وهذا آخر كلامه.
ثم ضُربت رَقَبَتُه، وعُلِّق في بارية، وصب عليه النِّفْط وأُحْرِق، وحُمل رماده إلى رأس المنارة لتسْفيه الرّياح1.
وسمعت أحمد بن فاتك تلميذ والدي يقول بعد ثلاثٍ من قتل والدي، قال: رأيت العزّة في المنام، وكأنّي واقفُ بين يديه قلت: يا رب ما فعلَ الحسين بن منصور؟ قال: كاشفته بمعنى، فدعا الخلْقَ إلى نفسه، أنزلتُ به ما رأيت2.
قال ابن باكُوَيْه: سمعتُ أبا القاسم يوسف بن يعقوب النُّعْمَانيّ يقول: سمعت الإمام ابن الإمام أبا بكر محمد بن داود الفقيه الإصبهانيّ يقول: إن كان ما أنزل الله على نيّته حقّ فما يقول الحلاج باطل. وكان شديدًا عليه.
قال: وسمعت أبا الفوارس الْجُوزَقانيّ بقَرْمِيسِين: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدّعاوى فلْيَنْظُر إلى الحلاج وما جرى عليه.
سمعتُ عيسى القَزْوينيّ سأل أبا عبد الله بن خفيف: ما تعتقدون في الحلاج؟ فقال: اعتقد فيه أنّه رجل من المسلمين فقط.
فقال له: قد كفّره المشايخ وأكثر المسلمين! فقال: إن كان الّذي رأيته منه في الحبْس لم يكن توحيدًا، فليس في الدّنيا توحيد.
قلت: قول ابن خفيف لَا يدّل على شيء، فإنّه لَا يلزم أنّ المبطِل لَا يعمل بالحقّ؛ بل قد يكون سائر عمله حقّ وعلى الحقّ، ويكفر بفِعْلةٍ واحدة، أو بكلمة تحبط عمله.
1 تاريخ بغداد "8/ 140".
2 سير أعلام النبلاء "11/ 347".
قال ابن باكُوَيْه: سمعت عليّ بن الحسن الفارسيّ بالمَوْصل قال: سمعت أبا بكر بن "أبي" سَعْدان يقول: قال لي الحسين بن منصور: تؤمن بي، حتّى أبعث إليك بعُصْفورة تطرح من ذرَقها وزن حبّةٍ على كذا مَنًّا من نُحاس، فيصير ذَهَبًا؟ قلت: بل أنت تؤمن بيَ حتّى أبعث إليك بفيلٍ يستلقي، فتصير قوائمه في السّماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته في عينك؟ قال: فبهُت وسكت1.
ثم قال ابن "أبي" سعدان: هو مُمَوّه مُشَعْوِذ. سمعت عيسى بن بزول القَزوينيّ، وسأل أبا عبد الله هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوتُهُ
الأبيات الثلاثة، فقال ابن خفيف: على قائلها لعنة الله. فقال عيسى: هي للحلاج. فقال: إن كانت اعتقاده فهو كافر، الّا أنّه لم يصح أنّه له، ربما يكون مَقولًا عليه.
سمعتُ محمد بن عليّ الحضرمي بالنّيل يقول: سمعتُ والدي يقول: كنت جالسًا عند الجنيد، إذ ورد شابُّ حَسَن الوجه، عليه خِرْقتان، فسلّم وجلس ساعةً، ثمّ أقبل عليه الْجُنَيْد فقال: سل ما تريد.
فقال: ما الذي بائن الخليقة عن رسوم الطَّبْع؟ فقال الْجُنَيْد: أرى في كلامك فضولًا، لِم لَا تسأل عمّا في ضميرك من الخروج والتّقدّم على أبناء جنسك؟ فسكت، وسكت الْجُنَيْد ساعةً، ثمّ أشار إلى أبي محمد الجريريّ أنْ قمْ، فقمنا، وتأخّرنا قليلًا، فأقبل الجنيد يتكلم عليه، وأقبل هو يعارضه، إلى أن قال: أيّ خشبة تُفْسِد؟ فبكى وقام، فتبِعه الجريريّ إلى أن خرج إلى مقبرةٍ وجلس، فقال لي أبو محمد الجريريّ: قلت في نفسي: هو في حدّة شبابه واستوحش منّا، وربّما به فاقة. فقصدتُ صديقًا لي فقلت: اشترِ خُبزا وشِواءً وفالوذج بسُكَّر، واحمله إلى موضع كذا وكذا، مع ثليجة ماء وخلال، وقليل أشنان. وبادرت إليه، فسلّمت وجلست عنده، وكان قد جعل رأسه بين رُكبتيه، فرفع رأسه وانزعج، وجلس بين يديّ، وأخذتُ أُلاطفه وأداريه إلى أن جاء صديقي. ثمّ قلتُ له: تفضّل. فمدّ يده وأكل قليلًا.
ثمّ قلت له: من أين القصد ومن أين القصر؟ قال: من البيضاء، إلّا أنيّ رُبيت بخوزسْتان والبصرة.
فقلت: ما الاسم؟ قال: الحسين بن منصور.
1 تاريخ بغداد "8/ 126".
وقمتُ وودَّعته، ومضى على هذا خمسُ وأربعون سنة، ثمّ سمعت أنّه صُلِب وفُعِل به ما فُعِل.
وقد ذكره السُّلَميّ في تاريخه، ثمّ قال: فهذه أطراف ممّا قال المشايخ فيه من قبولٍ وردٍ، واللَّه أعلم بما كان عليه. وهو إلى الرّدّ أقرب.
وقد هتك الخطيب حال الحلاج في "تاريخه الكبير"، وشفى وأوضح أنه كان ساحرًا مموهًا سيئ الاعتقاد.
فصل من ألفاظه:
عليك بنفسك، إن لم تشغلها بالحقّ، شَغَلَتْكَ عن الحقّ.
وقيل: إنه لما صلب، يعني سنة إحدى وثلاثمائة، قال:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَق} [الشورى: 18] .
وقال: حجبهم الاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القُدرة لطاشوا، ولو كشف لهم عن الحقائق لماتوا.
وقال: علامة العارف أن يكون فارغًا من الدّنيا والآخرة.
قيل: هذا كلام نجس؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 9] الآية.
وقال: لأَفْضَلُ الأمّة الصّحابة وهم الصّحابة. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخرة، فهو واللَّه مدّعٍ فشّار وأحمق بطّال، بل مُريد للدّنيا والآخرة.
وكتبَ الحلاج مرةً إلى أبي العباس بن عطاء كتابًا فيه من شِعْره:
كتبتُ ولم أكتب إليك وإنّما
…
كتبتُ إلى روحي بغير كتابِ
وذاك لأنّ الروح لَا فَرْق بَيْنَها
…
وبين مُحبّيها بفضْل خِطاب
فكُّلُّ كتابٍ صادرٍ منكَ واردُ
…
إليكَ بلا رَدِّ الجواب جوابي1
وله:
مُزِجَتْ روحُك في روحي كما
…
تمزج الخمرة بالماء الزلال
1 تاريخ بغداد "8/ 114، 115"، وديوان الحلاج "42".