المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الميراث العربي كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة، وكان - تحت راية القرآن

[مصطفى صادق الرافعي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌المؤلف في سطور

- ‌تنبيه

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌المذهبان القديم والجديد

- ‌الميراث العربي

- ‌الجملة القرآنية

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌الرأي العام في العربية الفصحى

- ‌تمصير اللغة

- ‌جلدة هرَّة

- ‌مقالات الأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌للتاريخ

- ‌مقال الجريدة الأولالأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌مقال الجريدة الثانيالأدب العربي في الجامعة

- ‌الدكتور طه حسين وما يقرِّره

- ‌التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم

- ‌أسلوب طه حسين

- ‌القنبلة الأولى

- ‌رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب

- ‌إلى الجامعة المصرية

- ‌وإلى الجامعة أيضاً

- ‌وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا

- ‌فلسفةٌ كمضغ الماء

- ‌قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى (عِلْمٍ) بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ

- ‌أستاذ الآداب والقرآنإلى هيئة كبار العلماء ومجلس إدارة الجامعة

- ‌للتاريخ

- ‌كتاب الشعر الجاهليرأي لجنة العلماء فيه

- ‌فلما أدركه الغرق

- ‌موقف حرج لوزارة المعارف

- ‌طه حسين ابن الجامعة البكر

- ‌عصبية طه حسين على الإسلام

- ‌قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

- ‌وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا

- ‌وشعر طه هو طه الشعر

- ‌خنفساء ذات لون أبيض

- ‌أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ

- ‌قال دمنة

- ‌حرية التفكير أم حرية التكفير. . .مقالة مرفوعة إلى البرلمان المصري

- ‌ذو الأقفال

- ‌فيلسوفة النمل

- ‌مسلم لفظاً لا معنى

- ‌رأيي في الحضارة الغربية

- ‌المجدد الجريء

- ‌الجامعة في مجلس النواب

- ‌جلسة يوم الاثنين13 سبتمبر سنة 1926خطبة الأستاذ عبد الخالقِ عطية

- ‌مسألة طه حسين

- ‌كلمة جريدة "الأهرام" الغراءالوزارة تعرض مسألة الثقةرشدي باشا وعدلي باشا في بيت الأمة ليلاًتفاصيل المسألة - تسويتها

- ‌جلسة يوم الثلاثاء

الفصل: ‌ ‌الميراث العربي كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة، وكان

‌الميراث العربي

كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة، وكان ينتحل الأَعرابية

ويتجافى في ألفاظه ويَتبادى في كلامه ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام

والتشدق به، ليتحقق أنه أعرابي وما هو به، وإنما ولد ونشأ بالبصرة، قالوا

فخرج إلى البادية فأقام بها أياماً يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على

سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا. . .؟ فهذا طرَف من العربية يقابله التاريخ في زماننا هذا بطرف آخر من جماعة

قد رُزقوا اتساعاً في الكلام إلى ما يفوت حد العقل أحياناً، ووهبوا طبعاً زائغاً

في انتحال المدنية الأوروبية إلى ما يتخطى العلل والمعاذير، ورأوا أنفسهم أكبر

من دهرهم، ودهرهم أصغر من عقلهم، فتعرف منهم أبا خالد الفرنسي، وأبا خالد الإنجليزي، وغيرهم من أجازوا إلى فرنسا وانجلترا فأقاموا بهما مدة ثم رجعوا إلى بلادهم ومَنبتهم ينكرون الميراث العربي بجملته في لغته وعلومه

وآدابه، ويقولون: ما هذا الدين القديم؛ وما هذه اللغة القديمة؟ وما هذه

الأساليب القديمة؟ ويمرُّون جميعاً في هدم أبنية اللغة ونقض قواها وتفريقها.

وهم على ذلك أعجز الناس عن أن يضعوا جديداً أو يستحدثوا طريفاً أو يبتكروا بديعاً، وإنما ذلك زيغ الطبع، وجنون الفكر، وانقلاب النفس عكساً على نشأتها، حتى صارت علوم الأعاجم فيهم كالدم النازل إليهم من آبائهم وأجدادهم وصار دخولهم في لغة خروجاً من لغة، وإيمانهم بشيء كفراً بشيء غيره كأنه لا يستقيم الجمع بين لغتين وأدبين، ولا يستوي لأحدهم أن يكون شرقياً وإن في لسانه لغة لندن أو باريس!

ومنهم كتاب يكتبون بالعربية ويرتزقون منها - وأدباء يبحثون في آدابها

وفنونها، وكلهم مجيد محسن إلا حيث يكتب كاتبهم في إصلاح الكتابة ويبحث باحثهم في إصلاح الأدب، فهنالك ترى أكثر هَمِّ الأول أن تسلم له عاميته

ص: 18

فلا ينكر عليه ضعف ولا لحن ولا يهجن له أسلوب ولا عبارة وأن يكون له كل ما يعرض له من النقص معتبراً من الكمال العصري. . .

وترى همَّ الثاني أن يُكره الآداب العربية على أساليب غيرها ويقتسرها جزاً وتلفيقاً وتلزيقاً ويبسط فيها المعاريض الكلامية، فهذا عنده كذب ولا دليل عليه، وهذا محال ولا برهان فيه، وهذا قائم على الشك، وذاك على ما لا أدري ولا يدري أحد.

حدثني كاتب شهير من هذه الفئة، فكان من أعجب ما قال: إن ابن

المقفع فصيح بليغ، وهو مع ذلك ليس بمسلم ولا عربي ولا شأن له بالحديث

ولا بالقرآن ولا بالدين، وساق ذلك رداً على ما قلته من أن لا فصاحة ولا لغة إلا بالحرص على القرآن والحديث وكتب السلف وآدابهم.

ولا أدري والله كيف يفهم هذا وأمثاله، ولكنك تتبين في عبارته مبلغ الغفلة التي تعتري هذه الفئة من نقص الاطلاع وضعف الفكر وبناء الأمر على بحث صَحفي بلا تحقيق ولا تنقيب، وترى كيف يذهبون عن الأصل الذي يقوم عليه الغرض ثم يحاولون أن يؤصلوا له على قدر عقولهم وأفهامهم، وقد تفلح الفلسفة في كل شيء إلا في

تعليل ما علته معروفة، وهل نشأ ابن المقفع إلا على اللغة العربية والأدب

العربي والرواية العربية، وكان من أقوى أسباب فصاحته المشهورة أخذه هذه

الفصاحة وهذا الأسلوب عن ثور بن يزيد الأعرابي الذي قالوا فيه إنه كان من

أفصح الناس لساناً. ولكن أين من ينقب عن هذا ونحوه في تلك الجماعة أو - يتوهمه فيقف عفى حذه، وهل علموا أن ابن المقفع على انصرافه إلى النقل من الفارسية ولليونانية اختار يوماً أسلوب العامة في زمنه، أو استجاده للنقل

والترجمة، أو خرج على الأدب الذي تادب به أو حاول فيه محاولة، أو قال

بوجوب هدم القديم لأنه لا يرى للعرب مثل الذي لا يعرف لليونان من العلم

والحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية، أو نزل بأسلوبه وكتابته منزلة من يمكُر الحيلة في اللغة أو يكيد للأدب أو يساهل نفسه لغرض كالذي في نفوس هؤلاء المجددين؟

قال لي ذلك الكاتب في بعض كلامه؛ إن الميراث العربي القديم الذي

ورثناه يجب هدمه كله وتسويته بالعدم. تلت: أفتحدث أنت للناس لغة وأدبا وتاريخاً ثم طبائع متوارثة تقوم على حفظ اللغة والأدب والتاريخ أم تحسب أنك تستطيع بمقالة عرجاء في صحيفة مقعدة. . . أن تهدم شيئاً أنت بين أوله وآخره كعود من القش يؤتى به لاقتلاع جبل من أصوله.

من أين جاء الميراث العربى وكيف اجتمع وتكامل إلا من القرآئح التي

ص: 19

جدَّت في إبداعه وإنمائه، وأضافت أعمارها صفحات فيه، واستخلصت له آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم، فأعربت كل ذلك ليندمج في اللغة لا لتندمج اللغة فيه، وليكون من بعضها لا لتكون من بعضه، وليبقى بها لا لتذهب به؟

ومن ذا الذي يزعم أن العرب هم كل الأرض، وأن آدابهم خلقت على

الكفاية لا تحتاج إلى تحرير أو تبديل؛ ولكن من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل

أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصر أدباً على حياله، ولكل طائفة من الكتاب كتابة وحدها؛ ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟

لقد كانت القبائل العربية مادة هذه اللغة وسبب اتساعها واستفاضتها.

وكان فحول الشعراء من الجاهلية كأنَّ كل واحد منهم قبيلة في التفنن والإبداع مجازاً واستعارة وبديعاً، ثم جاء القرآن الكريم فكان الغاية كلها، ثم تتابع الشعراء والكتاب والأدباء فمن لم يزد منهم على الموجود لم ينقص منه، ثم جاء أدباء المترجمين وفيهم من جمع البراعة من أطرافها فكانوا هم القبائل

الحديثة في معاني اللغة وفنونها، وكان مذهبهم في كل ما ترجموه وما اقتبسوه

هذه الكلمة التي قالها العتابي " اللغة لنا والمعاني لهم" يريد العجم.

وكان ينسخ من كتبهم وقد يسافر في طلب الكتب شهراً، والعتابي من أبلغ من أخرجتهم العربية وكان واحد دهره في الأجوبة المسكتة ولولا فصاحته لما بقي اسمه.

فلو صنعت القبائل الحديثة من أبي خالد الفرنسي إلى أبي خالد الإنجليزي

هذا الصنيع لكان رأس أمرهم الحرص على اللغة، ثم إن شدُّوا عليها أيديهم

فسيحرصون على كتبها التي هي مادتها، ثم إن جمعوا هذه فيدرسونها

ويتناقلونها، ثم إن هم تدارسوها فقد رسخت فيهم الملكة واستحكم عندهم

الذوق وانقاد لهم الطبع واستفحصوا واستجادوا؛ فإذا انتهينا إلى هذا لم يبق من موضوع يخالفون عليه، وصار أدباء اللغة جميعاً جنساً واحداً ولم يبق إلا النقد يبين شخصاً من شخص وطريقة من طريقة، واللغة بعدُ محفوظة سليمة وإليها المرجع كله ولها العمل كله وهي الأمر كله، وهذا ما تقوم عليه آداب الأمم المستقلة المنفردة بجنسيتها ومقوماتها.

ألا يرى أبو خالد الإنجليزي وأبو خالد الفرنسي كيف تُباهي كل أمة في

أوروبا بلغتها، وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم حتى إنهم ليجعلونه أول ما

يعقدون عليه الخنصر إذا عدوا مفاخرهم ومآثرهم، وهل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر

ص: 20

الحرب الكبرى ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة "نظام الحصر

البحري "، وكانت مما جاءت مع نكبات فرنسا في الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمع العلمي أن الكلمة وحدها نكبة على اللغة كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارَته وسلاحه وعلمه يعلن عن قهر أو غلبة أو استعباد! وهل فعلوا ذلك إلا أن التهاون يدعو بعضه إلى بعض، وأن الغفلة تبعث على ضعف الحفظ والتصوُّن، وأن الاختلاط والاضطراب يجيء من الغفلة، والفساد يجتمع من الاختلاط والاضطراب.

إنما الأمور بمقاديرها في ميزان الاصطلاح، لا بأوزانها في نفسها، فألف

جندي أجنبي بأسلحتهم وذخيرتهم في أرض هالكة بأهليها ربما كانوا غوثاً

تفتحت به السْماء، ولكن جندياً واحداً من هؤلاء في أمة قوية مستقلة، تنشق له الأرض وتكاد السماء أن تقع، فالمذهب الجديد فساد اجتماعي ولا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة.

وتلك جنايتهم على أنفسهم وجنايتهم على الناس بأنفسهم، وهم لا

يشعرون بالأولى فلا جرم لا يأنفون من الثانية!

ص: 21