المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قال إنما أوتيته على (علم) بل هي فتنة - تحت راية القرآن

[مصطفى صادق الرافعي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌المؤلف في سطور

- ‌تنبيه

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌المذهبان القديم والجديد

- ‌الميراث العربي

- ‌الجملة القرآنية

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌الرأي العام في العربية الفصحى

- ‌تمصير اللغة

- ‌جلدة هرَّة

- ‌مقالات الأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌للتاريخ

- ‌مقال الجريدة الأولالأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌مقال الجريدة الثانيالأدب العربي في الجامعة

- ‌الدكتور طه حسين وما يقرِّره

- ‌التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم

- ‌أسلوب طه حسين

- ‌القنبلة الأولى

- ‌رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب

- ‌إلى الجامعة المصرية

- ‌وإلى الجامعة أيضاً

- ‌وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا

- ‌فلسفةٌ كمضغ الماء

- ‌قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى (عِلْمٍ) بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ

- ‌أستاذ الآداب والقرآنإلى هيئة كبار العلماء ومجلس إدارة الجامعة

- ‌للتاريخ

- ‌كتاب الشعر الجاهليرأي لجنة العلماء فيه

- ‌فلما أدركه الغرق

- ‌موقف حرج لوزارة المعارف

- ‌طه حسين ابن الجامعة البكر

- ‌عصبية طه حسين على الإسلام

- ‌قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

- ‌وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا

- ‌وشعر طه هو طه الشعر

- ‌خنفساء ذات لون أبيض

- ‌أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ

- ‌قال دمنة

- ‌حرية التفكير أم حرية التكفير. . .مقالة مرفوعة إلى البرلمان المصري

- ‌ذو الأقفال

- ‌فيلسوفة النمل

- ‌مسلم لفظاً لا معنى

- ‌رأيي في الحضارة الغربية

- ‌المجدد الجريء

- ‌الجامعة في مجلس النواب

- ‌جلسة يوم الاثنين13 سبتمبر سنة 1926خطبة الأستاذ عبد الخالقِ عطية

- ‌مسألة طه حسين

- ‌كلمة جريدة "الأهرام" الغراءالوزارة تعرض مسألة الثقةرشدي باشا وعدلي باشا في بيت الأمة ليلاًتفاصيل المسألة - تسويتها

- ‌جلسة يوم الثلاثاء

الفصل: ‌قال إنما أوتيته على (علم) بل هي فتنة

‌قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى (عِلْمٍ) بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ

قرأت كتاب "الشعر الجاهلي " وقد كتب في عنوانه "تأليف طه حسين:

أستاذ الآداب العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية ".

فما أكثر أسماء الهر وما أقل الهر بنفسه. . .

إن معنى العبارة أن الرجل أستاذ الشعر والكتابة وأساليبهما

وما دخل في ذلك من تفسير ونقد ثم تاريخ الأدب وتحليله وتصحيح رواياته

وجميع مسائله والمقابلة بين نصوصه ثم علومه الأدب المعروفة، كفنون البلاغة

وفنون الرواية، فهذه "الآداب العربية" ومهما ادعى أستاذها في الجامعة فلن

يدعي أنه شاعر ذو مكانة، ولا أنه كاتب ذو فن، واذا أسقطنا هذين فماذا يبقى منه إلا ما يتمحل من بعض الأسباب التاريخية، ثم ما غَناء هذه الأسباب وتاريخ الأدب قائم على الشعراء والكتاب، وصاحبنا يرجع في ذلك إلى طبع ضعيف لم تحكمه صناعة الشعر ولا راضته مذاهب الخيال، ولا عهد له بأسرار الإلهام التي صار بها الشاعر شاعراً ونبغ الكاتب كاتباً، وما هو إلا ما ترى من خلط يسمى علماً، وجرأة تكون نقداً، وتحامل يصبح رأياً، وتقليد للمستشرقين يسميه اجتهاداً، وغض من الأئمة يجعل به الرجل نفسه إماماً، وهدم أحمق يقول هو البناء وهو التجديد.

وما كنا نعرف على التعيين ما الجديد أو التجديد في رأي

هذه الطائفة حتى رأينا أستاذ الجامعة يقرر في مواضع كثيرة من كتابه أنه هو

الشك، ومعنى ذلك أنك إذا عجزت عن نص جديد تقرر به شيئاً جديداً فشك في النص القديم، فحسبك ذلك شيئاً تعرف به ومذهباً تجادل فيه؛ لأن للمنطق قاعدتين:

إحداهما تصحيح الفاسد بالقياس والبرهان، والأخرى إفساد الصحيح

بالجدل والمكابرة

ومَثَل طه والقدماء مَثل رجلين من أهل المنطق، أحدهما قال: هذا اللون

أسود فلا يجوز أن يكون أبيض.

والآخر - الحسينى. . . - قال: كلا بل هذا

ص: 105

اللون ليس بأبيض فيجوز أن يكون أسود، وما الفضل بين يجوز أن يكون ولا

يجوز أن يكون إلا موهبة من الله إذا هي لم توجد لم يُغنِ البرهان من الحق

شيئاً، ولا يزال أحد الرجلين مع الآخر في لجاج ومكابرة قد تهاترت بيناتهما

وسقطت، لأن المنطق لا يصح منه إلا ما صحح العقل منه، فحيث لا قيمة

للعقل فلا قيمة للمنطق.

وإنه لولا ضعف خيال الدكتور طه وبُعدُه من الصناعة الفنية في الأدب

واستسلامه لتقليد الزنادقة وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية، ثم لولا هذه العصبية الممقوتة التي نشأت فيه من هاتين الصفتين إلى صفات أخرى يعرفها من نفسه حق المعرفة، لكان قريباً من الصحة فيما يرى، ولتدبر الأمور بأسبابها القريبة منها، واستعان عليها بما يُصلحها.

ولتوقى بذلك جناية التهجم التي هي في أكثر أحوالها علم الجهلاء وقوة

الضغفَى وكياسةُ الحمقى وعقل الممرورين.

على أن العصبية هي دائماً نصف الجهل وإن كانت في أعلم الناس

وأذكاهم، وقديماً أفسدت من تاريخ الأدب العربي أكثر مما أفسد الغلط والجهل معاً.

وقد نقحوا على أن ذهاب الواضح الجلي من الأدب الذي لا يُمترَى فيه

إنما يكون على اثنين، أحدهما: من لم يكن مُرتاضاً بالصناعة متدرباً بالنقد

بصيراً بما يأتي ويدع، والثاني: الرجل العالم يعرف أنه يعرف ثم تحمله العصبية

على دفع العيان وجحد المشاهد فلا يزيد على التعرض للفضيحة والاشتهار

بالجور والتحامل.

هذا في العالم المتدرب المرتاض، فكيف بالعصبية في العالم القائم على

ركن واحد من ثلاثة أركان؟

فإن أستاذ الآداب يجب أن يجمع إلى الإحاطة بتاريخها وتقصي موادها ذوقاً فنياً مهذباً مصقولاً، وليس يمكن أن يأتي له هذا

الذوق إلا من إبداع في صناعتي الشعر والنثر، ثم يجمع إلى هذين الإحاطةِ

والذوقِ تلك الموهبةَ الغريبة التي تلف بين العلم والفكر والمخيلة فتبدع من

المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصاً فوق هؤلاء جميعاً هو الذي نسميه

الناقد الأدبي.

ص: 106

متى لم تجد الخيال القوي في مؤرخ الأدب، ومتى رأيت هذا المؤرخ لا

يتوكأ إلا على المنطق والمقاييس والأوزان، فاقذف به وبتاريخه وأدبه وآدابه

حيث شئت؛ فإنه لا يمتنع في يدك ولا يستعصي عليك، لأن سكونه واستقراره - ولو كانا على كرسي الجامعة - لا يأتيان من أنه وثيق ركين، ولا من أن أصوله شابكة متصلة بل من سكون الريح من حوله وحياطته بالأستار من هنا وهناك.

فإن صاحب العلم رجل وصاحب الفن رجل غيره، والأصل في العلم العقل.

والأصل في الفن الغريزة، ودليل العقل المنطق والقياس، ودليل الغريزة الحس

والموهبة.

والأدب من العلوم كالأعصاب من الجسم، هي أدق ما فيه ولكنها مع

ذلك هي الحياة والخلق والقوة والإبداع، ولا تقاس بمقياس العظام المشبوحة

الغليظة، ولا توزن بميزان العضلات المكتنزة الشديدة، ولا ينفع فيها المتر ولا

الكيلو.. فإن جاءك صاحب المتر أو الكيلو فاقذف به الطريق، وإن قال لك إن المتر مقسم إلى مائة جزء وكل جزء إلى عشرة أجزاء. . .

* * *

قبل أن نخوض في كتاب الأستاذ طه حسين نشكر له ما تفضل به من الثناء

علينا في كتابه واستثناءه إيانا في بعض المعاني من كل من درسوا تاريخ الآداب

العربية، ونحن، دون هذا في نفسنا ودون ما أبلغَنا إياه مع بعض أصدقائنا وإن كنا نعرف من صنيع الأستاذ الفاضل أنه لا ينصفنا مرة إلا بعد أن يظلمنا مراراً، وأنه اتخذ الوقيعة فينا مذهباً عُرف به وغلب عليه.

حتى لا يكاد يقول أنصار القديم أو يكتب أنصار القديم أو يذم أنصار القديم إلا توجه ذلك عنده إلينا خالصاً لنا من دون المؤمنين. . . وهو لو عافاه الله من التعنت بعلمه على الناس، ورَزقه نعمةَ الوقوف عند حده وحَفظ عليه الفضيلة الشرقية الإسلامية، لربحناه ربح الذهب والفضة، ولكننا كيفما عاملنا به في سوق الشرق والغرب لم نجده في يد الشرق إلا نحاساً وفي يد الغرب إلا ذهباً، فهو ولكن في الديون التي علينا، أما في الديون التي لنا فلا يُحسب لنا إلا. . . "بقرش خردة!.

التمسنا في كتاب الشعر الجاهلي تلك المسائل الأربع التي رفعناها إلى

الجامعة فإذا الأستاذ قد حذف منه أعظمها خطراً وأكبرها شأناً، وهي مسألة

ص: 107

محو المسلمين شعر النصارى واليهود، لم يقل فيها شيئاً ولا أشار إليها إلا إشارة خفيفة، كأنَّ في الأمر أثراً من حزم الأستاذ الكبير مدير الجامعة.

فقال في صفحة 84 عن أمية بن أبي الصلت: "إنه وقف من النبي صلى الله عليه وسلم موقف الخصومة هجا أصحابه وأيد مخالفيه.

ورثى قتلى بدر من المشركين، وكان هذا وحده يكفي للنهي عن رواية شعره، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين كانت

الخصومة شديدة بينه وبين مخالفيه من العرب الوثنيين واليهود".

وقال في صفحة "5: "ليس إذن شعر أمية بن أبي الصلت بدعاً في شعر

المتحنفين من العرب أو المتنصرين والمتهودين منهم.

وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه إلا ما كان منه هجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونعياً على الإسلام؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع".

فأنت ترى أن ههنا شيئاً من الإصلاح والحذف والاحتراس، وبقي أن

أستاذ الجامعة انخدع بقول كليمان هوار المستشرق الفرنسي فيما زعم من أن

النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية شعر أمية، فتابعه طه وظن ذلك صحيحاً، غير أنه علل النهي بغير العلة الحمقاء السخيفة التي جاء بها هذا المستشرق (1) .

ولكن ما الدليل على صحة خبر النهي وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد من شعر أمية وما زال يقول للمنشد " إيه إيه " حتى استوفى مائة بيت!

إن هؤلاء المستشرقين أجرأ الناس على الكذب ووضع النصوص المبالغة

في العبارة متى تعلق الأمر بالإسلام أو بسبب يتصل به، وكل ما عُرف من أمر ذلك النهى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية القصيدة التي رثى بها أمية قتلى المشركين في بدر، وهي مع ذلك لا تزال مروية في كتب السيرة إلى اليوم؛ فإن وقوع النهي لا يقتضي محو المنهى عنه ولا تركه عند من أراده.

وقد نهى الله عن أشياء كثيرة ما زالت تؤتى، وستبقى ما بقيت الفطرة الإنسانية، فما أهمِل شعر أمية ولا نهي عن روايته، ولكنه الكذب والغفلة من الأستاذين.

(1) يرى هذا الرجل أن شعر أمية مصدر من مصادر القرآن. . . أخذ بعض القرآن منه فلذلك وقع النص عن روايته، وليس في الجهل أجهل من هذا، ولكنه مع ذلك قول أستاذ مستشرق اسمه (كليمان هواراً) .

ص: 108

على أن الدكتور طه يقول في صفحة 54: كان الأنصار يكتبون هجاءهم

لقريش ويحرصون على أن لا يضيع. . .

فكيف ضاعت إذن " الكثرة المطلقة "؟ وما يمنع قريشاً أن يكتبوا هجاءهم

كما فعل الأنصار؛ وإذا كانوا يكتبون مثل هذا فذلك نص على أنه لا حرج من روايته!

لقدكتب شيخ الأدب صديقنا الأمير شكيب أرسلان مافيه الكفاية للرد

على أستاذ الجامعة في بناء التاريخ على التحكم والافتراض وزعمه أن المسلمين محوا شعر النصارى واليهود أوتسببوا بمحوه؛ فلا نطيل في هذا المعنى، غير أننا نضيف إلى ما قاله شيخنا الجليل أنه لما أسر سهيل بن عمرو من مشركي قريش، وكان أعلم - أي مشقوق الشفة السفلى - وأرادت قريش فداءه، قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: "انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو السفليين يدلع لسانهُ فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبدا! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق الرجل، فلو أنه

كان يمحو شيئاً أو يأمر بشيء في توفي الكلام وإبطاله لمحا أكبر وسائل الخطابة

في هذا الخطيب المشرك، ولتركه ما يُبين حرفاً من حرف ولا يقيم الكلام على أصواته فلا يفلحْ بعدها في الخطابة أبداً.

وما يزال المسلمون يَروون إلى اليوم قول ابن الزبَغرَى في الرد على

النبي صلى الله عليه وسلم:

حياة ثم موت ثم نشر. . . حديثُ خرافةٍ يا أم عمرو!

وقول ذلك اليهودي حين ضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم:

يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لايدري أين ناقته!

وهنا نريد أن نقول للدكتور طه: إن بعده من صناعة الشعر هو الذي أوقعه

في هذا الرأي السخيف، فلو نظم اليهودي هذه الكلمة فما عسى أن تزيد على ما قال؟ وهل شعر النصارى واليهود إلا كشعر سائر العرب في الفخر والهجاء والوصف والنسيب وغيرها؟

أم حسب الدكتور أن شعر النصراني يجب أن يكون

في عقائده وإنجيله، وشعر اليهودي في توراته وتجارته.. ولعله لا يعلم أن

أضعف ما يكون الشعر في الصناعة إذ هو تناول هذه المعاني وأشباهها كما يقع في شعر العلماء والمتصوفة، حتى قالوا إن شعر حسان بن ثابت نزل في الإسلام

ص: 109

إلى دون ما كان عليه في الجاهلية.

قال الأصمعي: الشعر إذا أدخلته في باب

الخير لان - أي ضعف - ألا ترى أن حسان بن ثابت كان عَلا في الجاهلية

والإسلام؛ فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهما لأن شعره..

وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول، مثل امرئ القيس وزهير والنابغة.

صفات الديار والترجل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لان. انتهى.

على أن شعر اليهود والنصارى بهان متميزاً في الرواية فإن لم يكن وقع

إلينا فذلك لسقوط الرواية وضياع الكتب لا لضياع الشعر في نفسه بإهمال

المسلمين.

وقد ضاعت معانٍ كثيرة من عادات الجاهلية وأعمالها مما أبطله

الإسلام أو لم يبطله، ومع ذلك أدَّاها الشعر ولم يتحرج العلماء من - روايته؛ وهذا ابن قتيبة يقول في كتاب " الميسر والقداح": إن الميسر أمر من الجاهلية قطعه الله بالإسلام، فلم يبق عند الأعراب إلا النبذ اليسير منه، وعند علمائنا إلا ما أدى - إليهم الشعر القديم.

وقد كتب الجاحظ فيما روى قال: "أدركت رواة المسجديين والمربذيين

ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب ونسيبَ الأعراب والأرجازَ

الأعرابية القصار وأشعارَ اليهود فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة، فهذا نص على أن رواية شعر اليهود كانت في الإسلام باباً خاصاً من أبواب الرواية ونوعاً متميزاً من طرائف الشعر.

وللإمام المَرزُباني كتاب قالوا إنه في أكثر من خمسة آلاف ورقة، كسره

على اثني عشر باباً منها باب خاص بديانات الشعراء في أشعارهم ومنهم اليهود والنصارى.

"إن أستاذ "الجامعة ليعلم علماً لا يدخله الشك الذي يتباهى به. . . أن كتب

السلف لم تنته إلينا بجملتها، ولا انتهى أكثرها، ولا ما يقال فيه إنه كثير، وأن الرواية لم تتأدَّ إلينا بما كانت تحمل من ذلك العلم المستطيل من الأشعار

والأخبار والنقد، فكيف يجوز له أن يحكم على شعر الجاهلية بأنه موضوع أو

محمول على أهله، أو الكثرة المطلقة منه موضوعة محمولة، وهو لا يروي هذا

ص: 110

الشعر، وهو لا يعرف ما مقداره، ولا يحيط بأقله فضلاً عن أكثره، وقد قالوا إن ابن الأعرابي أملى وحده من الشعر أحمالاً، فأين هذه الأحمال اليوم حتى يقابل ما فيها بعضه يبعض، ومن الذي يستطيع في عصرنا أن يقول في الشعر: هذا يشبه شعر الجاهلية وهذا لا يشبهه، والتوليد في هذا بيِّن، والصنعة في ذلك ظاهرة، وهذا بقول فلان أشبهُ وهذا ليس من نسج فلان ولا من طبقته، وذلك منحول رويناه في شعر فلان. . . الخ الخ؟

وقد وضع ابن سلام كتاباً في طبقات فحول شعراء الجاهليين لا يُعرف إلا

اسمه، أفتحسب راوية مثله يضع في أوائل القرن الثالث كتاباً في أسماء هؤلاء

" الفحول " وليس بين يديه من شعرهم الكثير الصحيح قد غُربل ونخل ونُفي منه الموضوع والمنحول وما تقولته العشائر بأهوائها وما دسه الرواة بسبب من

أسبابهم؟

نحن لا ندفع أن يكون فيما يُعزَى إلى الجاهلية شعر محمول على أهلها

حملاً، وشعر قد نحلوهم إياه من كلام الشعراء المغمورين، وقد بينا ذلك في

"تاريخ آداب العرب" في باب الرواية والرواة من الجزء الأول، وهو الباب الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه في الشعر الجاهلي.

ولكن بيننا وبين الجاهلية ثم من نقلوا عنها أزماناً متناسخة كادت توفي

خمسة عشر قرناً، وقد باد أكثر الكتب وذهبت فيها أقوال الرواة وعِلم العلماء مما حققوه ونصوا علبه، وما تسامحوا فيه وتوسعوا به، فلا يجوز لكائن من كان بين قطبي الأرض أن يثبت أو ينكر ويزيد أو ينقص إلا بنص عن المتقدمين؛ لأن هذا العلم لا يمكن أن يستقيم على اتباع الظن ولا أن يصح على الشك، فإن محل الشك والتخمين والحدس والاستنتاج إنما يجيء بعد أن تجتمع المادة من أطرافها بحيث لا يشد منها إلا القليل الذي يفرض فيه لقلته أنه لا ينقض حكماً ولا يبطل رأياً، للاستغناء بالنصوص الأخرى المتوافرة التي تتحقق بها غلبة الظن إن لم يأت منها اليقين، والأمر في يد أستاذ الجامعة المبتلى بالشك.

على النقيض من ذلك فلا هو يستطيع أن يرد ما ذهب من الكتب فيستوعبها، ولا هو يمكنه أن يطلع على كل ما هو فبعثر في زوايا الدنيا من الكتب التي لم تذهب، ولا هو اطلع على كل ما تناله أيدي الأدباء: ثلاث درجات يَسفل بعضها عن بعض، فالعجب الذي ليس مثله عجب أن يكون الأستاذ ناقصاً هذا النقص كله ثم يزعم أنه يدعو إلى الطريقة العلمية في تاريخ الأدب، وأنه يمحص ويحقق، ويثبت وينفي، ويوقن ويشك، وهذا هو المضحك من أمره.

فإن أخص شروط

ص: 111

الطريقة العلمية في درس التاريخ وكتابته أن يستوعب المؤرخ كل ما قيل وكتب في موضعه، مما يتعلق بحادث أو شخص أو موضوع، لا يفوته من ذلك شيء، فإذا هو أتى على المادة ووضع يده منها حيث أراد وأمِنَ أن يكون ندَّ عنه أمر ذو بال جاء الشرط الثاني لهذه الطريقة ووجب حينئذ أن ينتفي من أهوائه ونزعاته، ويتجرد من شخصه الإنساني، ليصبح في عمله شخصاً، كما يتجرد القاضي ليكون في قضائه شخصاً قانونياً ليس غير! بيدَ أن طه تجرد قبل أن يلبس. . .

وهذا نوع من الهزل إن احتمل من كاتب في صحيفة لا يحتمل من مدرس في

جامعة!

ومع أن الطريقة العلمية قائمة على استقراء المادة والإحاطة بها من جميع

جهاتها، فهي لا تخرج التاريخ نفسه كما هو في الواقع، وإنما تجيء برأي فيه

يكون معياره دائماً ذكاء صاحبه وعقله وخياله، ولهذا اشترطوا في صاحب تلك الطريقة أن يكون ممن رُزقوا البراعة كل البراعة في إصابة الحدس وقوة الخاطر وسمو الخيال، وإلا خرج عمله بلا معنى، أو بمعنى لا قيمة له، أو بقيمة ضعيفة تنزل من التاريخ منزلة الهيكل العظمي من الجسم الحي.

وضع الإمام المرزباني كتاباً غير الكتاب الذي أومأنا إليه آنفاً.

قال ابن النديم إنه أكثر من خمسة آلاف ورقة أتى فيه على أخبار (الشعراء المشهورين) من الجاهلية، وبداً بامرئ القيس وطبقته، ثم المخضرمين، ثم الإسلاميين إلى أول الدولة العباسية، فهذه أخبار شعراء مائتي سنة من التاريخ، بل المشهورين منهم، وقد كتبت في خمسة آلاف ورقة، أي عشرة آلاف صفحة، لم ينته إلينا منها صفحة واحدة، فكيف مع ضياعها وضياع كثير من أمثال هذا الكتاب الجامع الممتع يُقبل عقلاً من مؤرخ علمي يجلس في كرسي التحقيق أن يقرر مثل هذا الهُراء الذي جاءنا به الدكتور طه حسين في إنكار الشعر وإثباته، على حين أنه مع هذا النقص الفاضح تنقصه كذلك ملكة الشعر فما هو بشاعر يدرك

بالحس كما أدرك مثل ذي الرمة حين سئل عن شعر أنشده حماد الرواية في مدح بلال بن أبي بردة فقال: إنه جيد وليس له، فلما عزم بلال على حماد ليخبرنَّه

قال: إن الشعر قديم ولا يرويه غيري وقد انتحلته.

ولجرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء أَخبار كثيرة من مثل هذا، يقرأون بنفوسهم كما يقرأون بأعينهم، فلا يحسن أن يقول المؤرخ في الشعر إلا إذا كان شاعراً يوثق بملكته، فإن الحس والملكة من أقوى أسباب الرأي في مثل ذلك.

ومع نقص النقص في أستاذ الجامعة فهو لا يحسن نقد الشعر، لأن النقد

ص: 112

قائم بالملكة والفهم لا بالفهم وحده، ولم ينتقد في كتابه الشعر الجاهلي نقداً

فنياً إلا بيتاً واحداً من قصيدة عمرو بن كلثوم المعروفة بالمعلقة، وهو قوله:

ألا لا يجهلنْ أحد علينا. . . فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا

قال الأستاذ: "قلت إن هذاً البيت يمثل إباء البدوي للضيم، ولكني

أسرع. . . فأقول إنه لا يمثل سلاسة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف

إلى هذا الحد الممل فتمد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات واشتد هذا

الجهل حتى مُل " انتهى.

قلنا ليته لم يسرع ولم يفرح بهذا الخاطر فقد عثر من

إسراعه فامتلأ فمه تراباً، ومتى كان الأستاذ طه حسين يفطن إلى عيب تكرار

الحروف وهو الذي كانت تضرب به الأمثال في التكرار قبل أن نلقنه ذلك

الدرس في جريدة "السياسة"، وهو لم يبرأ بعدُ من هذه العلة، فقد رأينا له مقالاً في "مقتطف" شهر مارس من هذه السنة 1926 جاءت فيه هذه الشأشأة. . .

" يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء لا كما تشاء الأشياء" فتأمل.

نقول لأستاذ الجامعة: إن التكرار في بيت عمرو بن كلثوم هو سر البلاغة

فيه، وهو اللون الذي نفضه الشاعر من ألوان روحه على المعنى ليخلقه خلقاً

حياً بحيث لو لم يكن هذا التكرار لضعف المعنى وسقطت رتبة الشعر؛ فإن هذا الشاعر يمثل في البيت غضب قومه وحفاظهم وقدرتهم على المجازاة والنقمة والأخذ الشديد لمن عز وهان، فلم يقل: إذا جهل أحد علينا فعلنا وفعلنا، وكان يستطيعه إذا جعل البيت:

متى ما يجهلن أحد علينا جهلنا. . . الخ، بل نبه أولاً بقوله:

"ألا" ثم نهى بعد ذلك أن يجهل أحد عليهم، ليشعِر أن لقومه الأمر

والنهي؛ فهذه واحدة، ثم كرر بعد ذلك لفظ الجهل بالفعل والمصدر واسم

الفاعل، ومضى به إلى منقطع الشعر جهلاً بعد جهل، ليشعر النفوس أن

انتقامهم بلاء لا آخر له، يتتابع فيه الجهل الذي لا عقل معه فلا رحمة فيه.

وكأنه يقول: إن الصاع بثلاثة، وإن من أساء إلينا واحدة رددناها عليه ثلاثاً؛ وكل ذلك إنما أفاده التكرار، وهذا هو غضب الطبع البدوي وحفيظته، فلا تنتظر من هذا الطبع الحر سلاسة ولا رقة في موقف الغضب والتحذير وإنذاره أعداءه البطشة الكبرى، بل ترقب الهول الهائل الذي تمثله لك الجيمات والهاءات واللامات إذا ملأ بها شدقيه عربي جهير الصوت فخم الإنشاد ثائر العاطفة

غضوب الدم يهدر بالكلام هديراً، أفرأيت يا أستاذ الجامعة؟

* * *

ص: 113

من أقبح ما في كتاب الدكتور طه حسين أنه يعلن في مقدمته تجرده من

دينه عند البحث، يريد أن يأخذ النشء بذلك، اتباعاً لمذهب ديكارت

الفلسفي الذي يقضي على الباحث بالتجرد من كل شيء عندما يبحث عن

الحقيقة.

قال الأستاذ: يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن

ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها " وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به!.

وهذا لعمري هو منتهى الجهل، فإنه هناك فرقاً بين البحث عن حقيقة

فلسفية عقلية محضة، وبين البحث عن حقيقة أدبية تاريخية قائمة على النص

وقول فلان وفلان، وإذا هو نسي دينه (وتأمل ما في هذه العبارة) فماذا يكون من أثر هذا التاريخ ما دامت المادة التاريخية لم تجتمع له كما أسلفنا، وما دام الأستاذ مبتلى بالنقص من كل جهة.

أما إنه قد نسي دينه حقيقة في رده على كليمان هوار المستشرق الفرنسي

الذي زعم أنه اهتدى إلى مصدر عربي من مصادر القرآن هو شعر أمية بن أبي

الصلت "الذي يجب أن يكون النبي قد استعان به كثيراً أو قليلاً في نظم القرآن "

كما جاء في كتاب طه، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) .

وقد كان رد أستاذ الجامعة الذي نسي دينه أنه أنكر الاستعانة بشعر أمية ولكنه لم يرد على حماقة هوار في زعمه أن القرآن من نظم النبي، بل سكت عن ذلك، بل قال بالحرف الواحد في صفحة 83:"ليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون"

فالأمر عنده على حد الجواز كما ترى، وليس يعينه أن

يكون دينه ودين أمته صحيحاً أو كذباً. . .

ولو كان طه حسين بليغاً من أئمة البلاغة لقلنا: رأي رآه وإن كان كفراً وإلحاداً، ولكنه هو هو هو. . . على أن

كلامه في هذا الكتاب عن القرآن الكريم كلام من "نسي دينه" بل كلام من لا دين له، فليس في الأمر عنده معجزة ولا إعجاز ولا تنزيل.

وسيأتي هذا مفصلاً بعدُ.

ص: 114

إن هذا الكتاب السخيف الذي جاءتنا به الجامعة مما تضيق به النفس

لكثرة ما فيه من الخطأ، حتى لا يطيقه إلا من كان في عقل صاحبه وضعف

حجته وتهافت آرائه وكثرة سقطه، وقد وجدنا أن أقوى ما يستند إليه المؤلف في كذب ما روي من الشعر الجاهلي دليل واحد اجتهد فيه وكرره وسماه عقدة لغوية وأيقن أن أنصار القديم لا يستطيعون فيه شيئاً، وذلك ظنه أن اختلاف لهجات العرب يجب أن يكون في أشعارها.

ولما كان شعر الجاهلية ليس فيه شيء منها فهو موضوع بعد الإسلام وبعد أن صارت اللغة قرشية، قال:

"فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر، في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام، وإذا لم يكن نظم القرآن وهو ليس شعراً ولا مقيداً بما يتقيد به الشعر قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل "يريد اختلاف القراءات " فكيف استطاع الشعر، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي "؟

فما هي اللهجات يا أستاذ الجامعة؟ كان ينبغي أن تستقر بها قبل أن

تعترض بها، فإنك لو فعلت لرأيتها في الجملة لا تغير شيئاً من أوزان الشعر.

فهي في معظمها بين إبدال حرف بحرف أو حركة بحركة أو مد بمد، وكل ذلك لا يؤثر في إقامة الوزن كثيراً ولا قليلاً، والاختلاف في الحقيقة هيئات في النطق والصوت أكثر مما هو هيئات في الوضع واللغة، ومع ذلك فقد نصوا على أن العربي الفصيح غير مقيد بلغة قبيلته إذا نافرت طبع الفصاحة فيه، فمنهم من يوافق اللهجة ومنهم من يخالفها لسبب عند هذا وعند هذا راجع إلى الفطرة وقوتها، ومن القبائل من تأخذ لهجة غيرها كما فعلت قريش، فقد كانت لا تهمز، فلما نزل القرآن بالهمز اتخذت هذه اللهجة.

ويجب أن تعلم يا أستاذ الجامعة أن عندنا نصاً عن ابن الكلبي أن العرب

لم ترو من شعر الجاهلية إلا ما كان إلى مائة سنة قبل الإسلام، أي عمر رجلين

يروي أحدهما عن الآخر، وذلك هو الزمن الذي نهضت فيه اللغة وأخذ العَرب بعضهم عن بعض.

ومع كل هذا فهناك نص آخر على أن من اختلاف اللهجات ما يؤخذ به

في إنشاد الشعر إذا وجد في لغة من ترتضى عربيته، ومنه ما لا يؤخذ به إذا

وُجد في لغة من لا تُرضي عربيته، فذلك دليل قاطع على أن العلماء حذفوا

أشياء لم يَرضوها وغيروا في إنشاد الشعر لا في نظمه، قال شاعر من بني تميم:

ولا أكول لكدْر الكوم قد نضجت. . . ولا أكول لباب الدار مكفول

ص: 115

يريد: لا أقول لقدر القوم الخ، وهي القاف المعقودة التي ينطقونها بين

القاف والكاف، وكانت شائعة في العرب، وهي غير القاف الخالصة التي يُقرأ بها القرآن، فهل رُوي كل شعر بني تميم على هذا الوجه؟ وماذا لو أبدلت الكاف في البيت قافاً لتوافق اللغة الفصحى في الإنشاد؟

وفي الحديث من لغة حِمير "ليس من امِبر امصِيامُ في امسفَرِ"

إذ كان من لغتهم إبدال لام التعريف ميماً، وهذه العبارة لو أشبعت فيها حركة السين في " ليس " خرج منها شطر موزون من الرجز، فإذا أنشدته بالفصحى وقلت "ليسا من البر الصيامُ في السفر" فأين تأثير اللهجات في الوزن والتقطيع الموسيقي. . . والبحر والقافية؟

فالدليل الذي حسب أستاذ الجامعة أنه ليس أقوى ولا أعضل منه في بابه

هو كما تراه أوهَنُ أدلته وأسرعها اضمحلالاً، فكيف بغيره مما تمحل فيه

وتكلف له التلفيق؟

إذا أخذت قيس عليك وخِندِف. . . بأقطارها لم تدرِ من أين تَسرَحُ

ص: 116