الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الأول
مقدمة
…
مقدمة.
اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها وبث فيها من كل دابة وقدر اقواتها احوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومآكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة. فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل وحده بامر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح فجعلهم الله تعالى يتعاضدون يتعاونون في تحصيلها وترتيبها بان يزرع هذا الذاك ويخبز ذاك لهذا وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم وركز في نفوسهم الظلم والعدل. ثم مست الحاجة بينهم ميزانا للعدالة وقانونا للسياسة توزن به حركاتهم وسكناتهم وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم فانزل الله كتابه بالحق وميزانه بالعدل كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} .
قال علماء التفسير المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة فاستخلف فيها من الآدميين خلائف ووضع في قلوبهم العلم والعدل ليحكموا بهما بين الناس حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم واختل معاشهم. فمعنى الخلافة هو أن ينوب أحد مناب آخر في.
التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة لأنها أكمل الفضائل لشمول اثرها وعموم منفعتها كل شيء وإنما الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لايصال فيض واستخلفه في ارضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل كما قال تعالى: {يَا دَاوُدُ أنا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} .
وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الأستقامة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والعدالة تابعة للعلم باوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم. وقوله تعالى: {أن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إشارة إلى أن العدالة الحقيقة ليست إلا لله تعالى فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل. وقوله صلى الله عليه وسلم "بالعدل قامت السموات والأرض" اشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرا لو فرض فارض زائدا عليه أو ناقصا عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.
اصناف العدل من الخلائق خمسة ورفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} .
الأول: الانبياء عليهم الصلاة والسلام فهم ادلاء الأمة وعمد الدين ومعادن حكم الكتاب وأمناء الله في خلقه هم السرج المنيرة على سبيل الهدى وحملة الامانة عن الله إلى خلقه بالهداية بعثهم الله رسلا إلى قومهم وانزل معهم الكتاب والميزان ولا يتعدون حدود ما أنزل الله إليهم من الأوامر والزواجر ارشادا وهداية لهم حتى يقوم الناس بالقسط والحق ويخرجونهم من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور اليقظة والايمان وهم سبب نجاتهم من دركات جهنم إلى درجات الجنان وميزان عدالة.
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدين المشروع الذي وصاهم الله باقامته في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} فكل أمر من أمور الخلائق دنيا واخرى عاجلا وآجلا قولا وفعلا حركة وسكونا جار على نهج العدالة ما دام موزونا بهذا الميزان ومنحرف عنها بقدر انحرافه عنه ولا تصح الاقامة بالعدالة إلا بالعلم وهو اتباع احكام الكتاب والسنة.
الثاني: العلماء الذين هم ورثة الانبياء فهم فهموا مقامات القدوة من الانبياء وإن لم يعطوا درجاتهم واقتدوا بهداهم واقتفوا آثارهم إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه ومشرق نور حكمته فصدقوا بما اتوا به وسروا على سبيلهم وأيدوا دعوتهم ونشروا حكمتهم كشفا وفهما ذوقا وتحقيقا ايمانا وعلما بكمال المتابعة لهم ظاهرا وباطنا. فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل واظهار الحق برفع منار الشرع وأقامة اعلام الهدى والإسلام واحكام مباني التقوى برعاية الاحوط في الفتوى تزهدا للرخص لأنهم امناء لله في العالم وخلاصة بني ادم مخلصون في مقام العبودية مجتهدون في اتباع احكام الشريعة عن باب الحبيب لا يبرحون ومن خشية ربهم مشفقون مقبلون على الله تعالى بطهارة الأسرار وطائرون إليه باجنحة العلم والانوار هم أبطال ميادين العظمة وبلابل بساتين العلم والمكالمة. أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وتلذذوا بنعيم المشاهدة ولهم عند ربهم ما يشتهون وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد لا يقدح في حال الجميع لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وإن كثر المبطلون ولكنهم اخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الألهية والحكمة الأزلية. وهم آحاد الأكوان وافراد الزمان وخلفاء الرحمن وهم مصابيح الغيوب مفاتيح اقفال القلوب وهم خلاصة خاصة الله من خلقه وما برحوا أبدا في مقعد صدقه بهم يهتدي كل حيران ويرتوي كل ظمآن وذلك أن.
مطلع شمس مشارق أنوارهم مقتبس من مشكاة النبوة المصطفوية ومعدن شجرة اسرارهم مؤيد بالكتاب والسنة لا أحصي ثناء عليهم أفض اللهم علينا مما لديهم.
الثالث: الملوك وولاة الأمور يراعون العدل والانصاف بين الناس والرعايا توصلا إلى نظام المملكة وتوسلا إلى قوام السلطنة لسلامة الناس في أموالهم وابدانهم وعمارة بلدانهم ولولا قهرهم وسطوتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف. فرأس المملكة واركانها وثبات احوال الأمة وبنيانها العدل والانصاف سواء كانت الدولة اسلامية أو غير اسلامية فهما اس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة. فإن الله تعالى أمر بالعدل ولم تكتف به حتى اضاف إليه الاحسان فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها وبالجور والظلم خرابها وزوالها فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الإنصاف لهم والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر إلا بالقدرة كما قيل:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولا تاجر على سفره.
فان قيل: فما حد الملك العادل قلنا هو مما قال العلماء بالله من عدل بين العباد وتحذر عن الجور والفساد حسبما ذكره رضي الصوفي في كتابه المسمى بقلادة الأرواح وسعادة الافراح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها" وفي حديث آخر: "والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للملك العادل إلى السماء مثل عمل الرعية وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة" وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد وقام له بشكر كل شاكر فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى والسعادة.
العظمى واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه بان يجعله الله من جملة اعدائه وتعرض إلى اشد العذاب كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة وأقربهم منه إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر" فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق واطاعه الخلق وصفت له النعمى واقبلت عليه الدنيا فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش وملك القلوب وأمن الحروب وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جندا لأن الله تعالى ما خلق شيئا احلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الانصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم. فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسنة لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف امره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل فإنه احوج الناس إلى معرفة العلم واتباع الكتاب والسنة وحفظ قانون الشرع والعدالة فإنه منتصب لمصالح العباد واصلاح البلاد وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم وهو حامي الشريعة بالإسلام فلا بد من معرفة احكامها والعلم بحلالها وحرامها ليتوصل بذلك إلى ابراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه وتمتلىء القلوب بمحبته والدعاء له فيكون ذلك اقوم لعمود ملكه وأدوم لبقائه وابلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والانصاف على الرعية.
وقيل لحكيم أيما افضل العدل أم الشجاعة فقال من عدل استغنى عن الشجاعة لأن العدل اقوى جيش وأهنأ عيش.
وقال الفضيل بن عياض النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة وإن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن قال.
سفيان الثوري: "صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة الملوك والعلماء" والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله عز وجل ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله.
روى ابن يسار عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما وال ولي من أمر أمتي شيئا فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار".
الرابع أوساط الناس يراعون العدل في معاملاتهم وأروش جناياتهم بالانصاف فهم يكافؤون الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها.
الخامس القائمون بسياسة نفوسهم وتعديل قواهم وضبط جوارحهم وانخراطهم في سلك العدول لأن كل فرد من افراد الإنسان مسؤول عن رعاية رعيته التي هي جوارحه وقواه كما ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته كما قيل: صاحب الدار مسؤول عن أهل بيته وحاشيته. ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره ما لم تؤثر أولا في نفسها إذ التأثير في البعيد قبل القريب بعيد. وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} دليل على ذلك والإنسان متصف بالخلافة لقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . ولا تصح خلافة الله إلا بطهارة النفس كما أن اشرف العبادات لا تصح إلا بطهارة الجسم فما اقبح بالمرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبح نفسه كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسن وأما ساكنه فقبيح. وطهارة النفس شرط في صحة الخلافة وكمال العبادة ولا يصح نجس النفس لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس قد ازيل رجسه ونجسه. فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة فنجاسة البدن يمكن إدراكها بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة كما اشار له بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} . فان الخلافة هي الطاعة والاقتدار على قدر.
طاقة الإنسان في أكتساب الكمالات النفسية والاجتهاد بالاخلاص في العبودية والتخلق باخلاق الربوبية ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر الفعل. فكل إناء بالذي فيه ينضح. ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله ومن خبثت نفسه خبث عمله وقيل: في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" أنه أشار بالبيت إلى القلب وبالكلب إلى النفس الأمارة بالسوء أو إلى الغضب والحرص والحسد وغيرها من الصفات الذميمة الراسخة في النفس ونبه بان نور الله لا يدخل القلب إذا كان فيه ذلك الكلب. وإلى الطهارتين اشار بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ*وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . وأما الذي تطهر به النفس حتى تصلح للخلافة وتستحق به ثوابه فهو العلم والعبادة الموظفة اللذان هما سبب الحياة.
توضيح.
اعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم. ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهمة مهملة أو صورة فبقوة العلم والنطق والفهم يضارع الملك وبقوة الأكل والشرب والشهوة والنكاح والغضب يشبه الحيوان. فمن صرف همته كلها إلى تربية القوة الفكرية بالعلم والعمل فقد لحق بافق الملك فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية ياكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم إما غمرا كثور أو شرها كخنزير أو عقور ككلب أو حقودا كجمل أو متكبرا كنمر أو ذا حيلة ومكر كالثحلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد وإلى ذلك الأشارة بقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وقد يكون كثير من الناس من صورته صورة إنسان وليس هو في الحقيقة إلا كبعض الحيوان قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} .
مثل لبهائم جهلا جل خالقهم
…
لهم تصاوير لم يقرن بهن جحا
من نصايح الرشاد لمصالح العباد.
اعلم أن سبب هلاك الملوك اطراح ذوي الفضائل واصطناع ذوي الرذائل والاستفاف بعظة الناصح والاغتزار بتزكية المادح من نظر في العواقب سلم من النوائب وزوال الدول اصطناع السفل ومن استغنى بعقله ضل ومن أكتفى برأيه زل ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المامول من عدل في سلطانه استغنى عن اعوانه عدل السلطان انفع للرعية من خصب الزمان الملك يبقى على الكفر والعدل ولا يبقى على الجور والإيمان ويقال حق على من ملكه الله على عباده وحكمه في بلاده أن يكون لنفسه مالكا وللهوى تاركا وللغيظ كاظما وللظلم هاضما وللعدل في حالتي الرضي والغضب مظهرا وللحق في السر والعلانية مؤثرا وإذا كان كذلك الزم النفوس طاعته والقلوب محبته واشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه. ولقد صدق من قال:
يا ايها الملك الذي
…
بصلاحه صلح الجميع
أنت الزمان فإن عدلت
…
فكله أبدا ربيع
وقال عمرو بن العاص ملك عادل خير من مطر وابل من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه.
موعظة كل محنة إلى زوال وكل نعمة إلى انتقال:
رأيت الدهر مختلفا يدور
…
فلا حزن يدوم ولا سرور
وشيدت الملوك به قصورا
…
فما بقي الملوك ولا القصور
وقال المأمون:
يبقى الثناء وتنفد الأموال
…
ولكل وقت دولة ورجال
من كبرت همته كثرت قيمته. لا تثق الدولة فإنها ظل زائل ولا تعتمد على النعمة فإنها ضيف راحل. فإن الدنيا لا تصفو لشارب ولا تفي لصاحب.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أنصحني فكتب إليه أن الذي يصحبك لا ينصحك والذي ينصحك لا يصحبك. وسأل معاوية الاحنف بن قيس وقال له: كيف الزمان فقال أنت الزمان أن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. آفة الملوك سوء السيرة وآفة الوزراء خبث السريرة وآفة الجند مخالفة القادة وآفة الرعية مخالفة السادة وآفة الرؤساء ضعف السياسة وآفة العلماء حب الرياسة وآفة القضاة شدة الطمع وآفة العدول قلة الورع وآفة القوي استضعاف الخصم وآفة الجريء اضاعة الحزم وآفة المنعم قبح المن وآفة المذنب حسن الظن والخلافة لا يصلحها إلا التقوى والرعية لا يصلحها إلا العدل فمن جارت قضيته ضاعت رعيته ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته ويقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية.
ومن كلام بعض البلغاء خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف.
قال وهب بن منبه: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به ادخل الله النقص في أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء وإذا هم بالخير أو عمل به ادخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء ويعم البلاد والعباد. ولنقبض عنان العبارات النقلية في أرض الأشارات العقلية المقتطفة من نظم السلوك في مسامرة الملوك وغرر الخصائص وغرر النقائص وهو باب واسع كثير المنافع وملاك
الأمر في ذلك حسن القابلية وإن تكون مرآة غير صدية كما قيل:
إذا كان الطباع طباع سوء
…
فليس بنافع أدب الأديب
وقيل أن الأخلاق وإن كانت غريزية فإنه يمكن تطبعها بالرياضة والتدريب والعادة والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب مفتعل والتطبع مجذوب منفعل تتفق نتايجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الأسترسال. وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الاخلاق الجميلة ونفسه مع ذلك تتشوق إلى المنقبة وتتأنف من المثلبة. لكن سلطان طبعه يأبى عليه ويستعصي عن تكليف ما ندب إليه يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب وسبب ذلك ما قرره المتكلمون في الاخلاق من أن الطبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة اعانته لها.
وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم وقد تكتسب الاخلاق من معاشرة الاخلاء أما بالصلاح أو بالفساد فرب طبع كريم افسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم اصلحته مصاحبة الاخيار. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن: الأخ رقعة في ثوبك فانظر بمن ترقعه. وقال بعض الحكماء في وصيته لولده: يا بني احذر مقارنة ذوي الطباع المزدولة لئلا تسرق طباعهم وأنت لا تشعر وأما إذا كان الخليل كريم الاخلاق شريف الأعراق حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدي وبنجم رشده في طريق المكارم يهتدي وإذا كان سيء الأعمال خبيث الاقوال كان المغتبط به كذلك ومع هذا فواجب على العاقل اللبيب والفطن الاريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل.
الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه. وقال عمرو بن العاص: المرء حيث يجعل نفسه أن رفعها ارتفعت وإن وضعها اتضعت. وقال بعض الحكماء: النفس عزوف ونفور الوف متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت وإن أصلحتها صلحت وإن افسدتها فسدت وقال الشاعر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
…
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وقالوا من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الإنسان فكرة وتميزه فيما ينتج عن الاخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره فيأخذ نفسه بما استحسن منها واستملح ويصرفها عما استهجن منها واستقبح فقد قيل: كفاك تأديبا ترك ما كرهه الناس من غيرك.
اللهم بحرمة سيد الأنام يسر لنا حسن الختام واصرف عنا سوء القضاء وانظر لنا بعين الرضاء وهذا أوان انشقاق كمائم طلع الشماريخ عن زهر مجمل التاريخ.
أول خليفة في الأرض.
اول خليفة جعل في الأرض آدم عليه الصلاة والسلام بمصداق قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ثم توالت الرسل بعده لكنها لم تكن عامة الرسالة بل كل رسول أرسل إلى فرقة فهؤلاء الرسل عليهم السلام مقررون شرائع الله بين عباده وملزموهم بتوحيد وامتثال أوامره ونواهيه ليترتب على ذلك انتظام أمور معاشهم في الدنيا وفوزهم بالنعيم السرمدي إذا امتثلوا في الأخرى إلى أن جاء ختامهم الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمره بالصدع والأعلان والتطهير من عبادة الأوثان. وآمن به من أمن من الصحابة رضوان الله عليهم وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزي معه أولئك هم المفلحون. ولم يزل هذا الدين القويم من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينمو ويتع إلى ويسمو حتى تم ميقاته وقربت من.
النبي وفاته وأنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} .
ولما قبض صلى الله عليه وسلم قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي كرم الله وجهه ولم تصف له الخلافة بمغالبة معاوية رضوان الله عليهم اجمعين في الأمر وبموت علي رضي الله عنه تمت مدة مدة الخلافة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا".
وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الامويين وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني واظهاره دولة بني العباس. فكان أولهم السفاح وظهرت دولتهم الظهور التام وبلغت القوة الزائدة والضخامة العظيمة ثم اخذت في الانحطاط بتغلب الاتراك والديلم ولم تزل منحطة وليس للخلفاء في آخر الأمر إلا الأسم فقط حتى ظهرت فتنة التاتار التي أبادت العالم وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المعتصم وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد.
ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية.
وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمرو بن العاص ولم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين. وتغلب على النواعي كل متملك لها فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام ثم دولة الاخشيد وبعده كافور أبو المسك. ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب فملكها من غير ممانع واسس القاهرة وذلك في سنة أحدى وستين وثلثمائة. وقد المعز إلى مصر بجنوده.
وأمواله ومعه رمم آبائه واجداده محمولة في توابيت وسكن بالقصرين وادعى الخلافة لنفسه دون العباسيين. وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي وهو جد بني عبيد الحلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين فحج تلك السنة واجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولاده من بعده إلى أن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن إسمعيل بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور فتملكت الافرنج بلاد السواحل الشامية وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي فاجتهد في قتال الأفرنج واستخلاص ما استولوا عليه من بلاد المسلمين وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر فحاصرها نحو شهرين فاستنجد العاضد بالافرنج فحضروا من دمياط فرحل اسد الدين إلى الصعيد فجبى خراجه ورجع إلى الشام. وقصد الافرنج الديار المصرية في جيش عظيم وملكوا بلبيس وكانت إذ ذاك مدينة حصينة ووقعت حروب بين الفريقين فكانت الغلبة فيها على المصريين وأحاطوا بالاقليم برا وبحرا وضربوا على أهله الضرائب.
ثم إن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط فأمر الناس بالجلاء عنها وأرسل عبيدة بالشعل والنفوط فأوقدوا فيها النار فأحترقت عن آخرها واستمرت النار بها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد يستنجد نور الدين وبعث إليه بشعور نسائه فأرسل إليه جندا كثيفا وعليهم أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين يوسف فارتحل الافرنج عن البلاد وقبض أسد الدين على الوزير شاور الذي أشار بحرق المدينة وصلبه وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يوما فولى.
العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين وقلده الأمور ولقبه الملك الناصر فبذل لله همته وأعمل حيلته وأخذ في إظهار السنة واخفاء البدعة. فثقل أمره على الخليفة العاضد فابطن له فتنة أثارها في جنده ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد واخراجهم من بلاده فتفاقم الأمر وانشقت العصا ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها الناصر يوسف وأخوه شمس الدولة بلاء حسنا وانجلت الحروب عن نصرتهما فعند ذلك ملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه وقتل أعيان دولته واحتوى على ما في القصور من الذخائر والأموال والنفائس بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه.
وخطب للمستضيء العباسي بمصر وسير البشارة بذلك إلى بغداد ومات العاضد قهرا وأظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية وطهر الاقليم من البدع والتشييع والعقائد الفاسدة وأظهر عقائد أهل السنة والجماعة وهي عقائد الأشاعرة والماتريدية وبعث إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقائد فحمل الناس على العمل بما فيه ومحا من الاقليم مستنكرات الشرع وأظهر الهدي ولما توفي نور الدين الشهيد انضم إليه ملك الشام وواصل الجهاد وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس بعد ما أقام بيد الافرنج نيفا وإحدى وتسعين سنة وأزال ما أحدثه الافرنج من الآثار والكنائس.
ولم يهدم القمامة اقتداء بعمر رضي الله عنه وافتتح الفتوحات الكثيرة واتسع ملكه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة ولم يترك إلا أربعين درهما وهو الذي انشأ قلعة الجبل وسور القاهرة العظيم. وكان المشد على عمائره بهاء الدين قراقوش ثم استمر الأمر في أولاده وأولاد أخيه الملك العادل وحضر الافرنج أيضا إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل وملكوا دمياط وهدموها فحاربهم.
شهورا حتى أجلاهم وعمرت بعد ذلك دمياط هذه الموجودة في غير مكانها وكانت تسمى بالمنشية والكامل هذا هو الذي أنشأ قبة الشافعي رضي الله عنه عندما دفن بجواره موتاهم وأنشأ المدرسة الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث.
الملوك الايوبية.
وفي أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل حضر الافرنج وملكوا دمياط وزحفوا إلى فارسكور واستمر الملك الصالح يحاربهم أربعة عشر شهرا وهو مريض وانحصر جهة الشرق وأنشأ المدينة المعروفة بالمنصورة ومات بها سنة سبع وأربعين وستمائة والحرب قائم وأخفت زوجته شجرة الدر موته ودبرت الأمور حتى حضر ابنه توران شاه من حصن كيفا وانهزمت الافرنج وأسر ملكهم ريدا وكانوا طائفة الفرنسيس والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك واتخذ منهم جندا كثيفا وبنى لهم قلعة الروضة واسكنهم بها وسماهم البحرية ومقدمهم االفارس أقطاي. والملك الصالح هو الذي بنى المدارس الصالحية بين القصرين ودفن بقبة بنيت له بجانب المدرستين.
ولما انهزم الافرنج ومات الصالح وتملك ابنه توران شاه استوحش من مماليك أبيه واستوحشوا منه فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور وقلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر ثم خلعت وهي آخر الدولة الأيوبية ومدة ولايتهم أحدى وثمانون سنة.
الملوك التركية.
ثم تولى سلطنة مصر عز الدين أيبك التركماني الصالحي سنة ثمان وأربعين وستمائة وهو أول الدولة التركية بمصر. ولما قتل ولوا ابنه المظفر علي فلما وقعت حادثة التتار العظمى خلع المظفر وتولى الملك.
المظفر قطز وخرج بالعساكر المصرية لمحاربة التتار فظهر عليهم وهزمهم ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك بعد أن كانوا ملكوا معظم المعمور من الأرض وقهروا الملوك وقتلوا العباد وأخربوا البلاد.
وفي سنة أربع وخمسين وستمائة ملكوا سائر بلاد الروم بالسيف وفي البحر. فلما فرغوا من ذلك صميعه نزل هولاكوخان وهو ابن طولون بن جنكيز خان على بغداد وذلك سنة ست وخمسين وهي إذ ذاك كرسي مملكة الإسلام ودار الخلافة فملكها وقتلوا ونهبوا وأسروا من بها من جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء والأئمة والقراء والمحدثين وأكابر الأولياء والصالحين وفيها خليفة رب العالمين وإمام المسلمين وابن عم سيد المرسلين فقتلوه وأهله وأكابر دولته وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق. ثم أن هولاكوخان أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الازقة وفعلوا ما لم يتقدم مثله.
ثم وصلوا إلى دمشق وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب فخرج هاربا وخرج معه أهل القدرة ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم وتعدوها فوصلوا إلى نابلس ثم إلى الكرك وبيت المقدس فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود وتقل في أعينهم أعداد الجنود فالتقاهم عند عين جالوت فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطونهم. ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحا.
ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدا منصورا واحبه الخلق محبة عظيمة وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم وكان السلطان وعد.
بحلب ثم رجع عن ذلك. فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر وكذلك السلطان وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبه فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق.
الملك بيبرس.
ودخل بيبرس مصر سلطانا وتلقب بالملك الظاهر وذلك سنة ثمان وخمسين وستمائة وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي أحد المماليك البحرية وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات وجهز الحج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار. فلما وصلوا إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة فقال أمير المحمل لامير مكة أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس فقال: دعه يأتيني على الخيل البلق. فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق وجهزهم صحبة أمير الحاج وخرج بعدهم على ثلاث نوق عشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة فحاربوهم فنصرهم الله عليهم وقتل ملك التتار وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له: أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق. فوقع إلى الأرض وركب السلطان فرسه ودخل إلى مكة وكسا البيت وعاد إلى مصر واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما وحج سنة سبع وستين وستمائة.
ولذلك خبر طويل ذكره العلامة القريزي في ترجمته في تواريخه وفي الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادا للشرع وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر
حميدة ومنها رد الخلافة لبني العباس وذلك أنه لما جرى ما جرى على بغداد وقتل الخليفة وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات حضر شخص من أولاد الخلفاء الفارين في الواقعة إلى عرب العراق ومعه عشرة من بني مهارش فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم ولقب بالمستنصر وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان وللمسلمين ثم صلى بالناس ورسم بعمل خلعه خليفة إلى السلطان وكتب له تقليدا وقرىء بظاهر القاهرة بحضرة الجمع وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وفوض إليه الأمور وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمول على رأسه ودخل من باب النصر وزينت القاهرة والأمراء مشاة بين يديه ورتب له أتابكيا واستادارا وخازندارا وحاجبا وشرابيا وكاتبا وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلا وعشر قطارات جمال إلى امثال ذلك.
ثم أنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق وجهز معه ملوك الشرق صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم فعدم الخليفة ولم يعلم له خبر.
وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا عند بني خفاجة فتوصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا فأخبر به صاحب دمشق فطلبه وكاتب السلطان في شأنه فأرسل يستدعيه فأرسله مع جماعة من أمراء العرب فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام فلم ير أن يدخل إليها فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها.
ورؤساؤها ومنهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقا كثيرا وقصد عانة ولقب بالحاكم. فلما خرج المستنصر وافاه بعانة فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته فلما قدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى ابن مهنا فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة. واستمرت الخلافة بمصر وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة وهذه من مناقب الملك الظاهر.
ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرا والأمر لقلاوون فخلعه واستبد بالملك ولقب بالملك المنصور قلاوون الالفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري والمدرسة والقبة التي دفن بها وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك. تولى سنة ثمان وسبعين وستمائة ومات أواخر مدته أحدى عشرة سنة.
وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكان بطلا شجاعا ذا همة علية ورياسة مرضية خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة ثلاث وتسعين وستمائة ونقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون. مات في حياة أبيه وكان هو أكبر أولاده مرشحا للسلطنة.
ولما مات الأشرف تولى بعده اخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي اقيم في السلطنة وعمره تسع سنين فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين كنبغا الملك العادل فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل وتسلطن عوضه ثم ثأر عليه طغى وكبرى فقتلاه وقتلا أيضا. واستدعي الناصر من الكرك فقدم واعيد إلى السلطنة مرة ثانية فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورا عليه.
والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعمائة واظهر أنه يريد الحج بعياله فوافقه الأميران على ذلك وشرعا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك برمي الاقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فلما تهيأ لذلك أحضر الأمراء تقاد معهم الخيل والجمال ثم ركب إلى بركة الحاج وتعين معه للسفر جماعة من الأمراء. وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة فرحل من ليلته وخرج إلى الصالحية وعيد بها وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال ونزل بقلعتها وصرح بأنه قد ثنى عزمه عن الحج واختار الاقامة بالكرك وترك السلطنة ليستريح وكتب إلى الأمراء بذلك وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك واعاد من كان معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها خمسمائة هجين والمال والجمال وجميع التقادم وأمر نائب الكرك بالمسير عنه وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر وكتب للناصر تقليدا بنيابة الكرك. فعندما وصله التقليد مع آل ملك اظهر البشر وخطب باسم المظفر على منبر الكرك وانعم على البريد الحاج آل ملك واعاده فلم يتركه المظفر وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي اخذه من الكرك. وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه فاحثوه على القيام لأخذ ملكه ووعدوه بالنصرة فتحرك لذلك وسار إلى دمشق واتت النواب إليه وقدم إلى مصر وفر بيبرس وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ومات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة أحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وكسور ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام.
وكان ملكا عظيما جليلا كفؤا للسلطنة ذا دهاء محبا للعدل والعمارة وطابت مدته وشاع ذكره وطار صيته في الآفاق وهابته الأسود وخطب له في بلاد بعيدة.
ومن محاسنه أنه لما استبد بالملك اسقط جميع المكوس من اعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد وهو الروك الناصري المشهود وابطل الرشوة وعاقب عليها فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي ولا يقضي إلا بالحق. فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة.
وفي أيامه كثرت العمائر حتى يقال أن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها وله ولامرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة وحضر في أوائل دولته القان غازات بجنود التتار فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين. وبعض مناقبه تحتاج إلى طول ونحن لا نذكر إلا لمعا فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات. وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان ينقل عنه المؤرخون وللصفي الحلي فيه مرثية رائية بليغة نحو ستين بيتا.
ولما مات دفن على والده بالقبة المنصورية بين القصرين. وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانا منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك وهو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة التي منها ديوان الصبابة والسكردان وطوق الحمامة وحاطب ليل وقرع سن.
ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمائمهم وفي ذلك يقول بعضهم:
جعلوا لابناء النبي علامة
…
أن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم
…
يغني الشريف عن الطراز الأخض
وفي أيام الأشراف هذا قدمت الإفرنج إلى الأسكندرية على حين غفلة ونهبوا أموالها واسروا نساءها ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعساكره فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها. ولهذه الواقعة تاريخ اطلعت عليه في مجلدين ويقال أن الفرنساوي الذين يكون في أذنه قرط امه اصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة.
وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب فأمر باخراجهم من مصر فتجمعوا وعصوا فحاربهم وقاتلهم فانهزموا فقبض على كثير منهم فقتل منهم طائفة وغرق منهم طائفة ونفى منهم طائفة وبقى منهم بمصر طائفة التجأوا إلى بعض الأمراء وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن ومنهم صرغتمش واسند مرو آلجاي اليوسفي وهم كثيرون مختلفوا الأجناس ومنهم من جنس الجركس فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتداخلوا في الدولة فاستقر أمرهم على أن طائفة منهم سكنوا بالطباق ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمراء وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري.
فلما عزم الأشرف على الحج وأخذ في أسباب ذلك انتهزوا عند ذلك الفرصة وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة ويزيلوا السلطان والأمراء.
ولما خرج السلطان من مصر خرج في ابهة عظيمة وتجمل زائد بعد أن
رتب الأمور واستخلف بمصر وثغورها من يثق به وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة ومنهم جملة من الجلبان وابقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك ولا ينفع الحذر من القدر.
فلما خرج السلطان وبعد عن مصر اثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طائفة من المماليك السلطانية وفعلوا ما فعلوه ونادوا بموت السلطان وولوا ابنه ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان وثار أيضا أصحابهم على السلطان في العقبة فانهزم بعد أمور طالبا المجيء إلى مصر وصحبته الأمراء الكبار وبعض المماليك ونهبت الخزينة والحج وذهب البعض إلى الشام والبعض إلى الحجاز والبعض إلى مصر صحبة حريم السلطان وجرى ما هو مسطر في الكتاب من ذبح الأمراء واختفاء السلطان وخنقه وتمكن هؤلاء الاجلاب من الدولة ونهبوا بيوت الأموال وذخائر السلطان واقتسموا محاظيه وكذلك الأمراء ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك وأزالوا عن الدولة القلاوونية وأخذوا لانفسهم الأمريات والمناصب وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض يجبى إليهم ثمرات كل شيء.
الجراكسة.
ثم وقعت فيهم حوادث وحروب اسفرت عن ظهور برقوق الجركسي أحد مماليك يلبغا العمري واستقراره أميرا كبيرا. وكان غاية في الدهاء والمكر فلم يزل يدبر لنفسه حتى عزل بن الأشرف وأخذ السلطنة لنفسه وهو أول ملوك الجراكسة بمصر وبالأشرف شعبان هذا وأولاده زالت دولة القلاوونية وظهرت دولة الجراكسة.
أولهم برقوق وبعده ابنه فرج واستمر الملك فيهم وفي أولادهم إلى الأشرف قانصوه الغوري وابتداء دولتهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة وانقضاؤها سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة فتكون مدة دولتهم مائة سنة.
وتسعة وثلاثين سنة. وسبب انقضائها فتنة السلطان سليم شاه ابن عثمان وقدومه إلى الديار المصرية فخرج إليه سلطان مصر قانصوه الغوري فلاقاه عند مرج دابق بحلب وخامر عليه أمراؤه خير بك والغزالي فخذلوه وفقدوه ولم يزل حتى تملك السلطان سليم الديار المصرية والبلاد الشامية. وأقام خير بك نائبا بها كما هو مسطر ومفصل في تواريخ المتأخرين مثل مرج الزهور لابن إياس وتاريخ القرماني وابن زقبل وغيرهم. وعادت مصر إلى النيابة كما كانت في صدر الإسلام ولما خلص له أمر مصر عفا عمن بقي من االجراكسة وابنائهم ولم يتعرض لاوقاف السلاطين المصرية بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات وغلال الحرمين والأنبار ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ومصارف القلاع والمرابطين وأبطل المظالم والمكوس والمغارم. ثم رجع إلى بلاده وأخذ معه الخليفة العباسي وانقطعت الخلافة والمبايعة وأخذ صحبته ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده بحيث أنه فقد من مصر نيف وخمسون صنعة.
ولما توفي تولى بعده ابنه المغازي السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان فاسس القواعد وتمم المقاصد ونظم الممالك وأنار الحوالك ورفع منار الدين واخمد نيران الكافرين وسيرته الجميلة اغنت عن التعريف وتراجمه مشحونة بها التصانيف. ولم تزل البلاد منتظمة في سلكهم ومنقادة تحت حكمهم من ذلك الأوان الذي استولوا عليها فيه إلى هذا الوقت الذي نحن فيه وولاة مصر نوابهم وحكامها أمراؤهم.
وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين واشد من ذب عن الدين واعظم من جاهد في المشركين. فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على ايديهم وأيدي نوابهم وملكوا احسن المعمور من الأرض ودانت لهم الممالك في الطول والعرض. هذا مع عدم أغفالهم الأمر وحفظ النواحي والثغور وأقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية.
وتعظيم العلماء وأهل الدين وخدمة الحرمين الشريفين والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع فتحصنت دولتهم وطالت مدتهم وهابتهم الملوك وانقاد لهم الممالك والمملوك.
ومما يحسن ايراده هنا ما حكاه الأسحاقي في تاريخه أنه لما تولى السلطان سليم ابن السلطان سليمان المذكور كان لوالده مصاحب يدعى شمسي باشا العجمي ولا يخفي ما بين آل عثمان والعجم من العداوة المحكمة الأساس فأقر السلطان سليم شمسي باشا العجمي مصاحبا على ما كان عليه أيام والده وكان شمسي باشا المذكور له مداخل عجيبة وحيل غريبة يلقيها في قالب مرض ومصاحبة يسحر بها العقول فقصد أن يدخل شيئا منكرا يكون سببا لخلخلة دولة آل عثمان وهو قبول الرشا من أرباب الولاة والعمال. فلما تمكن من مصاحبة السلطان قال له: على سبيل العرض عبدكم فلان المعزول من منصب كذا وليس بيده منصب الآن قصده من فيض انعامكم عليه المنصب الفلاني ويدفع إلى الخزينة كذا وكذا. فلما سمع السلطان سليم ما ابداه شمسي باشا علم أنها مكيدة منه وقصده ادخال السوء بيت آل عثمان فتغير مزاجه وقال له: يا رافضي مريد أن تدخل الرشوة بيت السلطنة حتى يكون ذلك سببا لإزالتها. وامر بقتله فتلطف به وقال له: يابا دشاه لا تعجل هذه وصية والدك لي فإنه قال لي: إن السلطان سليم صغير السن وربما يكون عنده ميل للدنيا فاعرض عليه هذا الأمر فإن جنح إليه فامنعه بلطف فإن امتنع فقل له هذه وصية والدك فدم عليها ودعا له بالثبات وخلص من القتل.
فانظر يا أخي وتأمل فيما تضمنته هذه الحكاية من المعاني. وأقول بعد ذلك يضيق صدري ولا ينطلق لساني وليس الحال بمجهول حتى يفصح عنه اللسان بالقول وقد اخر سني العجز أن افتح فما افغير الله ابتغى حكما.
وفي اثناء الدولة العثمانية ونوابهم وامرائهم المصرية ظهر في عسكر
مصر سنة جاهلية وبدعة شيطانية زرعت فيهم النفاق واسست فيما بينهم الشقاق ووافقوا فيها أهل الحرف اللئام في قولهم سعد وحرام وهو أن الجند بأجمعهم اقتسموا قسمين واحتزبوا بأسرهم حزبين فرقة يقال لها فقارية واخرى تدعى قاسمية ولذلك اصل مذكور وفي بعض سير المتأخرين مسطور لا بأس بايراده في المسامرة تتميما للغرض في مناسبة المذاكرة وهو أن السلطان سليم شاه لما بلغ من ملك الديار المصرية مناه وقتل من قتل من الجراكسة وسامهم في سوق المواكسة قال يوما لبعض جلسائه وخاصته وأصدقائه: يا هل ترى هل بقي أحد من الجراكسة نراه وسؤال من جنس ذلك ومعناه. فقال له: خيربك نعم أيها الملك العظيم هنا رجل قديم يسمى سودون الأمير طاعن في السن كبير رزقه الله تعالى بولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد في الميدان ولا يناظرهما فارس من الفرسان. فلما حصلت هذه القضية تنحى عن المفارشة بالكلية وحبس ولديه بالدار وسد ابوابه بالأحجار وخالف العادة واعتكف على العبادة. وهو إلى الآن مستمر على حالته مقيم في بيته وراحته. فقال السلطان هذا والله رجل عاقل خبير كامل ينبغي لنا أن نذهب لزيارته ونقتبس من بركته واشارته قوموا بنا جملة نذهب إليه على غفلة لكي اتحقق المقال واشاهده على أي حالة هو من الأحوال. ثم ركب في الحال ببعض الرجال إلى أن توصل إليه ودخل عليه فوجده جالسا على مسطبة الايوان وبين يديه المصحف وهو يقرأ القرآن وعنده خدم واتباع وعبيد ومماليك أنواع فعندما عرف أنه السلطان بادر لمقابلته بغير توان وسلم عليه ومثل بين يديه فأمره بالجلوس ولاطفه بالكلام المأنوس إلى أن أطمأن خاطره وسكنت ضمائره فسأله عن سبب عزلته وانجماعه عن خلطته بعشيرته فاجابه أنه لما رأى في دولتهم اختلال الأمور وترادف الظلم والجور وأن سلطانهم مستقل برأيه فلم يضع إلى وزير ولا عاقل مشير واقصى كبار.
دولته وقتل أكثرهم بما امكنه من حيلته وقلد مماليكه الصغار مناصب الأمراء الكبار ورخص لهم فيما يفعلون وتركهم وما يفترون فسعوا بالفساد وظلموا العباد وتعدوا على الرعية حتى في المواريث الشرعية فانحرفت عنه القلوب وابتهلوا إلى علام الغيوب فعلمت أن امره في ادبار ولا بد لدولته من الدمار فتنحيت عن حال الغرور وتباعدت عن نار الشرور ومنعت ولدي من التداخل في الأهوال وحبستهما عن مباشرة القتال خوفا عليهما لما اعلمه فيهما من الاقدام فيصيبهما كغيرهما من البلاء العام. فان عموم البلاء منصوص واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص. ثم أحضر ولديه المشار اليهما وأخرجهما من محبسهما فنظر اليهما السلطان فرأى فيهما مخايل الفرسان الشجعان وخاطبهما فأجاباه بعبارة رقيقة والفاظ رشيقة ولم يخطئا في كل ما سألهما فيه ولم يتعديا في الجواب فضل التشبيه والتنبيه ثم أحضروا ما يناسب المقام من موائد الطعام فأكل وشرب ولذ وطاب وحصل له مزيد الانشراح وكمال الارتياح. وقدم الأمير سودون إلى السلطان تقادم وهدايا وتفضل عليه الخان أيضا بالانعام والعطايا وأمر بالتوقيع لهم حسب مطالبهم. ورفع درجة منازلهم ومراتبهم ولما فرغ من تكرمه وإحسانه ركب عائدا إلى مكانه وأصبح ثاني يوم ركب السلطان مع القوم وخرج إلى الخلا بجمع من الملا وجلس ببعض القصور ونبه على جميع اصناف العساكر بالحضور فلم يتأخر منهم أمير ولا كبير ولا صغير فطلب الأمير سودون وولديه فحضروا بين يديه فقال لهم: أتدرون لم طلبتكم وفي هذا المكان جمعتكم. فقالوا لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب فقال أريد أن يركب قاسم واخوه ذو الفقار ويترامحا ويتسابقا بالخيل في هذا النهار. فامتثلا أمره المطاع لأنهما صارا من الجند والاتباع فنزلا وركبا ورمحا ولعبا واظهرا من أنواع الفروسية الفنون حتى شخصت فيهما العيون وتعجب منهما.
الأتراك لأنهم ليس لهم في ذلك الوقت إدراك. ثم أشار اليهما فنزلا عن فرسيهما وصعدا إلى أعلى المكان فخلع عليهما السلطان وقلدهما إمارتان ونوه بذكرهما بين الاقران وتقيدا بالركاب ولازما في الذهاب والإياب. ثم خرج في اليوم الثاني وحضر الأمراء والعسكر المتواني فامرهم أن ينقسموا باجمعهم قسمين وينحازوا باسرهم فريقين قسم يكون رئيسهم ذا الفقار والثاني أخوه قاسم الكرار. واضاف إلى ذي الفقار أكثر فرسان العثمانيين وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والركاب. وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين فاذعنوا بالانقياد وعلوا على ظهور الجياد وساروا بالخيل وانحدروا كالسيل وانعفوا متسابقين ورمحوا متلاحقين وتناوبوا في النزال واندفعوا كالجبال وساقوا في الفجاج وأثاروا العجاج ولعبوا بالرماح وتقابلوا بالصفاح وارتفعت الأصوات وكثرت الصيحات وزادت الهيازع وكثرت الزعازع وكاد الخرق يتسع على الراقع وقرب أن يقع القتل والقتال فنودي فيهم عند ذلك بالانفصال. فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذه الملعبة حزبين. واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقبلون فيه حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات والفقارية يميلون إلى نصف سعد والعثمانيين والقاسمية لا يألفون إلى نصف حرام والمصريين. وصار فيهم قاعدة لا يتطرقها اختلال ولا يمكن الانحراف عنها بحال من الأحوال ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما واهريقت فيه الدماء. فكم خربت بلاد وقتلت امجاد وهدمت دور واحرقت قصور وسبيت احرار وقهرت اخيار.
وقيل غير ذلك وإن اصل القاسمية ينسبون إلى قاسم بك الدفتر دار.
تابع مصطفى بك والفقارية نسبة إلى ذي الفقار بك الكبير وأول ظهور ذلك من سنة خمسين وألف والله اعلم بالحقائق. واتفق أن قاسم بك المذكور أنشأ في بيته قاعة جلوس وتأنق في تحسينها وعمل فيها ضيافة لذي الفقار بك أمير الحاج المذكور فأتى عنده وتغدى عنده بطائفة قليلة ثم قال له ذو الفقار بك: وانت أيضا تضيفني في غد وجمع ذو الفقار مماليكه في ذلك اليوم صناجق وامراء وااختيارية في الوجاقات وحضر قاسم بك بعشرة من طائفته واثنين خواسك خلفه والسعادة والسراج فدخل عنده في البيت وأوصى ذو الفقار أن لا أحد يدخل عليهما إلا بطلب إلى أن فرشوا السماط وجلس صحبته على السماط. فقال قاسم بك حتى الصناجق والاختيارية. فقال ذو الفقار أنهم يأكلون بعدنا هؤلاء جميعهم مماليكي عندما أموت يترحمون علي ويدعون لي وانت قاعتك تدعو لك بالرحمة الكونك ضيعت المال في الماء والطين. فعند ذلك تنبه قاسم بك وشرع ينشيء اشراقات كذلك وكانت الفقارية موصوفة بالكثرة والكرم والقاسمية بكثرة المال والبخل. وكان الذي يتميز به أحد الفريقين من الآخر إذا ركبوا في المواكب أن يكون بيرق الفقاري ابيض ومزاريقه برمانة وبيرق القاسمية احمر ومزاريقه بجلبة. ولم يزل الحال على ذلك.
واستهل القرن الثاني عشر وامراء مصر فقارية وقاسمية فالفقارية ذو الفقار بك إبراهيم بك أمير الحاج ودرويش بك وإسمعيل بك ومصطفى بك قزلار وأحمد بك قزلار بجدة ويوسف بك القرد وسليمان بك بارم ذيله ومرجان جوزبك كان اصله قهوجي السلطان محمد قلدوه صنجقا فقاريا بمصر الجميع تسعة وأمير الحاج منهم والقاسمية مراد بك الدفتر دار ومملوكه ايواظ بك وإبراهيم بك أبو شنب وقانصوه بك وأحمد بك منوفية وعبد الله بك. ونواب مصر من طرف السلطان سليمان بن عثمان في أوائل القرن حسن باشا السلحدار سنة تسع وتسعين وألف وسنة مائة.
وواحد بعد الألف والسلطان في ذلك الوقت السلطان سليمان بن إبراهيم خان وتقلد إبراهيم بك أبو شنب إمارة الحاج وإسمعيل بك فتردار وذلك سنة تسع وتسعين.
وفي أواخر الحجة سنة تسع وتسعين وألف حصلت واقعة عظيمة بين إبراهيم بك ابن ذي الفقار وبين العرب الحجازيين خلف جبل الجيوشي وقتلوا كثيرا من العرب ونهبوا ارزاقهم ومواشيهم وأحضر منهم اسرى كثيرة ووقفت الغرب في طريق الحج تلك السنة بالشرفة فقتلوا من الحاج خلقا كثيرا وأخذوا نحو ألف جمل باحمالها وقتلوا خليل كتخدا الحج فعين عليهم خمسة أمراء من الصناجق فوصلوا إلى العقبة وهرب العربان. وفي أيامه سافر ألفا شخص من العسكر والبسوا عليهم مصطفى بك طكوز جلان وسافروا إلى ادرنه في غرة جمادي الأولى سنة مائة وألف. وفي رابع جمادي الثانية خنق الباشا كتخدا بعد أن أرسله إلى دير الطين على أنه يتوجه إلى جرجا لتحصيل الغلال وذلك لذنب نقمه عليه.
وفي شعبان نقب المحابيس العرقانة وهرب المسجونون منها.
وفي أيامه غلت الأسعار مع زيادة النيل وطلوعه في أوانه على العادة ثم عزل حسن باشا ونزل إلى بيت محمد بك حاكم جرجا المقتول وتولى قيطاس بك قائمقام فكانت مدته هذه سنة واحدة وتسعة أشهر. ثم تولى أحمد باشا وكان سابقا كتخدا إبراهيم باشا الذي مات بمصر وحضر أحمد باشا من طريق البر وطلع إلى القلعة في سادس عشر المحرم سنة مائة واحدى وألف ووصل اغا بطلب الفي عسكري وعليهم صنجق يكون عليهم سر دار فعينوا مصطفى بك حاكم جرجا سابقا وسافر في منتصف جمادي الآخرة.
وفي هذا التاريخ سافرت تجريدة عظيمة إلى ولاية البحيرة والبهنسا وعليهم صنجقان وتوجهوا في ثاني عشر جمادي الآخرة وسافر أيضا.
خلفهم إسمعيل بك وجميع الكشاف وكتخدا الباشا واغوات البلكات وكتخدا الجاويشية وبعض اختيارية وحاربوا ابن وافي وعربانه مرارا ثم وقعت بينهم وقعة كبيرة فهزم فيها الاحزاب وولوا منهزمين نحو الغرق وأما قيطاس بك وحسن اغا بليغا وكتخدا الباشا فإنهم صادفوا جمعا من العرب في طريقهم فأخذوهم ونهبوا مالهم وقطعوا منهم رؤوساء ثم حضر وإلى مصر. وفي انامهم كانت وقعة ابن غالب شريف مكة ومحاربته بها مع محمد بك حاكم جدة فكانت الهزيمة على الشريف.
وتولى السيد محسن بن حسين بن زيد إمارة مكة ونودي بالأمان بعد حروب كثيرة وزينت مكة ثلاثة أيام بلي إليها وذلك في منتصف رجب ومرض أحمد باشا وتوفي ثاني عشر جمادي الآخرة سنة اثنتين ومائة وألف ودفن بالقرافة فكانت مدته سنة واحدة وستة أشهر. ومن مآثره ترميم الجامع المؤيدي وقد كان تداعى إلى السقوط فامر بالكشف عليه وعمره ورمه. وفي رابع عشر رجب توفي قيطاس بك الدفتر دار. وفي ثاني يوم حضر قانصوه بك تابع المتوفي من سفره بالخزينة مكان كتخدا الباشا المتولي قائمقام بعد موت سيده فألبس قانصوه بك دفتر دار ثم ورد مرسوم بولاية علي كتخدا الباشا قائمقام واذن بالتصرف إلى آخر مسرى فكانت مدة تصرفه أربعة وتسعين يوما. ثم تولى علي باشا وحضر من البحر إلى القلعة في ثاني عشرى رمضان سنة اثنتين ومائة وألف وحضر صحبته تترخان وأقام بمصر إلى أن توجه إلى الحج ورجع على طريق الشام. وفي ثاني عشري القعدة حضر قرا سليمان من الديار الرومية ومعه مرسوم مضمونه الخبر بجلوس السلطان أحمد بن السلطان إبراهيم فزينت مصر ثلاثة أيام وضربت مدافع من القلعة. وفي ثالث عشر صفر سنة ثلاث ومائة وألف ورد نجاب من مكة واخبر بان الشريف سعد تغلب على محسن وتولى إمارة مكة فأرسل الباشا عرضا إلى السلطنة بذلك. وفي ثامن ربيع.
أول ورد مرسوم مضمونه ولاية نظر الدشابش والحرمين لاربعة من الصناجق فتولى إبراهيم بك ابن ذي الفقار أمير الحاج حالا عوضا عن اغات مستحفظان ومراد بك الدفتر دار على المحمدية عوضا عن كتخدا مستحفظان وعبد الله بك على وقف الخاصكية عوضا عن كتخدا العزب وإسمعيل بك على اوقاف الحرمين عوضا عن باش جاويش مستحفظان. فالبسهم علي باشا قفاطين على ذلك.
وفي مستهل رمضان من السنة حضر من الديار الرومية الشريف سعد بن زيد بولاية مكة وتوجه إلى الحجاز. وفي شهر شوال سافر على كتخدا أحمد باشا المنوفي إلى الروم. وفي تاريخه تقلد إسمعيل بك الدفتردارية عوضا عن مراد بك. وفي ثالث عشر شوال قتل جلب خليل كتخدا مستحفظان ببابهم وحصلت في بابهم فتنة اثارها كحك محمد واخرجوا سليم افندي من بلكهم ورجب كتخدا والبسوهما الصنجقية في ثالث عشرينه وابطل كجك محمد الحمايات من مصر باتفاق السبع بلكات وابطلوا جميع ما يتعلق بالعزب والانكشارية من الحمايات بالثغور وغيرها. وكتب بذلك بيورلدي ونادوا به في الشوارع.
وفي غرة القعدة قبض الباشا على سليم افندي وخنقه بالقلعة ونزل إلى بيته محمولا في تابوت وتغيب رجب كتخدا ثم استعفى من الصنجقية فرفعوها عنه وسافر إلى المدينة. وفي ثامن عشر ربيع الأول ورد مرسوم بتزيين الأسواق بمصر وضواحيها بمولودين توأمين رزقهما السلطان أحمد سمي أحدهما سليان والآخر إبراهيم. وفي ثاني عشر شعبان سافر حسين بك أبو يدك بألف نفر من العسكر لاحقا بإبراهيم بك أبي شنب وقد كان سافر في أواخر ربيع الأول لقلعة كريد. وفي ثاني عشري رمضان سنة خمس ومائة وألف الموافق الحادي عشر بشنس هبت ريح شديدة وتراب أظلم منه الجو وكان الناس في صلاة الجمعة فظن الناس انها القيامة وسقطت المركب التي على منارة جامع طولون وهدمت دور كثيرة.
مقدمة
.
اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها وبث فيها من كل دابة وقدر اقواتها احوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومآكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة. فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل وحده بامر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح فجعلهم الله تعالى يتعاضدون يتعاونون في تحصيلها وترتيبها بان يزرع هذا الذاك ويخبز ذاك لهذا وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم وركز في نفوسهم الظلم والعدل. ثم مست الحاجة بينهم ميزانا للعدالة وقانونا للسياسة توزن به حركاتهم وسكناتهم وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم فانزل الله كتابه بالحق وميزانه بالعدل كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} .
قال علماء التفسير المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة فاستخلف فيها من الآدميين خلائف ووضع في قلوبهم العلم والعدل ليحكموا بهما بين الناس حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم واختل معاشهم. فمعنى الخلافة هو أن ينوب أحد مناب آخر في.
التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة لأنها أكمل الفضائل لشمول اثرها وعموم منفعتها كل شيء وإنما الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لايصال فيض واستخلفه في ارضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل كما قال تعالى: {يَا دَاوُدُ أنا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} .
وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الأستقامة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والعدالة تابعة للعلم باوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم. وقوله تعالى: {أن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إشارة إلى أن العدالة الحقيقة ليست إلا لله تعالى فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل. وقوله صلى الله عليه وسلم "بالعدل قامت السموات والأرض" اشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرا لو فرض فارض زائدا عليه أو ناقصا عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.
اصناف العدل من الخلائق خمسة ورفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} .
الأول: الانبياء عليهم الصلاة والسلام فهم ادلاء الأمة وعمد الدين ومعادن حكم الكتاب وأمناء الله في خلقه هم السرج المنيرة على سبيل الهدى وحملة الامانة عن الله إلى خلقه بالهداية بعثهم الله رسلا إلى قومهم وانزل معهم الكتاب والميزان ولا يتعدون حدود ما أنزل الله إليهم من الأوامر والزواجر ارشادا وهداية لهم حتى يقوم الناس بالقسط والحق ويخرجونهم من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور اليقظة والايمان وهم سبب نجاتهم من دركات جهنم إلى درجات الجنان وميزان عدالة.
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدين المشروع الذي وصاهم الله باقامته في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} فكل أمر من أمور الخلائق دنيا واخرى عاجلا وآجلا قولا وفعلا حركة وسكونا جار على نهج العدالة ما دام موزونا بهذا الميزان ومنحرف عنها بقدر انحرافه عنه ولا تصح الاقامة بالعدالة إلا بالعلم وهو اتباع احكام الكتاب والسنة.
الثاني: العلماء الذين هم ورثة الانبياء فهم فهموا مقامات القدوة من الانبياء وإن لم يعطوا درجاتهم واقتدوا بهداهم واقتفوا آثارهم إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه ومشرق نور حكمته فصدقوا بما اتوا به وسروا على سبيلهم وأيدوا دعوتهم ونشروا حكمتهم كشفا وفهما ذوقا وتحقيقا ايمانا وعلما بكمال المتابعة لهم ظاهرا وباطنا. فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل واظهار الحق برفع منار الشرع وأقامة اعلام الهدى والإسلام واحكام مباني التقوى برعاية الاحوط في الفتوى تزهدا للرخص لأنهم امناء لله في العالم وخلاصة بني ادم مخلصون في مقام العبودية مجتهدون في اتباع احكام الشريعة عن باب الحبيب لا يبرحون ومن خشية ربهم مشفقون مقبلون على الله تعالى بطهارة الأسرار وطائرون إليه باجنحة العلم والانوار هم أبطال ميادين العظمة وبلابل بساتين العلم والمكالمة. أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وتلذذوا بنعيم المشاهدة ولهم عند ربهم ما يشتهون وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد لا يقدح في حال الجميع لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وإن كثر المبطلون ولكنهم اخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الألهية والحكمة الأزلية. وهم آحاد الأكوان وافراد الزمان وخلفاء الرحمن وهم مصابيح الغيوب مفاتيح اقفال القلوب وهم خلاصة خاصة الله من خلقه وما برحوا أبدا في مقعد صدقه بهم يهتدي كل حيران ويرتوي كل ظمآن وذلك أن.
مطلع شمس مشارق أنوارهم مقتبس من مشكاة النبوة المصطفوية ومعدن شجرة اسرارهم مؤيد بالكتاب والسنة لا أحصي ثناء عليهم أفض اللهم علينا مما لديهم.
الثالث: الملوك وولاة الأمور يراعون العدل والانصاف بين الناس والرعايا توصلا إلى نظام المملكة وتوسلا إلى قوام السلطنة لسلامة الناس في أموالهم وابدانهم وعمارة بلدانهم ولولا قهرهم وسطوتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف. فرأس المملكة واركانها وثبات احوال الأمة وبنيانها العدل والانصاف سواء كانت الدولة اسلامية أو غير اسلامية فهما اس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة. فإن الله تعالى أمر بالعدل ولم تكتف به حتى اضاف إليه الاحسان فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها وبالجور والظلم خرابها وزوالها فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الإنصاف لهم والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر إلا بالقدرة كما قيل:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولا تاجر على سفره.
فان قيل: فما حد الملك العادل قلنا هو مما قال العلماء بالله من عدل بين العباد وتحذر عن الجور والفساد حسبما ذكره رضي الصوفي في كتابه المسمى بقلادة الأرواح وسعادة الافراح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها" وفي حديث آخر: "والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للملك العادل إلى السماء مثل عمل الرعية وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة" وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد وقام له بشكر كل شاكر فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى والسعادة.
العظمى واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه بان يجعله الله من جملة اعدائه وتعرض إلى اشد العذاب كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة وأقربهم منه إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر" فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق واطاعه الخلق وصفت له النعمى واقبلت عليه الدنيا فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش وملك القلوب وأمن الحروب وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جندا لأن الله تعالى ما خلق شيئا احلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الانصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم. فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسنة لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف امره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل فإنه احوج الناس إلى معرفة العلم واتباع الكتاب والسنة وحفظ قانون الشرع والعدالة فإنه منتصب لمصالح العباد واصلاح البلاد وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم وهو حامي الشريعة بالإسلام فلا بد من معرفة احكامها والعلم بحلالها وحرامها ليتوصل بذلك إلى ابراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه وتمتلىء القلوب بمحبته والدعاء له فيكون ذلك اقوم لعمود ملكه وأدوم لبقائه وابلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والانصاف على الرعية.
وقيل لحكيم أيما افضل العدل أم الشجاعة فقال من عدل استغنى عن الشجاعة لأن العدل اقوى جيش وأهنأ عيش.
وقال الفضيل بن عياض النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة وإن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن قال.
سفيان الثوري: "صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة الملوك والعلماء" والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله عز وجل ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله.
روى ابن يسار عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما وال ولي من أمر أمتي شيئا فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار".
الرابع أوساط الناس يراعون العدل في معاملاتهم وأروش جناياتهم بالانصاف فهم يكافؤون الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها.
الخامس القائمون بسياسة نفوسهم وتعديل قواهم وضبط جوارحهم وانخراطهم في سلك العدول لأن كل فرد من افراد الإنسان مسؤول عن رعاية رعيته التي هي جوارحه وقواه كما ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته كما قيل: صاحب الدار مسؤول عن أهل بيته وحاشيته. ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره ما لم تؤثر أولا في نفسها إذ التأثير في البعيد قبل القريب بعيد. وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} دليل على ذلك والإنسان متصف بالخلافة لقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . ولا تصح خلافة الله إلا بطهارة النفس كما أن اشرف العبادات لا تصح إلا بطهارة الجسم فما اقبح بالمرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبح نفسه كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسن وأما ساكنه فقبيح. وطهارة النفس شرط في صحة الخلافة وكمال العبادة ولا يصح نجس النفس لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس قد ازيل رجسه ونجسه. فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة فنجاسة البدن يمكن إدراكها بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة كما اشار له بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} . فان الخلافة هي الطاعة والاقتدار على قدر.
طاقة الإنسان في أكتساب الكمالات النفسية والاجتهاد بالاخلاص في العبودية والتخلق باخلاق الربوبية ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر الفعل. فكل إناء بالذي فيه ينضح. ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله ومن خبثت نفسه خبث عمله وقيل: في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" أنه أشار بالبيت إلى القلب وبالكلب إلى النفس الأمارة بالسوء أو إلى الغضب والحرص والحسد وغيرها من الصفات الذميمة الراسخة في النفس ونبه بان نور الله لا يدخل القلب إذا كان فيه ذلك الكلب. وإلى الطهارتين اشار بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . وأما الذي تطهر به النفس حتى تصلح للخلافة وتستحق به ثوابه فهو العلم والعبادة الموظفة اللذان هما سبب الحياة.
توضيح.
اعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم. ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهمة مهملة أو صورة فبقوة العلم والنطق والفهم يضارع الملك وبقوة الأكل والشرب والشهوة والنكاح والغضب يشبه الحيوان. فمن صرف همته كلها إلى تربية القوة الفكرية بالعلم والعمل فقد لحق بافق الملك فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية ياكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم إما غمرا كثور أو شرها كخنزير أو عقور ككلب أو حقودا كجمل أو متكبرا كنمر أو ذا حيلة ومكر كالثحلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد وإلى ذلك الأشارة بقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وقد يكون كثير من الناس من صورته صورة إنسان وليس هو في الحقيقة إلا كبعض الحيوان قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} .
مثل لبهائم جهلا جل خالقهم
…
لهم تصاوير لم يقرن بهن جحا
من نصايح الرشاد لمصالح العباد.
اعلم أن سبب هلاك الملوك اطراح ذوي الفضائل واصطناع ذوي الرذائل والاستفاف بعظة الناصح والاغتزار بتزكية المادح من نظر في العواقب سلم من النوائب وزوال الدول اصطناع السفل ومن استغنى بعقله ضل ومن أكتفى برأيه زل ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المامول من عدل في سلطانه استغنى عن اعوانه عدل السلطان انفع للرعية من خصب الزمان الملك يبقى على الكفر والعدل ولا يبقى على الجور والإيمان ويقال حق على من ملكه الله على عباده وحكمه في بلاده أن يكون لنفسه مالكا وللهوى تاركا وللغيظ كاظما وللظلم هاضما وللعدل في حالتي الرضي والغضب مظهرا وللحق في السر والعلانية مؤثرا وإذا كان كذلك الزم النفوس طاعته والقلوب محبته واشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه. ولقد صدق من قال:
يا ايها الملك الذي
…
بصلاحه صلح الجميع
أنت الزمان فإن عدلت
…
فكله أبدا ربيع
وقال عمرو بن العاص ملك عادل خير من مطر وابل من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه.
موعظة كل محنة إلى زوال وكل نعمة إلى انتقال:
رأيت الدهر مختلفا يدور
…
فلا حزن يدوم ولا سرور
وشيدت الملوك به قصورا
…
فما بقي الملوك ولا القصور
وقال المأمون:
يبقى الثناء وتنفد الأموال
…
ولكل وقت دولة ورجال
من كبرت همته كثرت قيمته. لا تثق الدولة فإنها ظل زائل ولا تعتمد على النعمة فإنها ضيف راحل. فإن الدنيا لا تصفو لشارب ولا تفي لصاحب.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أنصحني فكتب إليه أن الذي يصحبك لا ينصحك والذي ينصحك لا يصحبك. وسأل معاوية الاحنف بن قيس وقال له: كيف الزمان فقال أنت الزمان أن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. آفة الملوك سوء السيرة وآفة الوزراء خبث السريرة وآفة الجند مخالفة القادة وآفة الرعية مخالفة السادة وآفة الرؤساء ضعف السياسة وآفة العلماء حب الرياسة وآفة القضاة شدة الطمع وآفة العدول قلة الورع وآفة القوي استضعاف الخصم وآفة الجريء اضاعة الحزم وآفة المنعم قبح المن وآفة المذنب حسن الظن والخلافة لا يصلحها إلا التقوى والرعية لا يصلحها إلا العدل فمن جارت قضيته ضاعت رعيته ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته ويقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية.
ومن كلام بعض البلغاء خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف.
قال وهب بن منبه: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به ادخل الله النقص في أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء وإذا هم بالخير أو عمل به ادخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء ويعم البلاد والعباد. ولنقبض عنان العبارات النقلية في أرض الأشارات العقلية المقتطفة من نظم السلوك في مسامرة الملوك وغرر الخصائص وغرر النقائص وهو باب واسع كثير المنافع وملاك
الأمر في ذلك حسن القابلية وإن تكون مرآة غير صدية كما قيل:
إذا كان الطباع طباع سوء
…
فليس بنافع أدب الأديب
وقيل أن الأخلاق وإن كانت غريزية فإنه يمكن تطبعها بالرياضة والتدريب والعادة والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب مفتعل والتطبع مجذوب منفعل تتفق نتايجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الأسترسال. وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الاخلاق الجميلة ونفسه مع ذلك تتشوق إلى المنقبة وتتأنف من المثلبة. لكن سلطان طبعه يأبى عليه ويستعصي عن تكليف ما ندب إليه يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب وسبب ذلك ما قرره المتكلمون في الاخلاق من أن الطبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة اعانته لها.
وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم وقد تكتسب الاخلاق من معاشرة الاخلاء أما بالصلاح أو بالفساد فرب طبع كريم افسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم اصلحته مصاحبة الاخيار. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن: الأخ رقعة في ثوبك فانظر بمن ترقعه. وقال بعض الحكماء في وصيته لولده: يا بني احذر مقارنة ذوي الطباع المزدولة لئلا تسرق طباعهم وأنت لا تشعر وأما إذا كان الخليل كريم الاخلاق شريف الأعراق حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدي وبنجم رشده في طريق المكارم يهتدي وإذا كان سيء الأعمال خبيث الاقوال كان المغتبط به كذلك ومع هذا فواجب على العاقل اللبيب والفطن الاريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل.
الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه. وقال عمرو بن العاص: المرء حيث يجعل نفسه أن رفعها ارتفعت وإن وضعها اتضعت. وقال بعض الحكماء: النفس عزوف ونفور الوف متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت وإن أصلحتها صلحت وإن افسدتها فسدت وقال الشاعر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
…
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وقالوا من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الإنسان فكرة وتميزه فيما ينتج عن الاخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره فيأخذ نفسه بما استحسن منها واستملح ويصرفها عما استهجن منها واستقبح فقد قيل: كفاك تأديبا ترك ما كرهه الناس من غيرك.
اللهم بحرمة سيد الأنام يسر لنا حسن الختام واصرف عنا سوء القضاء وانظر لنا بعين الرضاء وهذا أوان انشقاق كمائم طلع الشماريخ عن زهر مجمل التاريخ.
أول خليفة في الأرض.
اول خليفة جعل في الأرض آدم عليه الصلاة والسلام بمصداق قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ثم توالت الرسل بعده لكنها لم تكن عامة الرسالة بل كل رسول أرسل إلى فرقة فهؤلاء الرسل عليهم السلام مقررون شرائع الله بين عباده وملزموهم بتوحيد وامتثال أوامره ونواهيه ليترتب على ذلك انتظام أمور معاشهم في الدنيا وفوزهم بالنعيم السرمدي إذا امتثلوا في الأخرى إلى أن جاء ختامهم الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمره بالصدع والأعلان والتطهير من عبادة الأوثان. وآمن به من أمن من الصحابة رضوان الله عليهم وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزي معه أولئك هم المفلحون. ولم يزل هذا الدين القويم من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينمو ويتع إلى ويسمو حتى تم ميقاته وقربت من.
النبي وفاته وأنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} .
ولما قبض صلى الله عليه وسلم قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي كرم الله وجهه ولم تصف له الخلافة بمغالبة معاوية رضوان الله عليهم اجمعين في الأمر وبموت علي رضي الله عنه تمت مدة مدة الخلافة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا".
وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الامويين وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني واظهاره دولة بني العباس. فكان أولهم السفاح وظهرت دولتهم الظهور التام وبلغت القوة الزائدة والضخامة العظيمة ثم اخذت في الانحطاط بتغلب الاتراك والديلم ولم تزل منحطة وليس للخلفاء في آخر الأمر إلا الأسم فقط حتى ظهرت فتنة التاتار التي أبادت العالم وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المعتصم وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد.
ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية.
وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمرو بن العاص ولم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين. وتغلب على النواعي كل متملك لها فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام ثم دولة الاخشيد وبعده كافور أبو المسك. ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب فملكها من غير ممانع واسس القاهرة وذلك في سنة أحدى وستين وثلثمائة. وقد المعز إلى مصر بجنوده.
وأمواله ومعه رمم آبائه واجداده محمولة في توابيت وسكن بالقصرين وادعى الخلافة لنفسه دون العباسيين. وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي وهو جد بني عبيد الحلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين فحج تلك السنة واجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولاده من بعده إلى أن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن إسمعيل بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور فتملكت الافرنج بلاد السواحل الشامية وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي فاجتهد في قتال الأفرنج واستخلاص ما استولوا عليه من بلاد المسلمين وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر فحاصرها نحو شهرين فاستنجد العاضد بالافرنج فحضروا من دمياط فرحل اسد الدين إلى الصعيد فجبى خراجه ورجع إلى الشام. وقصد الافرنج الديار المصرية في جيش عظيم وملكوا بلبيس وكانت إذ ذاك مدينة حصينة ووقعت حروب بين الفريقين فكانت الغلبة فيها على المصريين وأحاطوا بالاقليم برا وبحرا وضربوا على أهله الضرائب.
ثم إن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط فأمر الناس بالجلاء عنها وأرسل عبيدة بالشعل والنفوط فأوقدوا فيها النار فأحترقت عن آخرها واستمرت النار بها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد يستنجد نور الدين وبعث إليه بشعور نسائه فأرسل إليه جندا كثيفا وعليهم أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين يوسف فارتحل الافرنج عن البلاد وقبض أسد الدين على الوزير شاور الذي أشار بحرق المدينة وصلبه وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يوما فولى.
العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين وقلده الأمور ولقبه الملك الناصر فبذل لله همته وأعمل حيلته وأخذ في إظهار السنة واخفاء البدعة. فثقل أمره على الخليفة العاضد فابطن له فتنة أثارها في جنده ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد واخراجهم من بلاده فتفاقم الأمر وانشقت العصا ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها الناصر يوسف وأخوه شمس الدولة بلاء حسنا وانجلت الحروب عن نصرتهما فعند ذلك ملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه وقتل أعيان دولته واحتوى على ما في القصور من الذخائر والأموال والنفائس بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه.
وخطب للمستضيء العباسي بمصر وسير البشارة بذلك إلى بغداد ومات العاضد قهرا وأظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية وطهر الاقليم من البدع والتشييع والعقائد الفاسدة وأظهر عقائد أهل السنة والجماعة وهي عقائد الأشاعرة والماتريدية وبعث إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقائد فحمل الناس على العمل بما فيه ومحا من الاقليم مستنكرات الشرع وأظهر الهدي ولما توفي نور الدين الشهيد انضم إليه ملك الشام وواصل الجهاد وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس بعد ما أقام بيد الافرنج نيفا وإحدى وتسعين سنة وأزال ما أحدثه الافرنج من الآثار والكنائس.
ولم يهدم القمامة اقتداء بعمر رضي الله عنه وافتتح الفتوحات الكثيرة واتسع ملكه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة ولم يترك إلا أربعين درهما وهو الذي انشأ قلعة الجبل وسور القاهرة العظيم. وكان المشد على عمائره بهاء الدين قراقوش ثم استمر الأمر في أولاده وأولاد أخيه الملك العادل وحضر الافرنج أيضا إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل وملكوا دمياط وهدموها فحاربهم.
شهورا حتى أجلاهم وعمرت بعد ذلك دمياط هذه الموجودة في غير مكانها وكانت تسمى بالمنشية والكامل هذا هو الذي أنشأ قبة الشافعي رضي الله عنه عندما دفن بجواره موتاهم وأنشأ المدرسة الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث.
الملوك الايوبية.
وفي أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل حضر الافرنج وملكوا دمياط وزحفوا إلى فارسكور واستمر الملك الصالح يحاربهم أربعة عشر شهرا وهو مريض وانحصر جهة الشرق وأنشأ المدينة المعروفة بالمنصورة ومات بها سنة سبع وأربعين وستمائة والحرب قائم وأخفت زوجته شجرة الدر موته ودبرت الأمور حتى حضر ابنه توران شاه من حصن كيفا وانهزمت الافرنج وأسر ملكهم ريدا وكانوا طائفة الفرنسيس والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك واتخذ منهم جندا كثيفا وبنى لهم قلعة الروضة واسكنهم بها وسماهم البحرية ومقدمهم االفارس أقطاي. والملك الصالح هو الذي بنى المدارس الصالحية بين القصرين ودفن بقبة بنيت له بجانب المدرستين.
ولما انهزم الافرنج ومات الصالح وتملك ابنه توران شاه استوحش من مماليك أبيه واستوحشوا منه فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور وقلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر ثم خلعت وهي آخر الدولة الأيوبية ومدة ولايتهم أحدى وثمانون سنة.
الملوك التركية.
ثم تولى سلطنة مصر عز الدين أيبك التركماني الصالحي سنة ثمان وأربعين وستمائة وهو أول الدولة التركية بمصر. ولما قتل ولوا ابنه المظفر علي فلما وقعت حادثة التتار العظمى خلع المظفر وتولى الملك.
المظفر قطز وخرج بالعساكر المصرية لمحاربة التتار فظهر عليهم وهزمهم ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك بعد أن كانوا ملكوا معظم المعمور من الأرض وقهروا الملوك وقتلوا العباد وأخربوا البلاد.
وفي سنة أربع وخمسين وستمائة ملكوا سائر بلاد الروم بالسيف وفي البحر. فلما فرغوا من ذلك صميعه نزل هولاكوخان وهو ابن طولون بن جنكيز خان على بغداد وذلك سنة ست وخمسين وهي إذ ذاك كرسي مملكة الإسلام ودار الخلافة فملكها وقتلوا ونهبوا وأسروا من بها من جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء والأئمة والقراء والمحدثين وأكابر الأولياء والصالحين وفيها خليفة رب العالمين وإمام المسلمين وابن عم سيد المرسلين فقتلوه وأهله وأكابر دولته وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق. ثم أن هولاكوخان أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الازقة وفعلوا ما لم يتقدم مثله.
ثم وصلوا إلى دمشق وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب فخرج هاربا وخرج معه أهل القدرة ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم وتعدوها فوصلوا إلى نابلس ثم إلى الكرك وبيت المقدس فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود وتقل في أعينهم أعداد الجنود فالتقاهم عند عين جالوت فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطونهم. ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحا.
ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدا منصورا واحبه الخلق محبة عظيمة وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم وكان السلطان وعد.
بحلب ثم رجع عن ذلك. فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر وكذلك السلطان وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبه فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق.
الملك بيبرس.
ودخل بيبرس مصر سلطانا وتلقب بالملك الظاهر وذلك سنة ثمان وخمسين وستمائة وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي أحد المماليك البحرية وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات وجهز الحج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار. فلما وصلوا إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة فقال أمير المحمل لامير مكة أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس فقال: دعه يأتيني على الخيل البلق. فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق وجهزهم صحبة أمير الحاج وخرج بعدهم على ثلاث نوق عشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة فحاربوهم فنصرهم الله عليهم وقتل ملك التتار وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له: أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق. فوقع إلى الأرض وركب السلطان فرسه ودخل إلى مكة وكسا البيت وعاد إلى مصر واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما وحج سنة سبع وستين وستمائة.
ولذلك خبر طويل ذكره العلامة القريزي في ترجمته في تواريخه وفي الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادا للشرع وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر
حميدة ومنها رد الخلافة لبني العباس وذلك أنه لما جرى ما جرى على بغداد وقتل الخليفة وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات حضر شخص من أولاد الخلفاء الفارين في الواقعة إلى عرب العراق ومعه عشرة من بني مهارش فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم ولقب بالمستنصر وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان وللمسلمين ثم صلى بالناس ورسم بعمل خلعه خليفة إلى السلطان وكتب له تقليدا وقرىء بظاهر القاهرة بحضرة الجمع وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وفوض إليه الأمور وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمول على رأسه ودخل من باب النصر وزينت القاهرة والأمراء مشاة بين يديه ورتب له أتابكيا واستادارا وخازندارا وحاجبا وشرابيا وكاتبا وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلا وعشر قطارات جمال إلى امثال ذلك.
ثم أنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق وجهز معه ملوك الشرق صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم فعدم الخليفة ولم يعلم له خبر.
وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا عند بني خفاجة فتوصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا فأخبر به صاحب دمشق فطلبه وكاتب السلطان في شأنه فأرسل يستدعيه فأرسله مع جماعة من أمراء العرب فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام فلم ير أن يدخل إليها فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها.
ورؤساؤها ومنهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقا كثيرا وقصد عانة ولقب بالحاكم. فلما خرج المستنصر وافاه بعانة فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته فلما قدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى ابن مهنا فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة. واستمرت الخلافة بمصر وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة وهذه من مناقب الملك الظاهر.
ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرا والأمر لقلاوون فخلعه واستبد بالملك ولقب بالملك المنصور قلاوون الالفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري والمدرسة والقبة التي دفن بها وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك. تولى سنة ثمان وسبعين وستمائة ومات أواخر مدته أحدى عشرة سنة.
وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكان بطلا شجاعا ذا همة علية ورياسة مرضية خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة ثلاث وتسعين وستمائة ونقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون. مات في حياة أبيه وكان هو أكبر أولاده مرشحا للسلطنة.
ولما مات الأشرف تولى بعده اخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي اقيم في السلطنة وعمره تسع سنين فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين كنبغا الملك العادل فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل وتسلطن عوضه ثم ثأر عليه طغى وكبرى فقتلاه وقتلا أيضا. واستدعي الناصر من الكرك فقدم واعيد إلى السلطنة مرة ثانية فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورا عليه.
والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعمائة واظهر أنه يريد الحج بعياله فوافقه الأميران على ذلك وشرعا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك برمي الاقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فلما تهيأ لذلك أحضر الأمراء تقاد معهم الخيل والجمال ثم ركب إلى بركة الحاج وتعين معه للسفر جماعة من الأمراء. وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة فرحل من ليلته وخرج إلى الصالحية وعيد بها وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال ونزل بقلعتها وصرح بأنه قد ثنى عزمه عن الحج واختار الاقامة بالكرك وترك السلطنة ليستريح وكتب إلى الأمراء بذلك وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك واعاد من كان معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها خمسمائة هجين والمال والجمال وجميع التقادم وأمر نائب الكرك بالمسير عنه وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر وكتب للناصر تقليدا بنيابة الكرك. فعندما وصله التقليد مع آل ملك اظهر البشر وخطب باسم المظفر على منبر الكرك وانعم على البريد الحاج آل ملك واعاده فلم يتركه المظفر وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي اخذه من الكرك. وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه فاحثوه على القيام لأخذ ملكه ووعدوه بالنصرة فتحرك لذلك وسار إلى دمشق واتت النواب إليه وقدم إلى مصر وفر بيبرس وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ومات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة أحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وكسور ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام.
وكان ملكا عظيما جليلا كفؤا للسلطنة ذا دهاء محبا للعدل والعمارة وطابت مدته وشاع ذكره وطار صيته في الآفاق وهابته الأسود وخطب له في بلاد بعيدة.
ومن محاسنه أنه لما استبد بالملك اسقط جميع المكوس من اعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد وهو الروك الناصري المشهود وابطل الرشوة وعاقب عليها فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي ولا يقضي إلا بالحق. فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة.
وفي أيامه كثرت العمائر حتى يقال أن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها وله ولامرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة وحضر في أوائل دولته القان غازات بجنود التتار فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين. وبعض مناقبه تحتاج إلى طول ونحن لا نذكر إلا لمعا فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات. وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان ينقل عنه المؤرخون وللصفي الحلي فيه مرثية رائية بليغة نحو ستين بيتا.
ولما مات دفن على والده بالقبة المنصورية بين القصرين. وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانا منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك وهو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة التي منها ديوان الصبابة والسكردان وطوق الحمامة وحاطب ليل وقرع سن.
ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمائمهم وفي ذلك يقول بعضهم:
جعلوا لابناء النبي علامة
…
أن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم
…
يغني الشريف عن الطراز الأخض
وفي أيام الأشراف هذا قدمت الإفرنج إلى الأسكندرية على حين غفلة ونهبوا أموالها واسروا نساءها ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعساكره فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها. ولهذه الواقعة تاريخ اطلعت عليه في مجلدين ويقال أن الفرنساوي الذين يكون في أذنه قرط امه اصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة.
وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب فأمر باخراجهم من مصر فتجمعوا وعصوا فحاربهم وقاتلهم فانهزموا فقبض على كثير منهم فقتل منهم طائفة وغرق منهم طائفة ونفى منهم طائفة وبقى منهم بمصر طائفة التجأوا إلى بعض الأمراء وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن ومنهم صرغتمش واسند مرو آلجاي اليوسفي وهم كثيرون مختلفوا الأجناس ومنهم من جنس الجركس فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتداخلوا في الدولة فاستقر أمرهم على أن طائفة منهم سكنوا بالطباق ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمراء وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري.
فلما عزم الأشرف على الحج وأخذ في أسباب ذلك انتهزوا عند ذلك الفرصة وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة ويزيلوا السلطان والأمراء.
ولما خرج السلطان من مصر خرج في ابهة عظيمة وتجمل زائد بعد أن
رتب الأمور واستخلف بمصر وثغورها من يثق به وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة ومنهم جملة من الجلبان وابقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك ولا ينفع الحذر من القدر.
فلما خرج السلطان وبعد عن مصر اثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طائفة من المماليك السلطانية وفعلوا ما فعلوه ونادوا بموت السلطان وولوا ابنه ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان وثار أيضا أصحابهم على السلطان في العقبة فانهزم بعد أمور طالبا المجيء إلى مصر وصحبته الأمراء الكبار وبعض المماليك ونهبت الخزينة والحج وذهب البعض إلى الشام والبعض إلى الحجاز والبعض إلى مصر صحبة حريم السلطان وجرى ما هو مسطر في الكتاب من ذبح الأمراء واختفاء السلطان وخنقه وتمكن هؤلاء الاجلاب من الدولة ونهبوا بيوت الأموال وذخائر السلطان واقتسموا محاظيه وكذلك الأمراء ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك وأزالوا عن الدولة القلاوونية وأخذوا لانفسهم الأمريات والمناصب وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض يجبى إليهم ثمرات كل شيء.
الجراكسة.
ثم وقعت فيهم حوادث وحروب اسفرت عن ظهور برقوق الجركسي أحد مماليك يلبغا العمري واستقراره أميرا كبيرا. وكان غاية في الدهاء والمكر فلم يزل يدبر لنفسه حتى عزل بن الأشرف وأخذ السلطنة لنفسه وهو أول ملوك الجراكسة بمصر وبالأشرف شعبان هذا وأولاده زالت دولة القلاوونية وظهرت دولة الجراكسة.
أولهم برقوق وبعده ابنه فرج واستمر الملك فيهم وفي أولادهم إلى الأشرف قانصوه الغوري وابتداء دولتهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة وانقضاؤها سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة فتكون مدة دولتهم مائة سنة.
وتسعة وثلاثين سنة. وسبب انقضائها فتنة السلطان سليم شاه ابن عثمان وقدومه إلى الديار المصرية فخرج إليه سلطان مصر قانصوه الغوري فلاقاه عند مرج دابق بحلب وخامر عليه أمراؤه خير بك والغزالي فخذلوه وفقدوه ولم يزل حتى تملك السلطان سليم الديار المصرية والبلاد الشامية. وأقام خير بك نائبا بها كما هو مسطر ومفصل في تواريخ المتأخرين مثل مرج الزهور لابن إياس وتاريخ القرماني وابن زقبل وغيرهم. وعادت مصر إلى النيابة كما كانت في صدر الإسلام ولما خلص له أمر مصر عفا عمن بقي من االجراكسة وابنائهم ولم يتعرض لاوقاف السلاطين المصرية بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات وغلال الحرمين والأنبار ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ومصارف القلاع والمرابطين وأبطل المظالم والمكوس والمغارم. ثم رجع إلى بلاده وأخذ معه الخليفة العباسي وانقطعت الخلافة والمبايعة وأخذ صحبته ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده بحيث أنه فقد من مصر نيف وخمسون صنعة.
ولما توفي تولى بعده ابنه المغازي السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان فاسس القواعد وتمم المقاصد ونظم الممالك وأنار الحوالك ورفع منار الدين واخمد نيران الكافرين وسيرته الجميلة اغنت عن التعريف وتراجمه مشحونة بها التصانيف. ولم تزل البلاد منتظمة في سلكهم ومنقادة تحت حكمهم من ذلك الأوان الذي استولوا عليها فيه إلى هذا الوقت الذي نحن فيه وولاة مصر نوابهم وحكامها أمراؤهم.
وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين واشد من ذب عن الدين واعظم من جاهد في المشركين. فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على ايديهم وأيدي نوابهم وملكوا احسن المعمور من الأرض ودانت لهم الممالك في الطول والعرض. هذا مع عدم أغفالهم الأمر وحفظ النواحي والثغور وأقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية.
وتعظيم العلماء وأهل الدين وخدمة الحرمين الشريفين والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع فتحصنت دولتهم وطالت مدتهم وهابتهم الملوك وانقاد لهم الممالك والمملوك.
ومما يحسن ايراده هنا ما حكاه الأسحاقي في تاريخه أنه لما تولى السلطان سليم ابن السلطان سليمان المذكور كان لوالده مصاحب يدعى شمسي باشا العجمي ولا يخفي ما بين آل عثمان والعجم من العداوة المحكمة الأساس فأقر السلطان سليم شمسي باشا العجمي مصاحبا على ما كان عليه أيام والده وكان شمسي باشا المذكور له مداخل عجيبة وحيل غريبة يلقيها في قالب مرض ومصاحبة يسحر بها العقول فقصد أن يدخل شيئا منكرا يكون سببا لخلخلة دولة آل عثمان وهو قبول الرشا من أرباب الولاة والعمال. فلما تمكن من مصاحبة السلطان قال له: على سبيل العرض عبدكم فلان المعزول من منصب كذا وليس بيده منصب الآن قصده من فيض انعامكم عليه المنصب الفلاني ويدفع إلى الخزينة كذا وكذا. فلما سمع السلطان سليم ما ابداه شمسي باشا علم أنها مكيدة منه وقصده ادخال السوء بيت آل عثمان فتغير مزاجه وقال له: يا رافضي مريد أن تدخل الرشوة بيت السلطنة حتى يكون ذلك سببا لإزالتها. وامر بقتله فتلطف به وقال له: يابا دشاه لا تعجل هذه وصية والدك لي فإنه قال لي: إن السلطان سليم صغير السن وربما يكون عنده ميل للدنيا فاعرض عليه هذا الأمر فإن جنح إليه فامنعه بلطف فإن امتنع فقل له هذه وصية والدك فدم عليها ودعا له بالثبات وخلص من القتل.
فانظر يا أخي وتأمل فيما تضمنته هذه الحكاية من المعاني. وأقول بعد ذلك يضيق صدري ولا ينطلق لساني وليس الحال بمجهول حتى يفصح عنه اللسان بالقول وقد اخر سني العجز أن افتح فما افغير الله ابتغى حكما.
وفي اثناء الدولة العثمانية ونوابهم وامرائهم المصرية ظهر في عسكر
مصر سنة جاهلية وبدعة شيطانية زرعت فيهم النفاق واسست فيما بينهم الشقاق ووافقوا فيها أهل الحرف اللئام في قولهم سعد وحرام وهو أن الجند بأجمعهم اقتسموا قسمين واحتزبوا بأسرهم حزبين فرقة يقال لها فقارية واخرى تدعى قاسمية ولذلك اصل مذكور وفي بعض سير المتأخرين مسطور لا بأس بايراده في المسامرة تتميما للغرض في مناسبة المذاكرة وهو أن السلطان سليم شاه لما بلغ من ملك الديار المصرية مناه وقتل من قتل من الجراكسة وسامهم في سوق المواكسة قال يوما لبعض جلسائه وخاصته وأصدقائه: يا هل ترى هل بقي أحد من الجراكسة نراه وسؤال من جنس ذلك ومعناه. فقال له: خيربك نعم أيها الملك العظيم هنا رجل قديم يسمى سودون الأمير طاعن في السن كبير رزقه الله تعالى بولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد في الميدان ولا يناظرهما فارس من الفرسان. فلما حصلت هذه القضية تنحى عن المفارشة بالكلية وحبس ولديه بالدار وسد ابوابه بالأحجار وخالف العادة واعتكف على العبادة. وهو إلى الآن مستمر على حالته مقيم في بيته وراحته. فقال السلطان هذا والله رجل عاقل خبير كامل ينبغي لنا أن نذهب لزيارته ونقتبس من بركته واشارته قوموا بنا جملة نذهب إليه على غفلة لكي اتحقق المقال واشاهده على أي حالة هو من الأحوال. ثم ركب في الحال ببعض الرجال إلى أن توصل إليه ودخل عليه فوجده جالسا على مسطبة الايوان وبين يديه المصحف وهو يقرأ القرآن وعنده خدم واتباع وعبيد ومماليك أنواع فعندما عرف أنه السلطان بادر لمقابلته بغير توان وسلم عليه ومثل بين يديه فأمره بالجلوس ولاطفه بالكلام المأنوس إلى أن أطمأن خاطره وسكنت ضمائره فسأله عن سبب عزلته وانجماعه عن خلطته بعشيرته فاجابه أنه لما رأى في دولتهم اختلال الأمور وترادف الظلم والجور وأن سلطانهم مستقل برأيه فلم يضع إلى وزير ولا عاقل مشير واقصى كبار.
الأتراك لأنهم ليس لهم في ذلك الوقت إدراك. ثم أشار اليهما فنزلا عن فرسيهما وصعدا إلى أعلى المكان فخلع عليهما السلطان وقلدهما إمارتان ونوه بذكرهما بين الاقران وتقيدا بالركاب ولازما في الذهاب والإياب. ثم خرج في اليوم الثاني وحضر الأمراء والعسكر المتواني فامرهم أن ينقسموا باجمعهم قسمين وينحازوا باسرهم فريقين قسم يكون رئيسهم ذا الفقار والثاني أخوه قاسم الكرار. واضاف إلى ذي الفقار أكثر فرسان العثمانيين وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والركاب. وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين فاذعنوا بالانقياد وعلوا على ظهور الجياد وساروا بالخيل وانحدروا كالسيل وانعفوا متسابقين ورمحوا متلاحقين وتناوبوا في النزال واندفعوا كالجبال وساقوا في الفجاج وأثاروا العجاج ولعبوا بالرماح وتقابلوا بالصفاح وارتفعت الأصوات وكثرت الصيحات وزادت الهيازع وكثرت الزعازع وكاد الخرق يتسع على الراقع وقرب أن يقع القتل والقتال فنودي فيهم عند ذلك بالانفصال. فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذه الملعبة حزبين. واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقبلون فيه حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات والفقارية يميلون إلى نصف سعد والعثمانيين والقاسمية لا يألفون إلى نصف حرام والمصريين. وصار فيهم قاعدة لا يتطرقها اختلال ولا يمكن الانحراف عنها بحال من الأحوال ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما واهريقت فيه الدماء. فكم خربت بلاد وقتلت امجاد وهدمت دور واحرقت قصور وسبيت احرار وقهرت اخيار.
وقيل غير ذلك وإن اصل القاسمية ينسبون إلى قاسم بك الدفتر دار.
الأتراك لأنهم ليس لهم في ذلك الوقت إدراك. ثم أشار اليهما فنزلا عن فرسيهما وصعدا إلى أعلى المكان فخلع عليهما السلطان وقلدهما إمارتان ونوه بذكرهما بين الاقران وتقيدا بالركاب ولازما في الذهاب والإياب. ثم خرج في اليوم الثاني وحضر الأمراء والعسكر المتواني فامرهم أن ينقسموا باجمعهم قسمين وينحازوا باسرهم فريقين قسم يكون رئيسهم ذا الفقار والثاني أخوه قاسم الكرار. واضاف إلى ذي الفقار أكثر فرسان العثمانيين وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والركاب. وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين فاذعنوا بالانقياد وعلوا على ظهور الجياد وساروا بالخيل وانحدروا كالسيل وانعفوا متسابقين ورمحوا متلاحقين وتناوبوا في النزال واندفعوا كالجبال وساقوا في الفجاج وأثاروا العجاج ولعبوا بالرماح وتقابلوا بالصفاح وارتفعت الأصوات وكثرت الصيحات وزادت الهيازع وكثرت الزعازع وكاد الخرق يتسع على الراقع وقرب أن يقع القتل والقتال فنودي فيهم عند ذلك بالانفصال. فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذه الملعبة حزبين. واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقبلون فيه حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات والفقارية يميلون إلى نصف سعد والعثمانيين والقاسمية لا يألفون إلى نصف حرام والمصريين. وصار فيهم قاعدة لا يتطرقها اختلال ولا يمكن الانحراف عنها بحال من الأحوال ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما واهريقت فيه الدماء. فكم خربت بلاد وقتلت امجاد وهدمت دور واحرقت قصور وسبيت احرار وقهرت اخيار.
وقيل غير ذلك وإن اصل القاسمية ينسبون إلى قاسم بك الدفتر دار.
تابع مصطفى بك والفقارية نسبة إلى ذي الفقار بك الكبير وأول ظهور ذلك من سنة خمسين وألف والله اعلم بالحقائق. واتفق أن قاسم بك المذكور أنشأ في بيته قاعة جلوس وتأنق في تحسينها وعمل فيها ضيافة لذي الفقار بك أمير الحاج المذكور فأتى عنده وتغدى عنده بطائفة قليلة ثم قال له ذو الفقار بك: وانت أيضا تضيفني في غد وجمع ذو الفقار مماليكه في ذلك اليوم صناجق وامراء وااختيارية في الوجاقات وحضر قاسم بك بعشرة من طائفته واثنين خواسك خلفه والسعادة والسراج فدخل عنده في البيت وأوصى ذو الفقار أن لا أحد يدخل عليهما إلا بطلب إلى أن فرشوا السماط وجلس صحبته على السماط. فقال قاسم بك حتى الصناجق والاختيارية. فقال ذو الفقار أنهم يأكلون بعدنا هؤلاء جميعهم مماليكي عندما أموت يترحمون علي ويدعون لي وانت قاعتك تدعو لك بالرحمة الكونك ضيعت المال في الماء والطين. فعند ذلك تنبه قاسم بك وشرع ينشيء اشراقات كذلك وكانت الفقارية موصوفة بالكثرة والكرم والقاسمية بكثرة المال والبخل. وكان الذي يتميز به أحد الفريقين من الآخر إذا ركبوا في المواكب أن يكون بيرق الفقاري ابيض ومزاريقه برمانة وبيرق القاسمية احمر ومزاريقه بجلبة. ولم يزل الحال على ذلك.
واستهل القرن الثاني عشر وامراء مصر فقارية وقاسمية فالفقارية ذو الفقار بك إبراهيم بك أمير الحاج ودرويش بك وإسمعيل بك ومصطفى بك قزلار وأحمد بك قزلار بجدة ويوسف بك القرد وسليمان بك بارم ذيله ومرجان جوزبك كان اصله قهوجي السلطان محمد قلدوه صنجقا فقاريا بمصر الجميع تسعة وأمير الحاج منهم والقاسمية مراد بك الدفتر دار ومملوكه ايواظ بك وإبراهيم بك أبو شنب وقانصوه بك وأحمد بك منوفية وعبد الله بك. ونواب مصر من طرف السلطان سليمان بن عثمان في أوائل القرن حسن باشا السلحدار سنة تسع وتسعين وألف وسنة مائة.
وواحد بعد الألف والسلطان في ذلك الوقت السلطان سليمان بن إبراهيم خان وتقلد إبراهيم بك أبو شنب إمارة الحاج وإسمعيل بك فتردار وذلك سنة تسع وتسعين.
وفي أواخر الحجة سنة تسع وتسعين وألف حصلت واقعة عظيمة بين إبراهيم بك ابن ذي الفقار وبين العرب الحجازيين خلف جبل الجيوشي وقتلوا كثيرا من العرب ونهبوا ارزاقهم ومواشيهم وأحضر منهم اسرى كثيرة ووقفت الغرب في طريق الحج تلك السنة بالشرفة فقتلوا من الحاج خلقا كثيرا وأخذوا نحو ألف جمل باحمالها وقتلوا خليل كتخدا الحج فعين عليهم خمسة أمراء من الصناجق فوصلوا إلى العقبة وهرب العربان. وفي أيامه سافر ألفا شخص من العسكر والبسوا عليهم مصطفى بك طكوز جلان وسافروا إلى ادرنه في غرة جمادي الأولى سنة مائة وألف. وفي رابع جمادي الثانية خنق الباشا كتخدا بعد أن أرسله إلى دير الطين على أنه يتوجه إلى جرجا لتحصيل الغلال وذلك لذنب نقمه عليه.
وفي شعبان نقب المحابيس العرقانة وهرب المسجونون منها.
وفي أيامه غلت الأسعار مع زيادة النيل وطلوعه في أوانه على العادة ثم عزل حسن باشا ونزل إلى بيت محمد بك حاكم جرجا المقتول وتولى قيطاس بك قائمقام فكانت مدته هذه سنة واحدة وتسعة أشهر. ثم تولى أحمد باشا وكان سابقا كتخدا إبراهيم باشا الذي مات بمصر وحضر أحمد باشا من طريق البر وطلع إلى القلعة في سادس عشر المحرم سنة مائة واحدى وألف ووصل اغا بطلب الفي عسكري وعليهم صنجق يكون عليهم سر دار فعينوا مصطفى بك حاكم جرجا سابقا وسافر في منتصف جمادي الآخرة.
وفي هذا التاريخ سافرت تجريدة عظيمة إلى ولاية البحيرة والبهنسا وعليهم صنجقان وتوجهوا في ثاني عشر جمادي الآخرة وسافر أيضا.
خلفهم إسمعيل بك وجميع الكشاف وكتخدا الباشا واغوات البلكات وكتخدا الجاويشية وبعض اختيارية وحاربوا ابن وافي وعربانه مرارا ثم وقعت بينهم وقعة كبيرة فهزم فيها الاحزاب وولوا منهزمين نحو الغرق وأما قيطاس بك وحسن اغا بليغا وكتخدا الباشا فإنهم صادفوا جمعا من العرب في طريقهم فأخذوهم ونهبوا مالهم وقطعوا منهم رؤوساء ثم حضر وإلى مصر. وفي انامهم كانت وقعة ابن غالب شريف مكة ومحاربته بها مع محمد بك حاكم جدة فكانت الهزيمة على الشريف.
وتولى السيد محسن بن حسين بن زيد إمارة مكة ونودي بالأمان بعد حروب كثيرة وزينت مكة ثلاثة أيام بلي إليها وذلك في منتصف رجب ومرض أحمد باشا وتوفي ثاني عشر جمادي الآخرة سنة اثنتين ومائة وألف ودفن بالقرافة فكانت مدته سنة واحدة وستة أشهر. ومن مآثره ترميم الجامع المؤيدي وقد كان تداعى إلى السقوط فامر بالكشف عليه وعمره ورمه. وفي رابع عشر رجب توفي قيطاس بك الدفتر دار. وفي ثاني يوم حضر قانصوه بك تابع المتوفي من سفره بالخزينة مكان كتخدا الباشا المتولي قائمقام بعد موت سيده فألبس قانصوه بك دفتر دار ثم ورد مرسوم بولاية علي كتخدا الباشا قائمقام واذن بالتصرف إلى آخر مسرى فكانت مدة تصرفه أربعة وتسعين يوما. ثم تولى علي باشا وحضر من البحر إلى القلعة في ثاني عشرى رمضان سنة اثنتين ومائة وألف وحضر صحبته تترخان وأقام بمصر إلى أن توجه إلى الحج ورجع على طريق الشام. وفي ثاني عشري القعدة حضر قرا سليمان من الديار الرومية ومعه مرسوم مضمونه الخبر بجلوس السلطان أحمد بن السلطان إبراهيم فزينت مصر ثلاثة أيام وضربت مدافع من القلعة. وفي ثالث عشر صفر سنة ثلاث ومائة وألف ورد نجاب من مكة واخبر بان الشريف سعد تغلب على محسن وتولى إمارة مكة فأرسل الباشا عرضا إلى السلطنة بذلك. وفي ثامن ربيع.
أول ورد مرسوم مضمونه ولاية نظر الدشابش والحرمين لاربعة من الصناجق فتولى إبراهيم بك ابن ذي الفقار أمير الحاج حالا عوضا عن اغات مستحفظان ومراد بك الدفتر دار على المحمدية عوضا عن كتخدا مستحفظان وعبد الله بك على وقف الخاصكية عوضا عن كتخدا العزب وإسمعيل بك على اوقاف الحرمين عوضا عن باش جاويش مستحفظان. فالبسهم علي باشا قفاطين على ذلك.
وفي مستهل رمضان من السنة حضر من الديار الرومية الشريف سعد بن زيد بولاية مكة وتوجه إلى الحجاز. وفي شهر شوال سافر على كتخدا أحمد باشا المنوفي إلى الروم. وفي تاريخه تقلد إسمعيل بك الدفتردارية عوضا عن مراد بك. وفي ثالث عشر شوال قتل جلب خليل كتخدا مستحفظان ببابهم وحصلت في بابهم فتنة اثارها كحك محمد واخرجوا سليم افندي من بلكهم ورجب كتخدا والبسوهما الصنجقية في ثالث عشرينه وابطل كجك محمد الحمايات من مصر باتفاق السبع بلكات وابطلوا جميع ما يتعلق بالعزب والانكشارية من الحمايات بالثغور وغيرها. وكتب بذلك بيورلدي ونادوا به في الشوارع.
وفي غرة القعدة قبض الباشا على سليم افندي وخنقه بالقلعة ونزل إلى بيته محمولا في تابوت وتغيب رجب كتخدا ثم استعفى من الصنجقية فرفعوها عنه وسافر إلى المدينة. وفي ثامن عشر ربيع الأول ورد مرسوم بتزيين الأسواق بمصر وضواحيها بمولودين توأمين رزقهما السلطان أحمد سمي أحدهما سليان والآخر إبراهيم. وفي ثاني عشر شعبان سافر حسين بك أبو يدك بألف نفر من العسكر لاحقا بإبراهيم بك أبي شنب وقد كان سافر في أواخر ربيع الأول لقلعة كريد. وفي ثاني عشري رمضان سنة خمس ومائة وألف الموافق الحادي عشر بشنس هبت ريح شديدة وتراب أظلم منه الجو وكان الناس في صلاة الجمعة فظن الناس انها القيامة وسقطت المركب التي على منارة جامع طولون وهدمت دور كثيرة.