المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وشعر طه هو طه الشعر - تحت راية القرآن

[مصطفى صادق الرافعي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌المؤلف في سطور

- ‌تنبيه

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌المذهبان القديم والجديد

- ‌الميراث العربي

- ‌الجملة القرآنية

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌الرأي العام في العربية الفصحى

- ‌تمصير اللغة

- ‌جلدة هرَّة

- ‌مقالات الأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌للتاريخ

- ‌مقال الجريدة الأولالأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌مقال الجريدة الثانيالأدب العربي في الجامعة

- ‌الدكتور طه حسين وما يقرِّره

- ‌التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم

- ‌أسلوب طه حسين

- ‌القنبلة الأولى

- ‌رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب

- ‌إلى الجامعة المصرية

- ‌وإلى الجامعة أيضاً

- ‌وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا

- ‌فلسفةٌ كمضغ الماء

- ‌قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى (عِلْمٍ) بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ

- ‌أستاذ الآداب والقرآنإلى هيئة كبار العلماء ومجلس إدارة الجامعة

- ‌للتاريخ

- ‌كتاب الشعر الجاهليرأي لجنة العلماء فيه

- ‌فلما أدركه الغرق

- ‌موقف حرج لوزارة المعارف

- ‌طه حسين ابن الجامعة البكر

- ‌عصبية طه حسين على الإسلام

- ‌قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

- ‌وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا

- ‌وشعر طه هو طه الشعر

- ‌خنفساء ذات لون أبيض

- ‌أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ

- ‌قال دمنة

- ‌حرية التفكير أم حرية التكفير. . .مقالة مرفوعة إلى البرلمان المصري

- ‌ذو الأقفال

- ‌فيلسوفة النمل

- ‌مسلم لفظاً لا معنى

- ‌رأيي في الحضارة الغربية

- ‌المجدد الجريء

- ‌الجامعة في مجلس النواب

- ‌جلسة يوم الاثنين13 سبتمبر سنة 1926خطبة الأستاذ عبد الخالقِ عطية

- ‌مسألة طه حسين

- ‌كلمة جريدة "الأهرام" الغراءالوزارة تعرض مسألة الثقةرشدي باشا وعدلي باشا في بيت الأمة ليلاًتفاصيل المسألة - تسويتها

- ‌جلسة يوم الثلاثاء

الفصل: ‌وشعر طه هو طه الشعر

‌وشعر طه هو طه الشعر

نريد أن نسجل في هذه المقالات كلمتين كبيرتين، فإننا إنما نكتبها لجيل

سينتهي وأجيال ستبئدئ، ولقد رسخ في يقيننا أن الله تعالى ما أشهر أستاذ

الجامعة بهذه الفضيحة التي نشرها في آفاق الأرض ملكُ الرعد. . . إلا ليجعله خزياً لقوم ملحدين، وعبرة لقوم منافقين، ومثلاً عند قوم مؤمنين، وما لغير حكمة وتقدير كانت الفضيحة مدخرة حتى تُفتح هذه الجامعة الكبرى لتبدأ تاريخ العلم العالي في مصر ويرتقي طه منصبه فيها، وقد ملئ غروراً وزهواً واستطال وبذخ وتوافرت له العلل من نفسه ومما حوله ورفعته في طويل أرادت أن يكون

حبال المعالي وأراد الله أن يكون من حبال المشانق. . . فلو هو سقط هذه

السقطة في غير هذه الجامعة لوقع بالجناحين اللذين ارتفع، ولكنها الجامعة التي

قالوا إنها أكبر من جبال الألب، فلما تمت صنعة الجبل في بضعة أشهر (1) وأراد القدر أن يعلن في الناس مبلغ علوه وارتفاعه لم يكن القياس إلا طه حسين يتدحرج من أعلاه إلى أسفله. . .

إن للأقدار مقاييس عجيبة لا يراد بها الكمية ولكن الكيفية، ولا يُطلب

منها تحديد الشيء في ذاته ولكن تحديده في عواقبه.

ويكون القياس على هذا اليوم الذي نحن فيه مثلاً، ولا يراد به إلا مقدار ما سيكون في غد أو بعد غد أو أي الأزمنة مما يُستقبل، ويأتي رجل كأبي جهل فيكون في أول الإسلام قياساً للكفر والتعصب في الكفر واللجاج في التعصب، ولكن كل ذلك مَرَده ليشد النبوة ويقيمها على طريقها ويسددها فيه، كان الأقدار تبني بناء فإذا سألت ما الأساسُ قيل لك أوله هذه الحفرة. . .

والأستاذ طه حسين هو حفرةُ اليوم، وكان لا بد من حفرة إذا لم يكن بد

من أساس، فالله أعلم ماذا يبلغ هذا الأساس وماذا يحمل، أما الحفرة فأمرها

(1) كانت هذه الجامعة مصنوعة لم تقمها أصبابها، وإنما جاءت تلفيقاً بغير رجالها وفي غير وقتها ولغير

طلبتها، وهذا من أكبر أصباب سقوطها، فما ير إلا دار وموظفون وقانون وأسماء وكلام قضى صنة

كاملة ينتظر معانيه، فلينتظر.

ص: 189

إلينا نتولاها كيف شئنا بعد أن غارت وانخسفت، وإنه من أجل ذلك نفيض فيما نكتبه ولا نزال نتبسط في الشرح ونتسع في تحليل نفسية طه وإيراد معايبه وبيان أغلاطه وأسبابها، ومن أجل ذلك نسجل هاتين الكلمتين كما أشرنا آنفاً، إذ هما عندنا باب من القول على حدة.

فالكلمة الأولى هي للدكتور طه حسين حديث له مع جريدة

" الأنفورماسيون " ترجمته "السياسة".

قال والإشارة في حديثه لحضرات علماء الدين:

"قيل لهؤلاء البسطاء. . . إني أطعن في الإسلام، فشهروا الحرب علي

جميعاً، وعلى أني أقول عالياً إنه ليس في كتابي كلمة يمكن أن تؤول ضد

الدين، والعبارة الوحيدة التي يمكن أن أنتقد من أجلها تضع النصوص المقدسة

بعيدة عن قسوة المباحث التاريخية. . . ".

والكلمة الثانية للأستاذ الشيخ عبد ربه مفتاح من علماء الأزهر في مقالة

نشرها "الكوكب "، وهي قوله والخطاب لـ طه حسين "وكيف تزعم أيها الدكتور أن بعض العلماء أثار هذا الأمر - أمر كفرِك - وهأنذا أصرح لك - والتبعة في ذلك على وحدي - بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر، وبالكفر الصريح الذي لا تأويل فيه ولا تجوُّز؛ وأتحداك وأطلب منك بإلحاح أو رجاء أن تدلني على واحد منهم

"وواحد فقط" يحكم عليك بالفسوق والعصيان دون الكفر.

أجل إني وأنا من بينهم أتهمك بالكفر وأتحمل تبعة هذا الاتهام.

وعليك تبرئة نفسك من هذا الاتهام الشائن والمطالبة بما لك من حقوق

نحوي. اهـ.

نسجل هاتين الكلمتين للعلم والتاريخ والأدب، ثم ليعلم الناس مبلغ

مصيبة الجامعة في أستاذها الذي كله مصائب، فالأعين ممتدة إليه في هذه البلاد ولا يستحي أن يظن نفسه في أرض قفر، والأمة كلها توفر علماءها وتفزع إليهم في أمر دينها وتراهم من رحمة الله بها ولا يخجل هو أن يسميهم (البسطاء) وهو يعلم أَنها كلمة عامية لا يراد بها في لسان العامة إلا البلاهة والغفلة وما إليهما.

وكل العلماء إجماع على كفره الصريح حتى لا تأويل ولا تجوُّز ولا مطمع في

حكم دون الكفر ثم هو تبلغ به الرقاعة أن يدعي أنه ليس في كتابه (كلمة) يمكن تأويلها ضد الدين، مع أنه لا يُهدم دين من الأديان بأنكى ولا أخبثَ من الطريقة التي انتهجها في كتابه وأدارها على إسقاط هيبة الدين وأهله في نفس الطالب الناشئ، ثم الشك فيه، ثم التأدي بهذا الشك إلى الإنكار منه، ثم التأدي بالإنكار إلى الهدم؛ وهذه درجات يركب بعضها بعضاً كما ترى.

ص: 190

وتالله ما رأيت رجلاً أَعجب من هذا الأستاذ، ولكن كلامه إنما هو صورة

فكرِه، وفكرُه مظهر أخلاقه؛ وحسبُك من أَخلاقه هذا العناد وهذه المكابرة وهذا الكذب وهذه السخرية كأنه ليس في الأمة كلها إلا هو وحده يعقل ويفهم، وإذا نحن تابعناه على منطقه فكل الشهود الذين رأوا اللص بأعينهم وشهدوا على جناية يده هم اللصوص، واللص وحده هو البريء!

فإن قيل له إن في هميانك ألف درهم مسروقة، ووضعوا أصابعهم عليها، قال: وليس فيها واحد يمكن أن يقال إنه مسروق. . . فإن كان فيها فإنما ذلك إبعاد للأموال المقدسة عن قسوة المباحث الشيوعية.

ألا ليت شعري لهذه الجامعة، ما الذي يمنعها أن تعلم هذا المنطقَ البديع

في دروس الحقوق، فإنها بذلك تخدم حرية الفكر والعمل، وإنها بذلك ترحم

كثيراً من اللصوص والمجرمين وأهل الكبائر والصغائر مما تدعوها إليه الإنسانية

وتحمده لها بتلك الألسنة؟

وأيم الله لو أمكن لصاً من نوابغ اللصوص أن يكون أستاذاً لقانون

العقوبات وأمكن مزوراً أن يدرس القانون المدني وشيوعياً - أحمر. . . - أن

يكون أستاذاً للقانون الدولي لما فعل أكل واحد منهم في دروسه إلا شبيهاً بما

فعل طه حسين في درس الأدب، فلِمَ تأتي الجامعة بالرجل الملحد يحكم بكفره

ألفُ عالم فتعهد إليه بدرس الفن العربي الذي معجزته القرآن، ولا تأتي باللص

والمزور والشيوعي يتناولون القوانين ويفتحون فيها باب الرحمة بمفتاح

ديكارت؛ وهل هذا إلا جنس واحد بعضه من بعض؟

فإن قالت الجامعة إن أستاذها ليس ملحداً ولا كافراً ولا زنديقاً، قلنا وهذا أشد خزياً ومقتاً، فأيما أقرب إلى الصدق والسداد: قولُ رجل أو رجلين أو ثلاثة لا سابقة لهم في الدين ولا صلة لهم بعلومه، أم قول ألف عالم يحملون ألف شهادة دينية وعلى مقدمتهم شيخ الجامع الأزهر؟

إنهما اثنتان عَقِمَت أم المنطق فلم تلد لهما ثالثة:

فإما إباحة الخلط في كل علوم الجامعة وتَركُ الطلبة أحراراً في التفكير والاقتناع وفي الشك واليقين، فلا يؤخذ أحدهم بحفظ شيء لا يراه صحيحاً، ولا يُسأل ما رأيُ فلان في كذا بل ما رأيك أنت. . . ولا يحاسَب على خطأ ولا صواب، لأنه لا خطأ ولا صواب في مذهب الشك، بل هو كله كالدائرة المفرغة ليس فيها أطراف، وإنما لها المحيط لو شئتَ لقطعتَ العمر كله دائراً فيه بلا نهاية ولا غاية معينة، وإن كان في باب المساحة لا تزيد رقعتها على دائرة ثورِ الساقية.

ص: 191

هذه واحدة، والثانية مَحقُ البدعة التي جاء بها طه حسين في الأدب

والبراءةُ من كتابه السخيف وإعلان فساده من الجامعة ذاتها.

فإن التهمة ليست على طه إلا بأنه في الجامعة، فالتهمة على الجامعة نفسها وهي وحدها المتهمة بالإلحاد والجهل والخلط وفساد التأويل والاستهزاء بالأمة وإصغار علمائها وأدبائها، لأنها هي وحدها الراضية بالكفر المُعِينة عليه المشارِكة فيه، والمقرةُ للجهل الداعية إليه المحققة له.

كان الفيلسوف أرسطو يرى بعض الرأي فينكر عليه لأن أفلاطون يذهب

خلاف مذهبه، فكان يقول: إذا اختلف أفلاطون والحق فأيهما أحق أن يتبع؛ ونحن نقول للجامعة: إذا اختلف أفلاطونك. . . والدينُ ثم التاريخ، ثم العقل ثم الفهم؛ فأي الفريقين أحق بالاتباع؟

وفيم نحن أيتها الجامعة إلا في بيان سقَطِه وغلطه، وناهيكِ بهما سَقطا وغلطا لولا أنكِ في فلسفتك على شبيه مما يقول أناتول فرانس في فلسفة القوانين إذ يقول: إن الاجتماع قائم على أصلين:

الأول أن السرقة محرمة، والثاني أن ثمرة السرقة مقدسة لأنها من حرية العمل!

فأنتِ كذلك ترين أن الأدب قائم على أصلين: الأول أن الخطأ جهل مردود، والثاني أن ثمرة الخطأ علم مقبول لأنها من حرية الفكر!

والآن نظهرك أيها القارئ على سر من أسرار الخطأ في أستاذ الجامعة.

وإليه يرجع أكبر السبب في كلال ذهنه وتعقد فهمه وتهافُت آرائه وأنه إذا تعاطى القول في الأدب لم يتمكن من معنى صحيح ولم يصب غرضاً واقعاً، ولا يزال دأباً يلوذ بأطراف الكلام حتى كأنه لا يفكر إلا بنصف عقل، فلا يخرج نصف كلامه إلا من لغو وعبث وخطأ، ولا يزال يعتريه ما يعتري كل من اتخذ الخلاف مذهباً فيُحيل أكثر الكلام عن جهته ويجعل الخطأ صواباً والصوابَ خطأ، ويستلب الرأي من أهله ويفسده عليهم في ظاهره أو باطنه، ثم لا يرضى إذا فرط منه الجهل أن تُبين له العلم، وإذا وقع في الغفلة أن تكشف له عن الحقيقة، فإن فعلتَ طار الغضب في رأسه فزلزله عليك زلزالاً وفجره تفجيراً وجعله بركاناً فملأه نيراناً وبذلك تميز في أمثاله ومَهر، وبان وظهر، وغلبَ وقهر، وكان واللهِ سبة لأدباء هذا العصر، فكل ما في الرجل من قوة وجرأة فإنما هو مما فيهم من جبن وانكماش. . .

أما ذلك السر فهو أن طه لما عَرف من نفسه ضعف المخيلة، ورأى أنه لا

يدرك ما يتعرض له ولا ينفذ إلى حقيقته، عَدَل في الأدب عن طبيعة الشعر إلى طبيعة المنطق؛ إذ كان الأصل فى هذا المنطق الاتساع في الكلام وهو من

ص: 192

مميزات الأستاذ وخصائصه؛ غير أن المنطق أيضاً لا يستقيم إلا بالقريحة

النفاذة، وهذه القريحة من بعض أسبابها الطبيعةُ الشعرية، فلما خذلته هذه

الطبيعة في المنطق كما خذلته في الشعر، عدل إلى طبيعة الجدل وهو فن من

الكلام قاعدته الأشكال والمقاييس، وبناؤه على التنظيم والترتيب، ومادته الثرثرة والاستطالة؛ وأعظم مقوماته اللجاج والإصرار، ولا يُسأل فيه ما الحقيقة ولكن ماذا تريد أن تكون الحقيقة؟ ولا ما اليقين ولكن ما ظنك باليقين ولا يقال فيه ما البرهان ولكن ما الاعتراض، ولا ما النص ولكن ما التأويل وكل ذلك إن لم تقم به الجرأة والحماقة ولم يكن سبيله من السخرية وعدم المبالاة ومن الشك والوساوس وما جرى هذا المجرى، لم يستوِ منه شيء لصاحبه وخرج منه مخذولاً لا هو في حجة ولا مغالطة.

فطه حسين مُكرَهٌ على طريقته في الأدب إكراهاً ما دام يريد أن يكون شيئاً

مذكوراً، وإنما كان سبيل مثله أن - يتبع - غيره ويقلد ويحتذي ولا يستنكف أن ينزل على رأي من هو أذكى منه ولا يأنف أن يدخل في قوانين الناس، فلما أبى ذلك وغلبته طبيعته وأراد أن يبتاع وما فيه من الابتداع شيء، كان كل عمله أن يفسد عمل غيره؛ ولا طريقة إلى ذلك إلا أن ينقاد إلى الظن، ولا سبيل لاتباع الظن إلا الشك، ولا برهان على الشك إلا من غاية صاحبه، وهذه الغاية راجعة إلى الطبع والخلق وحالة الفكر، وكما يكون الشك أول اليقين في أهل الطباع السليمة والأفكار القوية والأذهان المرهفة، يكون آخر اليقين في ذوي الطباع المضطربة والأذهان البليدة.

فطه رجل عالم فاضل، تراه من أحسن أدبائنا إذا وقف عند الحفظ

والمراجعة، يقابل بين تواريخ الأمم ويستخرج ما فيها من أنواع المشابهة

والمباينة ويعمل في ترتيبها، وتصنيفها، وإذا وقف عند العقل فأخذ يجمع

الحواشي والمتون والتعاليق ويضم مسألة إلى مسألة وكلاماً إلى كلام في أي علم شاء مما يحسن انتحاله، ولكنك تراه من أسخف الأدباء إذا حاول التجديد والإبداع، ثم من أضعفهم إذا تعاطى ما ليس في طبعه ولا قوته مما يحتاج إلى الطبيعة الشعرية والذهن الحاد والرأي والاستنباط؛، ولا أدل على ذلك من كتابه: الشعر الجاهلي، ثم من القصص التي نقلها عن الفرنسية. فقد كنت أقرأ هذه القصص واحدة بعد واحدة، وهي لأعلام البيان الفرنسي، فلا أراها إلا كعظام الموتى ليس فيها غير المادة - الفطرية ونظام - الهيكل وهيئته -، ولو كانت كذلك - في أصل لغتها لم يكن الأدب الفرسسي إلا فضولاً، وكان أدباء فرنسا أضعف الأمم

ص: 193

خيالاً وأبعدهم من الشعر ومعانيه.

ولقد نقل خلاصة من رواية الزنبقة الحمراء

لأناتول فرانس - وهي من أبلغ كتب هذا العبقري العظيم - فجاء بها كلاماً جافا لا ماء فيه ولا رونق له، وما ينقصها من أنواع النقص أن تكون من تأليف طه حسين لا من ترجمته!

ولست أدري كيف يأتي لمن لا يكون الشعر من طبيعته أن يكون ناقدا

أديباً أو أستاذاً للأدب، وفي أي أمة نجد مثل هذا، وهل كل من عرف الحساب عرف منه الهندسة، لا نظن أحداً يزعم ذلك أو يكابر فيه إلا طه، فإنه وحده يعرف من جدول الضرب. . . علوماً كثيرة منها الهندسة والجبر وحساب المثلثات والطبيعة والكيمياء وكل ما دخله العدد، ما دام الحساب هو العدد.

وتراه لا يجادل في شيء بما أوتي من قوة إلا في إثبات أن الناقد الأدبي لا

يجب أن يكون شاعراً، وأن المعرفة بالشعر ليست ضرورية فيه كضرورة الأداة في الصنعة لمن يتصرف بها، ولو أن الشعر كان جَدَلاً وقياساً وقواعد وحدوداً لما نازع في أمره، لكنه يعلم أنه الذوق والقريحة وهما من أسرار السموات، ويعلم أن الشمعة إن كانت نوراً فنورها غير أشعة رنتجن "فلا هم له من ثمة إلا أن يزعم أن النقد الأدبي منطق وعلم وتأمل وفلسفة"

وفي بعض هذا كل وسائل النقد، وكل هذا بعض مواهبه هو فيما يدعي.

ولقد رأيت كلمة بليغة للآمدي كأنما كتبها للرد على أستاذ الجامعة منذ

أكثر من ألف سنة؛ أو لعله كان لهم في زمنهم طه كما لنا في زمننا، وكل ذلك (الطاها) يظن أن رِجله برقُ الأرض تطوي أقاصيها في بعض خطوات فقال له الآمدي:(ولعلك أكرمك الله اغتررتَ بأن شارفتَ شيئاً من تقسيمات المنطق وجملاً من الكلام والجدال، أو علمت أبواباً من الحلال والحرام (هذه نسيها طه. . .) أو حفظت صدراً من اللغة، أو اطلعت على بعض مقاييس العربية؟

وإنك لما أخذت بطرف نوع من هذه الأنواع بمعاناة ومزاولة ومتصل عناية

فتوحدتَ فيه وميزت، وظننت أن كل ما لا تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرضت له وأمررت قريحتَك عليه نفذت فيه وكشفت عن معانيه؛ هيهات! لقد ظننت باطلاً ورمت عسيراً، لأن العلم أي نوع كان لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه، والإنكباب عليه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه ثم قد يتأتى جنس من العلوم لطالبه ويسهل؛ ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله وما في طاقته فعلُه

ص: 194

فينبغي - أصلحك الله - أن تقف حيث وُقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا

تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا صناعتك " انتهى.

وقد كان أحد أصدقاء طه يجادلنا ذات يوم؛ فرد علينا ما وصفناه به من أنه

لا حظ له في الشعر ولا يدَ له فيه، وقال: إن له فيه يداً ورجلاً. . . وإنه غير منسلخ من الشعر بل هو في جلد شاعرين معاً، وإنه قد انبثت خواطره في كل معنى وافتتح للناس طريقة الأدب الحديث التي جمع فيها بين بلاغة اليونان والفرنسيس والعرب، فذهب في شعره بمحاسن هذه الأمم الثلاث؛ ودلنا على أبيات كان نظمها في استقبال العام الهجري، وقال إنها نُشرت في بعض أعداد "المقطم " من زمن، فكتبنا إلى من جاءنا بها، فما منها إلا المعنى البكر والأسلوب النادر واللفظ الموسيقي، وفيها الحلاوة والطلاوة ولها رفيف وعليها ماء، حتى لو تليت على شجرة جافة لاخضرَّت ثم هي بعد آية في الدلالة على القريحة الصافية والبلاغة المتمكنة والطبع البدوي السلس الرقيق الذي عرفه هو في كتابه بأنه يُعرض عن تكرار الحروف، فقال لا فضَّ فوه، وبتعبير المذهب الجديد لا أحوجه الله إلى تركيب أسنان:

ما لي وللبدر أطلب ردّه (1) . . . بل ما لأفلاك السماء وما لي

لا در در المال لو لم يُدَّخر. . . لبناء مكرمة وحسن فعال

لا در در المال لو لم يدخر. . . إلا لذات الطوق والخلخال

لا در در المال لو لم يدخر. . . إلا لنيل مراتب الإجلال

والأغنياء على الملاهي عكف. . . صرعى اللواحظ والهوى الختَّال

ولا ريب عندنا أن هذه الأبيات من قصيدة طويلة ذهبت بقيتها في إحدى

الزلازل، لأنه بعد هذا الشعر لا يكون إلا الرجم وانقضاض الشهب وتمزق

الأرض. أفلا ترى الشيخ يقول: "بل ما لأفلاك السماء وما لي، فهذا نذير بأنها توشك أن تنقض عليه وتُتبعه شهاباً رصداً، وتأمل البيت الرابع فإنه من فرط سموه وإبداع معناه والتعميق فيه قد فسد، لأن الشاعر يلعن المال إن لم يدخر إلا لنيل مراتب الإجلال.

فهل مراتب الإجلال إلا العلا والمكارم، وهل يدخر المال إلا لهذا؟

أم تكون المراتب هي الرتب والنياشين؟

وإذن فما كلمة "الإجلال " إلا سمو آخر لإفساد المعنى إذ رُتَبُ الإجلال هي رتب العظماء في

(1) كذا رأيناها منشورة، وظاهر أن أصلها ما لي وما للبدر.

ص: 195

كل أمة. فيا صاحب هذا السمو إن كان ذلك شعرك فقد سلمنا لك ما تدعي من أن الكثرة المطلقة في الشعر الجاهلي منحولة بل كل الشعر الجاهلي مكذوب موضوع لما فيه من التوليد والسخف والركاكة، وأنه لا يمثل الحياة الجاهلية.

وإنما جاءك الدليل على هذا الرأي من أنك لو كنت أنت في ذلك العهد ولجأت إليك القبائل تستكثر بك من وقائعها وأشعارها، وجاءك الرواة يحملون عنك والقُصاص لتخلق لهم ذلك الخلق - لوضعت على فحول الجاهلية من نمط أبياتك هذه جزالة وقوة وإحكاماً وذهاباً في فنون الشعر، فعضَل شعرُك بأهل النقد والتمييز، ولا تُجريه في شعر إلا أشبهته وامتزجت به امتزاج الماء الصافي بالماء الصافي وإن كانا من نبعين مختلفين فلا يعرف بعد امتزاجهما أيهما من هنا وأيهما من ثم! . . .

إني والله أستحي لـ طه حسين أن يكون هذا شعره ثم يتكلم في الشعر، فإن

هذا الكلام الركيك ما فصل عن نفسه إلا وبينهما شبه في الجفاء والغلظة

والاضطراب والتخرق؛ وما يسقط الأستاذ أكثر ما يسقط في كتابه الشعر

الجاهلي إلا من هذه العلة الشعرية في ذهنه، ومن تلك العلة الفلسفية في رأيه

فما هو شاعر ولا هو فيلسوف، ولكن كتابه قائم على الشعر وإدراكه وتمييزه وتصحيح نسبته من فحول كبار أئمة هذا الفن، وعلى الفلسفة في التاريخ وتناولها الأشياء والحوادث والأشخاص من جهة عللها وأسرارها فلا جرم تهافَت وتعثر وأحال وتناقض بحيث لا يصيب في واحدة إلا أخطأ في عشر.

ولم يكن بدعاً أن يجيء كتابه على مقداره فيغلب عليه الضعف ويفسده

التعسف - وتنزعه النزعات - الخبيثة لا يكون كتابه في حاجة إليها ولكنها من حاجة نفسه فلا يزيد على أن يفتضح بها؛ ومن أغربها قوله في صفحة 74 إذ نقل من الأغاني عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال: إنه قال لي أبو بكر بن عبد العزيز وجئته أطلب مَغرَماً: يا خال، هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة

وقل: سمعت حساناً ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت. قال: لا.

إلا أن تقول سمعت حساناً ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى علي وأبيتُ عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال.

فأرسل إليَّ وقال: قل أبياتاً تمدح بها هشاماً وبني

أمية واجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك الخ الخ.

قال أستاذ الجامعة المتبع مذهب ديكارت: فانظر إلى ابن عبد الرحمن

كيف أراد صاحبه على أن يكذب وينتحل الشعر (كذا) على حسان.

ثم لا يكفيه

ص: 196

هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حساناً ينشد هذا الشعر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا بأربعة آلاف درهم، ولكن صاحبنا كره أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم

بهذا المقدار - واستباح أن يكذب على عائشة رضي الله عنها اهـ.

فهل تجد أنت في القصة مساومة أو ما يشير إليها حتى يكون الرجل

المسلم لم يكره الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا لقلة الثمن؛ وهل فرق في الكذب بين أن يكون بأربعة آلاف أو بعشرة أو أقل أو أكثر إن لم يكن الإيمان هو الذي منع الرجلَ منه للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" غير أن فقه الرواية أن نفس طه في جشعها وتكالبها على

المال حلالاً وحراماً وفى رقة دينها وإيمانها، هي التي أوحت إليه هذا التعليل

السخيف البارد، فحسب أنه لو كان هو المسؤول أن يكذب لقال للسائل: يا هذا، إن الكذب على عائشة بكذا وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فإذا لم تبذل إلا أربعة آلاف فلا أكذب إلا على عائشة..

والرواية في عبارتها صريحة واضحة لا لبس فيها، ولكن طه كما وصفنا

ثمرة لم تنضج إلا مُرة شديدة المرارة، فليست تُذاق أبداً إلا دلت على نفسها

وتركت طعماً من مرارتها ينبئ عنها؛ ولو أن الجامعة المصرية ألحقت من أجل

ذلك بشركة السكر. . . لأفلست الشركة في إحلاء هذه الثمرة ولا تحلو!

ويقول في صفحة 56 "في عصبية قريش على الأنصار" إنه كان من قريش

من يتجاوز الاقتصاد في العصبية إلى شيء يشبه العطف على الأنصار والرثاء

لهم، ولعل الزبير بن العوام كان من هؤلاء العاطفين على "الأنصار" الراثين لهم الحافظين لعهدهم والراعين لوصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، فقد يحدثنا - كذا - الرواة أنه مر بنفر من المسلمين فإذا فيهم حسان وهم غير حافلين بما يقول فلامهم على ذلك وذكرهم موقع شعرِ حسان من النبي صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك في نفس حسان فقال

يمدحه: وأحب أن تلتفت إلى أول هذا الشعر.

فهو حسن الدلالة على ما أريد أن أثبته من دخول الحزن على نفوس "الأنصار" لهذا الموقف الجديد الذي وقفته منهم قريش، وأول الشعر هو:

أقام على عهد النبي وهديهِ. . . حوارِيُّه والقولُ بالفعل يُعدَلُ

ص: 197

أقام على منهاجِه وطريقِه. . . يوالي وليَّ الحق والحقُّ أعدل

قال طه: "فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر

حسان لعهد النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه عليه وأسفَه على ما فات "الأنصار" من موالاة النبي لهم وإنصافه إياهم " انتهى.

وبعد صفحة واحدة قال: كما كان الزبير من هذه الفئة القرشية التي كانت

تعطف على "الأنصار" ذكراً لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أو

" احتفاظاً بمودة الأنصار ليوم الحاجة. . . ".

والخبر من الأغاني في ترجمة حسان، وعبارته أن الزبير مرَّ بمجلس من

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسان بن ثابت ينشدهم من شعره وهم غير نشاط لما يسمعونه منه، فجلس معهم الزبير فقال: ما لي أراكم غير آذنين لما تسمعونه من شعر ابن الفُريعة، فلقد كان يعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه ويجزل عليه

ثوابه ولا يشتغل عنه بشيء، فقال حسان وأنشد الأبيات.

فانظركم في أسباب الدلالة التاريخية بين قول الأغاني إنه مر بمجلس

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول طه مر بنفر من المسلمين وهذا الخبر قد مرَّ على كل علماء الأدب والتاريخ الإسلامي فما فطن أحد إلى دلالته على حزن الأنصار وعطف الزبير عليهم "ليوم الحاجة"، إلا أستاذ الجامعة وحده؛ فأين فيه ذكر الأنصار وحزنهم على ما فاتهم، وإنما يتكلم حسان عن نفسه وإياها أراد بقوله:"وليَّ الحق" إذ كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رجل شاعر كل

مجده في إقبال الناس عليه ونشاطهم لكلامه إن كانوا من قومه الأنصار أو

من غيرهم.

وأين النص يا أستاذ الجامعة على أن ذلك المجلس من الصحابة كان من

قريش، فإنه إذا جاز أن يكون من الأنصار فقد بطل ما جئت به؛ إذ يكون قومُ حسان هم الذين لم ينشطوا لسماعه، ثم كم من الفرق بين أن يكون سامع الشعر غير ناشط له وبين أن يكون غير "حافل " به؛ ثم أين النص على أن ذلك المجلس كان في تاريخ بعينه مع أنه يجوز أنه كان في زمن عمر بن الخطاب بعد أن استقرت الأمور ولم يبق شيء من الخلاف بين قريش والأنصار، أو بعد ذلك بزمن بعيد، فإن الزبير قتل في سنة ست وثلاثين للهجرة.

وإذا علمتَ أن الزبير هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريُّه وصفيُّه وقد شهد معه المشاهد كلها فلا تسألني أنا عن معنى قول الأستاذ "ليوم الحاجة"، ولكن سل رجلاً ملحداً زنديقاً

ص: 198

لا يظن أن في النفوس نفساً مؤمنة، لأن الإيمان عنده خدعة من خدع السياسة كإسلام نابليون في مصر!

وعجيب من طه بعد أن عرفت شعره ومبلغ فهمه للشعر أن تراه يقول في

صفحة 99: "وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلُّف بيِّن الصنعة. . . ".

وفي صفحة 103: "ويروي لنا ابن سلام شعراً آخر ليس أقل من هذا

سخفاً ولا تكلفاً ولا انتحالاً. . . ".

وفي صفحة 415 وقال دولة سعد باشا للورد لويد: ويحسن استشارة

لندن، فقال اللورد: أنا لندن في المسائل الحاضرة! وأنا أقول كذلك للرافعي

ولغير الرافعي: أنا الشعر، أنا الجامعة. . .!

ص: 199