الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا
. . .
كتب قس فاضل في النسخة الأسبوعية من جريدة "السياسة" يذكر تاريخ
القديس "بفنوس" الذي تناوله أناتول فرانس في رواية "تاييس" فعبث به وسخر من تقواه وصلاحه ورماه بامرأة بغي تركته في الإثم وسقوط النفس وليس بينه وبين أمثالها منزلة ولا فرق، على حين سما بها الكاتب في آخر الرواية فجعلها قديسة تنفتح لها أبواب السماء وتتلقاها الملائكة، وبين القس الفاضل أن ذلك مما تعمد أناتول فرانس أن يفسد به التاريخ، وأنه كذب عمد وإفك صراح.
فعلق الدكتور هيكل على هذا بأن لكاتب فرنسا رأياً في التاريخ، فهو
يعتبره نوعاً من القصص خاضعاً لأهواء الناس وشهواتهم، وقد وضع لجان دارك الفرنسية الشهيرة تاريخاً بين فيه أن شيئاً اسمه جان دارك لم يوجد، فحسبك أن تظهر ما في الأدلة على وجود شيء في الأشياء من الضعف لتبعث إلى النفوس الشك في وجوده. . .
ثم قال: وقد لا ترى في عمل أناتول فرانس موضعاً للدهشة إذا أنت
رجعت إلى ما يأخذ به أساتذة الأدب في الجامعة المصرية.
فهذا صديقنا الدكتور طه حسين يرى رأي الذين يقولون إن غير واحد من الشعراء الذين يقال إنهم وجدوا لم يوجد قط، فإن ذهب أناتول فرانس مثل هذا المذهب مع الراهب "بفنوس" فذلك أنه أخذ بمثل النظريات التي أخذ بها كثير من العلماء والكتاب، ومن بينهم صديقنا الدكتور طه في شأن الشعراء وغير الشعراء ممن يتناقل الناس أخبارهم. انتهى ملخصاً.
فعلم أستاذ الجامعة "ليس أهون منه" وهل أيسر من الإنكار؛ ولكن هل
أدل على الحمق من هذا الإنكار بعينه؛ وهل الإنكار بلا دليل إلا نوع آخر من الكذب والاختلاق كما يخترع الوضاعون أشخاصاً لا دليل على وجودهم؛ إنهم يزعمون كذباً أن شاعراً وُجد وقال كيت وكيت، وكان من خبره كذا وكذا، وأنت تزعم أن شاعراً لم يوجد، فما الذي يجعل الكذب منهم صدقاً منك؟ وكيف تريدون وأنتم سواسية كأسنان الحمار أن تكون بعض هذه الأسنان نابَ
الليث، فى حين لا تنسب الباقيات إلا للحمار وحده؛ لعمري ما أنت بأصدق منهم ولا هم بأكذب منك، وفضل ما بينك وبينهم أنهم إلى وجه الكذب وأنت إلى - قفاه. . . والكذب كله بينكما وجهاً وقفاً. . .
يعبث أستاذ الجامعة برجال التاريخ العربي " من الشعراء وغير الشعراء"
عَبثَ أناتول فرانس بذلك الراهب الفاضل، ولكن فات الأستاذ المقلد المنعكس أن الغراب لا يصلح طاووساً ولا حمامة، فإن كاتب أوروبا إنما ألحد وسخر وتماجَن لأن هذه ألوان من ألوان بلاغته التي تضرب الكلام بعضه ببعض وتقوم على المتناقض كما تقوم على المتلائم، فلو هو تركها لتكلف للكتابة وجرى فيها على غير طبعه وفقدَ أحسن ما يميزه في القَصص والرواية، ثم هو يرى التاريخ فنا لا علماً، لأنه كاتب لا مؤرخ، وقاص لا محقق، فيتولاه بالخيال لا بالحافظة، ويأخذه من الروح أكثر مما يأخذه من الفكر، وبذلك انتهى في رأيه إلى أن الأدلة التاريخية إنما هي منازع تختلف العواطف عندها، فأنكر ما شئت فلك ذلك لأن لك عاطفة، وأثبت ما شئت فذلك إليك لأن لك عاطفة أيضاً. . .
والتاريخ عنده هو كل شيء إلا الحقيقة، لأن الحقيقة بزعمه لا تلتمس فيه
ألبتَّة، ولهذا الكاتب آراء فاسدة ظاهرة البطلان، منها رأيه في التاريخ ولكنه
يسوقها في عبارات بليغة إذا أنت كنت بصيراً بصناعة البيان ودققت فيها رأيت فساد المعاني وحركة اضطرابها في ذهن هذا الرجل من ألطف أسباب بلاغته، كأنه يريد أن يأتيك بالبلاغة في هيئة راقصة خليعة مبتذلة تتطوَّسُ لك في ألوانها وخُيلائها وتُفحِش عليك في دلِّها وغَزَلها فلا تشك في سقوطها وسفالها، ولكنك لا تنكر أيضاً أن هذا كله أجمل الجمال فيها، ثم إنه رجل ذو فكر واسع ينتظم النقائض من أطرافها، ويأخذها على ما أرادها من معاني نفسه لا من معانيها، ويعطيها قرَّاءه على الوجه الذي يريده من معانيه كذلك لا من معانيها.
وما البلاغة إلا مثل هذا السحر إن لم يكن هو إياها.
ولكن ما بال أستاذ الجامعة في عبارته الركيكة وذهنه الفج وخياله
المطموس وقلبه المطبوع عليه وفلسفته الزائفة وتقليده الأعور؛ وما له يجهل
فرق ما بين التاريخ يتولاه كاتب للقصة والحكاية، وما بينه حين يتولاه أستاذ
للتمحيص والتحقيق! ثم بين التاريخ على أنه مادة فلسفية من الأعمال
والحوادث، وبينه على أنه مادة علمية من الأنفس والعقول؛ وما عسى أن يكون غناء الإنكار مع الحجج والنصوص المجمع عليها، إلا أن تكون تلك حيلة احتال بها الأستاذ، وهو يعلم أنه قليل الاطلاع، فيجعل الكثير الذي لم يقف
عليه بسبيل من القليل الذي وقف عليه، ويبني للمعلوم والمجهول بناء واحدا
هو الشك الذي لا يدري أحد أين يقع ولا ماذا يمحو ولا كيف يكون، ولكنه مع ذلك يمحو ويكون كما يريد طه حسين، ولا طه في الدنيا إلا طه الذي في الجامعة. . . يعلم هذا مَن عَلِمَ ويجهَل من جهل!
يحتج الدكتور هيكل لمذهب أناتول فرانس بأستاذ الجامعة الذي عبر عنه
بأنه "أساتذة الجامعة".. ومنذ أيام احتج بعض المبشرين المسيحيين بأستاذ
الجامعة أيضاً لأنه أثبت "رسمياً في الجامعة التي أنشأتها دولة مسلمة" أن
الإسلام دين الحرج والتعصب وضيق الفكر، وإلا فما المعنى من أن المسلمين
وحكامهم يمحون في أول الإسلام شعر اليهود والنصارى والوثنيين إن لم يكن
هو هذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وغفر الله لك أيها المبشر طه حسين!
عجباً يقلد طه أناتول فرانس! ألا فجئنا أيها الرجل مرة واحدة في مثل
بلاغة من تقلده، ثم أظهر بعد ذلك مائة مرة في مثل سخافة آرائه، نغتفر لك
مائة بواحدة، فأما أن تكون ممن محق الله خيالهم ثم تكون مع ذلك ممن صرف
الله قلوبهم فتلك المصيبة لا مصيبة مثلها، وما نراك اتبعك فيها إلا الذين هم
أراذلنا، وما نراك إلا كالذي استهوته الشياطين في الأرض حَيران!
وإن لأناتول فرانس كلمة تنطبق على أستاذ الجامعة كأنَّ الله ألهمه إياها
لتقع إلينا، فهو يسمي علم مثل هذا الأستاذ "بالضلالات المعقدة" كأنه يعني
أنهم يحسبون تعقيدها علماً وحلها علماً، مع أنها في نفسها ضلالة، والضلالة
في نفسها جهل، والجهل في نفسه ليس بعلم!
قرأنا مرة جريدة "البلاغ " الغراء بتوقيع "فرحات " أن محاضرة أستاذ
الجامعة في امرئ القيس مسروقة من دائرة المعارف الإسلامية المطبوعة في
ألمانيا، واليوم نرى في كلام "السياسة" أن الرجل مقلد تقليداً مضحكاً، يستعمل الغِربال في مكان المُنخُل فيأتينا بالدقيق الترابي. . . وهذا كله مما يزيدنا إصرارا على أسئلتنا التي رفعناها إلى الجامعة، فإن هذا الرجل إنما هو بلاء على الأدب وفساد في التاريخ، وإن الجامعة لا تملك أن تُضِل الناس به، وما دامت قد أعطتهم من كلامه فلتأخذ من كلامهم، وهي إن كانت على حق في آراء أستاذها فلتذكر للناس باطلنا بالمناظرة التي ندعوها إليها، وإن كانت على باطل فما سبيلها إلا أن تسألنا الحق.