الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيلسوفة النمل
. . .
لقد أضجرني بعضُ الناس وآذَوني بإحسانهم، إذ جعلوا نسختي من "كليلة
ودمنة " أكبر همهم من الأدب وأكثرَ قولهم في الكتابة، فأنا كل يوم أتلقى من
كتبهم ما لا أقضي منه عجباً، ولا يدرون أنهم بذلك يسبون الجامعة المصرية إذ كيف يبلغ مثلي جسيماً من الأمر في البيان والكتابة وعندنا هذه الجامعة الكبرى وفيها شيء اسمه أستاذ الآداب العربية؛ فلم لا يسألون أستاذ الآداب هذا أن يُبدِع لهم فناً من فنون الكتابة ليدل به على قيمة نفسه ويعلمهم موضعه، ثم يدل بقيمة نفسه وموضعه على مكانة الجامعة؛ والعهد بكل جامعة في الدنيا أن لا يَدرس فيها الأدبَ إلا بليغ مخترع يحمل قلماً كهربائياً في جمعه بين سلكَي الشعر والكتابة، وفي سطوع النور البياني منهما معاً آخِذاً من هذا مادة ومن هذا مادة، فيقذف بالعبارة المضيئة المشرقة تخطف خطف البرق وإنَّ فيها بعدُ لقوةَ السماء وروحاً من روح الكون كله.
فإن قالوا إن إستاذ الأدب في الجامعة المصرية رجل سوقى الطبع غليظ
الروح مطموس على قلبه، تفْضلُهُ العامة في النكتة البيانية وفي استعداد الطبع
الشعري. وفي رقة الروح، وإنه لذلك يعادي البلاغة العربية بجهده لما يعرف من الوهن في كلامه، ومن ذلك ما يزعم أنه "جديد" أي لا يقاس إلا بقياسه هو لا بقياس من فلان وفلان - إن زعموا ذلك قلنا: فالجديد في كل هذا أن الجامعة المصرية تحمل الشهادة على نفسها من هذا الرجل بأنها في إحدى اثنتين: إما غاشة مخادعة، وإما مغفلة مخدوعة؛ فسلوها أيهما هي؟
أما إن طه حسين جديد على الدنيا غريب فيها بنبوغه منفي من ملكوت
السماوات محروم لذات الجنة مرسل إلى مصر خاصة ليجدد هذه الأمة ثم يعود
إلى سمائه بعد هذا "الانتداب" الإلهي. . . فقد قال كليلة: وإن الجنون قد يكون من بعض العقل، وذلك حين يقطع العقل بالظن الضعيف ويحكم بالرأي القائل
وليس مع هذا الظن برهان ولا مع ذلك الرأي دليل، كالذي كان من عقل
فيلسوفة النمل.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن نملة خرجت تسعى فيما يسعى له النمل، فأبطات على
قَبيلها أياماً وافتقدها جماعتها، وكان يقال لها "طاحين" (1) فلما طال غيابها قالت نملة: يا أيها النمل إن طاحين لبلاء علينا، وهي لصيقة فينا تعَدُّ منا وليست هنا، فإنا نعمل فيما يسرنا الله له من الكدح والدأب على مذهب أسلافنا وعلى العِرْق الذي فينا وهو ميزان فضائلنا وعيار مصالحنا، وطاحين هذه أبداً تعمل على مذهب الزنابير فيما ليس تحته طائل ولا معه فائدة إلا الطنين يذهب في الهواء فلا ينفعنا، واللسعُ يذهب في أجسامنا فيضرنا، وهي تزعم أنها تريد الفائدة لنا
ولا تنفك تعمل بزعمها ثم لا تعمل إلا ضراً، فما أحراها أن تذهب بنا جميعا
في بعض حماقاتها، وإني أحذركن ما تتورط فيه بجهلها، فإن المصيبة الواقعة
بالناس من الرجل الأحمق يقع معها عذره فيكون مصيبة أخرى، وإنا نجد في
كتب الحكمة أنه متى اغتر العاقل بالأحمق فتابعه وسكن إليه واتخذه دليلاً
لمراشد أموره، كان في الأحمق المأفون حماقة واحدة وفي ذلك العاقل
حماقتان!
قال: فانتدبت لهاكبيرة من النمل كانت من قبلُ أستاذةَ طاحين، وقالت:
ويلك أيتها الجاهلة المغرورة بقديمك وأهل قديمك! ألا تعلمين أن طاحين
عالمة هذه القرية ومعلمتها منذ كذا وكذا.
وأنها لم تبرح في ألم ومضض وعناء مما تفكر في تجديدنا وإلحاقنا بأمة الزنابير والعصافير، لتكون لنا مملكة في
الأرض ومملكة في الهواء؛ أما إنه ليس من الهلاك أن نهلك معها في سبيل
التجديد، بل الهلاك والله أن نحيا معك ومع أمثالك في هذه المعيشة المملولة
التي لا نن فيها ولا جمال ولا متاع من متاع الطباع الجديدة العابثة الساخرة
الكافرة المستهترة بالفنون ولذاتها ومناعمها، فما نبرح ندأب الساعات الطويلة في جر الحبة والذرة والهنة من الهنات، وبعد أن نكون أضعنا ساعات أطول منها في التماسك والتفتيش عنها؛ ولو قد تشبهنا بغيرنا، ولو قد طرنا، لكانت الحياة أضعاف ما نحيا، والأسباب مطلقة مباحة مَن غَلَبَ سَلَب، والأمور متروكة مخلاة من أقدم لها سُخرت له، وإن أعجز العجز أن لا نكون كلما نريد ولا نريد أن نكون، ولو صدقت هِمة النملة منا ثم أرادتا أن تكون جواداً سابقاً أو فيلاً عظيماً لكانت!
(1) كلمة من لغة النمل يقال إنها منحوتة من طه حسين. . .
(قالت) : وما أرى طاحين إلا معدِّلة من طباعنا ومجددة في حياتنا، ثم
بالغة بنا أسمى منزلة في مصالح الدنيا، وهي لا تجشمنا إلا أن نتبعها، وما في
اتباعها كبير تعب ولا صغيرُهُ، وهي فيلسوفة وأنتن جاهلات، فسبيلها ما شاءت لنفسها وسبيلكن ما شاءت لكن!
قالت النملة العاقلة: إن هذا فرع ليس من أصله، وإنما نحن أمة من النمل
ومعنا من فضيلة الكد والصبر عليه، والدأب والمطاولة فيه، ومن صحة التقدير وحسن التاني للعواتِب البعيدة، ما لو وُزن بمنافع الأجنحة كلها لرجح بعضه على جميعها، وإذا كنا بطيئات وكنا نعمل أبداً فما ضرر ذلك إن كنا لا نسأم أبداً، وإن البطء والقوة إلى زيادة، خير من السرعة والقوةُ إلى نقص، وإنما مثلنا
مثل الذي قال: هيهات إن عظمة لا تشترى بذهب الدنيا!
قالت النملة: وكيف كان ذلك؟
قالت: زعموا أن رجلاً فقيراً أيسر بعد الخلة الشديدة، وأقبلت عليه الدنيا
بعد إدبار طويل، فكانت كالنهر مقبلاً على مصبه: إنما همته أن يندفع لا يثنيه
عن ذلك شيء، وكانت لا تطلع شمس يوم إلا جاءته مع أشعتها أكياس
الدنانير، كان له شمسين إحداهما ذهب، وذلك من غنى الرجل وتيسيره.
وجعلت الأقدار الجليلة تطرق عليه بابه لا تهدأ ولا تنقطع، فما يستقبل نعمة إلا طرقت عليه أخرى، واتخذ الدوابَّ والحاشية والموكب، فركب ذات يوم فنفرت به الدابة واعتراها ما يعتري أمثالها من الهيج والتقحم والمخاطرة، فأذرته عن ظهرها ورمت به كما ترمي بخشبة أو حديدة، فأصابت قدمه حجراً فكسرت كسراً لا انجبار له، فكان لا ينهض بعدها إلا مُتحاملاً ولا يخرج إلا محمولاً، وتضاعفت النعمة وجعلت تفشو وتمد كأنَّ فيها روحَ تيار شديد ينبعث من السماء.
قالت: ولما كان يوم العيد خرج على قومه في زينته، فرآه طالبُ عالم
فقير كان يمشي مع أستاذه - وكان أستاذه حكيماً - فبهره ما عاين من حال الرجل وقال: يا سيدي، ما أجمل النعمةَ وما أحسن أثرها على صاحبها، وإن الله ليدير حركة الأرض ولكنه ترك للمال أن يدير حركة أهل الأرض فَنَحلُه بذلك شيئاً من الإلهية، وما أشقى المحرومَ وأكثر عناءَ الفقير، فهو المسخر ولا ريب، وليس من البلاء أن مثلي لم يزل يحيا.
ولكن البلاء كيف يحيا!
فقال الأستاذ: هون عليك يا بني، فإن كل ما تراه فنعلُك خير لك منه، لأنك تنتعل على قدم صحيحة وهذا الرجل ما جاءه الغنى يجري إلا ليقعد هو فلا يمشي! وأنت تظن
أنه يبتاع بذهبه كل ما أحب، على أنه لا يحب إلا عَظمة لقدمه المكسورة.
وهيهات أن تبيعه الحياة عظمة بكل ذهب الأرض؟
قال كليلة: وطال الخلاف بين النمل، فإذا "طاحين" مقبلة تسعى.
فقالت: ما كنتن فيه بعدي؟ فذكرن لها ما تراجعن فيه القول وما كان الجدال عليه، قالت: ألا دَعْن مثل هذا النمل الدين وإنما نحن نمل الدنيا. وقد كشفتُ لكن عن عالم جديد كان مجهولاً، وسآخذكن إليه فنغمره ونملكه، فاتركن هذا القديم وما كنا نتعايش عليه، وهلممْنَ إلى العالم الجديد وافعلن ما آمركن به.
فقالت العاقلة: ما أنا بذاهبة، وما يكون الجديد جديداً باسمه ولكن
بمنفعته، ولا منفعة إلا عن يقين، ولا يقين إلا بعد تجربة، ولا تجربة إلا في
ملاءمة ومصلحة، فإذا أنكر طبعي أنكرت، وقد قالت العلماء: إن ثلاثاً لا
تصلح مع ثلاث: الحياةُ مع المرض، واليقين مع الشك، والطبع مع التقليد.
فأنا آخذة بظاهر العمل والحيطة، وتاركة لكن باطنَ العلم والفلسفة وسترين
وأرى.
قالت الكبيرة من النمل: إنما أنت من أنصار القديم ولن تفلحي أبداً.
ونحن ذاهبات على حبك وكرهك، وإنما الدنيا ما يأتي لا ما يمضي، وما يولد
لا ما يدفن، وستريننا في عالمنا الجديد أولات أجنحة مَثنى وثُلاثَ ورباع!
ثم إنها نظرت لطاحين وقالت: أما قلتِ آنفاً إن هواء ذلك الإقليم ينبت
الأجنحهَ!
قالت: بلى، وإن هي لم تنبت فقد نظرت في هذا، وسنصنع كما صنع
الإنسان حين لم يطر فاتخذ الطيارات، وامتنعت عليه قدرة سُخرت له قدرة
تكافئها، فكان من هذا تعديل لهذه، وسنحتال لبعوضة فنأسرها ونذللها تذليلة الآلة في العمل، فتطير بنا مرة وتقع مرة، حتى إذا رُضناها وانقادت لنا وسوينا بين طباعها وطباعنا وأصبحت تطير وتنزل عن أمرنا وتطبعت على الطيران، ولدَت لنا من بعدُ طيارات كثيرة. . .!
قال: ثم إنهن تزاحمن صفوفاً مرصوصة ومضين يتبعن "طاحين" وهن
يتهامسن أنه ما من منزلة في العلم بعيدة أو قريبة إلا ولهذه الفيلسوفة خطوة هي بالغتُها. . . قال: وينتهين إلى العالم الجديد فإذا. . .
وسكت كليلة.
قال دمنة: ويحك فإذا ماذا؟
قال: فإذا كُرة صبي ملقاة في ركن من الدار، فقالت طاحين: ههنا ههنا.
فهذه هي أرضنا الجديدة!
فلم يكن غير بعيد حتى غشينها من جميع جوانبها فإذا هي في رأي العين
كأنها مكتوبة بالخير. واستوت طاحين على حَدَبة الكرة تفكر فيما تجدد لهن من واضح وخفي وظاهر ومُخيل، وما لبث الصبي أن عاد من المدرسة وفي جلده لذعات الضرب لأنه لم يحسن كتابة درسه، فأهوى إلى الكرة بيده ثم نظر فإذا هي سطور فوق سطور، فقال: لعن الله الكتابة أدعها في المدرسة فتمشي حروفها إلى الدار ثم رَكضَ الكرة بقدمه ركضة شديدة أتت على نصف النمل وطحنت أسفله بأعلاه، فتهارب الباقيات يسعين إلى نجائهن في كل وجه ومَهرب، وهو يقتفيهن بحذائه ويدوسهن حيث عرضن، فلم ينج منهن إلا قليل ذهبن متضعضعات إلى القرية، فتلقتهن النملة العاقلة وقالت: ما أمر جاء بكن من العالم الجديد؟
فتكلمت نملة وقالت: لعن الله الجديد ومجدده وآخذه ومعطيه، إن كان
والله إلا حذاء صبي خبيث ودوساً دوساً وحطماً حطماً، فمن لم تهلك فلن تنسى أبداً أنها من الهلاك رجعت!
ولقد مَحصنا الامتحانُ والابتلاء فما كان لنا من جديد مع طاحين
المشؤومة إلا أن اشترينا حياة بعضنا بهلاك البقية، ولا جديد في عقل المجنون
إلا جنون العاقل.
* * *
وبعد فسنفرغ لما كنا فيه من نقد كتاب طه حسين، فقد أبلغنا الحجة على
الجامعة حتى انقطعت ولبسها الخزي بإطراقه وذلته، وما كانت أمثال "كليلة
ودمنة" إلا من أجلها وعلى تفصيلها؛ فسندع تلك الأمثال لنتم القول في ذلك الكتاب.
وما ندعي أننا نتعقب جميع مسائله وفصوله وإنما نختار منه اختياراً، إذ
الغرض أن نومئ إلى أصول الخطأ وندل على سقوط الكتاب وبلادة مؤلفه.
وأنه لا جديد عند هذه الفئة إلا الوقاحة في العلم.
ولو أن طه يقبل منا أو تقبل الجامعة أو تقبل وزارة المعارف لجعلنا لمن يقبل أن يختار أَربع صفحات من هذا الكتاب تكون متتابعة متصلة وليخترها كيف شاء، فإن عجزنا عن إخراج غلط الصفحات الأربع فالكتاب كله صواب، وإن فعلنا فالكتاب ساقط
دفعة واحدة؛ وهذه مخاطرة كما ترى، بل هي قمار في النقد، ولكنها تُنهي
المعركة بضربة، وما نظن كتاباً في الأدب لمتقدم أو متأخر مهما بلغ من السخف يمكن أن يقامر عليه في النقد بمثل هذه الطريقة، على حين ذلك ممكن في كتاب الجامعة المصرية، حتى ما من رأي فيه للمؤلف إلا هو خطأ من المؤلف، ولا تميز الجامعة السها من القمر! قال في صفحة 145 وقد ذكر اختلاف الرواة في معلقة امرئ القيس في بعض ألفاظها وبعض أبياتها:"وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة، وإنما يتناول الشعر الجاهلي "كأنه رواه كله. . . "
وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر، وهو
اختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤتلف، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة، وأن
الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضاً، وأنك تستطيع أن تقدم
وتؤخر، وأن تضيف إلى الشاعر شعر غيره؛ دون أن تجد في ذلك حرجاً أو
جناحاً ما دمت لم تخل بالوزن والقافية، وقد يكون هذا صحيحاً في الشعر
الجاهلي، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة، فأما الشعر الإسلامي الذي
صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد. . . أن يعبث به أقل عبث دون أن
يفسده، وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة، وأن شخصية الشاعر ليست أقل ظهوراً منها في أي شعر أجنبي، وإنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر
الجاهلي نموذجاً للشعر العربي، مع أن هذا الشعر الجاهلي - كما قدمنا - لا
يمثل شيئاً ولا يصلح إلا نموذجاً لعبث القصاص وتكلف الرواة" انتهى.
وقد كنا نصحنا لـ طه في حديثنا معه أن يتثبت إذا كتب في جملة جملة
ومعنى معنى، فإذا فرغ من الإملاء رجع إلى كلامه فعارض بعضه على بعض
ليتقي المناقضة، فإنه قد يبني ويهدم على نفسه في بضعة أسطر.
وأنت تراه هنا يزعم أن المستشرقين أنكروا الوحدة والشخصية في الشعر
العربي، ثم يزعم أن ذلك إنما جاءهم من اتخاذ الجاهلي نموذجاً، فكان
المستشرقين هؤلاء لم يقعوا على الشعر الإسلامي، ولو اطلعوا عليه لوجدوا فيه الوحدة والشخصية كما وجدهما طه. فإذا كان المستشرقون من الجهل بهذه المنزلة فما قيمة حكمهم، وإذا كانوا قرأوا الدواوين الإسلامية وطبعوا بعضها فما قيمة كلام طه؛ فإن قال إنهم اطلعوا على الشعر الإسلامي وجهلوا الوحدة والشخصية فيه، قلنا: فكيف يكون الخطأ
"إنما جاءهم من اتخاذ الشعر الجاهلي نمودْجاً"
وهم يعمون الشعر العربي كله جاهلياً وإسلامياً بالحكم؟
ولو لم يكن من العجيب إلا أن أستاذ الأدب في الجامعة يجهل سبب
اختلاف الرواة في ألفاظ الشعر ومواضع أبياته، لقد كان في ذلك وحده ما
يخزي الجامعة أشد الخزي، فإن العرب إنما كانوا يحفظون ويتناقلون، وهم
قوم - كما قيل - أناجيلهم في صدورهم، فلم يكتبوا ولم يدونوا؛ ومع الحفظ النسيان قليلهُ وكثيره، فإذا نسي أحدهم الكلمة في بيت من الشعر وضع غيرها في مكأنها ليقيمه؛ إذ لا بد أن يرويه أو يتمثل به، ثم يكون غيره لم ينس فيروي الشعر على أصله، فتجتمع روايتان، فإذا كانوا ثلاثة فتلك ثلاث روايات كل منها بلفظ غير الآخر، وهلم جرا.
وقد يحفظ أحدهم القصيدة فإذا ردها يوماً على غيره قدم وأخر في بعض
أبياتها كما تتفق له حالة الذاكرة في ساعته تلك لا كما حفظها من قبل، إذ ليس عنده أصل مكتوب يعارض عليه، ويصنع غيره مثل هذا الصنيع بضرب آخر من التقديم والتأخير كما يتهيأ لذاكرته، ثم يكون غيرهما قد رواها وثبتت في حفظه فلم تختلط، فيأتي من ذلك في القصيدة الواحدة ثلاث روايات متعارضة، وإذا كثرت أبياتها كثرت رواياتها على حساب ذلك. وقد فصلنا أسباب هذا الاختلاف على أكثر وجوهه في الجزء الأول من
"تاريخ آداب العرب" فلا محل لإعادته هنا.
وإذا كانت الوحدة والشخصية الشعرية لا توجدان في الشعر الجاهلي لأنه
من عمل القصاص وتكلف الرواة، وكانتا موجودتين في الشعر الإسلامي الذي صحت نسبته لقائليه - فقد وجب إذن أن توجد في الشعر المصنوع على الجاهلية شخصية صانعيه على الأقل، لأنه موضوع بعد الإسلام، ولأن نسبته إلى قائليه "صحيحة" إذا لم تُقله الحجارة دوإنما قاله شعراء علماء يضعون الجيد ويحسنون حَوكه وصنعته، ومن ذا يستطيع أن يضع على امرئ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم ثم ينخدع له علماء الشعر فيحملون كلامه ويروونه إلا إذا كان فحلاً مجوداً مبدعاً يعرف كيف يصنع وكيف يحتذي! فإذا كان كذلك فكيف يغفل هذا
الفحل عن الوحدة والشخصية فيما يقلده.
وإن غفل فأين تذهب شخصيته هو؟
وما هي هذه الشخصية الشعرية عند طه؟
يقول في صفحة 160 في ترجمة مهلهل الذي قيل إنه سُمْي بذلك لأنه
- " هلهل الشعر أي أرَقه: (وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب فيه
- هلهلة واختلاط، ولكنا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها في شعر امرىء
القيس وعبيد وابن قميئة وكثير وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي، فقد
كانوا جميعاً مهلهلين إذن؛ غير أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء
الجاهلية جميعاً الشعر بحيث يصبح لكل واحد منهم شخصيات شعرية
مختلفة تتفاوت في القوة والضعف وفي الشدة واللين وفي الإغراب
والسهولة، وإذن فمن الذي هلهل الشعر؛ هلهله الذين وضعوه من القصاص
والمنتحلين " انتهى.
فالشخصية عنده هي الجزالة والفخامة أو الرقة والسهولة، كان كل شاعر
لا يكون شاعراً إلا إذا لزم نمطاً واحداً بعينه، وهذا خطأ مبين وضلال بعيد.
فليس من شاعر قديم أو حديث، بل ليس شاعر يُعد شاعراً إلا إذا أعطى
المعاني خير ألفاظها؛ جزلة في مقام الجزالة ورقيقة في مقام الرقة؛ ولا تجد من
يلزم طريقة واحدة في اختيار اللفظ إلا إذا لزم فناً واحداً في المعنى، كالشاعر
الغَزِل المتهالك في نسيبه، فإن هذا الغزل لا تحسن فيه إلا ألفاظ في رقة الدموع والتنهدات، وأنت تعرف أن بشار بن برد هو القائل:
إذا ما غضبنا غضبة مُضَرِّية. . . هتكنا حجاب الشمس أوقطرت دَما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة. . . ذرَا منبر صلى علينا وسَلما!
وهو القائل في جاريته "ربابة":
ربابة ربةُ البيت. . . تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات. . . وديك حسن الصوت
قد قيل له في ذلك فقال: إن هذا في ربابة خير من قول امرئ القيس في
معلقته، وذلك قول صحيح، لأنه يعبث بربابة ويداعبها، ويكاد شعره يكون قرصة رقيقة في جلدها. . .
ْوثم تعريف آخر للشخصية عند طه، فإن المضطرب لا يستقر على شيء.
قال في صفحة 177 وقد أورد شعر طرفة بن العبد:
ألا أيهذا الزاجري اخضُرَ الوَغى. . . وأن أشهدَ اللذات هل أنت مُخلِدي
فإن كنتَ لا تسطيعُ دفع منيتي. . . فدعني أبادِرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى. . . وجَدك لم أحفِل متى قام عُودي
فمنهن سَبقي العاذلات بشربة. . . كمَيْتٍ متى ما تغلَ بالماء تزبد.
وكرِّي إذا نادى المضاف محنباً. . . كسيد الغضا نبهته المتورد.
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب. . . ببهكنَة تحت الخباء المُعَمد!
قال: "في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم
أنها متكلفة منتحلة أو مستعارة.
وهي شخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد..
بينة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة.. في قصد واعتدال، هذه الشخصية
تمثل رجلاً فكر والتمس الخير والهدى فلم بصل إلى شيء "سبحان الله"
ثم قال: ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر، وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر، بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر.
إنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح.. لا تكلف فيه ولا انتحال!
انتهى. . .
فانظر كيف تفهم هذا الخبط، وهل كل شعر يقوله شاعر إلا هو صحيح لا
تكلف فيه ولا انتحال بالإضافة إلى قائله، ثم هو بعد ذلك إذا نسب إلى غير
قائله كان موضوعاً على هذا الذي نسب إليه؛ وإذا نحن ذهبنا هذا المذهب في كل ما يروى عن الجاهلية فقلنا لا يعنينا أن يكون قائل هذا الشعر فلاناً أو غيره ولم ننظر إلا في الشعر نفسه، فماذا يبقى من كتاب طه حسين وما فائدة بحثه في الشعر الجاهلي، وإنما يقوم هذا البحث على إثبات الشعر لمن عُزي إليهم أو نفيه عنهم بعد الإدلال بالحجة على هذا وعلى ذاك، "ولا يعنيني" تطلق البحث من هذين القيدين معاً؟
على أن معنى الشخصية هنا هو العاطفة والنزعة والفكرة الفلسفية، فإذا
قال طرفة هذه الأبيات كانت فيها شخصيثه الشعرية وإذا قال أبياتاً مثلها قوة
ورصانة في وصف الناقة لم يكن من سبيل إلى أن تكون فيها شخصيته عند طه، إلا إذا كان الشاعر جملاً من الجمال! . . . كل هذا وذاك خلط يقلد الرجل فيه الإفرنج؛ لأنه لا يعرف ما هو الشعر العربي ولا كيف يصنع؟
فإن الشخصية في هذا الشعر ليست شخصية أفراد ولكن شخصحية أحزاب وجماعات، فجماعة يلزمون طريقة الجزالة والقوة فيقلد بعضهم بعضاً في ذلك فيستوي شعرهم في الطريقة على اختلافهم وتعدد أشخاصهم، وآخرون يؤثرون الرقة والسهولة ويأخذ أحدهم مأخذ الآخر فيتشابه شعرهم كذلك.
وقل مثل هذا في الصناعة البيانية، ومثله في عمود الشعر، كشعراء الشيعة
وشعراء الفلسفة والحكم والأمثال.. الخ الخ، وكل نوع من هذه الأنواع يجمع شخصية طائفة، فلست بمستطيع أبداً أن تقول: هذا غزل فلان وهذا غزل فلان، تعرف ذلك من شخصية في كل منهما، أو هذه أمثال فلان وهذه أمثال فلان.
إنما تختلف الطريقة والصنعة؛ كبديع مسلم وأبي تمام وطبقتهما، وكطبع
البحتري وأشجع السلمي وجماعتهما، وأمثال ابن عبد القدوس والمتنبي ومن
يذهب مذهبهما، وفسق أبي نواس والخليع وأمثالهما، وزندقة المعرِّي ومن
أعماه الله بعماه؛ وقس على ذلك، فإن الصناعة الواحدة تُقارب بين أهلها إن كانت بديعاً أو لغة أو غيرهما.
ومن المضحك قول طه إنه يتحدى أي ناقد أن يعبث بالشعر الإسلامي
"أقل عبث" دون أن يفسده، فليأت هو بقصيدة واحدة لا يمكن فيها تغيير لفظ بلفظ وتقديم بيت على موضعه أو تأخيره عن موضعه؟
وإن كان هذا مما يفسد الشعر فأول من يعبث بالشعر قائله الذي وضعه، لأنك ترى الشاعر يعمل القصيدة وفيها البيت من الأبيات وموقعه الثالث أو الرابع مثلاً، ثم يخرجها فإذا هذا البيت بعينه هو الثلاثون أو الأربعون، ولا يختل نظم القصيدة ولا عمود الشعر إن كان هنا أو هنالك.
وما هي وحدة القصيدة إذا كانت تبدأ بالنسيب ثم تخرج إلى الوصف ثم
تميل إلى الحكمة ثم تنتهي إلى المدح، وأنت في كل ذلك تفصل الكلام بالمثل
بعد المثل. ولو حذفتَ النسيب والأمثال من قصائد المدح لاستقام المدح ولم
يفسد الشعر.
إن الشعر العربي خاضع لقوافيه ما من ذلك بعد، فالقافية واختلاف
معانيها قبل الشاعر وعمله وفكره وشخصيته، وانظر كيف يصنع هذا الشعر: قال ابن رشيق: كان أبو تمام ينصب القافية للبيت ليعلق الأعجاز بالصدور؛ وذلك هو التصدير في الشعر، ولا يأتي به كثيراً إلا شاعر متصنع كحبيب
ونظرائه، والصواب أن لا يصنع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته.
قال: ومن الشعراء من يسبق إليه بيت واثنان وخاطره في غيرهما يجب أن يكونا بعد ذلك بأبيات أو قبله بأبيات. وذلك لقوة طبعه وانبعاث مادته؛ ومنهم من ينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر، مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك، لا يعدو بها ذلك الموضع إلا انحل عنه نظم أبياته.
"وذلك عيب في الصنعة شديد ونقص بيق ". . .
ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب من
القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها وشريفها وما
ساعد معانيه وما وافقها واطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها
ليكرر فيها نظره ويعيد عليها تخيره في حين العمل وهذا الذي عليه حُذاق
القوم.
قلنا: ولو كان شيخ الجامعة "من حُذاق القوم" لعرف أنه لا يعيب
الشعر العربي ولا ينقصه إلا القافية، كما أنه لا يحسنه ويزينه إلا هذه القافية
نفسها؛ فإذا قلنا الوحدة والشخصية، عابته القافية من جهة ما، وإذا قلنا
التأثير والتمكين والموسيقى والنغم وقوة السبك والاتساع في المعاني ودلالة
بعض الكلام على بعض، كانت القافية هي تمام الحسن.
وهذه القافية الواحدة في القصيدة هي أعسر الأشياء في - الشعر الإفرنجي، فلما انطلق شعراؤه منها جاؤوا بالشعر كما يجيء أحدنا بالمقالة من النثر: جُملاً معلقة على جمل وسطوراً مرتبطة بسطور؛ فمن ثم معنى الوحدة في الشعر الإفرنجي وما هي بشيء عندنا لأن لغتهم قليلة الزخرف ضئيلة المادة، على أننا إذا نوعنا القوافي والبحور جاريناهم وسبقناهم لو أن عندنا أمة تطلب الشعر؛ فإن الشعر العربي بعد الأمويين لم يزل شعر فئة لا شعر أمة، وقد بيَّنا هذا المعنى في مقالة نشرها "المقتطف " الأغر.
إن للشعر العربي على طريقته المعروفة حيزاً من النفوس يجب أن يقر فيه
ولا يعدوه، - فإن مداره على التأثير، فإذا أردته - على غير ذلك كنت كالذي يتناول العود أو الكمنجة ليتخذ من أحدهما هراوة يضرب بها!
ونمسك الآن عن إتمام هذا البحث لأن له موضعاً في الجزء الثالث من
كتابنا "تاريخ آداب العرب" ونحن ندخره لموضعه.
غير أنا نختم القول بطرفة بديعة في الشخصية قالوا: كان ابن أبي المولى
من شعراء المدينة، وكان موصوفاً بالعفة وطيب الإزار؛ فأنشد عبد الملك بن
مروان شعراً رقيقاً يقول فيه:
أبكي فلا ليلى بكت من صبابة. . . لباك ولا ليلى لذي البذل تبذل
واخنَعُ بالعتبى إذا كنت مذنباً. . . وإن أذنَبَت كنتُ الذي أتنصل
فرق له عبد الملك وأخذته هذه الشخصية العاشقة المحترقة، فقال من
ليلى هذه؟ إن كانت حرة زوجتكها!
وإن كانت أمة لأشترينَّها لك بالغة ما بلغت.
قال الشاعر: كلا يا أمير المؤمنين، ما ليلى التي أنسب بها إلا قوسي هذه
سميتها ليلى. . .؟ لأن الشاعر لا بد له من النسيب.
فيا ليلَى يا ليلَى.
كل يغني على ليلاهُ متخذاً. . . ليلى من الناس أو ليلى من الخشب!