الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقال الجريدة الثاني
الأدب العربي في الجامعة
عزيزي. . . الرافعي:
لم تزل مقالتك "عن الأدب العربي والجامعة " - التي نشرتها الجريدة - في
مستقرها من الأذهان.
ولن تذهب هذه الفترة بين تنبيهك القائمين على ذلك
الأمر وإجابتهم مقترحَك في هذه الأيام، بما لك من حسن الأثر وفضل السابقة.
قلت إنهم تعجلوا العمل فلم يطيبوا ولم يُنضِجوا لمكان العجلة من تلك
الحال، وعقم الأمة بالنابغين من الرجال. فهم اليوم قد طيبوا وأنضجوا وفرضوا جائزتهم لمن يضع الكتاب الوافي في أدبيات اللغة العربية وتاريخها.
ولا أخالك إلا قد هيأت مادة هذا الكتاب وأخذت في إبرازه متثبتاً في
اعتزامك، وإني لأعلم أن الزمن إلى موعدهم قصير، وأن العمل في اقتراحهم
كثير، وأن القلم لن يصبح من أجلهم طائراً يطير، ولكنها أيضاً عجلة الفوز في الزحام، ومثار الهمة من الهمام، وموضع الفصل بين التأخر والإقدام، فلعلك محقق أملي في أدبك والسلام؟
. . . إبراهيم
سيدي الفاضل:
أنت أعزك الله قسِيم في المعرفة بأني لا أتكلف ما لا أحسن، ولا أحسن
ما لا أتقن عملاً يضيق به وقته ولا تبلغ فيه وسائله، وإن استفرغتُ له الجهد
وأقمت فيه الوهجَ المتعب وجعلت الليل والنهار عليه أنفساً حِراراً.
وهؤلاء الذين قرروا تعميم الدعوة على الأدباء لوضع كتاب واف في
أدبيات اللغة العربية وتاريخها، وجعلوا لذلك العمل إلى فصاله سبعة أشهر إنما
مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة. . . ولو كان هذا الأمر على حكمهم لجاز أن يمضي على إرادتهم، ولكنه على الخلاف، إلا أن يكون فى الأدب ما لا نظنه ولا نعلمه،
وفي الأدباء من لا نعرفه ولا نتوهمه، وفي ذلك الأمر ما أحكموه وليس في
الناس من يُحكمه!
إني إذا أغمضت عيني فتمثلت لي الكتب هيأت لي منها خواطري كتابا
ممتعاً في الآداب العربية يوفي على الغاية وأشف من الغاية، ولكني التمست
ذات مرة طرفاً من أخبار الرواية والرواة عند العرب في فصل من هذا الباب
فجعلت أستقصي وأتصفح وأتقصص حتى نفضت على القلم سواد خمس عشرة ليلة، ولم يكن هذا البحث مما جردت فيه رسالة أو أفردت له مقالة، فما بالك بكتاب يكون هذا بعضَ فصوله وفرعاً من أصوله؟
وعندنا مباحث أخرى كمبحث التنظير والموازنة، ومبحث الصناعات
اللفظية وتحقيقها وتاريخها، وهي المادة الخبيثة التي لم يقم لها الأدب بعد أن
فشت فيه وكانت مسقط البلاء عليه، وناهيك من مبحث لم يضبط منه كتاب في الأدبيات إلا كما يحفظ الماء من أثر السابح وإن هو ضرب فيه بيديه ورجليه!
هذا إلى ما يعترض من أبواب كثيرة لا بد من كتابتها بما يستوفي حق التاريخ
وحق النقد وحق الأدب، وذلك مَقذف الحصا والجمار والنصَب الذي لا
يستخف به إلا من يقتحم على الرجال والأقدار، والرمض الذي لا يُسار فيه إلا على مثل حر النار، التراجم على طريقة النقد والتمحيص.
وأنت خبير بأن تاريخ العظماء إذا لم يكن في كتابته ابتسام العظمة وبشاشة الحياة وأثر الأخلاق فإنما هو صور ميتة منهم، وإنك إذا كتبت أن فلاناً الشاعر الكبير ولد سنة كذا وتوفي سنة كذا. . . ومن شعره قوله، وقوله، وقوله، وكان الناس لا يعلِّقون حساب أعمالهم على سنة ولادته ولا سنة وفاته، فما عدوتَ أن نشرتَ لهم من ذلك الميت صورة ميتة أيضاً!
ولعلك تذكر أيها العزيز ما بسطتُه في المقالة الأولى من نمط التأليف الذي
جرى عليه المعاصرون في ذلك، وكيف يجيئون بالطم والرَّم ولا يميزون
خبيثاً من طيب، وهم مع ذلك يُظهرون الاستبصار فيه ويتكلفون التبجح به، وقد قيل في رجل محروم منحوس الحظ يتعاطى مثل هذا الشأوِ من الطمع والرغبة:
إنه ما رئي أحد عَشق الرزقَ عشقه ولا أبغضه الرزق بُغضه، وكذلك أرى
أصحابنا وأولى لهم!
ألم يكن في الأدب إلا بعض فصول التاريخ ومختارات النظيم والنثير، ثم
يُمسح القلم ويُرسل الكتاب وفي صدره اسم صاحبه يسعل به في الناس كما
يسعل المصدور، وأنت لو تصفحت الكتاب واعتبرت بعضه ببعض لرأيته على ما احتفل فيه كورم الأنف في غير الكريم: يبلغ ما يبلغ به الغضب ثم ينحل بكلمة للزجر والتأنيب، أو صفعة للمؤاخذة والتأديب!
ولقد أستشفُّ أن القوم إنما يريدون في تأليف ذلك "الكتاب الوافي " هذا
النوع الذي يسميه الظرفاء من أهل الصحافة "التحرير بالمقص"، فمن كل كتاب فصل إلى فصل حتى تجتمع كلها في كتاب.
فإن لم يكن مرماهم إلى هذا ولا إلى قريب منه، فما هذا الموعد الذي
ضربوه أجلاً "للمسابقة" وما بالهم تعجلوا آخراً بقدر ما أبطاوا أولاً دون أن يزنوا صواب العجلة بخطأ الإبطاء.
ونحن إنما أخذنا عليهم أنهم - بدأوا - بتدريس
الآداب الأجنبية وحدها، فإما أن يكونوا قد انححطوا في هوى، أو شالت كفة الرأي منهم أو لهم غرض يتربصون به أسبابه وذرائعه، فلو أنهم إذ أخطاوا في الأولى أصابوا على قدر ذلك في الثانية، لكان الأمر بينهما ولخرج آخره كفارة لأوله.
أما وقد نشروا الدعوة إلى أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون، ووثقوا من أنفسهم بأول خاطر ظنوه صواباً، وأمَّلوا في مهب الريح أو غبرة توهموها سحاباً - فقد صار لنا أن نظن أنهم لم يتبينوا مواضع النفرة في ذلك النمط السخيف المبتذل فكان بعيداً عليهم أن يوافقوا مكامن الرغبة في الممتع الممتنع.
اعتبر ذلك بأنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغيره مؤلفه.
فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة، لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؛ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته، حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الكبير. . .؟
ثم من هم أولئك الذين سيحكمونهم في التفضيل والتنظير والمقايسة بين
الكتب الوافية التي تنتهي إليهم؟
لا جرم أن أولى الناس بالحكم أبصرهم بالمحكوم فيه، وإلا كان حكمه في الخصومة خصومة أخرى تحتاج إلى حكم
من غيره، وليس أولئك المحكمون في وزن من فُرضت لهم الطاعة والتسليم
على الناس كفئة الفضاة في الشرع والنظام، فلا يكون ثمة دليل على كفايتهم
للحكم إلا تسليم الأدباء لهم بهذه الكفاية، وإذا كان ذلك فلمَ تنفضُ إدارة
الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة وظهور مناصبها العالية وألسنة الحكم فيها، ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة، وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكفُّ يهون على الرقاب؟
هذه - أصلحك الله - بعض أسباب الفساد في ذلك الاقتراح، فإن كانت
فيه جهة صالحة لم تنكشف لي فذلك لأن هذا الأمر عندي أمرُ ليل مشتبه
مظلم، وما أحتسبك الآن إلا وقد ضننت - بسبعة أَشهر - من عمري وعرفت أني سأكون من قراء الكتاب ومنتقديه إن شاء الله، لأني وإن كنت أحمل القلم غير أني لم أعوده أن يكون ناسخاً يتمسك بحرف الكلام، ويمشي في الكتاب مشية الضرير لا يستفيد من ضوء ولا يستضيء من ظلام، فأما وقد أرادوا القلم على ما أرادوه، فالسلام على الأقلام.